ص 203
والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية، فهو قرب بالصفة لا بالمكان...
فإذا محبة الله للعبد تقريبه من نفسه بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن
كدورات الدنيا، ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه... (1). أقول: إذا كان
هذا حال من أحبه الله فكيف يكون حال أحب الخلق إلى الله؟ وهل تحصل المراتب الحاصلة
لأحب الخلق إلى الله لغيره؟ وهل يكون أحد في الفضيلة في مرتبة أحب الخلق إلى الله؟
أفلا تدل الأحبية إليه على الأفضلية عنده؟ وقال القاضي عياض: وأصل المحبة الميل
إلى ما يوافق المحب، ولكن هذا في حق من يصح الميل منه والانتفاع بالوفق، وهي درجة
المخلوق. فأما الخالق - جل جلاله - فمنزه عن الأعراض، فمحبته لعبده تمكينه من
سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أسباب القرب وإفاضة رحمته عليه، وقصواها كشف الحجب عن
قلبه حتى يراه بقلبه وينظر إليه ببصيرته، فيكون كما قال في الحديث: فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به. ولا ينبغي أن يفهم من
هذا سوى التجرد لله والانقطاع إلى الله والإعراض عن غير الله وصفاء القلب لله
وإخلاص الحركات لله (2). إذا، الأحبية سبب الأفضلية...
(هامش)
(1) إحياء علوم الدين 4 / 327 - 328. (2) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 3 / 372. (*)
ص 204
وقال النووي: ومحبة الله تعالى لعبده تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه، وتيسير
ألطافه وهدايته، وإفاضة رحمته عليه. هذه مباديها. وأما غايتها فكشف الحجب عن قلبه
حتى يراه ببصيرته، فيكون كما قال في الحديث الصحيح: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع
به وبصره... (1). وقال الاسكندري: قال الشيخ أبو الحسن: المحبة أخذه من الله
لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته والعقل متحصنا بمعرفته، والروح
مأخوذة في حضرته، والسر مغمورا في مشاهدته، والعبد يستزيد فيزاد ويفاتح بما هو أعذب
من لذيذ مناجاته، فيكسى حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات
العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس الله ولا يرى عرائس الله المجرمون
(2). فهذه مراتب من أحبه الله، فكيف إذا بلغت هذه المراتب أقصاها وأعلاها بسبب كون
العبد أحب الخلائق بأجمعها عند الله عز وجل؟! إن هذا يدل على الأفضلية والأكرمية
بلا ريب ولا شبهة. وقال الفخر الرازي: بتفسير قوله تعالى: *(قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله)*(3):
(هامش)
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15 / 151. (2) لطائف المنن: 38. (3) سورة
آل عمران: 31. (*)
ص 205
والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب (1). وعليه، فالأحبية إلى الله عز
وجل تستلزم الأكثرية في الثواب، وهذه هي الأفضلية بلا شبهة وارتياب... في حديث نبوي
ولو أن المتعصبين والمتعنتين لم يقنعوا بما ذكرنا عن أكابر علمائهم... فإنا نستشهد
بحديث يروونه في كتبهم المعتبرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم... عن أسامة
قال: كنت جالسا إذ جاء علي والعباس يستأذنان، فقالا لأسامة: استأذن لنا على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، علي والعباس يستأذنان. فقال:
أتدري ما جاء بهما؟ قلت: لا، فقال: لكني أدري. إئذن لهما. فدخلا. فقالا: يا رسول
الله جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال: فاطمة بنت محمد. قالا: ما جئناك نسألك عن
أهلك قال: أحب أهلي إلي من قد أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أسامة بن زيد. قالا: ثم
من؟ قال: ثم علي بن أبي طالب. فقال العباس: يا رسول الله جعلت فداك عمك آخرهم؟ قال:
إن عليا سبقك بالهجرة. رواه الترمذي (2). فظهر أن الأحبية عنده صلى الله عليه
وآله وسلم ليس لميل شخصي وهوى نفسي منه، بل إن ملاكها الفضائل والجهات الدينية،
ولما كان علي عليه السلام الأحب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى حديث
الطير، فهو متقدم على جميع الخلائق في الكمالات الدينية والفضائل المعنوية، فيكون
الأفضل من الجميع. وأما تقديم أسامة عليه في هذا الحديث فلا يضر بالإستدلال، لأن
هذا من متفردات أهل السنة، فلا يكون حجة على الإمامية.
(هامش)
(1) التفسير الكبير 8 / 18. (2) مشكاة المصابيح 3 / 1740. (*)
ص 206
الأحبية دليل الأحقية بالخلافة في رأي عمر وبعد، فمن الضروري أن ننقل هنا ما يروونه
عن عمر بن الخطاب، الصريح في دلالة الأحبية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم على
الأحقية بالخلافة عنه... فقد روى البخاري قائلا: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس،
حدثني سليمان بن بلال، عن هشام ابن عروة، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -
قال إسماعيل يعني بالعالية - واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة،
فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال عمر: نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا
وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبايعه. فبايعه الناس (1). فالأحبية
المزعومة عند عمر تدل على الأحقية بالخلافة، فلم لا تكون الأحبية الثابتة باعتراف
الخصوم - بمقتضى حديث الطير - دالة على ذلك؟! حب الله حقا دليل الأحقية بالخلافة
عند عمر بل إن حب الله حقا دليل الأحقية بالخلافة عنده... أنظر إلى ما يرويه
أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، نا محمد بن إسحاق الثقفي السراج، نا محمود بن
خداش، نا مروان بن معاوية، نا سعيد قال: سمعت شهر بن حوشب يقول: قال عمر بن الخطاب:
لو استخلفت سالما مولى أبي حذيفة، فسألني عنه ربي ما حملك على ذلك لقلت: ربي سمعت
نبيك صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنه يحب الله حقا من قلبه (2).
(هامش)
(1) صحيح البخاري 5 / 7 - 8. (2) حلية الأولياء 1 / 177. (*)
ص 207
ورواه الطبري وابن الأثير باللفظ الآتي: لما طعن عمر قيل له: لو استخلفت! فقال:
لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: أبو عبيدة
أمين هذه الأمة. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته وقلت لربي إن سألني:
سمعت نبيك إن سالما شديد الحب لله (1).
(هامش)
(1) تاريخ الطبري 4 / 227، الكامل 3 / 65 (*)
ص 209
إبطال حمل الأحبية من الخلق على خصوص الأحبية في الأكل مع النبي

ص 211
قوله: إذ القرينة تدل على أن المراد هو أحب الناس في الأكل مع النبي . أقول: 1 -
إنه خلاف الظاهر إن هذا الحمل خلاف الظاهر فإن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ظاهر في أن عليا عليه السلام أحب الخلق إليه مطلقا، والحمل المذكور تأويل لا وجه
له، وهو غير جائز. وقد نص (الدهلوي) في أول كتاب (التحفة) على أن مذهب أهل السنة هو
الأخذ بظواهر كلمات المرتضى - لا حملها على التقية وغيرها - كما هو الحال بالنسبة
إلى كلام الله عز وجل وكلام الرسول، وعليه، فيجب الأخذ بما ورد عن المرتضى في تفضيل
بعض الأصحاب على نفسه. هذا كلامه، وهو كاف لإبطال جميع ما ورد عنه وعن غيره من
أسلافه وأتباعه من التأويل لهذا الحديث الشريف وغيره من الأحاديث الواردة في إمامة
أمير المؤمنين عليه السلام... ولله الحمد على ذلك.
ص 212
2 - لو كان المراد ذلك لم يجز إطلاق أفعل التفضيل فهذا الكلام الصادر عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم مطلق، ولو كان المراد الأحب في خصوص الأكل - لا مطلقا - كان
الكلام غلطا مستبشعا، لأن إطلاق أفعل التفضيل بلحاظ بعض الحيثيات غير المعتد بها
غير جائز، إذ لو جاز ذلك لزم أن يكون العالم بمسألة جزئية واحدة من مسائل الوضوء
أعلم أو أفقه ممن اتفق جهله بها، وهو عالم بما سواها من مسائل الوضوء بل
الطهارات كلها بل سائر الأبواب الفقهية... وهذا بديهي البطلان... وأيضا: لو كان
معظم أعضاء بدن زيد أجمل من عمر إلا عضوا واحدا من عمرو كإصبعه مثلا فكان أجمل...
فإنه لا يستريب عاقل في بطلان قول القائل: عمرو أجمل من زيد. إذن، لا يجوز رفع اليد
عن الإطلاقات بلحاظ هكذا حيثيات في شيء من الكلمات، فكيف بكلمات الشارع المقدس، فإن
إرادة مثل هذه الحيثيات من الإطلاقات أشبه بالألغاز... 3 - لو جاز لزم تفضيل غير
الأنبياء على الأنبياء ولو جاز إطلاق أفعل التفضيل بلحاظ بعض الأمور غير المعتبرة
في التفضيل لزم جواز تفضيل من اخترع صناعة أو اكتشف علما... مثلا... على الأوصياء
والأنبياء المرسلين... وأن لا يكون مثل هذا من التعريض وسوء الأدب... لكن شناعة هذا
واضح لدى المميزين من الأطفال فضلا عن أرباب الأدب والكمال... ولا نظن بأحد من أهل
السنة الإلتزام بجوازه، وكيف يظن بهم ذلك وهم يوجبون الضرب الشديد والحبس الطويل
على من أقر على قول من عرض بابنة أبي بكر؟ قال السيوطي: أفتى أبو المطرف الشعبي
في رجل أنكر تحليف امرأة بالليل قال: ولو
ص 213
كانت بنت أبي بكر الصديق ما حلفت إلا بالنهار. وصوب قوله بعض المتسمين بالفقه. فقال
أبو المطرف: ذكر هذا لابنة أبي بكر رضي الله عنها يوجب عليه الضرب الشديد والحبس
الطويل، والفقيه الذي صوب قوله هو أحق باسم الفسق من اسم الفقه، فيتقدم إليه في ذلك
ويؤخر ولا يقبل فتواه ولا شهادته، وهي جرحة تامة ويبغض في الله (1). فإذا كان هذا
فيمن لم يسب ولم يعرض بل أقر على قول من عرض، فما ظنك بمن عرض أو صرح بالسب، والغرض
من هذا كله تقرير أنه فاسق مرتكب لعظيم من الكبائر، لا مخلص له إلى العدالة بسبيل.
4 - إذا جاز رفع اليد عن الإطلاق لجاز فيما رووه عن ابن العاص وإذا جاز حمل الأحب
المطلق على الأحب بالمعنى الخاص مثل الأحب في الأكل ونحو ذلك جاز
للإمامية أن تقول بأن المراد من أحبية أبي بكر وعمر - فيما رواه أهل السنة عن عمرو
بن العاص، وبالنظر إليه حمل ابن حجر والمحب الطبري الأحبية في حديث الطير على
المحمل المذكور وسيأتي الكلام على ذلك - هو الأحبية في اللعن بقرينة ما أخرجه
البخاري: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا . أو الأحبية في ترك الاستخلاف
بقرينة ما رواه الشبلي في (آكام المرجان) عن ابن مسعود، الظاهر في إعراض النبي صلى
الله عليه وآله وسلم عن استخلاف الشيخين. أو الأحبية في ترك النفاق والرجوع إلى
الإيمان الخالص وتطهير قلوبهم من البغض والحسد لأهل البيت هذا الحسد الذي ظهر من
الشيخين فيما تكلما به في قضية النجوى، وغير ذلك.
(هامش)
(1) إلقام الحجر - مخطوط. (*)
ص 214
أو الأحبية في الهلاك حتى لا تنعقد سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي . وأمثال ذلك
من وجوه الحمل والتأويل... إذن... خلق هذا الإحتمال في حديث الطير يفتح الباب لتوجه
ما ذكرناه إلى الحديث الذي اختلقوه في أحبية الشيخين، فيكون مصداقا لقوله تعالى:
*(يخربون بيوتهم بأيديهم)*. 5 - أفعل التفضيل بمعنى الزيادة في الجملة غير وارد قط
هذا، وقد نص على عدم جواز إطلاق أفعل التفضيل وإرادة معنى الزيادة في الجملة
المحققون من أهل السنة، بل نص بعضهم على أن هذا غير وارد في اللغة والعرف قط...
فقد قال القوشجي في شرح قول المحقق الطوسي: وعلي أكرم أحبائه قال: أي: آله
وأصحابه الذين هم موصوفون بزيادة الكرم على من عداهم . ثم قال القوشجي: قيل لم
يرد به معينا بل ما يتناول متعددا، أعني من اتصف من محبوبية بزيادة الكرم في
الجملة. وفيه نظر، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف فله معنيان، الأول - وهو الشائع
الكثير - أن يقصد به الزيادة على جميع ما عداه مما أضيف إليه. والثاني: أن يقصد به
الزيادة مطلقا لا على جميع ما عداه مما أضيف إليه. وهو بالمعنى الأول يجوز أن يقصد
بالمفرد منه المتعدد، دون المعنى الثاني. وأما أفعل التفضيل بمعنى الزيادة في
الجملة فلم يرد قط (1). إذن، ليس الأحب في حديث الطير بمعنى الأحب في
الجملة بل هو الأحب على طريقة العموم والاستغراق، فبطل التأويلات السخيفة التي
(هامش)
(1) القوشجي على التجريد: 379. (*)
ص 215
اخترعها أرباب الشقاق. وقال صدر الدين الشيرازي في الرد على التوهم المذكور:
وأيضا: لو كان معناها - أي معنى صيغة التفضيل - ذلك - أي الزيادة في الجملة - فإذا
قال سائل: أي ابنيك أعلم؟ يصح أن يجاب بكليهما. والعارف باللسان لا يشك في عدم جواز
هذا الجواب. فتبين أن معناها ليس على ما ظنه، وإصراره على ذلك أدل دليل (1). 6 -
إختلاف المسلمين في الأفضلية دليل على عدم الجواز ثم إن المسلمين مختلفون في أفضلية
بعض الصحابة من بعض وهذا واضح... ولو كانت الأفضلية في الجملة جائزة وصح إطلاق
الأفضل وإرادة الأفضلية من بعض الجهات والوجوه، لانتفى الخلاف... وهذا مما استدل
به صدر الدين الشيرازي على عدم الجواز حيث قال: ثم اختلف المسلمون في أفضلية بعض
الصحابة على بعض، فذهب أهل السنة إلى أن أبا بكر أفضلهم، وأثبتوا ذلك بوجوه مذكورة
في موضعها، وبنوا على إثبات ذلك أن غيره من الصحابة ليس أفضل منه، ومنعوا إطلاق
الأفضل على غيره منهم. وذهب الشيعة إلى أن عليا أفضلهم، وأثبتوا ذلك بما لهم من
الدلائل، وبنوا على إثبات ذلك أن غيره من الصحابة ليس أفضل منه، ومنعوا أن يطلق
الأفضل على آخر من الصحابة. واستمر الخلاف بينهما، وفي كل من الطائفتين علماء كبار
عارفون باللغة حق المعرفة، فلو كان معنى الصيغة ما ظنه هذا القائل لصح أن يكون كل
واحد منهما أفضل من الآخر، ولم يتمش هذا الخلاف والبناء والمنع.
(هامش)
(1) الحاشية على القوشجي على التجريد - مبحث الإمامة. (*)
ص 216
وكيف يجوز أن يكون معناها ذلك ولم يتنبه به أحد من هذه الجماعات الكثيرة، ونفي
الخلاف والبناء والمنع المذكورة بين الطائفتين من قريب ثمانمائة سنة (1). وعليه،
فإنه لما ثبت أحبية أمير المؤمنين عليه السلام من حديث الطير والأحاديث الكثيرة
غيره، كان إطلاق الأحب على غيره غير جائز، وبذلك أيضا يسقط التأويل المذكور،
كما يسقط ما وضعوه في أحبية غيره عليه الصلاة والسلام. 7 - شواهد عدم الجواز في
أخبار الصحابة وأقوالهم ولما ذكرنا من عدم جواز إطلاق أفعل التفضيل على
المفضول ، وبطلان حمل أفعل التفضيل على الأفضلية الجزئية غير المعتنى بها
شواهد في أقوال الصحابة والآثار المنقولة عنهم... وإليك بعض ذلك: * قال الغزالي:
وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميرا بالبصرة، فكان
إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشأ يدعو لعمر
رضي الله عنه. قال: فغاظني ذلك منه، فقمت إليه فقلت له: أين أنت من صاحبه تفضله
عليه؟ فصنع ذلك جمعا. ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي
في خطبتي. فكتب إليه عمر أن اشخصه إلي. قال: فأشخصني إليه، فقدمت فضربت عليه الباب،
فخرج إلي فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي. قال فقال لي: فلا مرحبا ولا
(هامش)
(1) الحاشية على شرح القوشجي على التجريد - مبحث الإمامة. (*)
ص 217
أهلا. قلت: أما المرحب فمن الله. وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، فبماذا استحللت -
يا عمر - إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ولا شيء أتيته؟ فقال: ما الذي شجر بينك
وبين عاملي؟ قال قلت: الآن أخبرك به، إنه كان إذا خطبنا... قال: فاندفع عمر - رضي
الله عنه - باكيا وهو يقول: أنت - والله - أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي،
يغفر الله لك؟ قال: قلت: غفر الله لك يا أمير المؤمنين. قال: ثم اندفع باكيا وهو
يقول: والله لليلة أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟
قلت: نعم. قال أما الليلة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من
مكة هاربا من المشركين، خرج ليلا، فتبعه أبو بكر... فهذه ليلته. وأما يومه، فلما
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب... ثم كتب إلى أبي موسى يلومه
(1). فإن هذا الخبر يفيد أنه - بالإضافة إلى عدم جواز إطلاق صيغة أفعل التفضيل على
المفضول، وإلى بطلان حمل أفعل التفضيل على الأفضلية غير المعتنى بها - لا يجوز
الفعل أو الترك المشعر بتفضيل المفضول على الفاضل، وأنه لا يجوز تأويل ذلك بإرادة
التفضيل من بعض الوجوه، وإلا لما توجه غيظ ضبة ولا لوم عمر على أبي موسى الأشعري،
بل كان على عمر أن يذكر الوجوه الجزئية التي يكون بها أفضل من أبي بكر، فيحمل ما
كان يصنعه أبو موسى على ذلك. * وروى المتقي: عن ضبة بن محصن العنزي قال قلت لعمر
بن
(هامش)
(1) إحياء العلوم 2 / 244. (*)
ص 218
الخطاب: أنت خير من أبي بكر؟ فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر
عمر. هل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أما ليلته،
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هاربا... وأما يومه، فلما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وارتد العرب... الدينوري في المجالسة، وأبو الحسن ابن بشران في
فوائده، وق في الدلائل، واللالكائي في السنة (1). ولو كان يجوز أن يقال عمر خير
من أبي بكر ويراد أنه خير منه من بعض الوجوه لما بكى عمر فقدم وفضل ليلة
أبي بكر ويومه على عمر عمر !! بل كان له إثبات أفضليته من أبي بكر... من بعض
الوجوه أمثال الشدة و الغلظة و الفظاظة !! * وروى المتقي قال: جبير بن
نفير - إن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب: والله ما رأينا رجلا أقضى بالقسط، ولا أقول
بالحق، ولا أشد على المنافقين، منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فقال عوف بن مالك: كذبتم، والله لقد رأينا خيرا منه بعد النبي
صلى الله عليه وسلم. فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف وكذبتم
والله، لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي.
(هامش)
(1) كنز العمال 12 / 493 رقم: 35615. (*)
ص 219
أبو نعيم في فضائل الصحابة. قال ابن كثير: إسناده صحيح (1). ومن الواضح أنه لو
جاز إطلاق أفعل التفضيل ببعض الوجوه عير المعتبرة، كان الواجب حمل قول القائلين
لعمر: أنت خير الناس بعد رسول الله على تلك الوجوه، فلا يقول عوف وعمر لهم:
كذبتم والله... . * وروى المتقي: عن عمر قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر،
فمن قال غير هذا بعد مقامي هذا فهو مفتر، وعليه ما على المفتري. اللالكائي (2).
ولو جاز التفضيل بلحاظ وجه غير معتبر لما حكم عمر على من فضله على أبي بكر بما
حكم... * وروى المتقي: عن زياد بن علاقة قال: رأى عمر رجلا يقول: إن هذا لخير
الأمة بعد نبيها. فجعل عمر يضرب الرجل بالدرة ويقول: كذب الآخر، لأبو بكر خير مني
ومن أبي ومنك ومن أبيك. خيثمة في فضائل الصحابة (3). فلو جاز إطلاق ألفاظ التفضيل
- ولو بلحاظ بعض الوجوه - لما فعل عمر ذلك قطعا. * وقال أبو إسماعيل محمد بن عبد
الله الأزدي في أخبار وقعة فحل فأرسلوا إلى أبي عبيدة أن أرسل إلينا رجلا من
صلحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه، نخبره بذات أنفسنا وندعوكم
إلى حظكم إن قبلتم. فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأتاهم على فرس له، فلما
دنا منهم نزل عن فرسه وأخذ بلجامه، ثم أقبل إليهم يقود فرسه فقالوا لبعض غلمانهم:
إنطلق إليه فأمسك فرسه، فجاء الغلام ليمسك له دابته، فقال معاذ: أنا أمسك فرسي،
(هامش)
(1) كنز العمال 12 / 497. (2) كنز العمال 12 / 496. (3) كنز العمال 12 / 495. (*)
ص 220
لا أريد أن يمسكه أحد غيري، فأقبل يمشي إليهم، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق... ثم
أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له: لو دنوت فجلست معنا كان
أكرم لك، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك، وإن جلوسك على الأرض
متنحيا صنيع العبد بنفسه، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك. فأخبره الترجمان بمقالتهم،
فجثا معاذ على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه وقال للترجمان: قل لهم... فلما فسر هذا
الترجمان لهم نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه وقالوا لترجمانهم: قل له أنت
أفضل أصحابك. فقال معاذ عند ذلك: معاذ الله أن أقول ذلك، وليتني لا؟ أكون شرهم
(1). ولو كان إطلاق صيغة التفضيل على المفضول بلحاظ بعض الحيثيات جائزا، لما استنكر
معاذ قولهم: أنت أفضل أصحابك قطعا. 8 - لو كان مراد النبي الأحب في الأكل
لصرح به وبعد، فإنه لو كان مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة الطير طلب
أحب الخلق إليه في الأكل لصرح به، إذ كان يمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول:
اللهم ائتني بالأحب في الأكل. لكنه لم يقل هكذا بل قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
وإلى رسولك يأكل معي من هذا الطائر. إن تركه صلى الله عليه وآله وسلم تلك العبارة
المختصرة، وقوله هكذا، يدل بكل وضوح وصراحة على معنى فوق الأحبية في الأكل، وليس
ذلك إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم يريد إثبات أن الرجل الذي يطلبه أحب الخلق إلى
الله وإلى رسوله على الإطلاق والعموم... وإلا فما وجه العدول عن
(هامش)
(1) فتوح الشام - ذكر وقعة فحل. (*)
ص 221
الجملة المختصرة الدالة على المقصود إلى جملة طويلة غير واضحة الدلالة عليه؟!
النكات واللطائف فيما قاله النبي ودعا به لكن دعائه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ... من جوامع كلمه وسواطع حكمه، فيه لطائف ونكت
رفيعة، وهي بمجموعها تدل على اهتمام منه بليغ بإظهار علو مقام أمير المؤمنين عليه
السلام في ذلك المقام: 1 - خطابه الباري عز وجل ونداؤه إياه باسم ذاته الله
الذي هو أحب الأسماء إليه. 2 - قوله: اللهم دون يا الله إذ في الأول دلالة
على التفخيم والتعظيم ليست هي في الثاني، لاشتماله على شدتين ليستا في يا الله .
وهذه النكتة نظير النكتة في اختيار ضم الضمير المجرور في قوله تعالى *(عليه
الله)*. 3 - في اللهم نكتة أخرى ليست في يا الله ، هي أن الميم عوض حرف
النداء، فدلت الكلمة على النداء لله سبحانه مع الابتداء باسمه العظيم، بخلاف يا
الله . ومن الواضح أن الابتداء باسمه أدخل في التعظيم والتبرك. 4 - في أكثر طرق
الحديث لفظ ائتني . وإنما اختار صلى الله عليه وآله وسلم هذا اللفظ على أرسل
إلي و أبعث إلي ونحوهما لما في الإتيان - مع تعديته بالباء - من الدلالة
على مزيد العناية والاحتفال بشأن المأتي به، فكأن المرسل مصاحب للمأتي به، كما عن
المبرد في معنى: ذهب فلان بزيد أنه يدل على مصاحبة الفاعل للمفعول به، لأن
الباء المعدية عنده بمعنى مع. 5 - قوله: إئتني دون إئت ليدل على أن مطلوبه
حضور أحب الخلق عنده، لا مطلق إتيان أحب الخلق.
ص 222
6 - إختياره لفظ الأحب على غيره من الألفاظ الدالة على التفضيل والترجيح... لأن
كثرة محبة الله تعالى لشخص تدل على جمعه لجميع صفات الكمال والمجد والعظمة، لأن
مقام المحبة أعلى المقامات وأسنى الدرجات. 7 - الأحب هو الأكثر محبوبية
فأمير المؤمنين عليه السلام أشد الخلق حبا لله، لأن المحبوبية فرع المحبية
قال الله تعالى: *(إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)*. 8 - أضاف لفظة أحب
إلى الخلق ليدل بصراحة على أن عليا أحب خلق الله، ولولا إرادة الدلالة
الصريحة لاكتفى بأن يقول الأحب معرفا باللام. 9 - أضاف كلمة خلق إلى ضمير
الخطاب حيث قال: خلقك ليظهر أنه عليه السلام أحب جميع الخلق بحيث كان أهلا لأن
يضاف إلى الحق جل جلاله... والمراد من الخلق هو المخلصون فهو الأحب من غير
المخلصين بالأولوية. 10 - لفظة الخلق اسم جنس. واسم الجنس المضاف يفيد العموم،
كما نص عليه أكابر العلماء، فالمراد: جميع الخلق المخلصين. 11 - إتيانه بكلمة
إليك هو لغرض إفادة الدلالة الصريحة، وإلا لكانت مقدرة أو كانت الدلالة على
أحبيته إلى الله بالالتزام، لأنه مع وجود إلي يكون الأحب إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، ومن كان أحب إليه صلى الله عليه وآله وسلم فهو أحب إلى الله تعالى
بالالتزام. 12 - أضاف صلى الله عليه وآله وسلم لفظ وإلى رسولك أو وإلي
ليصرح وينص على أن عليا أحب الخلق إليه، وإن كان في قوله إليك كفاية، لأن
الأحب إلى الله هو الأحب إلى الرسول قطعا... فهو إذن، الأحب إلى النبي
بالدلالتين. 13 - إنه لم يذكر ل أحب متعلقا خاصا، ليدل على عموم أحبيته
ص 223
وشمولها لجميع الأنواع والأقسام والأصناف، لأن حذف المتعلق في مقام البيان دليل
العموم.. 14 - قوله يأكل معي من هذا الطائر لإثبات أن سبب طلبه للأكل معه هو
أحبيته إلى الله ورسوله، وليس أمرا نفسانيا. 15 - كلمة معي في قوله: يأكل معي
من هذا الطائر، لإفادة أن عليا عليه السلام لا يأكل الطائر بانفراد، بل إنه لما كان
الغرض من الطلب للأكل إظهار شأن علي ومنزلته عند الله ورسوله فإنه صلى الله عليه
وآله وسلم سوف يشاركه في الأكل من الطير، ليكشف عن سببية مقاماته المعنوية ومراتبه
الدينية وقربه من الله ورسوله لطلب حضوره والمؤاكلة معه. 9 - قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: أحب الخلق إليك يكذب الحمل المذكور وأيضا: لو كان المراد هو الأحب
في الأكل لم يكن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم أحب الخلق إليك معنى، لأن
الأحبية في الأكل ميل طبعي، وذلك محال في صفة الله تعالى، كما سبق في كلام
الغزالي... بل هذه الأحبية هي الثواب ورفعة المقام والمرتبة. وقال السيد المرتضى:
قد قال السائل: هب أنا سلمنا صحة الخبر، ما أنكرت أن لا يفيد ما ادعيت من فضل أمير
المؤمنين عليه السلام على المجاعة، وذلك أن معنى فيه: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي. يريد: أحب الخلق إلى الله تعالى في الأكل معه، دون أن يكون أراد أحب
الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله، إذ قد يجوز أن يكون الله تعالى يحب أن يأكل مع
نبيه من هو غير أفضل، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة. (*)
ص 224
فقال الشيخ أيده الله (1): هذا الذي اعترضت به ساقط، وذلك أن محبة الله تعالى ليست
ميل الطباع وإنما هي الثواب، كما أن بغضه وغضبه ليستا باهتياج الطباع وإنما هما
العقاب. ولفظ أفعل في أحب وأبغض لا يتوجه إلا ومعناهما من الثواب والعقاب، ولا معنى
على هذا الأصل لقول من زعم أن أحب الخلق إلى الله يأكل مع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل، لأنه يخرج اللفظ مما
ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع، وذلك محال في صفة الله تعالى (2). 10 - قوله:
... بأحب خلقك إليك وأوجههم عندك... عن (كتاب الطير) قال الحافظ أبو بكر ابن
مردويه: نا فهد بن إبراهيم البصري قال: نا محمد بن زكريا قال: نا العباس بن بكار
الضبي قال: نا عبد الله ابن المثنى الأنصاري، عن عمه ثمامة بن عبد الله، عن أنس بن
مالك: إن أم سلمة صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيرا أو أضباعا فبعثت به
إليه، فلما وضع بين يديه قال: اللهم جئني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر،
فجاء علي بن أبي طالب فقال له أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة،
واجتهد النبي في الدعاء وقال: اللهم جئني بأحب خلقك إليك وأوجههم عندك. فجاء علي،
فقال له أنس: إن رسول الله على حاجة. قال أنس: فرفع علي يده فوكز على صدري ثم دخل.
فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائما فضمه إليه وقال: يا رب وإلي،
يا رب وإلي. ما أبطأ بك يا علي؟ قال: يا رسول الله، قد جئت ثلاثا كل ذلك يردني أنس،
فرأيت الغضب في وجه رسول الله وقال: يا أنس ما حملك على
(هامش)
(1) يعني: الشيخ محمد بن النعمان المفيد البغدادي (2) الفصول المختارة: 65. (*)
ص 225
رده؟ قلت: يا رسول الله، سمعتك تدعو فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار. قال: لست
بأول رجل أحب قومه، أبى الله - يا أنس - إلا أن يكون ابن أبي طالب . وقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: اللهم جئني بأحب خلقك إليك وأوجههم عندك يكذب الحمل
والتأويل المذكور، إذ الأوجه في هذا المقام بمعنى الأفضل على الإطلاق ...
ومنه يعلم أن الأحب كذلك... فقد دل الحديث على أن أمير المؤمنين عليه السلام
أحب و أوجه و أشرف و أفضل جميع الخلق عند الله سبحانه - عدا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم - من الأنبياء والملائكة والناس أجمعين... 11 - قوله: ...
بخير خلقك... وعن (كتاب الطير) للحافظ أبي نعيم الأصفهاني: نا علي بن حميد
الواسطي، نا أسلم بن سهل، نا محمد بن صالح بن مهران قال: نا عبد الله بن محمد بن
عمارة قال: سمعت من مالك بن أنس، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال
بعثتني أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطير مشوي ومعه أرغفة من شعير،
فأتيته به فوضعته بين يديه فقال: يا أنس أدع لنا من يأكل معنا هذا الطير، اللهم
ائتنا بخير خلقك، فخرجت فلم يكن همي إلا رجلا من أهلي آتيه فأدعوه، فإذا أنا بعلي
بن أبي طالب، فدخلت، فقال: أما وجدت أحدا؟ قلت: لا. قال: انظر. فنظرت فلم أجد أحدا
إلا عليا. ففعل ذلك ثلاث مرات. فرجعت فقلت: هذا علي بن أبي طالب. فقال: أئذن له،
اللهم وإلي، اللهم وإلي .
ص 226
12 - قوله: ... أدخل علي أحب خلقك إلي من الأولين والآخرين... وروى ابن المغازلي
حديث الطير بإسناده عن أنس بن مالك وفيه: اللهم أدخل علي أحب خلقك إلي من الأولين
والآخرين يأكل معي من هذا الطائر... فجاء علي... وقد تقدم الحديث بتمامه في موضعه
من قسم السند، لكننا نذكر هنا متنه مرة أخرى: ... عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول
الله صلى الله عليه وسلم طائر مشوي - أهدته له امرأة من الأنصار - فدخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فوضعت ذلك بين يديه. فقال: اللهم أدخل علي أحب خلقك إلي من
الأولين والآخرين يأكل معي من هذا الطائر. قال أنس: فقلت في نفسي: اللهم اجعله رجلا
من الأنصار من قومي. فجاء علي، فطرق الباب فرددته وقلت: رسول الله صلى الله عليه
وسلم متشاغل - ولم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك - فقال: اللهم أدخل علي
أحب الخلق من الأولين والآخرين يأكل معي من هذا الطائر. قلت: اللهم رجلا من قومي
الأنصار. فجاء علي فرددته. فلما جاء الثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قم يا أنس فافتح الباب لعلي. فقمت ففتحت الباب فأكل معه، فكانت الدعوة له (1).
وهل بعد ذلك هذه الجملة من مجال لتأويل لفظ الأحب وتقييده؟ لقد ثبت من هذا
الحديث - أيضا - أن أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى النبي - وإلى الله
بالملازمة - من جميع الخلق من الأولين والآخرين... أي حتى الأنبياء والمرسلين
والملائكة المقربين.
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب: 168. (*)
ص 227
13 - لو كان الغرض تضاعف لذة الطعام لجاءت إحدى نسائه إنه لو كان المقصود حضور أحب
الخلق في الأكل مع النبي حتى يتضاعف لذة الطعام، لكان مقتضى استجابة هذا الدعاء
حضور إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لوضوح حصول الغرض من الدعاء - وهو
الالتذاذ المتضاعف من الطعام - بمؤاكلة الزوجة المحبوبة، وأنه لا يسد مسدها في هذه
الناحية أحد من الأولاد فضلا عن غيرهم. لكن عدم حضور أحد من نسائه - لا سيما تلك
التي يزعمون أنها أحب نسائه بل النساء عامة إليه - وكذا عدم حضور فاطمة عليها
السلام وهي ابنته لو كان الغرض يحصل بمؤاكلة الأولاد، دليل على أن غرضه من الدعاء
شيء آخر، وأن المقصود من الأحب ليس الأحب في الأكل ... لقد استجاب الله عز
وجل دعاء نبيه وحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم فأحضر عنده أحب الخلق إليه وأفضل
الناس عنده. 14 - صنائع أنس دليل بطلان التأويل ولو كان المراد مجرد الأحبية في
الأكل فلماذا كل هذا الاهتمام من أنس ابن مالك لأن يختص بذلك قومه من الأنصار؟
ولماذا منع عليا عليه السلام مرة بعد أخرى من الدخول على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم؟ إن كل عاقل يلحظ أخبار قصة الطير وما كان فيها من أنس من كذب واحتيال وتعلل،
يحصل له اليقين الثابت بأن الدخول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الساعة
والأكل معه من ذاك الطائر، مرتبة عظيمة ومنزلة رفيعة. وأيضا: من الظاهر جدا - بناء
على حمل الأحبية على الأحبية في خصوص الأكل - أن الشخص الأحب إليه في الأكل ليس إلا
من كان أكثر
ص 228
معاشرة أو أقرب نسبا أو أشد ألفة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم... ومن المعلوم
أن الأنصار لم يكونوا حائزين لهذا الشرف وتلك المرتبة، فكيف يرجو أنس أن يكونوا
مصداق دعاء الرسول؟ 15 - قول أنس: اللهم اجعله رجلا منا حتى نشرف به وعن (كتاب
الطير) للحافظ ابن مردويه: نا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد
الرحمن قال: نا علي بن الحسن السمالي قال: حدثني محمد بن الحسن بن الجهم، عن عبد
الله بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أنس قال: أهدي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم طائر فأعجبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
وإلي يأكل معي من هذا الطير. قال أنس قلت: اللهم اجعله رجلا منا حتى نشرف به. قال:
فإذا علي. فلما أن رأيته حسدته فقلت: النبي مشغول، فرجع، قال: فدعا النبي صلى الله
عليه وسلم الثانية، فأقبل علي كأنما يضرب بالسياط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إفتح إفتح، فدخل، فسمعته يقول: اللهم وإلي، حتى أكل معه من ذلك الطير . فإذن...
كانت القضية مما يتشرف ويعتز به... ولم تكن الأحبية في الأكل العارية من كل فضيلة
والخالية من كل شرف... كما يزعم النواصب... ونعم ما أفاد الشيخ المفيد البغدادي -
طاب ثراه - حيث قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل في تأويل قول النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك على المحبة في الأكل معه، دون
محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في إسقاطه: أن الرواية جاءت عن أنس بن
مالك أنه قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيه تعالى بأحب
الخلق إليه: قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار لتكون
ص 229
لي الفضيلة بذلك. فجاء علي فرددته وقلت له إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على شغل، فمضى، ثم دعا ثانية فقال لي: استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم. فقلت له: إنه على شغل. ثم عاد ثالثة فاستأذنت له، ودخل، فقال له النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين، ولو أبطأت علي
الثالثة لأقسمت على الله أن يأتيني بك. ولو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل
الله تعالى أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه، وأعظمهم ثوابا عنده، وكانت هذه من أجل
الفضائل، لما آثر أنس أن يختص بها قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ما دافع أمير المؤمنين عليه السلام عن الدخول، ليكون ذلك
الفضل لرجل من الأنصار، فيحصل له جزء منه (1). 16 - قول أنس: فإذا علي فلما أن
رأيته حسدته وجاء في الحديث - فيما رواه ابن مردويه -: قلت اللهم اجعله رجلا
منا حتى نشرف به. قال: فإذا علي، فلما أن رأيته حسدته، فقلت: النبي مشغول، فرجع .
وفي لفظ خبر ابن المغازلي عنه: بينا أنا كذلك إذ دخل علي فقال: هل من إذن؟ فقلت:
لا، ولم يحملني على ذلك إلا الحسد . وهذا دليل آخر على أن الأحبية لم تكن في الأكل
فقط... بل إنها كانت أحبية جليلة القدر وعظيمة الفخر... توجب الأفضلية التامة
والأكرمية الكاملة...
(هامش)
(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 68. (*)
ص 230
17، 18 - قول عائشة وحفصة: اللهم اجعله أبي وأخرج أبو يعلى حديث الطير بسنده
باللفظ التالي: ثنا قطن بن نسير، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي، ثنا عبد الله بن
مثنى، نبأ عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه
وسلم حجل مشوي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطعام. فقالت عائشة: اللهم اجعله أبي. وقالت حفصة: اللهم اجعله
أبي. قال أنس: فقلت اللهم اجعله سعد بن عبادة. قال أنس: سمعت حركة الباب فسلم فإذا
علي. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة، فانصرف ثم. ثم سمعت حركة
الباب فسلم علي فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: انظر من هذا! فخرجت
فإذا علي. فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال: إئذن له، فأذنت له
فدخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإلي وإلي (1). فلو كان معنى الحديث
الأحب في الأكل فما هذا الولوع والشغف من عائشة وحفصة؟! وهلا فهمتا هذا المعنى من
الحديث، لا سيما عائشة التي يزعم المتعصبون من القوم إرجاع النبي صلى الله عليه
وآله وسلم الأمة إليها، لأخذ الدين والأحكام الفقهية منها!! فلا تدعوان لوالديهما
اللذين هما - بزعمهما - أعلى مرتبة وأجل شأنا، لحضور أمر جزئي تافه لا أثر له!! لكن
هذه الأحبية هي الأحبية التامة العامة المطلقة، المقتضية للأفضلية التامة
المطلقة... وهي التي تمنتها عائشة لأبيها!! وحفصة لأبيها!! وأنس
(هامش)
(1) تاريخ دمشق 2 / 111 رقم 614. (*)
ص 231
لسعد أو غيره من الأنصار!! 19 - تكرار النبي الدعاء واجتهاده فيه وقد اتفقت الأخبار
على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كرر دعائه وطلبه من الله تعالى أن يأتيه بأحب
الخلق إليه... بل في بعضها: واجتهد النبي في الدعاء ... وهكذا يكشف عن أن
لمطلوبه شأنا عظيما ومرتبة عالية... فاللازم بحكم العقل أن تكون صفة الأحبية
المذكورة في دعائه المتكرر صفة جليلة تكشف عن مقام صاحبها... 20 - قيام النبي لدى
دخول علي وضمه إليه وفيما رواه الحافظ ابن مردويه عن أنس: قال أنس: فرفع علي يده،
فوكز على صدري ثم دخل، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائما فضمه
إليه وقال: يا رب وإلي، يا رب وإلي، ما أبطأ بك يا علي! . وهذه قرائن أخرى على أن
هذه الأحبية شرف عظيم شاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إظهاره وإثباته لأمير
المؤمنين عليه السلام باهتمام بالغ... 21 - فلما رآه تبسم وقال: الحمد لله... وهكذا
في رواية النجار وبعض العلماء الكبار... عن أنس: قال: فدخل، فلما رآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم تبسم ثم قال: الحمد لله الذي جعلك. فإني أدعو في كل لقمة أن
يأتيني أحب الخلق إليه وإلي، فكنت أنت . فما كل هذا لو كانت الأحبية في الأكل
فقط!!
ص 232
22 - غضبه على أنس لرده عليا وفي رواية ابن مردويه عنه أنه قال صلى الله عليه وآله
وسلم: ما أبطأ بك يا علي؟. قال: يا رسول الله قد جئت ثلاثا، كل ذلك يردني أنس.
قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول الله وقال: يا أنس ما حملك على رده؟ قلت: يا رسول
الله، سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار. قال: لست بأول رجل أحب قومه.
أبى الله يا أنس إلا أن يكون ابن أبي طالب . فلماذا الغضب من النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو على خلق عظيم؟! الأمر جزئي لا يعبؤ به؟! ولماذا ذاك السرور
والاستبشار من حضور أحب الخلق إلى الله وإليه؟! الأمر جزئي لا يعبء به؟! 23 - قوله:
أبى الله يا أنس إلا أن يكون ابن أبي طالب من الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة على
أن هذه الأحبية تشريف خاص من الله لعلي بواسطته صلى الله عليه وآله وسلم، ومن دون
أن يكون لميله النفساني دخل في ذلك... وإلا لقال: يا أنس أما علمت أن عليا أحب
الخلق إلي في الأكل، لكونه مني بمنزلة ولدي، فلا يكون الدعاء إلا فيه. نعم... يدل
هذا الكلام من النبي عليه السلام أن ذاك المقام كان من الله سبحانه، وأنه لا ينال
إلا عليا عليه السلام... فظهر بطلان ما سنذكره من تأويلي (الدهلوي)... 24 - قوله
له: علي أحب الخلق إلى الله وفي رواية فخر الدين الهانسوي: فآذنه النبي بالدخول
وقال: ما أبطأ بك عني؟ قال: جئت فردني أنس، ثم جئت الثانية والثالثة فردني. فقال
صلى الله عليه وسلم: يا أنس ما حملك على هذا؟ قال: رجوت أن يكون
ص 233
الدعاء لأحد من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي أحب الخلق إلى
الله. فأكل معه (1). أي: كيف ترجو أن يكون الدعاء لأحد من الأنصار، وعلي أحب
الخلق إلى الله؟! وقد دعوت أن يأتيني بأحب خلقه إليه... فبطل تأويل الأحبية إلى
الأحبية في الأكل لأجل تضاعف لذة الطعام... بل هي الأحبية التامة العامة... وبذلك
تبطل التأويلات الأخرى كذلك... 25 - قوله في جوابه: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء...
وقال محمد مبين اللكهنوي: عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقدم لرسول الله فرخ مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا
الطير. قال فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار. فجاء علي، فقلت: إن رسول الله على
حاجة، ثم جاء فقال رسول الله: إفتح، فدخل. فقال رسول الله: ما حملك على ما صنعت؟
فقلت: يا رسول الله، سمعت دعاءك، فأحببت أن يكون رجلا من قومي. فقال رسول الله:
الرجل قد يحب قومه. وفي بعض الروايات: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم. وهذا الحديث في المشكاة أيضا برواية الترمذي (2) أي: ليس لك أن ترجو أن
يكون الذي دعوت الله أن يأتيني به رجلا من قومك... ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والله ذو الفضل العظيم... إنه لا يكون برجاء هذا وذاك... بل ليس للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم أيضا دخل فيه... إنه بيد الله وفضل منه...
(هامش)
(1) دستور الحقائق - مخطوط. (2) وسيلة النجاة: 28. (*)
ص 234
26 - قوله في جوابه: أو في الأنصار خير من علي؟! قال ولي الله الكهنوي: ووقع في
رواية الطبراني، وأبي يعلى، والبزار بعد قوله فجاء علي رضي الله عنه فرددته، ثم جاء
فرددته، فدخل في الثالثة أو في الرابعة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حبسك
عني - أو ما أبطأ بك عني - يا علي؟ قال جئت فردني أنس، ثم جئت فردني أنس. فقال صلى
الله عليه وسلم: يا أنس، ما حملك على ما صنعت؟ قال: رجوت أن يكون رجلا من الأنصار.
فقال صلى الله عليه وسلم: أوفي الأنصار خير من علي، أو أفضل من علي؟ (1). فإذن،
ملاك الأحبية في حديث الطير هو الأفضلية وأمير المؤمنين عليه السلام هو
الأفضل من جميع المهاجرين والأنصار... فهل تأويلها إلى ما ذكره (الدهلوي) إلا
مكابرة ولجاج؟ وهل يجنح إليه ويقبله إلا من أعمته العصبية العمياء، وغلبت على قلبه
البغضاء؟ 27 - قول أنس لعلي: إن عندي بشارة... وعن كتاب (المعرفة) لعباد بن يعقوب
الرواجني وفي غير واحد من الكتب: قال أنس: قلت: يا أبا الحسن استغفر لي فإن لي
إليك ذنبا، وإن عندي بشارة. فأخبرته بما كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
فحمد الله واستغفر لي ورضي عني وأذهب ذنبي عنده بشارتي إياه . ففي هذا الحديث: إن
أنسا طلب من أمير المؤمنين عليه السلام أن يستغفر له ذنبه وهو رده إياه مرة بعد
مرة، للحيلولة دون دخوله عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعده -
في مقابل الاستغفار له - أن يبشره
(هامش)
(1) مرآة المؤمنين - مخطوط. (*)
ص 235
ببشارة، وهي إخباره بما كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الواقعة.
فلو كانت الأحبية خاصة بالأكل معه لم يجعلها بشارة، لأن الأحبية على تقدير
تقييدها بمحض الأكل الذي هو أمر حقير يسير، مما لا يصلح للاعتناء حتى يهنأ به وصي
البشير النذير... 28 - حديث الطير من خصائص علي عند سعد بن أبي وقاص وروى الحافظ
أبو نعيم عن سعد بن أبي وقاص قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بن
أبي طالب ثلاث خصال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله. وحديث الطير. وحديث
غدير خم (1). إن (حديث الغدير) و(حديث الراية) من أقوى الأدلة الصريحة في خلافة
الأمير عليه السلام، فمقتضى السياق - بغض النظر عن الوجوه الأخرى - أن يكون حديث
الطير كذلك... وكيف يرضى العاقل البصير أن يكون مدلول حديث الطير الواقع في هذا
السياق مجرد الأحبية في الأكل لتضاعف لذة الطعام؟ 29 - احتجاج الأمير بحديث الطير
في الشورى وفي حديث الشورى - الذي رواه: ابن عقدة، والحاكم، وابن مردويه، وابن
المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي - إن الإمام عليه السلام احتج على القوم -
فيما احتج به على أفضليته منهم وأحقيته بالإمامة - بحديث الطير -. فحديث الطير
كسائر أحاديث فضائله عليه السلام مما يحتج به على
(هامش)
(1) حلية الأولياء - ترجمة ابن أبي ليلى 4 / 356. (*)
ص 236
الإمامة والخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لوضوح دلالته على أفضليته
كالأحاديث الأخرى. ونقول - بقطع النظر عن أدلة عصمة الأمير عليه السلام - إنه لا
يجوز مسلم تطرق الغلط في استدلاله، فإن تجويز ذلك في الشناعة بحيث جعله (الدهلوي)
ووالده شاهدا على حمق قائله وجهله. وأيضا: فليس في حديث الشورى مطلقا ما يدل على
عدم تسليم القوم ما قاله... بل إنه ظاهر في قبولهم وإن أعرضوا عن ترتيب الأثر عليه
ظلما وعدوانا!! وحينئذ، فإن جميع التأويلات التي ذكرها المكابرون ساقطة، وهلا تبعوا
أئمتهم في التسليم والقبول!! ولنعم ما قال الشيخ المفيد طاب ثراه: وشيء آخر وهو:
أنه لو احتمل معنى آخر لا يقتضي الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام لما احتج به
أمير المؤمنين عليه السلام يوم الدار، ولا جعله شاهده على أنه أفضل من الجماعة،
وذلك أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه، وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سأل
ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه، لما أمن أمير المؤمنين عليه
السلام من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال، أو يشتبه ذلك على إنسان، فلما احتج به
أمير المؤمنين عليه السلام على القوم، واعتمده في البرهان، دل على أنه لم يكن
مفهوما منه إلا فضله عليه السلام. وكان إعراض الجماعة أيضا بتسليم ادعائه دليلا على
صحة ما ذكرناه، وهذا بعينه يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي عليه السلام ما
يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة وجود من هو أفضل منه في المستقبل، لأنه لو
جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع
على نقصانهم عنه في الفضل. وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مفيد بإطلاقه
فضله،
ص 237
ومؤمن بلوغ أحد منزلته في الثواب بشيء من الأعمال. وهذا بين لمن تدبره (1). 30 -
حديث الطير من فضائل علي وخصائصه عند عمرو بن العاص وفي كتاب (مناقب علي بن أبي
طالب) لموفق بن أحمد المكي الخوارزمي: أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية كتابا ذكر
فيه مناقب لأمير المؤمنين عليه السلام... وقد جاء حديث الطير ضمن تلك الفضائل
والمناقب التي احتج بها ابن العاص، لعلو مقام الإمام وسمو مرتبة... وهل من المعقول
أن يحتج به ابن العاص لو كان معناه الأحب في الأكل فقط؟ إنه لولا دلالته التامة على
فضل الإمام عليه السلام لما شهد به ابن العاص - المعاند له - في مقابل رئيس الفرقة
الباغية... وهذا أمر يعترف به من كان له أقل بصيرة وإنصاف... أقول: فمن هذه الوجوه
- ووجوه أخرى لم نذكرها اختصارا - لا يبقى أي ريب في عموم الأحبية الواردة في
حديث الطير... وبطلان تأويلات (الدهلوي) ومن تقدمة لهذا الحديث الشريف، لأجل صرفه
عن الدلالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام فخلافته بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم. وبالرغم من كفاية تلك الوجوه المتينة في الدلالة على ما ذكرنا،
فإنا نورد فيما يلي نبذة من الأحاديث الدالة بوضوح على عموم أحبية سيدنا أمير
المؤمنين عليه السلام، تأكيدا لفساد تخيلات (الدهلوي) وغيره من المسولين...
(هامش)
(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 69. (*)
ص 239
الأخبار والآثار في أن عليا أحب الخلق مطلقا

ص 241
من الأحاديث الصريحة في: أن عليا أحب الخلق إلى الله والرسول مطلقا
1 - روى الكنجي
والبدخشاني عن الحافظ أبي نعيم في أربعينه والطبراني في الكبير، ومحب الدين الطبري
عن الحافظ أبي العلا الهمداني في أربعينه في المهدي... كلهم عن علي بن الهلال، عن
أبيه، عن علي - واللفظ للطبري - قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحالة التي قبض فيها، فإذا فاطمة - رضي الله عنها - عند رأسه، فبكت حتى ارتفع
صوتها، فرفع صلى الله عليه وسلم طرفه إليها وقال: حبيبتي فاطمة، ما الذي يبكيك؟
فقالت: أخشى الضيعة من بعدك. فقال: يا حبيبتي، أما علمت أن الله تعالى اطلع على أهل
الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته، ثم اطلع اطلاعة على أهل الأرض فاختار
منها بعلك، وأوحى إلي أن أنكحك إياه! يا فاطمة: ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع
خصال لم يعط أحدا قبلنا، ولا يعطي أحدا بعدنا: أنا خاتم النبيين وأكرمهم على الله
عز وجل، وأحب المخلوقين إلى الله تعالى، وأنا أبوك، ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى
الله عز وجل وهو بعلك،
ص 242
وشهيدنا خير الشهداء وأحبهم إلى الله عز وجل وهو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك وعم
بعلك. ومنا من له جناحان أخضران يطير بهما في الجنة حيث يشاء مع الملائكة وهو ابن
عم أبيك وأخو بعلك. ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيدا شباب
أهل الجنة وأبوهما - والذي بعثني بالحق - خير منهما. يا فاطمة، والذي بعثني بالحق،
إن منهما مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا، وتظاهرت الفتن، وتقطعت السبل،
وأغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيرا ولا صغير يوقر كبيرا، يبعث الله عز وجل
عند ذلك منها من يفتح حصون الضلالة، وقلوبا غلفا، يقوم بالدين في آخر الزمان كما
قمت به في أول الزمان، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (1). فالنبي يصف عليا -
عليه السلام - بقوله: ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله عز وجل ومن المعلوم
أن الأوصياء السابقين كانوا أنبياء... فعلي عليه السلام أحب إلى الله من أولئك
الأنبياء... فمن زيد هناك ومن عمرو؟! فالحديث يدل على أحبية علي من الأنبياء
بالدلالة المطابقية، وعلى أحبية من غيرهم بالأولوية القطعية... وهذا أيضا مفاد حديث
الطير، لأن الحديث يفسر بعضا. 2 - روى السيد علي الهمداني: عن أنس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: حدثني جبرئيل عن الله عز وجل: إن الله يحب عليا ما لا يحب
الملائكة ولا النبيين ولا المرسلين، وما من تسبيح يسبحه لله إلا ويخلق الله ملكا
يستغفر لمحبيه وشيعته إلى يوم القيامة (2).
(هامش)
(1) البيان في أخبار صاحب الزمان: 7. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 135. مفتاح
النجا في مناقب آل العبا - مخطوط. (2) مودة القربى - ينابيع المودة: 256. (*)
ص 243
فهل من تأمل في أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام من الثلاثة؟! 3 - روى الخطيب
الخوارزمي بسنده من طريق محمد بن جرير الطبري، عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم - وسئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج فقال - خاطبني بلغة
علي بن أبي طالب، فألهمني أن قلت: يا رب خاطبتني أم علي؟ فقال: يا أحمد، أنا شيء
ليس كالأشياء، لا أقاس بالناس، ولا أو صف بالشبهات، خلقتك من نوري وخلقت عليا من
نورك، فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد أحدا في قلبت أحب إليك من علي بن أبي طالب،
فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك (1). ورواه نور الدين جعفر البدخشي في (خلاصة
المناقب) مرسلا. وعلى ضوء هذا الحديث يتضح فساد تأويلات (الدهلوي)... وأن حديث
الطير من البراهين الساطعة على أفضلية مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
ومن لطائف هذا المقام: أن السيد علي بن أحمد بن معصوم المدني طاب ثراه يروي هذا
الحديث الشريف بسند أكثره من رواية الأبناء عن الآباء حيث يقول: حدثنا والدي
الأجل أحمد نظام الدين، عن والده السيد الجليل محمد معصوم، عن شيخه المحقق المولى
محمد أمين الاسترآبادي، عن شيخه طراز المحدثين الميرزا محمد الاسترآبادي، عن السيد
أبي محمد محسن قال: حدثني أبي علي شرف الآباء، عن أبيه منصور غياث الدين أستاذ
البشر، عن أبيه محمد صدر الدين الحقيقة، عن أبيه منصور غياث الدين، عن أبيه محمد
صدر الدين، عن أبيه إبراهيم شرف الملة، عن أبيه محمد صدر الدين، عن أبيه إسحاق عز
الدين، عن أبيه علي ضياء الدين، عن أبيه عربشاه
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب: 37. (*)
ص 244
زين الدين، عن أبيه أبي الحسن الأمير نجيب الدين، عن أبيه الأمير خطير الدين، عن
أبيه أبي علي الحسن جمال الدين، عن أبيه أبي جعفر الحسين العزيزي، عن أبيه أبي سعيد
علي، عن أبيه أبي إبراهيم زيد الأعثم، عن أبيه أبي شجاع علي، عن أبيه أبي عبد الله
محمد، عن أبيه علي، عن أبيه أبي عبد الله جعفر، عن أبيه أحمد السكين، عن أبيه جعفر،
عن أبيه أبي جعفر محمد، عن أبيه زيد الشهيد، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه
الحسين سيد الشهداء، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول - وقد سئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج
قال -: خاطبني بلسان علي، فألهمني أن قلت... توضيح: أقول: هذا الحديث الشريف رواه
أيضا أبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي المعروف بأخطب خوارزم... واللغة كاللسان
كما تطلق على ما يعبر به كل قوم عن أغراضهم، كلغة العرب ولغة العجم، تطلق على ما
يعبر به الإنسان الواحد عن غرضه، من النطق وتقطيع الصوت، الذين يمتاز بهما الأشخاص
بعضها عن بعض، ويعبر عنها باللهجة، فقول السائل في الحديث: بأي لغة خاطبك ربك؟
يحتمل المعنيين. وقوله: خاطبني بلسان علي - أو بلغة علي كما في رواية الخوارزمي -
مراد به المعنى الثاني، وهو يتضمن الجواب عن المعنى الأول أيضا إن كان مرادا، لأن
لغة علي عليه السلام كانت عربية. وقاس الشيء بالشئ قدره به، أي جعله على مقداره.
والشبهات جمع شبهة كغرفة وغرفات قال في القاموس: الشبهة بالضم الالتباس والمثل
انتهى. وإرادة المعنى الثاني هنا أظهر. أي لا أوصف بالأمثال، وإن كان المعنى الأول
أيضا ظاهرا (1). 4 - أخرج الترمذي: حدثنا محمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم وغير
(هامش)
(1) التذكرة - مخطوط. (*)
ص 245
واحد قالوا: نا أبو عاصم، عن أبي الجراح قال: ثني جابر بن صبيح قال: حدثتني أم
شراحيل قالت: حدثتني أم عطية قالت: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم علي.
قالت: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يقول: اللهم لا تمتني حتى
تريني عليا. هذا حديث غريب حسن، إنما نعرفه من هذا الوجه (1). ورواه الفقيه ابن
المغازلي حيث قال: قوله عليه السلام: لا تمتني حتى تريني وجه علي. أخبرنا أبو
القاسم عبد الواحد بن علي بن العباس البزاز قال: أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن
الحسين بن محمد المحاملي، نا علي بن مسلم، نا أبو عاصم قال: حدثني أبو الجراح...
(2). ورواه الخطيب الخوارزمي بسنده عن الحافظ البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله
الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمر قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا أبو
أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل... (3). ورواه الكنجي
الشافعي بسنده عن الترمذي... قال: هذا حديث عال، أخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى
الترمذي في صحيحه، ووقع إلينا عاليا من غير هذا الطريق، لكن اقتصرنا على هذا لشهرته
عند أهل النقل (4). ورواه الزرندي عن أم عطية (5). وكذا حسام الدين (6)
والبدخشاني (7) عن الترمذي.
(هامش)
(1) صحيح الترمذي 5 / 601. (2) مناقب أمير المؤمنين عليه السلام: 122. (3) مناقب
أمير المؤمنين عليه السلام: 30. (4) كفاية الطالب: 133. (5) نظم درر السمطين: 100.
(6) مرافض الروافض - مخطوط. (7) مفتاح النجا - مخطوط. (*)
ص 246
وهل في دلالته على الأحبية المطلقة العامة ريب؟! 5 - قال الحافظ محب الدين الطبري
تحت عنوان ذكر أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد أن روى حديث الطير: وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن عليا دخل على النبي
صلى الله عليه وسلم فقام إليه وعانقه وقبل ما بين عينيه، فقال له العباس: أتحب هذا
يا رسول الله؟ فقال: يا عم، والله لله أشد حبا له مني. أخرجه أبو الخير القزويني
(5) (1). وكرر روايته ففي ذكر أن الله تعالى جعل ذريته في صلب علي (2). وقد
بلغت دلالة هذا الحديث في الوضوح حدا حتى ذكره الطبري تحت عنوان ذكر أنه أحب
الخلق إلى الله كما نص محمد بن إسماعيل وغيره على دلالته على ذلك. فهذا هو
الحديث، وهذه تصريحات المحققين من أهل السنة... فقل ما يقتضيه الإنصاف في تأويلات
المنحرفين؟! 6 - روى الخطيب الخوارزمي قائلا: أنبأني أبو العلاء الحافظ الحسن ابن
أحمد العطار الهمداني قال: أخبرنا الحسن بن أحمد المقري قال: أخبرنا أحمد بن عبد
الله الحافظ قال: حدثنا حبيب بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أيوب القربى قال:
حدثنا زكريا بن يحيى المنقري قال: حدثنا إسماعيل بن عباد المدني، عن شريك عن منصور،
عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند زينب
بنت جحش فأتى بيت أم سلمة - وكان يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم يلبث
أن جاء علي فدق الباب دقا خفيفا، فاستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الدق
(هامش)
(1) ذخائر العقبى: 62. (2) ذخائر العقبى: 67. (3) هو: أحمد بن إسماعيل المتوفى سنة:
589 أو 590. ترجم له في سير أعلام النبلاء 21 / 190. (*)
ص 247
فأنكرته أم سلمة. قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قومي فافتحي له الباب.
فقالت: يا رسول الله من هذا الذي بلغ من خطره ما أفتح له الباب فأتلقاه بمعاصمي،
وقد نزلت في آية من كتاب الله بالأمس!! فقال - كالمغضب - إن طاعة الرسول طاعة الله،
ومن عصى الرسول فقد عصى الله! إن بالباب رجلا ليس بالنزق ولا الخرق، يحب الله
ورسوله، ويحبه الله ورسوله. ففتحت له الباب، فأخذ بعضادتي الباب حتى إذا لم يسمع
حسا ولا حركة، وصرت إلى خدري استأذن فدخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتعرفينه؟ قلت: نعم، هذا علي بن أبي طالب. قال: صدقت. سجيته من سجيتي، ولحمه من
لحمي، ودمه من دمي، وهو عيبة علمي. إسمعي واشهدي: هو قاتل الناكثين والقاسطين
والمارقين من بعدي. إسمعي واشهدي: لو أن عبدا عبد الله ألف عام من بعد ألف عام بين
الركن والمقام، ثم لقى الله مبغضا لعلي لأكبه الله يوم القيامة على منخريه في نار
جهنم (1). ولا يخفى، أن هذه الصفات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إنما ذكرها جوابا لسؤال أم سلمة من هذا الذي بلغ من خطره... ؟ فلا يعقل أن يكون
قوله يحبه الله ورسوله إلا بمعنى الأحبية ، لأن كل مؤمن يحبه الله ورسوله،
فلا بد أن يكون قوله في حق علي لإفادة معنى الأحبية العامة المطلقة... وهذا هو
المطلوب. 7 - روى الخطيب الخوارزمي قائلا: وأنبأني مهذب الأئمة هذا قال أخبرنا
أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن أبي عثمان الدقاق قال: أخبرنا أبو المظفر هناد
بن إبراهيم النسفي قال: حدثنا أبو الحسن علي بن يوسف بن
(هامش)
(1) مناقب أمير المؤمنين عليه السلام: 43. (*)
ص 248
محمد بن الحجاج الطبري - بسارية طبرستان - قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين ابن جعفر
بن محمد الجرجاني قال: حدثنا أبو عيسى إسماعيل بن إسحاق بن سليمان النصيبي قال:
حدثنا محمد بن علي الكفرثوثي قال: حدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وأبطأ في ركوعه في الركعة الأولى، حتى ظن
أنه قد سهى وغفل، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ثم أوجز في صلاته، ثم أقبل
علينا بوجهه كأنه القمر ليلة البدر في وسط النجوم، ثم جثى على ركبتيه وبسط قائمه
حتى تلألأ المسجد بنور وجهه، ثم رمى بطرفه إلى الصف الأول يتفقد أصحابه رجلا رجلا،
ثم رمى بطرفه إلى الصف الثاني، ثم رمى بطرفه إلى الصف الثالث، يتفقدهم رجلا رجلا،
ثم كثرت الصفوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما لي لا أرى ابن عمي علي
بن أبي طالب، يا ابن عمي، فأجابه علي من آخر الصفوف وهو يقول: لبيك لبيك يا رسول
الله. فنادى النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: أدن مني يا علي. فما زال علي
يتخطى أعناق المهاجرين والأنصار حتى دنا المرتضى إلى المصطفى، فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: ما الذي خلفك عن الصف الأول؟ قال: شككت أني على غير طهر، فأتيت
منزل فاطمة فناديت يا حسن يا حسين يا فضة، فلم يجبني أحد، فإذا بهاتف يهتف بي من
ورائي وهو ينادي: يا أبا الحسن يا ابن عم النبي، التفت، فالتفت، فإذا بسطل من ذهب
وفيه ماء وعليه منديل، فأخذت المنديل ووضعته على منكبي الأيمن وأومأت إلى الماء،
فإذا الماء يفيض على منكبي، فتطهرت وأسبغت الطهر، ولقد وجدته في لين الزبد وطعم
الشهد ورائحة المسك، ثم التفت ولا أدري من وضع السطل والمنديل، ولا أدري من أخذه.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وضمه إلى صدره،
ص 249
فقبل ما بين عينيه ثم قال: يا أبا الحسن ألا أبشرك، إن السطل من الجنة والماء
والمنديل من الفردوس الأعلى، والذي هيأك للصلاة جبرئيل، والذي مندلك ميكائيل. والذي
نفس محمد بيده ما زال إسرافيل قابضا بيده على ركبتي حتى لحقت معي الصلاة. أفيلومني
الناس على حبك، والله تعالى وملائكته يحبونك فوق السماء؟! (1). 8 - روى الحافظ
الدارقطني: ثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن بشر البجلي الكوفي، ثنا علي بن
الحسين بن عتبة، ثنا إسماعيل بن أبان، ثنا عبد الله بن مسلم الملائي، عن أبيه، عن
إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عائشة قالت: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم
الموت قال: ادعوا لي حبيبي، فدعوت له أبا بكر فنظر إليه ثم وضع رأسه، فقال: ادعوا
لي حبيبي، فدعوت له عمر فنظر إليه ثم وضع إلي رأسه، فقال: ادعوا لي حبيبي فقلت:
ويلكم ادعوا لي علي بن أبي طالب، فوالله ما يريد غيره. فلما رآه أخرج الثوب الذي
كان عليه ثم أدخله فيه، فلم يزل يحتضنه حتى قبض ويده عليه (2). ورواه الخوارزمي:
أخبرني الشيخ الإمام شهاب الدين أبو النجيب سعد ابن عبد الله بن الحسن الهمداني -
فيما كتب إلي من همدان - أخبرنا الحافظ أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد
باصبهان - فيما أذن لي في الرواية عنه - قال: أخبرنا الشيخ الأديب أبو يعلى عبد
الرزاق بن عمر بن إبراهيم الطبراني - سنة 473 - قال: أخبرنا الإمام الحافظ طراز
المحدثين أبو بكر أحمد ابن موسى بن مردويه الأصبهاني.
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب: 215. (2) الأفراد للدارقطني. (*)
ص 250
وبهذا الإسناد قال أبو النجيب سعد بن عبد الله الهمداني المعروف بالمروزي قال:
وأخبرنا بهذا الحديث الإمام الحافظ سليمان بن إبراهيم الأصبهاني - في كتابه إلي من
إصبهان سنة 488 - عن أبي بكر أحمد بن موسى ابن مردويه. قال: حدثنا عبد الرحمن بن
محمد بن حماد قال: حدثنا القاسم بن علي بن منصور الطائي قال: حدثنا إسماعيل بن
أبان... (1). والكنجي: أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن الحسن الصالحي،
أخبرنا الحافظ أبو القاسم الدمشقي، أخبرنا أبو غالب ابن البناء، أخبرنا أبو الغنائم
ابن المأمون، أخبرنا إمام أهل الحديث أبو الحسن الدارقطني... قلت: رواه محدث الشام
في كتابه كما أخرجناه قال قال الدارقطني: تفرد به مسلم الملائي، وهو قريب في مثل
هذا (2). ورواه محمد باكثير المكي عن الدارقطني عن عائشة (3). ومحب الدين الطبري
(4) وإبراهيم الوصابي (5): عن التمام الرازي في فوائده، عن عائشة. وشهاب الدين
أحمد، عن المحب الطبري، عن الرازي. وعن الصالحاني، عن سليمان الحافظ الإصبهاني، عن
ابن مردويه... عن عائشة (6).
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب: 28. (2) كفاية الطالب: 262. (3) وسيلة المآل - مخطوط.
(4) ذخائر العقبى: 72. (5) الاكتفاء - مخطوط. (6) توضيح الدلائل - مخطوط. (*)
ص 251
وأخرجه الحافظ أبو يعلى من حديث عبد الله بن عمرو باللفظ التالي: ثنا كامل بن
طلحة، ثنا ابن لهيعة، حدثني حي بن عبد الله المغازي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن
عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ادعوا لي أخي،
فدعوا له أبا بكر فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي فدعوا له عمر فأعرض عنه، ثم قال:
ادعوا لي أخي فدعي له عثمان فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي، فدعي له علي بن أبي
طالب، فستره بثوب وأكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال؟ قال: علمني ألف باب
كل باب يفتح ألف باب (1). ويفيد هذا الحديث بطرقه - فيما بعد - أن الثلاثة ما
كانوا في نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصداقا لقوله حبيبي أو أخي ...
حتى قامت عائشة لأئمة الحاضرين: ويلكم ادعوا له علي بن أبي طالب ... إن حبيبه
و أخاه ليس إلا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام... فهو الأحب إليه والأقرب
عنده من جميع الخلائق، فهو الأفضل... فهل في سقوط تأويلات (الدهلوي) شك وريب!!
(هامش)
(1) العلل المتناهية 1 / 221، رقم 347. (*)
ص 252
من أقوال الصحابة الصريحة في: أن عليا أحب الناس إلى النبي

وكما كانت الأحاديث
الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صريحة في الدلالة على أن عليا عليه
السلام كان أحب الخلق عنده صلى الله عليه وآله وسلم... كذلك الآثار التي يروونها عن
الصحابة... فإنها صريحة في أن هذا الأمر كان مفروغا عنه ومتسالما عليه بينهم...
سمعوه من النبي... وفهموه من أحواله وسيرته... قول أبي ذر الغفاري عن معاوية بن
ثعلبة قال: جاء رجل إلى أبي ذر - وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
- فقال: يا أبا ذر، ألا تحدثني بأحب الناس إليك! فوالله لقد علمت أن أحبهم إليك
أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: أجل والذي نفسي بيده: إن أحبهم
إلي أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ذلك الشيخ. وأشار إلى علي .
رواه الخوارزمي بسنده عن البيهقي عن معاوية بن ثعلبة... (1). والمحب الطبري (2)
وإبراهيم الوصابي (3) عن الملا في سيرته عنه... وشهاب الدين أحمد، عن الطبري، عن
الملا... (4).
(هامش)
(1) مناقب علي بن أبي طالب: 29. (2) الرياض النضرة 3 / 116، ذخائر العقبى: 62. (3)
الاكتفاء - مخطوط. (4) توضيح الدلائل - مخطوط. (*)