ص 153
وابن بشران. وابن عبد البر. وأبي بكر الخطيب البغدادي. وابن المغازلي الواسطي. وأبي
المظفر السمعاني. ومحيي السنة البغوي. ورزين العبدري. وابن عساكر الدمشقي. ومجد
الدين ابن الأثير. وابن النجار البغدادي. ومحمد بن طلحة الشافعي. وسبط ابن الجوزي.
ومحمد بن يوسف الكنجي. ومحب الدين الطبري الشافعي. وإبراهيم الحمويني. يقال عنهم:
بعض الناس ... أو أن هؤلاء أساطين دين أهل السنة، وأكابر حفاظهم المحدثين، وأئمتهم
المعتمدين؟! من تناقضات ابن تيمية ويا ليته استثنى ممن عبر عنه ب بعض الناس
مستهينا له ومستصغرا إياه أبا حنيفة وأحمد بن حنبل، وأبا حاتم، والنسائي، ومحمد بن
جرير الطبري، والدارقطني... لئلا يلزم التناقض والتهافت في كلماته: وذلك، لأن ابن
تيمية وصف في كتابه (المنهاج) أحمد بن حنبل، وأبا حاتم، والنسائي، والدارقطني،
بأنهم أئمة ونقاد وحكام وحفاظ للحديث، ولهم
ص 154
معرفة تامة بأقوال النبي وأحوال الصحابة والتابعين وسائر رجال الحديث طبقة بعد
طبقة، ولهم كتب كثيرة في معرفة أحوال رجال الحديث... وزعم أن أبا حنيفة، وأحمد بن
حنبل، ومحمد بن جرير الطبري، بلغوا في العلم مرتبة حتى كانوا - معاذ الله - أعلم من
الإمامين العسكريين عليهما السلام بالشريعة...!! إلى غير ذلك مما قال... فلا
نذكره... ونعوذ بالله من الضلالة والخسران... مفاد قوله: أهل العلم بالحديث لا
يصححون فضائل علي ولا فضائل معاوية وأما قوله: كما رووا أمثاله في فضائل غير علي
بل قد رووا في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصنف في ذلك مصنفات، وأهل العلم بالحديث
لا يصححون هذا ولا هذا . ففيه فوائد: أما أولا: فإنه يبطل دعاوي المتأخرين من
علماء أهل السنة من أن أهل السنة هم الذين اهتموا منذ اليوم الأول برواية فضائل أهل
البيت عليهم السلام وتصحيحها وجمعها... في مقابلة النواصب والأعداء... وأن الإمامية
في هذا الباب عيال على أهل السنة ومستفيدون منهم... نعم، إن كلام ابن تيمية هذا
يبطل كل هذه الدعاوي ويكذب هذه المزاعم، إذ يقول بأن أهل العلم بالحديث لا يصححون
فضائل أمير المؤمنين عليه السلام. وأما ثانيا: فإنه يقتضي سقوط جميع روايات أهل
السنة عن الإعتبار، لأنهم قد وضعوا أحاديث في فضل معاوية ثم أفردوها بالتأليف...
لغرض تضليل العوام وتخديعهم... وحينئذ لا يبقى وثوق واعتبار لرواياتهم وكتبهم في
الأبواب العلمية الأخرى. وأما ثالثا: فإنه يفيد أن المصححين لما رووه في فضل معاوية
ليسوا من
ص 155
أهل العلم بالحديث... وبهذا يعرف حال والد (الدهلوي) الذي حاول إثبات فضائل معاوية
في (إزالة الخفاء)، وحال ابن حجر المكي المؤلف كتابا خاصا في ذلك. إلى هنا إنتهى
الكلام حول ما ذكره ابن تيمية في الوجه الأول. قال: الثاني: إن حديث الطير من
المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل. قال الحافظ أبو موسى المديني:
قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة: كالحاكم
النيسابوري، وأبي نعيم وابن مردويه. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح. هذا
مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع، وقد طلب منه أن يروي حديثا في فضل معاوية فقال: ما
يجئ من قلبي ما يجئ من قلبي، وقد خوصم على ذلك فلم يفعل، وهو يروي في المستخرج
والأربعين أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث، كقوله: تقاتل الناكثين
والقاسطين والمارقين. لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث: كالنسائي، وابن
عبد البر، وأمثالهما، لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر، فلا يعرف في علماء
الحديث من يفضله عليهما، بل غاية التشيع منهم أن يفضله على عثمان، أو يحصل منه كلام
أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله، ونحو ذلك. لأن علماء الحديث قد عصمهم وقيدهم ما
يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على فضيلة الشيخين، ومن ترفض ممن له نوع اشتغال
بالحديث: كابن عقدة وأمثاله، فهذا غايته أن يجمع ما يروى في فضائله من الكذوبات
والموضوعات لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين، فإنها باتفاق أهل العلم
بالحديث أكثر مما صح من فضائل علي وأصح وأصرح في الدلالة. وأحمد بن حنبل لم يقل إنه
صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره، بل أحمد أجل من أن يقول مثل هذا الكذب، بل نقل
عنه أنه قال: روي له ما
ص 156
لم يرو لغيره، مع أن في نقل هذا عن أحمد كلام ليس هذا موضعه . جواب قوله: حديث
الطير من المكذوبات عند أهل المعرفة وهذا الوجه كسابقه كله أكاذيب وأباطيل... إنه
يدعي: أن حديث الطير من المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل وهذه
دعوى باطلة، فالحديث عند أهل التحقيق من أساطين أهل السنة من الأحاديث الصحاح
المعتبرة الصالحة للاستدلال والاحتجاج... كما عرفت ذلك بالتفصيل... وليت شعري من
أهل المعرفة بحقائق النقل القائلين بأنه من المكذوبات الموضوعات؟ لماذا لم
يذكرهم؟ ولم يذكر واحدا منهم؟ ألم يكن من المناسب أن يذكر ولو اسم واحد فقط!، وإن
كانت دعوى وضعه فارغة مردودة لدى المحققين الكبار من أهل السنة أيضا كالعلائي
والسبكي وابن حجر المكي؟ لا علاقة لما نقله عن المديني بمدعاه ثم نقل عن أبي موسى
المديني أنه قال: قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة
كالحاكم وأبي نعيم وابن مردويه ولكن أي علاقة لهذا الذي نقله عن المديني بما
ادعاه من كون الحديث من المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل؟ وهل يدل
على مدعاه بإحدى الدلالات الثلاث؟ بل الأمر بالعكس، وما ذكره ابن تيمية اعتراف حديث
الطير...، إذ قد عرفت أن جمع علماء أهل السنة طرق هذا الحديث في أجزاء مفردة وتآليف
خاصة يدل بوجوه عديدة على ثبوته وتحققه... لكن هذا الرجل وأمثاله إذا أرادوا البحث
مع الإمامية يضطربون، وقد يتفوهون بما يضرهم وهم
ص 157
لا يشعرون... ما نقله عن الحاكم كذب عليه وأما ما ذكره من أنه سئل الحاكم عن حديث
الطير فقال: لا يصح ففيه: أولا: إنه كذب على الحاكم... وكيف يقول الحاكم بعدم
صحته وقد أخرجه في مستدركه على الصحيحين وأثبت صحته رغم الجاحدين؟ ومع هذا، فإن نقل
حكم الحاكم بعدم صحة هذه الحديث غايته أن يكون ظنيا، لكن حكمه بصحته في المستدرك
قطعي، والظني لا يعارض القطعي. وثانيا: لو سلمنا ثبوت هذا الذي حكاه عن الحاكم،
فإنه لا يجوز الاحتجاج به، لتصريح الحافظ برجوع الحاكم عن ذلك كما ستعلم. وثالثا:
لو سلمنا ثبوته وفرضنا عدم رجوعه كان الاستدلال والاحتجاج بتصحيحه إياه في المستدرك
من باب الإلزام والافحام للمخالفين تاما، على القواعد والأصول المقررة في باب
الاحتجاج والمناظرة. ورابعا: ولو فرضنا أنه كان قد قدح فيه ولم يخرجه في المستدرك،
فإن الأدلة القويمة والبراهين المتينة على صحة حديث الطير وثبوته كثيرة، بل يكفي
لبطلان القول بوضعه ما قاله العلائي والسبكي وابن حجر المكي. هذا، وقد نص الحافظ
الذهبي في (تذكرة الحفاظ) - بعد أن حكى ذلك القول المنسوب إلى الحاكم - على رجوعه
عنه، وقد أورد الشيخ محمد الأمير الصنعاني كلام الذهبي وعلق عليه حيث قال في
(الروضة الندية): هذا الخبر رواه جماعة عن أنس، منهم: سعيد بن المسيب، وعبد الملك
بن عمير، وسليمان بن الحجاج الطائفي، وابن أبي الرجال الكوفي، وأبو الهندي،
وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، ويغنم بن سالم بن قنبر،
ص 158
وغيرهم. وأما ما قال الحافظ الذهبي في التذكرة في ترجمة الحاكم أبي عبد الله
المعروف بابن البيع الحافظ المشهور مؤلف المستدرك وغيره - بعد أن ساق حكاية: وسئل
الحاكم أبو عبد الله عن حديث الطير فقال: لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الذهبي: قلت: تغير رأي الحاكم فأخرج حديث
الطير في مستدركه. قال الذهبي: وأما حديث الطير فله طرق كثيرة قد أفردتها بمصنف،
ومجموعها يوجب أن الحديث له أصل. إنتهى كلام الذهبي. فأقول: كلام الحاكم هذا لا يصح
عنه، أو أنه قاله ثم رجع عنه كما قال الذهبي: ثم تغير رأيه. وإنما قلنا ذلك لأمرين:
أحدهما - وهو أقواهما - أن القول بأفضلية علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو
مذهب الحاكم كما نقله الذهبي أيضا في ترجمته عن ابن طاهر، قال الذهبي: قال ابن
طاهر: كان - يعني الحاكم - شديد التعصب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنن في
التقديم والخلافة، وكان منحرفا عن معاوية، وأنه يتظاهر بذلك ولا يعتذر فيه. إنتهى
كلام ابن طاهر. وقرره الذهبي بقوله: قلت: أما انحرافه عن خصوم علي فظاهر. وأما
الشيخان فمعظم لهما بكل حال، فهو شيعي لا رافضي. إنتهى. قلت: إذا عرفت هذا فكيف
يطعن الحاكم في شيء هو رأيه ومذهبه ومن أدلة ما يجنح إليه؟ فإن صح عنه نفي صحة حديث
الطائر فلا بد من تأويله بأنه أراد نفي أعلى درجات الصحة، إذ الصحة عند أئمة الحديث
درجات سبع، أو أن ذلك وقع منه قبل الإحاطة بطريق الحديث، ثم عرفها بعد ذلك فأخرجه
فيما جعله مستدركا على الصحيحين. والثاني: إن إخراجه في المستدرك دليل صحته عنده،
فلا يصح نفي الصحة عنه إلا بالتأويل المذكور. وعلى كل حال فقدح الحاكم في الحديث لا
يتم.
ص 159
ثم هذا الذهبي مع تعاديه وما يعزى إليه من النصب ألف في طرقه جزء. فعلى كل تقدير
قول الحاكم: لا يصح. لا بد من تأويله. ولأنه علل عدم صحته بأمر قد ثبت من غير حديث
الطير، وهو: إنه إذا كان أحب الخلق إلى الله كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله من غير حديث الطائر... وإذا ثبت أنه أحب
الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أحب الخلق إلى الله سبحانه، فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يكون الأحب إليه إلا الأحب إلى الله سبحانه، وأنه قد
ثبت أنه أحب الخلق إلى الله من أدلة غير حديث الطائر. فماذا ينكر من دلالة حديث
الطير على الأحبية الدالة على الأفضلية، وأنها تجعل هذه الدلالة قادحة في صحة
الحديث كما نقل عن الحاكم، ويقرب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم ما أراد إلا
الاستدلال على ما يذهب إليه من أفضلية علي، بتعليق الأفضلية على صحة حديث الطير،
وقد عرف أنه صحيح، فأراد استنزال الخصم إلى الإقرار بما يذهب إليه الحاكم فقال: لا
يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعده. وقد تبين صحته عنده وعند خصمه. فيلزم
تمام ما أراده من الدليل على مذهبه . جواب قوله: الحاكم منسوب إلى التشيع وأما
قوله: مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع ففيه: أنه إن أراد أن بعض المتعصبين نسب
الحاكم إلى التشيع وإن لم يكن متشيعا في الواقع، فهذا مسلم، لكن أيش يجدي هذا؟ وإن
أراد أن الحاكم متشيع حقا، فهذا باطل، إذ لا يخفى على من كان له أدنى تتبع ونظر في
كتب الرجال عدم وجود أي دليل متين وبرهان مبين على تشيع الحاكم، ومن هنا لم يتعرض
كثير ممن ترجم له إلى هذه الناحية...
ص 160
على أنه لا فائدة في الإصرار على هذه الدعوى وأمثالها، لثبوت أن التشيع لا يكون
قادحا في العدالة أبدا، بل لا ينافي الرفض الوثاقة أصلا... فلو كان الحاكم متشيعا
بل رافضيا لم يضر بوثاقته وجلالته وإمامته في الحديث فكيف وهو من كبار أهل السنة بل
أساطينهم، ومن صدور علمائهم بل سلاطينهم. حول ما ذكره من أنه طلب من الحاكم رواية
حديث في فضل معاوية فقال ما يجئ من قلبي... وأضاف ابن تيمية لإثبات تشيع الحاكم:
وقد طلب منه أن يروي حديثا في فضل معاوية فقال: ما يجئ من قلبي، ما يجئ من قلبي...
وهذا عجيب من ابن تيمية جدا، لأنه قد ذكر من قبل أن أهل العلم بالحديث لا يصححون
شيئا في فضل معاوية، فإذا كان موقف الحاكم من فضائل معاوية كسائر أهل العلم عد
متشيعا؟ اللهم إلا أن يدعي الملازمة بين فضائل معاوية وفضائل أمير المؤمنين عليه
السلام، بأن يكون رد فضائلهما معا ديدن أهل العلم بالحديث، وحيث أن الحاكم يصحح
فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ولا يصحح شيئا في فضائل معاوية فهو شيعي، وهذا مما
يضحك الثكلى... على أن السبكي أورد خبر امتناع الحاكم من رواية شيء في فضل معاوية،
وكذبه جدا، وإليك نص الخبر عنده عن ابن طاهر قال: سمعت أبا الفتح سمكويه بهراة
يقول: سمعت عبد الواحد المليحي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على
أبي عبد الله الحاكم - وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد، من أصحاب أبي عبد
الله، وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج - فقلت له: لو خرجت وأمليت في فضائل
هذا الرجل حديثا لاسترحت من هذه الفتنة؟ فقال: لا يجئ من قلبي - يعني معاوية - .
فقال السبكي: والغالب على ظني أن ما عزي إلى أبي عبد الرحمن
ص 161
السلمي كذب عليه، ولم يبلغنا أن الحاكم ينال من معاوية، ولا يظن ذلك فيه، وغاية ما
قيل فيه الإفراط في ولاء علي كرم الله وجهه، ومقام الحاكم عندنا أجل من ذلك (1).
بطلان حكمه بوضع حديث: تقاتل الناكثين... وأما حكم ابن تيمية بوضع حديث تقاتل
الناكثين والقاسطين والمارقين فقلة حياء، وقد دعاه إلى هذه الوقاحة اعتقاده
الخبيث بخطأ أمير المؤمنين عليه السلام في قتال أهل الجمل وصفين، - كما قد أظهر هذا
الاعتقاد في بعض المواضع من خرافاته - فهو يريد إبطال كل حديث يدل على حقية أمير
المؤمنين عليه السلام في قتال أولئك البغاة... وعلى كل حال فإن هذا الحديث من
الأحاديث الصحاح الثابتة التي لم يجد طائفة من متعصبيهم بدا من الاعتراف به... وحتى
أن والد (الدهلوي) مع ميله إلى تخطئة الأمير عليه السلام في حروبه مع البغاة
والخارجين عليه ينقل هذا الحديث في كتبه بل يصرح بثبوته، بل (الدهلوي) نفسه ينص في
بحث مطاعن عثمان من (التحفة) على ثبوت هذا الحديث، فهل يكون (الدهلوي) ووالده من
الشيعة؟ هذا، وقد روى حديث أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا بقتال الناكثين
والقاسطين والمارقين جمع من أئمة أهل السنة وحفاظهم الكبار: منهم: أبو عمرو ابن عبد
البر بترجمة أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: وروي من حديث علي كرم الله وجهه،
ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي أيوب الأنصاري: إنه: أمر بقتال الناكثين
والقاسطين والمارقين (2).
(هامش)
(1) طبقات الشافعية للسبكي 4 / 163. (2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1117. (*)
ص 162
ومنهم: أبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي حيث قال: أخبرني الشيخ الإمام شهاب
الدين أبو النجيب سعد بن عبد الله بن الحسن الهمداني المعروف بالمروزي - فيما كتب
إلي من همدان - قال: أخبرنا الحافظ أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد بإصبهان
- فيما أذن - قال: أخبرنا الشيخ الأديب أبو يعلى عبد الرزاق بن عمر بن إبراهيم
الطهراني سنة 473 قال: أخبرنا الإمام الحافظ طراز المحدثين أبو بكر أحمد بن موسى بن
مردويه الأصبهاني... وبهذا الإسناد: عن الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه هذا
قال: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، قال: حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا عثمان بن محمد
قال: حدثنا يونس بن أبي يعقوب قال: حدثنا حماد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي سعيد
التيمي، عن علي عليه السلام قال: عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقاتل
الناكثين والقاسطين والمارقين. فقيل له: يا أمير المؤمنين، من الناكثون؟ قال:
الناكثون أهل الجمل، والمارقون الخوارج، والقاسطون أهل الشام (1). ومنهم: ابن
الأثير الجزري بترجمة الإمام عليه السلام حيث قال: أنبأنا أرسلان بن بعان الصوفي،
حدثنا أبو الفضل أحمد بن طاهر بن سعيد بن أبي سعيد الميهني، أنبأنا أبو بكر أحمد بن
خلف الشيرازي، أنبأنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو
جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا الحسين بن الحكم الحيري، حدثنا إسماعيل
بن أبان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الأزدي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري
قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
فقلنا: يا رسول الله: أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟ فقال: مع علي بن أبي طالب، معه
يقتل عمار بن ياسر.
(هامش)
(1) مناقب أمير المؤمنين للخوارزمي: 175. (*)
ص 163
وأخبر الحاكم: أنبأنا أبو الحسن بن علي بن محمشاد المعدل، حدثنا إبراهيم بن الحسين
بن ديرك، حدثنا عبد العزيز بن الخطا، حدثنا محمد بن كثير، عن الحارث بن حصيرة، عن
أبي صادق، عن محنف بن سليم قال: أتينا أبا أيوب الأنصاري فقلنا: قاتلت بسيفك
المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت تقاتل المسلمين؟ قال: أمرني رسول
الله صلى الله عليه وسلم بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين. وأنبأنا أبو الفضل بن
أبي الحسن، بإسناده عن أبي يعلى، حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا الربيع بن سهل، عن
سهل بن عبيد، عن علي بن ربيعة قال: سمعت عليا على منبركم هذا يقول: عهد إلي رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين (1). ومنهم: شهاب
الدين أحمد حيث قال: عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: ذكر رسول الله صلى الله
عليه وآله وبارك وسلم لعلي رضوان الله تعالى عليه ما يلقى من بعده فبكى وقال: أسألك
بقرابتي وصحبتي إلا دعوت الله تعالى أن يقبضني. قال صلى الله عليه وآله وبارك وسلم:
يا علي تسألني أن أدعو الله لأجل مؤجل! فقال يا رسول الله: على ما أقاتل القوم؟ قال
صلى الله عليه وآله وبارك وسلم: على الإحداث في الدين. وعن أبي سعيد رضي الله تعالى
عنه، عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وبارك
وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. فقيل له: يا أمير المؤمنين من
الناكثون؟ قال كرم الله تعالى وجهه: الناكثون أهل الجمل، والقاسطون أهل الشام،
والمارقون الخوارج. رواهما الصالحاني وقال: رواهما الإمام المطلق رواية ودراية أبو
بكر ابن
(هامش)
(1) أسد الغابة في معرفة الصحابة 4 / 32. (*)
ص 164
مردويه، وخطيب خوارزم الموفق أبو المؤيد. أدام الله جمال العلم بمأثور أسانيدهما
ومشهور مسانيدهما (1). ومنهم: محمد بن طلحة الشافعي - في الأحاديث الدالة على علم
علي وفضله -: ومن ذلك ما نقله القاضي الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في
كتابه المذكور - يعني شرح السنة - عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأتى منزل أم سلمة، فجاء علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سلمة
هذا - والله - قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي. فالنبي صلى الله عليه
وسلم ذكر في هذا الحديث فرقا ثلاثة صرح بأن عليا يقاتلهم من بعده، ووهم: الناكثون،
والقاسطون، والمارقون (2). ومنهم: محمد صدر العالم حيث قال: وأخرج ابن أبي
شيبة، وابن عدي، والطبراني، وعبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال، والإصبهاني في
الحجة، وابن مندة في غرائب شعبة، وابن عساكر: عن علي قال: أمرت بقتل الناكثين
والقاسطين والمارقين . قال محمد صدر العالم: وأخرج الحاكم في الأربعين، وابن
عساكر، عن علي قال: أمرت بقتال ثلاثة: القاسطين والناكثين والمارقين. أما القاسطون
فأهل الشام، وأما الناكثون فذكرهم، وأما المارقون فأهل النهروان - يعني الحرورية -
(3). ومنهم: محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال: - وسل الناكث والقاسط وال * - مارق
الآخذ بالإيمان غيا - والبيت إشارة إلى قتال أمير المؤمنين عليه السلام ثلاث
طوائف بعد
(هامش)
(1) توضيح الدلائل في ترجيح الفضائل - مخطوط. (2) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول
1 / 67. (3) معارج العلى في مناقب المرتضى - مخطوط. (*)
ص 165
إمامته وهم: الناكثون والقاسطون والمارقون. قال ابن حجر: وقد ثبت عند النسائي في
الخصائص، والبزار، والطبراني من حديث علي عليه السلام: أمرت بقتال الناكثين
والقاسطين والمارقين. ذكره الحافظ ابن حجر في التخليص الحبير ثم قال: والناكثون:
أهل الجمل، لأنهم نكثوا بيعتهم، والقاسطون: أهل الشام، لأنهم جاروا عن الحق في عدم
مبايعته، والمارقون: أهل النهروان، لثبوت الخبر الصحيح أنه يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية. إنتهى بلفظه (1). وبهذا القدر الذي ذكرناه ظهر ثبوت الحديث
عن أمير المؤمنين عليه السلام، عند كبار الأئمة والحفاظ من أهل السنة أمثال: أبي
بكر ابن أبي شيبة. وأبي بكر البزار. وأحمد بن شعيب النسائي. وأبي يعلى الموصلي.
وأبي القاسم الطبراني. وابن عدي الجرجاني. وابن منده الأصبهاني. وعبد الغني بن
سعيد. وأبي بكر ابن مردويه. وابن عبد البر القرطبي. وأبي القاسم إسماعيل الإصبهاني
صاحب كتاب الحجة. وأخطب الخطباء الخوارزمي المكي. وابن عساكر الدمشقي.
(هامش)
(1) الروضة الندية - شرح التحفة العلوية. (*)
ص 166
وأبي حامد الصالحاني. وابن الأثير الجزري. وشهاب الدين أحمد. وابن حجر العسقلاني.
ومحمد صدر العالم. ومحمد بن إسماعيل الأمير. إذن، لا يجوز الشك والريب في ثبوت هذا
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا سيما مع تأيده بحديث: ابن مسعود،
وأبي أيوب الأنصاري، وأبي سعيد الخدري... كما عرفت... بطلان دعوى تشيع النسائي
ودعوى ابن تيمية تشيع النسائي من العجائب، لأن النسائي من أساطين أهل السنة وأركان
مذهبهم، وكتابه أحد الصحاح الستة التي يستند إليها أهل السنة في جميع أمورهم...
فجعل النسائي من أكابر أساطين مذهبهم تارة، وجعله من المتشيعين تارة أخرى... من
عجائب أهل السنة المختصة بهم... بطلان دعوى تشيع ابن عبد البر والأعجب من ذلك دعواه
تشيع ابن عبد البر... مع أنه من كبار حفاظهم في المغرب، ومن أشهر فقهاء المذهب
المالكي... تجد مآثره ومفاخره في كلمات الحفاظ الكبار ومشاهير المؤرخين والمترجمين
له أمثال: أبي سعد عبد الكريم السمعاني في (الأنساب). وابن خلكان في (وفيات
الأعيان). وشمس الدين الذهبي في (تذكرة الحفاظ) و(العبر في خبر من غبر)
ص 167
و (سير أعلام النبلاء). وأبي الفداء في (المختصر في أحوال البشر). وعمر بن الوردي
في (تتمة المختصر في أحوال البشر). وعبد الله بن أسعد اليافعي في (مرآة الجنان).
وابن الشحنة في (روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر). وجلال الدين السيوطي في
(طبقات الحفاظ). والزرقاني المالكي في (شرح المواهب اللدنية). و(الدهلوي) في (بستان
المحدثين). حول ترفض ابن عقدة وإذا كان ابن تيمية يتمادى في الغي والضلالة حتى نسب
النسائي والحاكم وابن عبد البر إلى التشيع، فلا عجب أن ينسب ابن عقدة إلى الترفض،
بل الكفر... لكن هذه النسبة إلى ابن عقدة باطلة عند محققي أهل السنة وإن القائل بها
متعصب عنيد، يقول محمد طاهر الفتني: حديث أسماء في رد الشمس. فيه فضيل بن مرزوق،
ضعيف، وله طريق آخر فيه ابن عقدة رافضي رمي بالكذب ورافضي كاذب. قلت: فضيل صدوق
احتج به مسلم والأربعة. وابن عقدة من كبار الحفاظ، وثقه الناس، وما ضعفه إلا عصري
متعصب (1). وتقدم في قسم حديث الغدير، الأدلة الكثيرة المتينة على وثاقة ابن عقدة
وجلالته... من شاء فليرجع إليه.
(هامش)
(1) تذكرة الموضوعات: 96. (*)
ص 168
بطلان دعوى تواتر فضائل الشيخين وأنها أكثر من مناقب علي

وادعى ابن تيمية تواتر
فضائل الشيخين، وأنها باتفاق أهل العلم بالحديث أكثر مما صح من فضائل علي وأصح
وأصرح في الدلالة... وهذه دعوى فارغة وعن الصحة عاطلة . إن الروايات التي يشير
إليها روايات واهية متناقضة، وضعها قوم تزلفا إلى الملوك وتقربا إلى السلاطين، ثم
جاء المدعون للعلم من تلك الطائفة وأدرجوها في كتبهم... وأما دعوى أنها أصح وأكثر
من مناقب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام - المتفق عليها بين الفريقين - فمصادمة
للبداهة والضرورة. تكذيبه كلمة أحمد في فضائل علي كذب وأما قوله: وأحمد بن حنبل لم
يقل إنه صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره، بل أحمد أجل من أن يقول مثل هذا
الكذب... فمن غرائب الهفوات وعجائب الخرافات... لقد وجد ابن تيمية هذه الكلمة
الشهيرة عن أحمد بن حنبل مكذبة لدعوة أكثرية فضائل الشيخين من فضائل أمير المؤمنين
عليه السلام...، وأن معناها أفضلية الإمام عليه السلام منهما... فاضطر إلى
إنكارها... لكن هذا القول منه كسائر أقواله في السقوط... ولا يجديه النفي
والإنكار... لكون الكلمة ثابتة عند الأئمة والعلماء الأعلام، ينقلونها عن أحمد
بأسانيدهم المتصلة إليه أو يرسلونها عنه إرسال المسلمات... وقد ذكرها وأكد على
قطعية صدورها العلامة أبو الوليد ابن الشحنة: وفضائله كثيرة مشهورة. قال أحمد بن
حنبل رحمه الله: لم يصح في فضل أحد من الصحابة ما صح في فضل علي رضي الله عنه وكرم
الله وجهه، وناهيك به (1).
(هامش)
(1) روضة المناظر - سنة 40، ترجمة أمير المؤمنين. (*)
ص 169
ثم إن جماعة منهم: كابن عبد البر، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، والسمهودي، وابن
حجر المكي، وغيرهم نقلوا الكلمة بلفظ لم يرد أو لم يرو : قال ابن عبد البر:
قال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي: لم يرو في فضائل أحد من الصحابة
بالأسانيد الجياد ما روي في فضائل علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه. وكذلك قال أحمد
بن علي بن شعيب النسائي (1). وقال السمهودي: قال الحافظ ابن حجر: قال أحمد،
وإسماعيل القاضي، والنسائي، وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة
بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي (2). وإن جماعة منهم: كالحاكم، والثعلبي،
والبيهقي، والخوارزمي، وابن عساكر، وابن الأثير الجزري، والكنجي، والزرندي،
والسيوطي، والسمهودي، وابن حجر المكي، وكثيرين غيرهم... نقلوا الكلمة بلفظ ما جاء
: قال الحاكم: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن الحسن الجراحي وأبا الحسين محمد بن
المظفر يقولان: سمعنا أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول:
ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه (3). وقال الخوارزمي في بيان كثرة فضائل الإمام عليه السلام:
ويدلك على ذلك أيضا ما يروى عن الإمام الحافظ أحمد بن حنبل - وهو كما عرف أصحاب
(هامش)
(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1115. (2) جواهر العقدين - مخطوط. (3) المستدرك
على الصحيحين 3 / 107. (*)
ص 170
الحديث في علم الحديث، قريع أقرانه وإمام زمانه والمقتدى به في هذا الفن في إبانه،
والفارس الذي يكب فرسان الحفاظ في ميدانه، وروايته فيه رضي الله عنه مقبولة وعلى
كاهل التصديق محمولة، لما علم أن الإمام أحمد بن حنبل ومن احتذى على مثاله ونسج على
منواله وحطب في حبله وانضوى إلى حفله مالوا إلى تفضيل الشيخين رضوان الله عليهما،
فجاءت روايته فيه كعمود الصباح لا يمكن ستره بالراح - وهو: ما رواه الشيخ الإمام
الزاهد فخر الأئمة أبو الفضل ابن عبد الرحمن الحفربندي الخوارزمي رحمه الله - إجازة
- قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي قال: أخبرنا أبو
القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبدان العطار وإسماعيل بن أبي نصر عبد الرحمن
الصابوني وأحمد ابن الحسين البيهقي قالوا جميعا: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال:
سمعت القاضي الإمام أبا الحسن علي بن الحسين وأبا الحسن محمد بن المظفر الحافظ
يقولان: سمعنا أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي يقول: سمعت محمد بن منصور الطوسي
يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب عليه السلام (1). وقال ابن الأثير: قال
أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء لعلي بن أبي
طالب (2). وقال ابن حجر المكي: الفصل الثاني في فضائل علي كرم الله وجهه، وهي
كثيرة عظيمة شهيرة، حتى قال أحمد: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي. وقال
إسماعيل القاضي، والنسائي، وأبو علي النيسابوري: لم يرو في
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب: 33. (2) الكامل في التاريخ 3 / 399. (*)
ص 171
حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي (1). وهذا تمام الكلام
على ما ذكره ابن تيمية في الوجه الثاني في هذا المقام. قال: الثالث: إن أكل الطير
ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجئ أحب الخلق إلى الله ليأكل معه، فإن إطعام الطعام
مشروع للبر والفاجر، وليس في ذلك زيادة قربة لعند الله لهذا الأكل، ولا معونة على
مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله بفعله . جواب
إنكار إن أكل الطير مع النبي فيه أمر عظيم وهذا كلام سخيف في الغاية، وما أكثر صدور
مثله عندما يحاولون الإجابة من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وهم يفقدون كل
استدلال متين وبرهان مبين... إن من الواضح جدا لدى جميع العقلاء دلالة المؤاكلة مع
العظماء، على الشرف العظيم، فكيف بالمؤاكلة مع النبي الكريم صلى الله عليه وآله
وسلم، الذي لا يشك مسلم في كونها شرفا عظيما جدا، فدعوة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أحب الخلق لنيل هذا الشرف العظيم في كمال المناسبة، ومن هنا قالت عائشة - لما
سمعت هذه الدعوة -: اللهم اجعله أبي . وقالت حفصة: اللهم اجعله أبي . وقال
أنس: اللهم اجعله سعد بن عبادة وفي رواية: اللهم اجعله رجلا منا حتى نشرف به
. وأي ربط لقوله: فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر... بما نحن فيه؟ إذ
الكلام في اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته لأن يأكل معه، ولا يلزم من
مشروعية الإطعام للبر والفاجر أن لا يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصول شرف
المؤاكلة معه لأحب الخلق.
(هامش)
(1) الصواعق المحرقة: 72. (*)
ص 172
وقوله: وليس في ذلك زيادة قربة لعند الله... خطأ فاحش وسوء أدب، نفيه ترتب
المصلحة عليه خطأ أفحش... لأن تخصيص رجل بالمؤاكلة - التي هي شرف عظيم - وطلب حضوره
مرة بعد أخرى، ورد غيره، دليل واضح على فضل ذلك الرجل، وفي هذا مصلحة عظيمة من
مصالح الدين. ولو تنزلنا عن كل هذا وسلمنا قوله: بأن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم
يناسب أن يجئ أحب الخلق إلى الله ليأكل معه، وليس فيه زيادة قربة، لا معونة على
مصلحة ومع أن طلبه صلى الله عليه وسلم ذلك لأحب الخلق لم يكن محرما ولا مكروها،
ليكون شاهدا على كون الحديث موضوعا... نعم لو تنزلنا وسلمنا ما ذكره، فهل كان ابن
تيمية يقول هذا لو كان هذا الحديث في حق أحد الشيخين أو الشيوخ، وهل كان يقدح فيه
بمثل هذه الوجوه؟ لا والله، بل كانوا يجعلون هذا من أعظم مفاخره وأكبر مآثره؟!
ولقالوا: إن مجرد المؤاكلة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضل عظيم، فكيف
بامتناعه صلى الله عليه وآله وسلم عن مؤاكلة الغير معه، وإرادته هذا الشخص بالخصوص
لذلك؟ وعلى الجملة، فإن التعصب والعناد هو الباعث لمثل ابن تيمية على الطعن والقدح
في هذا الحديث الشريف، بمثل هذه الشبهات الركيكة والوساوس السخيفة. ثم إنه قد جاء
في روايات الإمامية أن الطير كان من الجنة نزل به جبرئيل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وعلى هذا الأساس أيضا تبطل شبهة ابن تيمية وتندفع، لأن أكل طعام الجنة
أمر عظيم يناسب أن يجئ أحب الخلق إلى الله ليأكل منه معه صلى الله عليه وآله وسلم،
ومن الواضح جدا أن في أكل طعام الجنة زيادة قربة، وأن الله لم يقسم الأكل منه للبر
والفاجر، بل إن أهل الحق على أن الأكل من طعام الجنة دليل على العصمة والطهارة...
قال العلامة المجلسي طاب ثراه:
ص 173
وفي بعض روايات الإمامية أن الطير المشوي جاء به جبرئيل من الجنة، ويشهد به عدم
إشراكه صلى الله عليه وآله وسلم أنسا وغيره - مع جوده وسخائه - في الأكل معه، لأن
طعام الجنة لا يجوز أكله في الدنيا لغير المعصوم. فتكون هذه الواقعة دالة على فضيلة
أمير المؤمنين عليه السلام من جهتين، إذ تكون دليلا على العصمة والإمامة معا (1).
ويؤيد هذا الكلام ما رواه أسعد بن إبراهيم الأربلي بقوله: الحديث الثاني
والعشرون، يرفعه عبد الله التنوخي إلى صعصعة بن صوحان قال: أمطرت المدينة مطرا،
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، والتحق به علي، فساروا مسير فرحة
بالمطر بعد جدب، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم طرفه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا
شيئا من فاكهة الجنة، فإذا هو برمانة تهوي من السماء، فأخذها النبي صلى الله عليه
وسلم ومصها حتى روى منها، وناولها عليا فمصها حتى روى منها. والتفت إلى أبي بكر
وقال: لولا أنه لا يأكل من ثمار الجنة في الدنيا إلا نبي أو وصيه لأطعمتك منها.
فقال أبو بكر: هنيئا لك يا علي (2). وكان هذا الوجه الثالث لابن تيمية. قال:
الرابع: إن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة، فإنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يعلم أن عليا أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده. وهذا الحديث
يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله. .
(هامش)
(1) بحار الأنوار 38 / 348. (2) الأربعين في الحديث - مخطوط. (*)
ص 174
بطلان دعوى دلالة الحديث على أن النبي ما كان يعرف أحب الخلق هذا كلامه... وليت
شعري إلى أي حد ينجر العناد وتؤدي الضغائن والأحقاد!! وليت أتباع شيخ الإسلام؟!
يوضحون لنا موضع دلالة حديث الطير على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان
يعرف أحب الخلق إلى الله، وكيفية هذه الدلالة، ليكون الحديث مناقضا لمذهب
الإمامية!! إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ائتني بأحب الخلق إليك لا
يدل على ما يدعيه ابن تيمية بإحدى الدلالات الثلاث، ولا يفهم أهل اللغة ولا أهل
العرف ولا أهل الشرع من هذه الجملة ما فهمه ابن تيمية!! بل إن أهل العلم يعلمون
باليقين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف بأن عليا عليه السلام أحب الخلق
إلى الله، وأنه لم يكن مراده من أحب الخلق في ذلك الوقت إلا الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام. لكنه إنما دعاه بهذا العنوان ليظهر فضله، كما اعترف بذلك ابن
طلحة الشافعي وأوضحه كما ستعرف. ثم إن مفاد بعض أخبار الإمامية أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قد صرح في واقعة حديث الطير بتعين أحب الخلق عنده ومعرفته به، بحيث
لو لم يحضر الإمام عليه السلام عنده في المرة الثالثة لصرح باسمه... ففي كتاب
(الأمالي) للشيخ ابن بابويه القمي: حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن
إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي هدبة قال: رأيت أنس بن مالك معصوبا بعصابة،
فسألته عنها فقال: هي دعوة علي بن أبي طالب، فقلت له: وكيف يكون ذلك؟ فقال: كنت
خادما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم طائر مشوي، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلي ليأكل معي هذا الطائر. فجاء
علي، فقلت له: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنك
ص 175
مشغول، وأحببت أن يكون رجلا من قومي، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده
الثانية فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلي يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي،
فقلت له: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنك مشغول، وأحببت أن يكون رجلا من
قومي، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده الثالثة فقال: اللهم ائتني بأحب
خلقك إليك وإلي يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي، فقلت: رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عنك مشغول وأحببت أن يكون رجلا من قومي. فرفع علي صوته فقال: وما يشغل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عني، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: يا أنس من هذا؟ قلت: علي بن أبي طالب. قال: ائذن له. فلما دخل قال له: يا
علي، إني قد دعوت الله عز وجل ثلاث مرات أن يأتيني بك. فقال عليه السلام: يا رسول
الله، إني قد جئت ثلاث مرات كل ذلك يردني أنس ويقول: رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عنك مشغول. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أنس ما حملك على
هذا؟ فقلت: يا رسول الله سمعت الدعوة فأحببت أن يكون رجلا من قومي. فلما كان يوم
الدار استشهدني علي عليه السلام فكتمته، فقلت: إني نسيته. قال: فرفع علي عليه
السلام يده إلى السماء فقال: اللهم ارم أنسا بوضح لا يستره من الناس، ثم كشف
العصابة عن رأسه فقال: هذه دعوة علي. هذه دعوة علي، هذه دعوة علي (1). فكيف يناقض
هذا الحديث مذهب الإمامية يا شيخ الإسلام؟!! وهل هذا إلا رمي للسهام في الظلام،
واتباع الوساوس والهواجس والأوهام؟!! وكان هذا ما ذكره ابن تيمية في الرابع.
(هامش)
(1) الأمالي للشيخ محمد بن علي بن بابويه: 753. (*)
ص 176
وقال في الخامس والأخير: الخامس - أن يقال: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
كان يعرف أن عليا أحب إلى الله أو ما كان يعرف، فإن كان يعرف ذلك كان يمكنه أن يرسل
بطلبه كما كان يطلب الواحد من أصحابه، أو يقول: اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق
إليك، فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في الدعاء، ولو سمى عليا لاستراح أنس من الرجاء
الباطل ولم يغلق الباب في وجه علي. وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك،
بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك. ثم إن في لفظة أحب الخلق إليك وإلي فكيف
لا يعرف أحب الخلق إليه؟ . جواب اعتراضه بأنه إن كان يعرفه فلماذا الإبهام؟ قلت:
قد عرفت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف أحب الخلق إلى الله، وأنه لم
يكن إلا علي عليه السلام، فالترديد التي ذكره ابن تيمية في غير محله. وأما قوله:
فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في الدعاء؟ فالجواب: إن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أراد أن يعلم بأن مصداق هذا العنوان ليس إلا الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام، وأن الله عز وجل هو الذي جعل عليا أحب الخلق إليه وإلى رسوله، لا أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم جعل عليا كذلك من عند نفسه... ولو أرسل بطلبه أو قال:
اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق إليك لم تتبين هذه الحقيقة، ولتعنت المنافقون
وقالوا بأن الذي قاله النبي من عنده لا من الله عز وجل. فقضية الطير هذه على ما
ذكرنا تشبه قضية شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم القيامة بتقدم وطلب من
الأنبياء واحد بعد واحد كما في الحديث المروي... قال الإسكندري ما نصه: أما
المقدمة، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى ولما أراد إتمام عموم نعمته
ص 177
وإفاضة فيض رحمته، واقتضى فضله العظيم أن يمن على العباد بوجود معرفته، وعلم سبحانه
وتعالى عجز عقول عموم العباد عن التلقي من ربوبيته، جعل الأنبياء والرسل لهم
الاستعداد العام لقبول ما يرد من إلهيته، يتلقون منه بما أودع فيهم من سر خصوصيته،
ويلقون عنه جمعا للعباد على أحديته، فهم برازخ الأنوار ومعادن الأسرار، رحمة مهداة
ومنة مصفاة، حرر أسرارهم في أزله من رق الأغيار، وصانهم بوجود عنايته من الركوع إلى
الآثار، لا يحبون إلا إياه ولا يعبدون ربا سواه، يلقي الروح من أمره عليهم ويواصل
الإمداد بالتأييد إليهم. وما زال فلك النبوة والرسالة دائرا إلى أن عاد الأمر من
حيث الإبتداء، وختم بمن له كمال الإصطفاء، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو
السيد الكامل القائم الفاتح الخاتم، نور الأنوار وسر الأسرار، المبجل في هذه الدار
وتلك الدار على المخلوقات أعلى المخلوقات منارا وأتمهم فخارا. دل على ذلك الكتاب
المبين قال الله سبحانه: *(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)* ومن رحم به غيره فهو
أفضل من غيره. والعالم كل موجود سوى الله تعالى. وأما تفضيله على بني آدم خصوصا فمن
قوله صلى الله عليه وسلم: إني سيد بني آدم ولا فخر. وأما تفضيله على آدم عليه إسلام
فمن قوله صلى الله عليه وسلم: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين. ومن قوله: آدم فمن
دونه من الأنبياء يوم القيامة تحت لوائي. وبقوله: إني أول شافع وإني أول مشفع. وأنا
أول من تنشق الأرض عنه. وحديث الشفاعة المشهور الذي: أخبرنا به الشيخ الإمام الحافظ
بقية المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي -
بقراءتي عليه أو قرئ عليه وأنا أسمع - قال: أخبرنا الشيخان الإمام فخر الدين وفخر
القضاة أبو الفضل أحمد ابن محمد بن عبد العزيز الحباب التميمي وأبو التقى صالح بن
شجاع بن سيدهم المدلجي الكناني قالا: أخبرنا الشريف أبو المفاخر سعيد بن الحسين
ص 178
ابن محمد بن سعيد العباسي المأموني قال: أخبرنا أبو عبد الله الفراوي وقال: أخبرنا
عبد الغافر الفارسي قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي قال:
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه قال: حدثنا أبو الحسين مسلم بن
الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري قال: حدثنا أبو الربيع العتكي قال: حدثنا حماد
بن زيد قال: حدثنا سعيد بن هلال الغنوي، وحدثنا سعيد بن منصور - واللفظ له - قال:
حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا سعيد بن هلال الغنوي قال: إنطلقنا إلى أنس بن مالك
وتشفعنا بثابت، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه وأجلس
ثابتا معه على سريره فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن
تحدثهم حديث الشفاعة قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة
ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم فيقولون: إشفع لذريتك، فيقول: لست لها ولكن
عليكم بموسى فإنه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح
الله وكلمته فيأتون عيسى، فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم
فيأتون إلي فأقول: أنا لها. فأنطلق إلى ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده
بمحامد لا أقدر عليه إلا أن يلهمنيه الله عز وجل. ثم أخر ساجدا فيقال لي: يا محمد،
إرفع رأسك وقل، نسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: ربي أمتي أمتي، فيقال: إنطلق
فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من الإيمان فأخرجه من النار.
فأنطلق فأفعل... فانظر - رحمك الله - ما تضمنه هذا الحديث من فخامة قدره صلى الله
عليه وسلم وجلالة أمره، وإن أكابر الرسل والأنبياء لم ينازعوه في هذه الرتبة التي
هي مختصة به، وهي الشفاعة العامة في كل من ضمه المحشر.
ص 179
فإن قلت: فما بال آدم أحال على نوح في حديث وعلى إبراهيم في هذا ودل نوح على
إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وموسى على عيسى، وعيسى على محمد صلى الله عليه وسلم،
ولم تكن الدلالة على محمد صلى الله عليه وسلم من الأول؟ فاعلم أنه لو وقعت الدلالة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأول لم يتبين من نفس هذا الحديث أن غيره لا
يكون له هذه الرتبة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدل كل واحد على من بعده، وكل
واحد يقول لست لها، مسلما للرتبة غير مدع لها، حتى أتوا عيسى عليه السلام، فدل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنا لها (1). هذا، وقول ابن تيمية: ولو
سمى عليا لاستراح أنس... اعتراض صريح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا
يجترئ عليه إلا هذا الرجل وأمثاله ونعوذ بالله منه... ونشكره سبحانه وتعالى على أن
عافانا مما ابتلي به هؤلاء...
(هامش)
(1) لطائف المنن - في مبحث شفاعة نبينا بطلب الأنبياء السابقين. (*)
ص 180
مع الأعور الواسطي

وجاء الأعور الواسطي ناسجا على منوال ابن تيمية يقول: ومنها -
حديث الطائر المنسوب إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتى
رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بطائر مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل منه، وكان أنس في الباب فجاء علي رضي الله عنه ثلاث مرات وأنس يرده، فبصق عليه
فبرص من فرقه إلى قدمه. والجواب من وجوه: الأول - نقول: هذا حديث مكذوب. الثاني -
نقول: مردود، لأنهم يدعون أن أنسا كذب ثلاث مرات في مقام واحد، فترد شهادته. الثالث
- نسلم صحته ونقول: معنى أحب خلقك يأكل منه : الذي أحببت أن يأكل منه حيث كتبته
رزقا له، لا ما يعنيه الرافضة أن عليا أحب إلى الله، فإنه يلزم أن يكون أحب من
النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر البطلان (1). بطلان دعوى أن هذا حديث مكذوب
أقول: إما الوجه الأول فما ذكره فيه مجرد دعوى فارغة، ولو كان قول القائل هذا
حديث مكذوب كافيا في رد شيء من الأحاديث، فمن الممكن أن ترد جميع الأحاديث
والآثار بهذه الكلمة لكل أحد.
(هامش)
(1) رسالة الأعور في الرد على الإمامية - مخطوط. (*)
ص 181
رد القدح فيه من جهة كذب راويه وأما الوجه الثاني، فقد عرفت الجواب عنه سابقا...
ولعل بطلان هذا الكلام لدى الخاص والعام، هو الذي منع (الدهلوي) وسلفه (الكابلي)
وغيرهما من متكلمي القوم من الاستدلال به في كتبهم الكلامية التي وضعوها للرد على
الإمامية... نعم ذكره (الدهلوي) في حاشية كتابه ناسبا إياه إلى النواصب... مذعنا
بناصبية الأعور... الجواب عن المناقشة في الدلالة وأما الوجه الثالث... فسيأتي
الجواب عنه عندما نتكلم بالتفصيل في مفاد حديث الطير ودلالته، فانتظر. وقال في
(التوضيح الأنور بالحجج الواردة لدفع شبه الأعور): وأما الثالث فلأنا لا نسلم
لزوم ما توهمه مما أرادوه، فإن المعني به كما سبق أحب من يأتي النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، والنبي ممن يؤتى، فكيف يلزم أن يكون؟ أحب منه على ذلك التقدير؟ بل إنما
يلزم ذلك على تأويله الفاسد وقوله الوهمي الفاسد من أن معني أحب خلقك يأكل معي:
الذي أحببت أن يأكل منه حيث كتبته رزقا له، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أكل منه
وكتب رزقا له. ما أعمى قلب الخارجي الخارج عن طريق الصواب، والأبتر الناصبي الهارب
عن المطر الجالس تحت الميزاب .
ص 182
مع محسن الكشميري

وعلى هذه الوتيرة كلمات محمد محسن الكشميري في هذا الباب، فإنه
قال: السابع - خبر الطائر، وهو: أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم طائر
مشوي. فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي. فجاء علي وأكل. والجواب من وجوه:
الأول: إنه ذكر مهرة فن الحديث أنه موضوع، كما صرح به محمد بن طاهر الفتني في
الرسالة له في بيان الصحيح والضعيف والوضاعين والضعفاء المجهولين. الثاني: إنه لا
يدل على الإمامة بالمعنى المراد عند الخصم، كما مر غير مرة. الثالث: إن مثله وارد
في حق أسامة بن زيد، حين سأل النبي عليه السلام رجل عن أحب الناس إليه. فقال عليه
الصلاة والسلام: أسامة بن زيد. فلو كان علي أحب إلى الحق من بين الصحابة كان أحب
إلى النبي أيضا، إذ لا يحب النبي إلا لما يحب الله. فلو كان أحب إليه عليه السلام
مطلقا كان حديث أسامة معارضا له، فلا بد من تخصيص، فلم يبق حجة. الرابع: إنه مضمحل
بتقديم النبي أبا بكر في الصلاة (1).
(هامش)
(1) نجاة المؤمنين - مخطوط. (*)
ص 183
دعوى وضع الحديث كاذبة أقول: أما الوجه الأول فما ذكره فيه من أنه ذكر مهرة فن
الحديث أنه موضوع فنسبة كاذبة ودعوى فارغة، إذ قد عرفت سابقا وآنفا أن مهرة فن
الحديث لا يقولون بأنه موضوع، ومن ادعى ذلك كابن تيمية فليس من مهرة فن الحديث،
وليس لدعوى ذلك وجه يصلح للاصغاء. فرية على الفتني وقوله: كما صرح به محمد بن
طاهر الفتني... فرية واضحة، فقد ذكرنا سابقا عبارة الفتني في (تذكرة الموضوعات)
وليس فيها نسبة القول بوضع هذا الحديث إلى مهرة فن الحديث، وإنما ذكر عن المختصر أن
طرقه ضعيفة وأن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات... وأين هذا من ذاك؟ وقد عرفت أن دعوى
من يدعي ضعف جميع طرق حديث الطير كاذبة، ونسبة إيراد ابن الجوزي إياه في الموضوعات
افتراء عليه... المناقشة في دلالته مردودة وأما الوجه الثاني - وهو المناقشة في
دلالة حديث الطير على مراد الإمامية - فسيظهر اندفاعه من الوجوه التي سنذكرها في
بيان دلالة هذا الحديث على ما يذهب إليه الإمامية، إذ حاصل ذلك أنه يدل على أفضلية
أمير المؤمنين عليه السلام، والأفضلية مستلزمة للإمامة بلا كلام. دحض المعارضة بما
رووه في حق أسامة وأما الوجه الثالث فواضح البطلان. أما أولا: فلأن الحديث الذي
ذكره الكشميري غير وارد بهذا اللفظ في شيء من روايات أهل السنة.
ص 184
وأما ثانيا: فلأن هذا الحديث بأي لفظ كان - من متفردات أهل السنة وما كان كذلك فهو
غير صالح لإلزام الإمامية به، ولا اقتضاء له لحملهم على رفع اليد عن عموم حديث
الطير به. وأما ثالثا: فلأن ما رووه في أحبية أسامة ليس عندهم في مرتبة حديث الطير،
فإن حديث الطير - كما فصل سابقا - متواتر مقطوع بصدوره عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وقد بلغت طرقه حدا في الكثرة حمل بعض أعلام حفاظهم على جمعها في أجزاء مفردة.
أما حديث أحبية أسامة فلم تتعدد طرقه فضلا عن التواتر والثبوت. رد الاستدلال بما
ادعاه من تقديم النبي أبا بكر في الصلاة وأما الوجه الرابع - وهو دعوى اضمحلال حديث
الطير ومفاده بتقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر في الصلاة - فأوهن
وأسخف مما تقدمه، وهو يدل على بعد الكشميري عن أدب المناظرة والاحتجاج... وذلك لأن
تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر في الصلاة من الموضوعات، وفيهم من
اعترف بوقوع الاختلاف والاضطراب الفاحش في روايات القصة كابن حجر العسقلاني في شرح
البخاري، وهذا الاضطراب والاختلاف دليل الوضع والإفتعال لدى جماعة من الأكابر منهم:
كابن عبد البر، والأعور، والكابلي، (والدهلوي) كما تبين في (تشييد المطاعن). على أن
الاستخلاف في الصلاة لا دلالة فيه على الإمامة، وبهذا صرح ابن تيمية حيث قال:
الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد لكل ولي أمر، وليس كل من يصلح للاستخلاف في
الحياة على بعض الأمة يصلح أن يستخلف بعد الموت، فإن النبي استخلف غير واحد، ومنهم
من لا يصلح للخلافة بعد موته... (1).
(هامش)
(1) منهاج السنة 4 / 91. (*)
ص 185
موجز الكلام في تحقيق خبر صلاة أبي بكر وحديث صلاة أبي بكر - وإن رووه في صحاحهم
بطرق عديدة، واعتنوا به كثيرا، واستندوا إليه في بحوثهم في الأصول والفروع - لم
يسلم سند من أسانيده من قدح في الرواة، على أن هناك أدلة وشواهد من خارج الخبر
وداخله على أن هذه الصلاة لم تكن بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والعمدة
في هذا الخبر ما أخرجوه عن عائشة، وسيأتي بعض الكلام عليه، وأما عن غيرها، فقد جاء
عن أبي موسى الأشعري - أخرجه البخاري ومسلم (1) - وقد قال الحافظ ابن حجر بأنه
مرسل،، ويحتمل أن يكون تلقاه عن عائشة (2). وجاء عن عبد الله بن عمر (3)، ومداره
على الزهري وهو من أشهر المنحرفين عن علي عليه الصلاة والسلام (4). وجاء عن ابن
عباس، وهو: عن أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس وقد قال البخاري:
لا نذكر لأبي إسحاق سماعا من الأرقم بن شرحبيل (5). وجاء عن عبد الله بن مسعود،
وفيه عاصم بن أبي النجود قال الهيثمي: فيه ضعف (6) وعن بعضهم كان عثمانيا
(7).
(هامش)
(1) صحيح البخاري 2 / 130 بشرح ابن حجر، صحيح مسلم بشرح النووي - هامش القسطلاني 3
/ 63. (2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 2 / 130. (3) صحيح البخاري 2 / 302 بشرح
ابن حجر، صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 59 هامش القسطلاني. (4) شرح نهج البلاغة 4 /
102. (5) هامش سنن ابن ماجة 1 / 391. (6) مجمع الزوائد 5 / 183. (7) تهذيب التهذيب
5 / 35. (*)
ص 186
وجاء عن سالم بن عبيد وفيه نعيم بن أبي هند قالوا: كان يتناول عليا (1).
وجاء عن أنس، وفيه: أبو اليمان عن شعيب عن الزهري فأما الزهري فقد تقدم.
وأما الآخران فقد قالوا: إن أبا اليمان لم يسمع من شعيب ولا كلمة (2). ثم إن
الحديث عن عائشة ينتهي بجميع أسانيده إلى: 1 - الأسود بن يزيد النخعي، وهذا الرجل
من المنحرفين عن علي عليه السلام (3) والراوي عنه هو: إبراهيم بن يزيد النخعي، وهو
من أعلام المدلسين (4). 2 - عروة بن الزبير، وهو من المشتهرين ببغض علي (5) والراوي
عنه ابنه هشام وهو من كبار المدلسين (6). 3 - عبيد الله بن عبد الله، والراوي
عنه عند الشيخين هو موسى بن أبي عائشة وقد قال ابن أبي حاتم عن أبيه تريبني
رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله في مرض النبي (7). 4 - مسروق
بن الأجدع، والراوي عنه: شقيق بن سلمة، وكان عثمانيا (8).
(هامش)
(1) تهذيب التهذيب 10 / 418. (2) تهذيب التهذيب 2 / 380. (3) شرح نهج البلاغة 4 /
97. (4) معرفة علوم الحديث: 108. (5) شرح نهج البلاغة 4 / 102. (6) تهذيب التهذيب
11 / 44. (7) تهذيب التهذيب 10 / 314. (8) تهذيب التهذيب 4 / 317. (*)
ص 187
ثم نقول: أولا: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر بالخروج مع
أسامة، إذ لا ريب لأحد في كونه هو وعمر وغيرهما من كبار المهاجرين والأنصار في بعث
أسامة (1). وثانيا: إنه صلى الله عليه وآله وسلم - بعد أن علم بخروج أبي بكر إلى
الصلاة - خرج بنفسه، وهو معتمد على رجلين، فنحاه عن المحراب، وصلى بالناس بنفسه
الكريمة (2). وثالثا: إن من الأمور المسلمة عدم جواز تقدم أحد على النبي (3).
ورابعا: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يرى أن صلاة أبي بكر كانت بأمر من عائشة
(4) و علي مع الحق والحق مع علي (5)، وهو ما يدل عليه سقوط الأسانيد وقرائن
الأحوال والشواهد. وإن شئت التفصيل فراجع رسالتنا في الموضوع (6).
(هامش)
(1) فتح الباري 8 / 124. (2) تجده في جميع الروايات في الصحاح وغيرها. (3) فتح
الباري 3 / 139، نيل الأوطار 3 / 195، السيرة الحلبية 3 / 365. (4) شرح نهج البلاغة
9 / 196 - 198. (5) صحيح الترمذي 3 / 166، المستدرك 3 / 124، جامع الأصول 9 / 420.
(6) الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية (*)
ص 188
مع القاضي پاني پتي ومن الطرائف رد القاضي پاني پتي - وهو من مشاهير متأخري علماء
أهل السنة، بل بيهقي عصره كما في (إتحاف النبلاء) عن (الدهلوي) - حديث الطير بقوله
تبعا للكابلي: الرابع - حديث أنس بن مالك: إنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم
طائر قد طبخ له فقال: اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي، فجاء علي فأكله. رواه
الترمذي. قال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي في (التلخيص): لقد كنت
زمنا طويلا أظن أن هذا الحديث لم يحسن الحاكم أن يودعه في مستدركه، فلما علقت هذا
الكتاب رأيت القول من الموضوعات التي فيه. وقد صرح شمس الدين الجزري بوضع هذا
الحديث. وأيضا: هذا الحديث لا دلالة فيه على الإمامة كما لا يخفى. والمراد من أحب
الناس : من أحب الناس إليك كما في قولهم: فلان أعقل الناس. ومن المحتمل عدم
حضور الخلفاء الآخرين في ذلك الوقت. وقد ورد مثل هذا الحديث في حق العباس رضي الله
عنه: روى ابن عساكر من طريق السبكي عن دحية قال: قدمت من الشام وأهديت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فاكهة يابسة من فستق ولوز وكعك. فقال: اللهم ائتني بأحب أهلي
إليك يأكل معي. فطلع العباس، فقال: يا عم أجلس. فجلس وأكل. لكن سنده واه (1)
(هامش)
(1) السيف المسلول - مخطوط. (*)
ص 189
تصرفه في لفظ الحديث أقول: أول ما في هذا الكلام تحريفه لفظ الحديث، فقد بدل لفظ
أحب الخلق إلى أحب الناس . تصحيفه عبارة الذهبي ثم إنه ذكر كلمة الذهبي لم
يجسر الحاكم بلفظ لم يحسن وهكذا ترجمها إلى الفارسية. دعواه أنه موضوع مع
اعترافه بإخراج الترمذي إياه وهو يدعي أن الحديث موضوع مع اعترافه بإخراج الترمذي
إياه حيث قال: رواه الترمذي ... وهل في الترمذي حديث موضوع ؟ لكن الحديث
عند الترمذي بلفظ أحب الخلق لا أحب الناس وكلمة الذهبي لم يجسر لا لم
يحسن . ومن هذا كله يظهر أن الرجل بصدد أن يكتب شيئا ليكون بزعمه ردا على استدلال
الإمامية بهذا الحديث، فجاء بعبارات الكابلي ولم يكلف نفسه مشقة مراجعة (الترمذي)
و(تلخيص المستدرك). نسبة القول بوضعه إلى ابن الجزري كما أنه تبع الكابلي في نسبة
القول بأنه حديث موضوع إلى ابن الجزري، هذه النسبة التي لا شاهد على ثبوتها، بل تدل
القرائن على كذبها. مناقشة في دلالته وتأويله للفظه وفي الدلالة تبع الكابلي في
دعوى أن هذا الحديث لا يدل على الإمامة
ص 190
لكنها دعوى فارغة عاطلة... ثم ادعى كون المراد من أحب الناس هو من أحب الناس
... إدعى هذا جاز ما به، والحال أنه لو كان هذا الحديث موضوعا كما يزعم فمن أين
يثبت أن هذا الذي ذكره هو المراد حتما؟ إحتماله عدم حضور الخلفاء وقت القصة ومع
ذلك، إحتمل - تبعا للكابلي - أن لا يكون الخلفاء حاضرين في المدينة وقت قصة الطير
ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضور أحب الخلق إلى الله وإليه، إلا أنه
ليس إلا محاولة أخرى لإسقاط دلالة الحديث الشريف على أفضلية الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام... ومن أدلة بطلان هذا الإحتمال وسقوطه: خبر الطير برواية النسائي.
معارضته الحديث بحديث اعترف بوهنه ولقد زاد القاضي في الطنبور نغمة أخرى، فجاء بما
لم يذكره أسلافه... فزعم معارضة حديث الطير بما وضعه بعض الكذابين منهم في
مقابلته... لكن الذي يهون الأمر قوله بالتالي: لكن سنده واه . * * *
ص 191
مع حيدر علي الفيض آبادي

ولقد اغتر المولوي حيدر علي الفيض آبادي بكلمات الكابلي
و(الدهلوي) في هذا الباب وحسبها كلمات حق فقال على ضوئها: كيف لا تكون أحاديث
تقديم أبي بكر في الصلاة - هذه الأحاديث التي رواها أكثر فقهاء الصحابة بل الخلفاء
الراشدون الملازمون لصحبة خاتم النبيين، وكذا أهل البيت الطاهرون، وبلغت حد التواتر
والاستفاضة، بحيث انقطع بها نزاع المنازعين في مجمع المهاجرين والأنصار، واستدل بها
المرتضى والزبير - دليلا لاستحقاق الصديق للخلافة، ثم يستدل بخبر الطير غير الثابت
صحته، وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، لإثبات مقصود الشيعة؟ وكيف تفيد مثل هذه
الأحاديث ما يدعيه المخالفون؟ والحال أن الإمامة عندهم - في الحقيقة - أصل الأصول،
وقد صرحوا آلاف المرات بأنه لا يفيد في هذا الباب إلا الروايات المتواترات خلافا
لجمهور أهل السنة القائلين بأن الإمامة من الفروع؟ (1). كيف تكون الأكاذيب أدلة
على خلافة الثلاثة؟ أقول: إن هذا الكلام الذي تفوه به الفيض آبادي كلام لا يفضح إلا
نفسه، ولا يثبت إلا جهله أو تعصبه... كيف يجعل الأحاديث التي وضعها الموالون لأبي
بكر ثابتة فضلا عن استفاضتها وتواترها؟ إنه لا طريق إلى ذلك إلا أن يسمى الموضوع
ب الصحيح و الخامل ب المشهور و المنكر
(هامش)
(1) القول المستحسن في فخر الحسن - فضائل أبي بكر، مبحث صلاته. (*)
ص 192
ب المستفيض و الباطل ب المتواتر فإنه عندئذ يكون لما ذكره وجه!! إن
هذه الأحاديث التي يدعيها الرجل وأمثالها إذا وضعت في ميزان النقد ليست إلا هباء
منثورا، وكانت كأن لم يكن شيئا مذكورا؟! ولا تكون الصحاح والمتواترات أدلة على
خلافة الأمير؟ وأما أدلة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأفضليته... فمن تتبع
أسفار القوم وروايات أئمتهم الأساطين، ونظر فيها بعين الإنصاف، يرى أنها أدلة محكمة
رزينة وبراهين متقنة متينة، بحيث لا يؤثر فيها قدح قادح أو طعن طاعن... ومن ذلك
حديث الطير... فإن من نظر في رواته وأسانيده في كتب القوم يذعن بصحة احتجاج
الإمامية به على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام. وكيف لا يكون كذلك؟ وهو حديث
رواه أركان مذاهب أهل السنة وأساطين علمائهم وأعاظم فقهائهم في القرون المختلفة عن
التابعين ومعاريف الصحابة الملازمين لخاتم النبيين، بل عن رئيس أهل البيت وسيد
العترة أمير المؤمنين عليه السلام...!! لقد بلغ حديث الطير في الصحة والثبوت حدا
حمل جمعا من أكابر أعلامهم المحققين على الإذعان بذلك. بل كان ثبوته وصحته في زمن
المأمون العباسي قاطعا لنزاع المنازعين في مجمع من الفقهاء. بل لقد استدل واحتج به
سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى وسلم به وأذعن بثبوته الزبير وطلحة
وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. بل لقد احتج به عمرو بن العاص على
معاوية؟ وكيف لا يجوز الاحتجاج والاستدلال بهذا الحديث على أهل السنة وهم
ص 193
يرون الإمامة فرعا من فروع الدين لا أصلا من أصوله حتى لو لم يكن متواترا؟ فكيف
وتواتره ثابت بالقطع واليقين؟ * * *
ص 195
دلالة حديث الطير

ص 197
قوله: ومع هذا فإنه لا يفيد المدعى . حاصل مفاد حديث الطير خلافة علي أقول: إن
منع دلالة حديث الطير على ما يقوله الإمامية واضح البطلان، فإن استدلال الإمامية
بهذا الحديث على ما يذهبون إليه في تمام المتانة وكمال الرزانة. وبيانه: إن عليا
عليه السلام - حسب دلالة هذا الحديث الشريف - أحب جميع الخلق إلى الله تعالى وإلى
رسوله، وكل من كان أحب الخلق إلى الله تعالى ورسوله فهو أفضل من جميع الخلائق عند
الله ورسوله، وكل من كان أفضل من جميع الخلائق عند الله ورسوله فهو متعين للخلافة
عند الله ورسوله، فينتج أن عليا عليه السلام متعين للخلافة عند الله ورسوله.
الأحبية تستلزم الأفضلية أما أن كل من كان أحب الخلق إلى الله ورسوله فهو أفضل من
جميع الخلائق عند الله ورسوله... ففي غاية الوضوح، لكنا نستشهد هنا بكلمات لبعض
الأساطين حذرا من مكابرة الجاحدين:
ص 198
شواهد من كلمات العلماء

قال القسطلاني: فإن قلت: من اعتقد في الخلفاء الأربعة
الأفضلية على الترتيب المعلوم، ولكن محبته لبعضهم تكون أكثر هل يكون آثما أم لا؟
أجاب شيخ الإسلام الولي العراقي: إن المحبة قد تكون لأمر ديني، وقد تكون لأمر
دنيوي. فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية، فمن كان أفضل كانت محبته الدينية له أكثر،
فمتى اعتقدنا في واحد منهم أنه أفضل ثم أحببنا غيره من جهة الدين أكثر كان تناقضا،
نعم إن أحببنا غير الأفضل أكثر من محبة الأفضل لأمر دنيوي كقرابة أو إحسان ونحوه
فلا تناقض في ذلك ولا امتناع. فمن اعترف بأن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم
عمر ثم عثمان ثم علي، لكنه أحب عليا أكثر من أبي بكر مثلا، فإن كانت المحبة
المذكورة محبة دينية فلا معنى لذلك، إذ المحبة الدينية لازمة للأفضلية كما قررناه،
وهذا لم يعترف بأفضلية أبي بكر إلا بلسانه، وأما بقلبه فهو مفضل لعلي، لكونه يحبه
محبة دينية زائدة على محبة أبي بكر، وهذا لا يجوز. وإن كانت المحبة المذكورة دنيوية
لكونه من ذرية علي أو لغير ذلك من المعاني فلا امتناع فيه. والله أعلم (1). إذن،
المحبة الدينية لازمة للأفضلية، وهذا أمر مقرر. وقال السبكي: محمد بن أحمد بن نصر
الشيخ الإمام أبو جعفر الترمذي شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن شريح... وكان إماما
زاهدا ورعا قانعا باليسير... قال أحمد ابن كامل: لم يكن للشافعية بالعراق أرأس منه
ولا أورع ولا أكثر تقللا. وقال
(هامش)
(1) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - بشرح الزرقاني 7 / 42. (*)
ص 199
الدارقطني: ثقة مأمون ناسك. توفي أبو جعفر في المحرم سنة 295. وقد كمل أربعا وتسعين
سنة. نقل أنه اختلط في آخر عمره. وله كتاب في المقالات سماه كتاب اختلاف أهل الصلاة
في الأصول، وقف عليه ابن الصلاح وانتقى منه فقال - ومن خطه نقلت - إن أبا جعفر قل
ما تعرض في هذا الكتاب لما يختار هو، وأنه روى في أوله حديث: تفترق أمتي على ثلاث
وسبعين فرقة عن أبي بكر ابن أبي شيبة. وأنه بالغ في الرد على من فضل الغني على
الفقير، وأنه نقل: إن فرقة من الشيعة قالوا: أبو بكر وعمر أفضل الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، غير أن عليا أحب إلينا. قال أبو جعفر: فلحقوا بأهل البدع حيث
ابتدعوا خلاف من مضى (1). وهذا صريح في أن أحبية غير الأفضل لا وجه لها أبدأ.
وقال شاه ولي الله في بيان أفضلية الشيخين: وأما أفضليتهم المطلقة من جهة وجود
الخصائل الأربع فيهم فثابتة بالأحاديث الكثيرة، منها: حديث عمرو بن العاص - وهو
الحديث الثاني والأربعون من أحاديث هذا المسلك - فعن عمرو بن العاص: إن النبي صلى
الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته. فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال:
عائشة فقلت: من الرجال؟! فقال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب. وذلك كناية
عن الأفضلية المطلقة (2). وقال أيضا: إن من ضروريات الدين أن الغرض من العبادات
والطاعات وأشغال الصوفية غيرهم ليس إلا حصول القرب من الله تعالى، وأن الأنبياء لم
يفضلوا على غيرهم، والأولياء لم يتقدموا على غيرهم، إلا من جهة قربهم عند
(هامش)
(1) طبقات الشافعية الكبرى 2 / 187. (2) إزالة الخفا عن سيرة الخلفا - مبحث أفضلية
الشيخين. (*)
ص 200
الله ولما كان الشيخان أحب إلى رسول الله من سائر الصحابة كانا أحق بالخلافة من
غيرهما. أما المقدمة الأولى: فللحديث المستفيض عن عائشة: قيل لها: أي أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قال: أبو بكر ثم عثمان. وعن عمرو بن العاص قال:
عائشة. ومن الرجال أبوها ثم عمر. وعن أنس مثله. والمراد من الأحب هنا هو
الأقرب منزلة بدليل قول عائشة: لو كان مستخلفا لاستخلف أبا بكر ثم عمر. وأما
المقدمة الثانية: فلأنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى، وأن حبه بالخصوص لم
يكن عن هوى. فالأحبية تدل على أفضلية الشيخين (1). وقال أيضا في الوجوه الدالة
على أفضلية الشيخين: النوع الخامس عشر: كون الصديق أحب من سائر الصحابة، فعن
عائشة عن عمر بن الخطاب قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم. أخرجه الترمذي. ومن حديث ابن عباس (2)، عن عمر في قصة البيعة نحوه. رواه
الترمذي (3). فهل يبقى ريب لمنصف أو مجال لتعنت متعصب في أن الأحبية تستلزم
الأفضلية؟ وقال (الدهلوي) كما في (مجموعة فتاواه): فائدة - كثرة المحبة الدينية
لها معنيان، الأول: أن يعتقد المحب في محبوبه زيادة في الأمور الدينية. وهذا المعنى
يستلزم ألبتة اعتقاده
(هامش)
(1) إزالة الخفا عن سيرة الخلفا - مبحث أفضلية الشيخين. (2) هنا وهم بين فإن
البخاري إنما روى نحو تلك الألفاظ في مناقب أبي بكر في ضمن قصة البيعة المروية عن
عروة، عن ابن عباس، عن عمر من هذه الألفاظ شيء إلا قول عمر: إنه كان من خيرنا حين
توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم. (3) قرة العينين في تفضيل الشيخين - النوع
الخامس عشر من فضائل أبي بكر. (*)
ص 201
بأفضليته. والثاني: أن يكون حصل المحب من محبوبه نفع ديني عظيم لم يصل إليه من
غيره. وهذا المعنى لا يستلزم اعتقاده الأفضلية، لأن هذه المحبة موجودة بين كل شيخ
ومريده، وكل تلميذ وأستاذه، مع أنه لا يعتقد تفضيله . ومن الواضح أن محبة الله
ورسوله ليست إلا من القسم الأول حيث الأحبية تستلزم الأفضلية كما اعترف (الدهلوي).
فالحمد لله الذي أجرى الحق على لسانه، وأظهر صحة استدلال الإمامية بحديث الطير من
قبله. وتفيد كلمات بعض الأساطين المحققين دلالة الأحبية على الأفضلية: قال أبو حامد
الغزالي: بيان محبة الله للعبد ومعناها: إعلم أن شواهد القرآن متظاهرة على أن
الله تعالى يحب عبده، فلا بد من معرفة معنى ذلك. ولنقدم الشواهد على محبته، فقد قال
الله تعالى: *(يحبهم ويحبونه)*. وقال تعالى: *(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله
صفا)*. وقال تعالى: *(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)*. ولذلك رد سبحانه على
من ادعى أنه حبيب الله فقال: *(قل فلم يعذبكم بذنوبكم)*. وقد روى أنس عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: إذا أحب الله تعالى عبدا لم يضره ذنب، والتائب من الذنب
كمن لا ذنب له. ثم تلا: *(إن الله يحب التوابين)*. ومعناه: إنه إذا أحبه تاب عليه
قبل الموت فلم تضره الذنوب الماضية وإن كثرت، كما لا يضر الكفر الماضي بعد الإسلام،
وقد اشترط الله تعالى للمحبة غفران الذنب فقال: *(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)*. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى
يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب. وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله، ومن أكثر ذكر الله
أحبه الله.
ص 202
وقال عليه السلام: قال الله تعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه،
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به. الحديث. وقال زيد بن أسلم:
إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: إعمل ما شئت فقد غفرت لك. وما ورد
من ألفاظ المحبة خارج عن الحصر. وقد ذكرنا أن محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست
بمجاز، إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق، والعشق
عبارة عن الميل الغالب المفرط... فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى
أصلا، بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله لم تطلق عليهما
بمعنى واحد أصلا... فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق، وواضع اللغة إنما وضع هذه
الأسامي أولا للخلق، فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق، فكان استعمالها
في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل... ولذلك قال الشيخ أبو سعيد الميهني
رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى *(يحبهم ويحبونه)* فقال: بحق يحبهم، فإنه
ليس يحب إلا نفسه على معنى أنه الكل، وأن ليس في الوجود غيره، فمن لا يحب إلا نفسه
وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته، فهو
إذا لا يحب إلا نفسه. وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مأول، ويرجع معناه إلى
كشف الحجاب عن قلب عبده، فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له، كما قال تعالى: لا
يزال عبدي [العبد] يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء
باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه. فكل ذلك فعل الله تعالى
ولطفه به، فهو معنى حبه... والقرب من الله في البعد من صفات البهائم والسباع
والشياطين،