نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الرابع عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الرابع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 253

وهل يجوز العاقل تخصيص هذه الأحبية بالأحبية في الأمل وما شابه؟ وما الدليل على ذلك؟ قول بريدة أخرج الحاكم قائلا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا شاذان الأسود بن عامر، حدثنا جعفر بن زياد الأحمر، عن عبد الله بن عطا، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة ومن الرجال علي. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1). ورواه المولوي مبين عن الحاكم (2). وروى البدخشاني، عن الترمذي، عن بريدة قال: كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي (3). قول عائشة 1 - روى الكنجي: أخبرنا الحافظ محمد بن محمود - ببغداد - ويوسف ابن خليل - بحلب - وخالد بن يوسف - بدمشق - وغيرهم، قالوا جميعا: أخبرنا حجة العرب زيد بن الحسن الكندي، أخبرنا القزاز، أخبرنا إمام أهل الحديث أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد ابن عثمان السواق، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي طالب الكاتب، حدثنا محمد بن جرير الطبري، حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني، حدثني يسع بن

(هامش)

(1) المستدرك على الصحيحين 3 / 155. ووافقه الذهبي. (2) وسيلة النجاة: 27. (3) مفتاح النجا - مخطوط. (*)

ص 254

عدي، حدثنا شاه بن الفضل، عن أبي المبارك، عن حيوة بن شريح بن هاني، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما خلق الله خلقا أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علي ابن أبي طالب (1). فهذا الحديث الذي رواه الحفاظ عن الحافظ الطبري، بسنده عن عائشة، نص صريح فيما يدل عليه حديث الطير من الأحبية العامة المطلقة، فلا مجال لشيء من التأويلات الفاسدة. 2 - أخرج الترمذي: حدثنا حسين بن يزيد الكوفي، نا عبد السلام بن حرب، عن أبي الجحاف، عن جميع بن عمير التيمي قال: دخلت مع عمتي على عائشة فسئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، أن كان - ما علمت - صواما قواما. هذا حديث حسن غريب (2). وأخرجه الحاكم بسنده عن عبد السلام بن حرب... (3). وعن الترمذي: ابن الأثير (4) ومحب الدين الطبري (5) وشهاب الدين أحمد (6) والعيدروس (7) والوصابي (8) والبدخشاني (9). إن هذه الأحبية عامة قطعا... ولو كان هناك غير فاطمة وعلي لذكرته

(هامش)

(1) كفاية الطالب: 324. (2) صحيح الترمذي 5 / 658. (3) المستدرك 3 / 157. (4) أسد الغابة 5 / 157. (5) الرياض النضرة 3: 115، ذخائر العقبى. (6) توضيح الدلائل - مخطوط. (7) العقد النبوي - مخطوط. (8) الاكتفاء - مخطوط. (9) مفتاح النجا - مخطوط. (*)

ص 255

عائشة قطعا... 3 - أخرج الحاكم: حدثنا أبو بكر محمد بن علي الفقيه الشاشي، حدثنا أبو طالب أحمد بن نصر الحافظ، حدثنا علي بن سعيد بن بشير، عن عباد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي، عن أبي إسحاق الشيباني، عن جميع بن عمير قال: دخلت مع أمي على عائشة فسمعتها من وراء الحجاب وهي تسألها عن علي فقالت: تسأليني عن رجل - والله - ما أعلم رجلا كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه ولا امرأة من الأرض كانت أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من امرأته. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1). ورواه المولوي مبين عن الحاكم كذلك (2). وأخرجه النسائي بسنده عن أبي إسحاق الشيباني... (3) وكذا أبو يعلى الموصلي (4) وكذا الخطيب الخوارزمي (5). ورواه الحافظ المحب الطبري عن الحافظين المخلص الذهبي وأبي القاسم الدمشقي، عن عائشة (6). وشهاب الدين أحمد، عن المحب عنهما، عن عائشة (7). والمولوي ولي الله عن النسائي (8).

(هامش)

(1) المستدرك 3 / 154. (2) وسيلة النجاة: 28. (3) الخصائص: 29. (4) المسند (5) مناقب أمير المؤمنين: 37. (6) ذخائر العقبى: 62، الرياض النضرة 3 / 116. (7) توضيح الدلائل - مخطوط. (8) مرآة المؤمنين - مخطوط. (*)

ص 256

إذن... لا أحب إلى الله والرسول من أمير المؤمنين عليه السلام... وباعتراف من عائشة... و الأحبية أحبية مطلقة... 4 - روى الحافظ الزرندي بقوله: ويروى أن امرأة من الأنصار قالت لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: علي بن أبي طالب (1). ورواه شهاب الدين أحمد عن الزرندي (2). 5 - روى الزرندي: عن جميع بن عمير قال: دخلت على عائشة فسألتها من كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. قلت: لست أسألك عن النساء، إنما أسألك عن الرجال! فقالت: زوجها (3). وكذا رواه الأبشيهي (4). 6 - روى المتقي: عن عروة قال: قلت لعائشة: من كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: علي بن أبي طالب. قلت: أي شيء كان سبب خروجك عليه؟ قالت: لم تزوج أبوك أمك؟ قلت: ذلك من قدر الله. قالت: وكان ذلك من قدر الله. ن (5). 7 - روى المحب الطبري، وإبراهيم بن عبد الله الوصابي: عن معاذة الغفارية قالت: كان لي أنس بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرج معه في الأسفار وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى، فدخلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة وعلي خارج من عنده وسمعته يقول:

(هامش)

(1) نظم درر السمطين: 102. (2) توضيح الدلائل - مخطوط. (3) نظم درر السمطين: 102. (4) المستطرف من كل فن مستظرف 1 / 137. (5) كنز العمال 11 / 334، رقم 31670 وفيه: (ذ). (*)

ص 257

يا عائشة، إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي، فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه، [فلما أن جرى بينها وبين علي بالبصرة ما جرى رجعت عائشة إلى المدينة، فدخلت عليها فقلت لها: يا أم المؤمنين كيف قلبك اليوم بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك فيه ما قال؟ قالت معاذة قالت: كيف يكون قلبي لرجل كان إذا دخل علي وأبي عندنا لا يمل من النظر إليه، فقلت: يا أبة إنك لتديم النظر إلى علي! فقال: يا بنية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النظر إلى وجه علي عبادة]. أخرجه الخجندي (*) (1). وإن هذه الأحاديث لتقلع أساس جميع التأويلات والتسويلات... لا سيما وأنها عن عائشة التي جرى منها على أمير المؤمنين عليه السلام ما جرى وكان منها ما كان!! ولكن مع ذلك كله وبالإضافة إليه... نورد عنها الحديث التالي: 8 - أخرج أحمد: ثنا أبو نعيم، حدثنا يونس، ثنا عمرو بن حريث قال: قال النعمان بن بشير: استأذن أبو بكر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي - ثلاثا -. فاستأذن أبو بكر فدخل فأهوى إليها وقال لها: يا بنت أم رومان لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه! (2). وأخرجه النسائي: أخبرني عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال: أنبأنا عمرو بن محمد قال: أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن عمرو بن حريث، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع

(هامش)

(1) الرياض النضرة 3 / 116، الاكتفاء - مخطوط. (*) وهو: أبو بكر محمد بن عبد اللطيف الأصفهاني الشافعي المتوفى سنة: 552. سير أعلام النبلاء 20 / 386. (2) مسند أحمد 4 / 257. (*)

ص 258

صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي. فأهوى أبو بكر ليلطمها وقال: يا بنت فلانة، أراك ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة كيف رأيتني أنقذتك من الرجل! ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك، وقد اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة فقال: أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا (1). وقال الحافظ ابن حجر: أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، بسند صحيح، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي (2). تنبيهات على بطلان دعاوى وتأويلات لقد كانت تلك ثلة من الأحاديث والآثار الواضحة الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق لدى الله ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا... لا سيما ما كان منها عن عائشة.. مع انحرافها عن الإمام عليه السلام... ومن هنا صرح العلامة جلال الدين الخجندي - بالنسبة إلى أحاديث عائشة ومعاذة الغفارية وأبي ذر الغفاري - بأن هذه الأحاديث لدلالتها على أحبية علي عليه السلام تعاضد حديث الطير وتؤيده، ونص العلامة محمد ابن إسماعيل الأمير على أن الأخبار المذكورة دليل على أن أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... كما سنقف

(هامش)

(1) الخصائص: 28. (2) فتح الباري 7 / 18. (*)

ص 259

عليه فيما بعد إن شاء الله تعالى. ولكن من القوم من سولت له نفسه لأن يدعي المعارضة بين ذلك، وبين ما رووه من أحبية عائشة وأبيها... فيجمع بينهما بحمل ما ورد في علي والزهراء عليهما السلام على الأحبية النسبية... فلننقل كلامه ونبين ما فيه: كلام المحب الطبري وبطلانه لقد جاء في (الرياض النضرة): ذكر اختصاصه بأحبية النبي صلى الله عليه وسلم. عن عائشة: سئلت: أي الناس أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، أن كان - ما علمت - صواما قواما. أخرجه الترمذي. وقال: حسن غريب. وعنها - وقد ذكر عندها علي فقالت: ما رأيت رجلا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا امرأة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من امرأته. خرجه المخلص والحافظ الدمشقي. وعن معاذة الغفارية قالت: كانت لي أنس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج معه في الأسفار وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى، فدخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة - وعلي رضي الله عنه خارج من عنده - فسمعته يقول: يا عائشة، إن هذا أحب الرجال وأكرمهم علي، فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه. خرجه الخجندي. وعن مجمع قال: دخلت مع أمي على عائشة فسألتها عن أمرها يوم الجمل فقال: كان قدرا من قدر الله. وسألتها عن علي فقالت: سألت عن أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه أحب الناس كانت إليه. وعن معاوية بن ثعلبة قال: جاء رجل إلى أبي ذر - وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا ذر، ألا تخبرني بأحب الناس إليك، فإني

ص 260

أعلم أن أحب الناس إليك أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أي ورب الكعبة، أحبهم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو ذاك الشيخ. وأشار إلى علي. خرجه الملا في سيرته. وقد تقدم لأبي بكر مثل هذه في المتفق عليه. فيحمل هذا على أن عليا أحب الناس إليه من أهل بيته، وعائشة أحب إليه مطلقا، جمعا بين الحديثين. ويؤيده ما رواه الدولابي في الذرية الطاهرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: أنكحتك أحب أهل بيتي إلي. خرجه عبد الرزاق، ولفظه: أنكحتك أحب أهلي إلي (1). وقلده الوصابي صاحب (الاكتفاء) فيما قال. أقول: إن حمل أحبية أمير المؤمنين عليه السلام على الأحبية النسبية - بأي معنى كانت - حمل باطل، تدفعه الأحاديث التي ذكرناها والآثار التي أوردناها، خصوصا ما كان منها عن عائشة... فإن هذه الأحاديث والآثار لا تقبل التأويل بشكل من الأشكال... على أن تخصيص أحبية الإمام عليه السلام بأنها بالنسبة إلى أهل البيت عليهم السلام - على تقدير تسليمه - لا يضر بما نقوله، لأن مقتضى الأحاديث المعتبرة الكثيرة - كحديث الثقلين، وحديث السفينة، وأمثالهما... مما رواه القوم ومنهم المحب الطبري نفسه - وكذا الأحاديث الواردة في أفضلية بني هاشم من سائر قريش، وهي أيضا أحاديث كثيرة معتبرة جدا (2)... هو أفضلية أهل البيت عليهم السلام من جميع الناس على العموم. فمن كان الأفضل في أهل البيت - الذين هم أفضل الناس - كان أفضل الناس، بالأولوية القطعية

(هامش)

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 3 / 115 - 116. (2) انظر: الجزء 5 ص 316 - 321 من كتابنا. (*)

ص 261

الواضحة. والشواهد على هذا المعنى من كلام أكابر القوم كثيرة أيضا، من ذلك ما رواه ملك العلماء الهندي عن الحافظ الزرندي: أنه نقل عن إمام أهل السنة أبي حنيفة: إنه مر يوما في سكك بغداد، فرأى بعض أولاد السادات يلعب بالجوز، فنزل من بغلته وأمر أصحابه بالنزول ومشى أربعين خطوة ثم ركب، وتوجه إلى أصحابه فقال: من جال في قلبه أو ظهر على لسانه أنه خير من صبي أو غلام من أهل بيت رسول الله فهو عندي زنديق (1). فانظر إلى حكم هذا الإمام... واحكم على طبقته بما شئت على من شئت. وجوه رد حديث عمرو بن العاص لكنا - مع كل هذا - نبرهن على أن الحديث الذي عارض به المحب الطبري تلك الأحاديث، - وهو حديث ابن العاص - باطل سندا ودلالة فلا معارضة، ولا موجب للحمل الذي زعمه وبطلانه من وجوه: الوجه الأول: إن حديث عمرو بن العاص خبر واحد تفرد بنقله أهل السنة، وما كان كذلك فليس بحجة على الإمامية، إذ لو كانت أخبارهم حجة على الإمامية فلم لا تكون أخبار الإمامية حجة عليهم كذلك... ولقد أنصف ولي الله الدهلوي في كتابه (قرة العينين في تفضيل الشيخين) حيث نص على أنه لا يجوز الاحتجاج على الإمامية والزيدية بأحاديث الصحيحين، فضلا عن غيرها. وكذا

(هامش)

(1) هداية السعداء - مخطوط. (*)

ص 262

قال ولده (الدهلوي) في غير موضع من كتابه (التحفة). فهذا الحديث - وإن كان في الصحيحين - مما لا يصلح الاحتجاج به أمام الإمامية. الوجه الثاني: إن مدار هذا الحديث المزعوم المتفق عليه!! في الصحيحين على خالد بن مهران الحذاء ففي البخاري: حدثنا معلى بن أسد، ثنا عبد العزيز بن مختار، ثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان، ثني عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قال فقلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، فعد رجالا (1). وفيه حدثنا إسحاق قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر. فعد رجالا، فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم (2). وفي مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي عثمان قال: أخبرني عمرو بن العاص... (3). فمدار الحديث على خالد الحذاء ، وهو مقدوح مطعون فيه: قال

(هامش)

(1) صحيح البخاري - باب مناقب أبي بكر 3 / 64. (2) صحيح البخاري - خبر غزوة ذات السلاسل 3 / 286. (3) صحيح مسلم - باب مناقب أبي بكر 7 / 109. (*)

ص 263

الحافظ ابن حجر: قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به (1). وقال أيضا: قد أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لما قدم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان (2). الوجه الثالث: إنه حديث منقطع، لأن خالدا لم يسمع عن أبي عثمان - وهو النهدي - شيئا، قال ابن حجر: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل - في كتاب العلل - عن أبيه: لم يسمع خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي شيئا (3). الوجه الرابع: إن هذا الحديث يدل على أحبية عائشة من فاطمة عليها السلام، فيبطله الأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة من طرقهم في شأن فاطمة عليها السلام، الدالة على أحبيتها وأفضليتها من عائشة وغيرها مثل: حديث: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة . وحديث: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني وحديث: إنما هي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا تحصى كثرة (4). فمن العجيب جدا دعوى المحب كون عائشة أحب إليه مطلقا فإنه قلة حياء... على أنه لا يستقيم على أصول السنة أيضا، لأن الأحبية دليل الأفضلية (5). فيلزم أن تكون أفضل من أبيها أبي بكر أيضا. وهو كما ترى!!

(هامش)

(1) تهذيب التهذيب 3 / 104. (2) تقريب التهذيب 1 / 219. (3) تهذيب التهذيب 3 / 105. (4) راجع أبواب فضائلها في الصحاح وغيرها. (5) هذا واضح جدا، وقد نص عليه العلماء، كالحافظ النووي بشرح حديث عمرو بن العاص من = (*)

ص 264

الوجه الخامس: عن أسلم بإسناد صحيح على شرط الشيخين: إنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم - فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج، حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله، والله ما من الخلق أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم البيت، قال: فلما خرج عمر جاءوها فقالت: أتعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين، فرأوا رأيكم ولا ترجعوا إلي، فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها، حتى بايعوا لأبي بكر (1). ولو كان لحديث عمرو بن العاص أصل لم يكن وجه لما قاله عمر مع الحلف عليه. الوجه السادس: إنه لو كان لهذا الحديث المفترى أصل، فلماذا اعترفت عائشة بأحبية علي والزهراء عليهما السلام؟ ولماذا لم تجب جميع بن عمير و عروة بن الزبير و معاذة الغفارية الذين عيروها بخروجها على أمير المؤمنين عليه السلام بكونها هي وأبوها أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل قالت: إنه كان قضاء وقدرا من الله؟

(هامش)

= (المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج) فراجعه. (1) إزالة الخفا عن سيرة الخلفا. والحديث في كنز العمال 5 / 651 رقم: 14138 عن ابن أبي شيبة.

ص 265

من هنا يظهر أن حديث عمرو بن العاص مما اختلقته يداه، أو بعض الأيدي الحاقدة على أمير المؤمنين عليه السلام من العثمانية أو المروانية... وإلا لاحتجت به عائشة في هذه المواضع ونحوها لتبرير مواقفها وأقوالها... الوجه السابع: لقد عرفت من الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي - بسند صحيح كما اعترف ابن حجر - أن عائشة خاطبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولها: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرها على هذا ولم يجبها بشيء... فما نسبه عمرو بن العاص في هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذب. كلام ابن حجر وإبطاله نعم هو افتراء وكذب، وإن حاول الحافظ ابن حجر ترجيح حديث عمرو، أو الجمع بينهما - لأن حديث عمرو بن العاص صحيح في زعمه، لأنه مخرج في الصحيحين - فقال ما نصه: أخرج أحمد وأبو داود والنسائي - بسند صحيح - عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي. الحديث. فيكون علي ممن أبهمه عمرو بن العاص أيضا. وهو وإن كان في الظاهر يعارض حديث عمرو، لكن يرجح عمرو أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تقريره. ويمكن الجمع باختلاف جهة المحبة، فيكون في حق أبي بكر على عمومه بخلاف علي، ويصح حينئذ دخوله فيمن أبهمه عمرو. ومعاذ الله أن نقول - كما يقول الرافضة - من إبهام عمرو فيما روى، لما

ص 266

كان بينه وبين علي رضي الله عنهما، فقد كان النعمان مع معاوية على علي ولم يمنعه ذلك من الحديث بمنقب علي، ولا ارتياب في أن عمرا أفضل من النعمان، والله أعلم (1). أقول: لكنها محاولة يائسة... أما ترجيح حديث عمرو لكونه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حديث النعمان، لكونه من تقريره، فصدور مثله من شيخ الإسلام عند القوم غريب. أما أولا: فلأن تقدم أحد المتعارضين لكونه قولا ممنوع في أمثال المقام. وأما ثانيا: فلأن في حديث النعمان مرجحات عديدة على أصول أهل السنة، توجب تقدمه على حديث عمرو بن العاص. منها: جلالة شأن عائشة صاحبة القضية، وأنها أكثر وقوفا على حالات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها أعرف الناس بحال أبيها من حيث الفضيلة... إلى غير ذلك مما لا يخفى عند الإمعان. ومن أكبر المرجحات في حديث النعمان: أن هذا الرجل يروي هذا الحديث مع كونه مع معاوية على علي عليه السلام، والفضل ما شهدت به الأعداء، وأيضا: فإنه من حديث عائشة، وهي من أشد الناس عداوة لأمير المؤمنين عليه السلام. بخلاف حديث عمرو بن العاص، فإن عمرا لم يكن له عداوة مع عائشة وأبي بكر وعمر، بل كانوا جميعا ملة واحدة، وقد كان وزير معاوية بن أبي سفيان الذي وضعت في سلطنته الأحاديث الكثيرة في فضل المخالفين لأهل البيت عليهم السلام، ومن الواضح جدا تقدم الخبر الذي ينقله مثل النعمان في فضل أمير المؤمنين عليه السلام، على الخبر الذي ينقله مثل ابن العاص في فضل

(هامش)

(1) فتح الباري 7 / 18. (*)

ص 267

أبي بكر وعمر... وأما دعوى الجمع بين الحديثين بما ذكر فبطلانها واضح مما سبق بالتفضيل، حيث علمت أن إطلاق أفعل التفضيل على المفضول بلحاظ وجه حقير، غير جائز... الوجه الثامن: أخرج الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع، نا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر: أنه فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة، وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف. فقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة علي، فوالله ما سبقني إلى مشهد؟ قال: لأن زيدا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فآثرت حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حبي. هذا حديث حسن غريب (1). فهذا الحديث صريح في أن زيد بن حارثة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عمر بن الخطاب بإقرار منه، فما جاء في ذيل حديث عمرو بن العاص كذب، ولو كان لما ذكره عمرو أصل لعلمه عمر بن الخطاب، وحمل هذا الإقرار من عمر على التواضع غير جائز، لأنه جاء في جواب اعتراض من ولده على ما فعله فلا بد من أن يحمل على الحقيقة والإطلاق... وبالجملة، فلا مناص للقوم من الإلتزام بأحد الأمرين، إما تكذيب عمر ابن الخطاب في أحبية زيد منه، وإما تكذيب عمرو بن العاص في حديثه! لكن الإنسان إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما... والأهون عندهم تكذيب عمرو...

(هامش)

(1) صحيح الترمذي 5 / 634. (*)

ص 268

الوجه التاسع: روى المتقي: عن عمرو بن العاص قال قيل: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقال: من الرجال؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم أبو عبيدة. كر (1). وهذا الحديث الذي رواه المتقي، عن ابن عساكر، عن عمرو بن العاص يعارض حديثه المذكور... فأي الناس أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أبي بكر: عمر أو أبو عبيدة؟ لقد وقع الرجل في تهافت واضح، وواقع الأمر أنه عندما جعل أحد الرجلين أحب الناس بعد أبي بكر نسي جعله الآخر من قبل... فكذب مرتين... الوجه العاشر: وروى المتقي أيضا: عن عمرو بن العاص قال: لما قدمت من غزوة السلاسل - وكنت أظن أن ليس أحد أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مني - فقلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: إني لست أسألك عن النساء. قال: أبوها إذن. قلت: فأي الناس أحب إليك بعد أبي بكر؟ قال حفصة. قلت: لست أسألك عن النساء، قال: فأبوها إذن. قلت: يا رسول الله فأين علي؟ فالتفت إلي أصحابه فقال: إن هذا يسألني عن النفس. ابن النجار (2).

(هامش)

(1) كنز العمال 12 / 500، رقم: 35639. (2) كنز العمال 13 / 142، رقم: 36446. (*)

ص 269

وهذا حديث آخر يرويه المتقي، عن الحافظ ابن النجار، عن عمرو بن العاص... وفي رجوعه من غزوة ذات السلاسل بالذات، فنقول: إنه وإن افترى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الحديث أحبية فلان وفلان إليه، إلا أنه صرح في ذيله - بإلجاء من الله سبحانه - بما هو الحق... وبالرغم من أن للإمامية الأخذ بالذيل وتكذيب الصدر أخذا بقاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود، وعملا بما قيل: خذ ما صفى ودع ما كدر... فلهم الاحتجاج بذيله على الأحبية المطلقة لعلي عليه السلام، لكن لو سلم صدور الحديث بكامله... فإن دلالته على كونه عليه السلام أحب الخلق إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحبية مطلقة عامة صحيحة وتامة... وهذا هو المطلوب... والحمد لله الذي أجرى الحق على لسانهم وخرب بأيديهم بنيانهم. هذا تمام الكلام على ما ادعاه المحب الطبري في هذا المقام. كلام آخر للمحب الطبري وإبطاله وكذا ادعى المحب الطبري في حديث أحبية الصديقة الزهراء عليها السلام، حيث قال في كتابه (ذخائر العقبى): وذكر أنها رضي الله عنها كانت أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قالوا: يا رسول الله من أحب إليك؟ قال: فاطمة. قالوا: نسألك عن الرجال؟ قال: أما أنت يا جعفر، وذكر حديثا سيأتي إن شاء الله تعالى في مناقب جعفر رضي الله عنه وفيه: إن أحبهم إليه زيد بن حارثة رضي الله عنه. أخرجه أحمد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنها سئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت:

ص 270

زوجها، أن كان - ما علمت - صواما قواما. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أبو عمر بن عبيد، وزاد بعد قوله قواما، جديرا بقول الحق. وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، ومن الرجال علي رضي الله عنه. أخرجه أبو عمر. قال إبراهيم: يعني من أهل بيته. ويؤيد تأويل إبراهيم: الحديث المتقدم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: أنكحتك أحب أهل بيتي إلي. وفي المصير إليه جمع بينه وبين ما روي في الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل عن أحبهم إليه قال: عائشة. قالوا: من الرجال؟ قال: أبوها - وقد ذكرنا ذلك في مناقب أبي بكر رضي الله عنه في كتاب الرياض النضرة في فضائل العشرة المبشرة، وذكرناه في مناقب عائشة رضي الله عنها في كتاب السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين -. وما أخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي عن أسامة: إن عليا رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: فاطمة. قال علي رضي الله عنه: والله لا نسألك عن أهلك، قال: فأحب أهلي إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أسامة بن زيد. قال: فقال العباس: ومن يا رسول الله؟ قال: علي. ثم أنت. قال فقال العباس: يا رسول الله، جعلت عمك آخرهم؟! قال قال: إن عليا سبقك بالهجرة (1). أقول: فالعجب من المحب الطبري لقد جهل أو تجاهل دلالة الأحاديث الكثيرة الشائعة - والتي روى هو كثيرا منها في نفس كتابه هذا - على أن أهل البيت

(هامش)

(1) ذخائر العقبى: 35 - 36. (*)

ص 271

عليهم السلام أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا، وإلا لما ارتضى هذا التأويل؟ والأعجب جعله هذا التأويل طريق الجمع!! وكأنه ما درى - بغض النظر عن الأمور والجهات الأخرى - أن ذكر حديث عمرو بن العاص مع تلك المثالب والقبائح التي يتصف بها في مقابلة أحاديث سيدنا أبي ذر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة مما لا يرتضيه إنسان عاقل فضلا عن المؤمن!! وأما ما رواه في أن أحبهم إليه زيد بن حارثة، فمما تفرد به أهل السنة، على أنه غير صحيح على أصولهم أيضا، فهو ينافي ما أجمع عليه الشيعة والسنة. كلام الشيخ عبد الحق الدهلوي وبطلانه ومما يضحك الثكلى قول الشيخ عبد الحق الدهلوي في (شرح المشكاة) بشرح حديث جميع بن عمير: قوله: قالت: زوجها. انظر إلى إنصاف الصديقة وصدقها على رغم من يزعم من الزائغين خلاف ذلك. ولقد استحيت أن تذكر نفسها وأباها. ولا يبعد أن لو سئلت فاطمة عن ذلك لقالت: عائشة وأبوها. وقد ورد كذلك في رواية عن غير فاطمة رضي الله عنها. ومن ههنا يعلم أن الوجوه مختلفة والحيثيات متعددة، وبهذا ينحل الشبهات ويتخلص عن الورطات . أقول: إنه لم يتعرض شراح (المصابيح) و(المشكاة) لهذه الورطة في شرحهم لهذا الحديث، وكأنه يعلمون بأن لا مخلص لهم منها، فرأوا المصلحة في السكوت... وليت الشيخ عبد الحق سار على نهجهم، لكن منعه من ذلك

ص 272

شدة تعصبه، فأتى بما يزيد الشبهة قوة، وأوقع نفسه في ورطة... إن من الواضح جدا: أن مثل هذا الحديث لا ينفي اتصاف عائشة بالعداء لأمير المؤمنين عليه السلام وبغضها له... لكن الفضل ما شهدت به الأعداء... وهل ينكر الشيخ عدائها للإمام عليه السلام حتى آخر لحظة من حياته، حيث أنشدت - لما بلغها نبأ استشهاده -: - فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر؟! - وأما قوله: ولقد أستحيت أن تذكر نفسها وأباها فنقول في جوابه: أي نسبة بين تلك المتبرجة المتجملة الخارجة على إمام زمانها... وبين الحياء...!! ثم ما يقول الشيخ بالنسبة إلى اعترافها بأحبية أمير المؤمنين عليه السلام مطلقا من غير سؤال منها عن ذلك... كقولها: ما خلق الله خلقا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب ؟... ففي هذا الحديث الذي رواه الحافظ الكنجي بسنده عنها لم يكن أحد سألها عن أحب الناس إليه، وقد جاءت فيه بعبارة واضحة الدلالة على العموم، تشمل نفسها وأباها وسائر الناس أجمعين... وأيضا: ففي الأحاديث المتقدمة أن جميعا و عروة و معاذة لما عيروها بالخروج إلى البصرة لم تسكت، بل اعتذرت بأنه كان قضاء وقدرا من الله، وأنها استشهدت في جواب معاذة بحديث عن أبيها أبي بكر في فضل أمير المؤمنين عليه السلام... ومن الواضح جدا أنه متى آل الأمر إلى التعنيف والتعيير - لا مرة بل مرات - تحتم الجواب بما يقطع اللوم والعتاب... فلو كان لحديث أحبيتها وأحبية والدها أصل، فأي موضع يكون أولى من هذا الموقع للاعتذار به... يا أولوا الألباب!! وأيضا: لو كان لها نصيب من الحياء لما قالت لعروة: لم تزوج أبوك أمك ؟ ألم يكن بإمكانها التمثيل بشيء آخر للقضاء والقدر في جواب ذاك

ص 273

التابعي الجليل عند القوم؟ وأيضا: لو كان الحياء هو المانع لها من ذكر نفسها وأبيها فما الذي حملها على ذكر أحبية علي والزهراء عليها السلام؟ هلا سكتت ولم تجب بشيء أصلا؟! وأيضا: فقد أخرج الحاكم أنها قالت في جواب أم جميع بن عمير: والله ما أعلم رجلا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا امرأة من الأرض كانت أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من امرأته (1) وليس من شأن أحد من أهل الإيمان أن يذكر - استحياء - أمرا غير واقع ويؤكده بالحلف الشرعي بلفظ الجلالة غير متأثم من قوله تعالى: *(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم)*!! وأيضا: لقد جاء في حديث النعمان بن بشير - الذي رووه بسند صحيح - ... فسمع صوتها عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي... فلماذا كل ذلك؟ وأين كان حياؤها؟ وأما قوله: ولا يبعد أن لو سئلت فاطمة... . فكلام من عنده قاله تسكينا لقلبه... وفاطمة عليها السلام لا تتفوه بما لا أصل له وما تعتقد هي خلافه مطلقا... وأما قوله: وقد ورد كذلك في رواية عن غير فاطمة... . فإن أراد حديث عمرو بن العاص، فقد عرفت حاله. وإن أراد غيره... فحديث يتفردون به... والأدلة السابقة واللاحقة تبطله... وأما قوله: ومن هنا يعلم... . فجوابه: أن مما ذكرنا - ونذكر - يعلم أن ليس لهم لزيغهم خلاص عن الشبهات، ولا مناص عن الورطات، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون *(ومأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب

ص 274

النار الذي كنتم به تكذبون)*.

ص 275

من أقوال التابعين والخلفاء الصريحة في أن عليا أحب الناس إلى النبي

 وكذلك رأي التابعين... وأولئك الذين يقول أهل السنة فيهم بإمرة المؤمنين... فإنهم كانوا يرون أن أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى رسول رب العالمين: قول الحسن البصري: قال الغزالي: ويروى عن ابن عائشة: أن الحجاج دعا بعلماء البصرة وفقهاء الكوفة. قال: فدخلنا عليه ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل. فقال الحجاج: مرحبا بأبي سعيد مرحبا بأبي سعيد، إلي إلي، ثم دعا بكرسي ووضع إلى جنب سريره، فقعد عليه، فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا، إذا ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفرقا من شره، والحسن ساكت عاض على إبهامه. فقال: يا أبا سعيد، مالي أراك ساكتا؟ قال: ما عسيت أن أقول؟ قال: أخبرني برأيك في أبي تراب. قال: سمعت الله جل ذكره يقول: *(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم)* فعلي ممن هدى الله من أهل الإيمان، فأقول:

ص 276

ابن عم النبي عليه السلام، وختنه على ابنته، وأحب الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه، ولا يحول بينه وبينها. وأقول: إنه إن كانت لعلي هنات فالله حسيبه، والله ما أجد فيه قولا أعدل من هذا. فبسر وجه الحجاج وتغير، وقام عن السرير مغضبا، فدخل بيتا خلفه وخرجنا. قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن فقلت له: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير وأوغرت صدره. فقال: إليك عني يا عامر. يقول الناس: عامر الشعبي عالم أهل الكوفة، أتيت شيطانا من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه! ويحك يا عامر، هلا اتقيت إن سئلت فصدقت أو سكت فسلمت. قال عامر: يا أبا سعيد قلتها وأنا أعلم ما فيها. قال الحسن: فذاك أعظم في الحجة عليك وأشد في التبعة (1). قول المأمون العباسي: وروى أبو علي مسكويه: إن المأمون كتب إلى الناس كتابا يجيب فيه على اعتراضهم في كتاب لهم إليه على أخذه البيعة منهم لسيدنا الإمام الرضا عليه السلام، فذكر نص الكتاب بطوله، نورد منه قدر الحاجة، وهذا هو: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد رغم أنف الراغمين. أما بعد فقد عرف أمير المؤمنين كتابكم وتدبر أمركم ومخض زبدتكم، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم، في مراوضة الباطل وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار، وكل ما جاءكم به

(هامش)

(1) إحياء علوم الدين 2 / 346. (*)

ص 277

الصادق محمد صلى الله عليه وآله، حتى كأنكم من الأمم السالفة التي هلكت بالخسف والقذف والريح والصيحة والصواعق والرجم *(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)*. والذي هو أقرب إلى أمير المؤمنين من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إن أمير المؤمنين ترك الجواب من سوء أحلامكم وقلة أخطاركم وركاكة عقولكم ومن سخافة ما تأوون من آرائكم. فليستمع مستمع وليبلغ الشاهد غائبا. أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحدا يساويهم ولا يناويهم، فكان نبينا محمد صلى الله عليه وآله أمينا من أوسطهم بيتا وأقلهم مالا. وكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها. ثم آمن به علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - وله سبع سنين، لم يشرك بالله شيئا، ولم يعبد وثنا، ولم يأكل ربا، ولم يشاكل أهل الجاهلية في جهالاتهم. وكانت عمومة رسول الله صلى الله عليه وآله إما مسلم مهين أو كافر معاند، إلا همزة، فإنه لم يمتنع من الإسلام ولا امتنع الإسلام منه. فمضى لسبيله على بينة من ربه. أما أبو طالب فإنه كفله ورباه مدافعا عنه ومانعا منه، فلما قبض الله أبا طالب هم به القوم وأجمعوا عليه ليقتلوه، فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. فلم يقم مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب، فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد ذلك مستمسكا بأطراف الثغور وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولي عن جيش. منيع القلب، يأمر على جميع ولا يأمر عليه أحد. أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في

ص 278

دين الله، وأقرأهم لكتاب الله، وأعرفهم بالحلال والحرام. وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم، وصاحب قوله صلى الله عليه وآله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وصاحب يوم الطائف. وكان أحب الخلق إلى الله وإلى رسوله... (1).

(هامش)

(1) الطرائف: 122 عن نديم الفريد. (*)

ص 279

من تصريحات الأعلام بدلالة حديث الطير على أفضلية الإمام عليه السلام

ص 281

لقد أثبتنا - والحمد لله - أن الأحبية في حديث الطير هي الأحبية المطلقة... وأن جميع تأويلات (الدهلوي) وغيره باطلة في الغاية وساقطة إلى النهاية... إلا أنا نذكر فيما يلي تصريحات ونصوصا من عدة من أكابر علماء القوم، في أن حديث الطير دليل على أفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام وأحبيته المطلقة عند الله والنبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم... إتماما للحجة وتنويرا للمحجة... علماء عصر المأمون قد تقدم سابقا عن ابن عبد ربه فيما رواه تحت عنوان إحتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد قال: بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي - وهو يومئذ قاضي القضاة - فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا، كلهم فقيه يفقه ما يقال له ويحسن الجواب أن المأمون احتج على الفقهاء الحاضرين - وفيهم إسحاق وابن أكثم - بفضائل لأمير المؤمنين عليه السلام في إثبات أفضليته من غيره من الأصحاب، وكان منها حديث الطير، حيث قال لإسحاق بن إبراهيم الذي كان المخاطب فيهم: يا إسحاق: أتروي الحديث؟ قلت: نعم. قال: فهل تعرف حديث

ص 282

الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدثني به. قال: فحدثته الحديث فقال: يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأما الآن فقد بان لي عنادك، إنك توقن أن هذا الحديث صحيح؟ قلت: نعم، رواه من لا يمكنني رده. قال: أفرأيت أن من أيقن أن هذا الحديث صحيح ثم زعم أن أحدا أفضل من علي لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن يكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده مردودة عليه، أو أن يقول: عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول: إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول. فأي الثلاثة أحب إليك أن تقل؟ فأطرقت. ثم قال: يا إسحاق: لا تقل منها شيئا فإنك إن قلت منها شيئا استتبتك، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله. قلت: لا أعلم... . ثم إن يحيى بن أكثم أعرب عن قبوله لما قال المأمون وعجزه عن الجواب بقوله: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير، وأثبت ما لا يقدر أحد أن يدفعه . قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين... (1). الحاكم النيسابوري وقال الذهبي بترجمة الحاكم: وسئل الحاكم أبو عبد الله عن حديث الطير فقال: لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله

(هامش)

(1) العقد الفريد 5 / 354 - 358. (*)

ص 283

صلى الله عليه وسلم (1). فهذا الكلام الذي نسبه الذهبي إلى الحاكم وأقره عليه صريح في دلالة حديث الطير على الأفضلية... ولنعم ما أفاد محمد بن إسماعيل الأمير في توضيح هذا الكلام المعزى إلى الحاكم: وإذا ثبت أنه أحب الخلق إلى الله من أدلة غير حديث الطير، فماذا ينكر من دلالة حديث الطير على الأحبية الدالة على الأفضلية؟ وكيف تجعل هذه الدلالة قادحة في صحة الحديث كما نقل عن الحاكم؟ ويقرب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم ما أراد إلا الاستدلال على ما يذهب إليه من أفضلية علي، بتعليق الأفضلية على صحة حديث الطير، وقد عرف أنه صحيح، فأراد استنزال الخصم إلى الإقرار بما يذهب إليه الحاكم فقال: لا يصح ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعده. وقد تبين صحته عنده وعند خصمه، فيلزم تمام ما أراده من الدليل على مذهبه (2). الفخر الرازي قال إمام الأشاعرة الفخر الرازي ما نصه: فأما خبر الطير فلا شك أنه لو صح لدل على كونه أفضل من غيره، لكنه من أخبار الآحاد... . فهذا كلامه وهو - كما ترى - إقرار بالدلالة بلا تشكيك، وأما ما ذكره بالنسبة إلى سنده فبطلانه ظاهر مما تقدم وسبق في بحث السند، لا سيما من الحاكم النيسابوري الممدوح لدى الفخر والمعتمد. وأيضا: قال الفخر بعد عبارته المذكورة في جواب حديث الطير: وهو معارض

(هامش)

(1) تذكرة الحفاظ 2 / 1039. (2) الروضة الندية - شرح التحفة العلوية. (*)

ص 284

بأخبار كثيرة وردت في حق الشيخين... لا يقال: الأحاديث المروية في حق علي - رضي الله عنه - أقوى، لبقائها مع الخوف الشديد على روايتها في زمان بني أمية، فلولا قوتها في ابتداء أمرها لما بقيت. لأنا نقول: هذا معارض بما أن الروافض كانوا أبدا قادحين في فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - فلولا قوتها في ابتدائها وإلا لما بقي الآن شيء منها (1). هذا كلام الفخر... ولو كان هناك مساغ لشيء من التأويلات التي ذكرها (الدهلوي) أو غيره، أو كان عند الفخر نفسه تأويل غيرها... لذكره... فيظهر أن لا طريق عندهم للجواب إلا الطعن في السند، وقد عرفت فساده، والمعارضة بما رووه في فضائل الشيخين، وهي معارضة باطلة، لكون ما يروونه فيهما ليس بحجة، واللاحجة لا يعارض الحجة. وأما ما ذكره في جواب الاعتراض فواضح الاندفاع، لأنه قياس مع الفارق... وبالجملة، فهذا الكلام أيضا دال على المفروغية عن دلالة حديث الطير على الأفضلية... وهذا هو المطلوب في المقام. محمد بن طلحة وقال محمد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول) في الباب الأول: الفصل الخامس: في محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، ومؤاخاة الرسول إياه، وامتزاجه به، وتنزيله إياه منزلة نفسه، وميله إليه، وإيثاره إياه. وقبل الشروع في المعاقد المقصودة والمقاصد المعقودة في هذا الفصل، لا بد من شرح حقيقة المحبة وكيفية إضافتها إلى الله تعالى وإلى

(هامش)

(1) نهاية العقول - مخطوط. (*)

ص 285

العبد، فإن العقل إذا لم يحط بتصور ذاتها لم ينتظم قضاؤه عليها لا بنفيها ولا إثباتها، ولم يستقم حكمه لها بشيء من نعوتها وصفاتها فأقول: المحبة حالة شريفة أخبر الله عز وجل بوجودها منه لعبده ومن عبده له، فقال جل وعلا: *(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)* وقالك *(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)* وقال: *(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)*... إن حقيقة محبة الله تعالى لعبده: إرادته سبحانه لإنعام مخصوص يفيضه على ذلك العبد من تقريبه، وإزلافه من محال الطهارة والقدس، وقطع شواغله وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا، ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه، فإرادته بأن يخص عبده بهذه الأحوال الشريفة هي محبته له... وأما محبة الله تعالى فهي ميله إلى نيل هذا الكمال، وإرادته درك هذه الفضائل. فيكون إضافة المحبة إلى الله - تعالى جل وعلا - وإضافتها إلى العبد مختلفين، نظرا إلى الاعتبارين المذكورين. فإذا وضح معناهما فمن خصه الله - عز وعلا - بمحبته على ما تقدم من إرادته بقربه وإزلافه من مقر التقديس والتطهير، وقطع شواغله عنه، وتطهير قلبه من كدورات الدنيا ورفع الحجاب، فقد أحرز قصاب السابقين، وارتدى بجلباب الفائزين المقربين. وهذه المحبة ثابتة لأمير المؤمنين علي، بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صح النقل في المسانيد الصحيحة والأخبار الصريحة، كمسندي البخاري ومسلم وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية... وقال صلى الله عليه وسلم يوما - وقد أحضر إليه طير ليأكله - اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه. وكان أنس

ص 286

حاضرا يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل مجئ علي. فبعد ذلك جاء أنس إلى علي فقال: استغفر لي ولك عندي بشارة، ففعل، فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم. إيقاظ وتنبيه: إعلم - أيدك الله بروح منه - أن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم صدق وأقواله حق، فإذا أخبر عن شيء فهو محقق لا يرتاب في صحته ذوو الإيمان ولا أحد من المهتدين، فكان صلوات الله عليه قد اطلع بنور النبوة على أن عليا ممن يحبه الله تعالى، وأراد أن يتحقق الناس ثبوت هذه المنقبة السنية والصفة العلية التي هي أعلى درجات المتقين لعلي، وكان بين الصحابة يومئذ منهم حديثو عهد بالإسلام، ومنهم سماعون لأهل الكتاب، ومن فيهم شيء من نفاق، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت ذلك لعلي في نفوس الجميع فلا يتوقف فيه أحد. فقرن صلى الله عليه وسلم في خبره بثبوت هذه الصفة - وهي المحبة الموصوفة من الجانبين لعلي، التي هي صفة معينة معنوية لا تدرك بالعيان - بصفة محسوسة تدرك بالأبصار أثبتها له وهي فتح خيبر على يديه، فجمع قوله صلى الله عليه وسلم في وصف علي بين المحبة والفتح، بحيث يظهر لكل ناظر صورة الفتح ويدركه بحاسته، فلا يبقى عنده توقف في ثبوت الصفة الأخرى المقترنة بهذه الصفة المحسوسة، فيترسخ في نفوس الجميع ثبوت هذه الصفة الشريفة العظيمة لعلي. وهكذا في حديث الطير، جعل إتيانه وأكله معه - وهو أمر محسوس مرئي - مثبتا عند كل أحد من علمه أن عليا متصف بهذه الصفة العظيمة، وزيادة الأحبية على أصل المحبة. وفي ذلك دلالة واضحة على علو مكانة علي وارتفاع درجته وسمو منزلته، واتصافه بكون الله تعالى يحبه وأنه أحب خلقه إليه. وكانت حقيقة هذه المحبة قد ظهرت عليه آثارها وانتشرت لديه أنوارها، فإنه كان قد أزلفه الله تعالى في مقر التقديس، فإنه نقل الترمذي في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليا يوم الطائف فانتجاه فقال الناس:

ص 287

لقد أطال نجواه مع ابن عمه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما انتجيته ولكن الله انتجاه... (1). الحافظ الكنجي وقال الحافظ محمد بن يوسف الكنجي - بعد رواية حديث الطير -: وفيه دلالة واضحة على أن عليا أحب الخلق إلى الله، وأدل الدلالة على ذلك إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما دعا به. وقد وعد الله تعالى من دعاه بالإجابة حيث قال: *(ادعوني أستجب لكم)* فأمر بالدعاء ووعد بالإجابة، وهو عز وجل لا يخلف الميعاد، وما كان الله ليخلف وعده رسله. ولا يرد دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحب الخلق إليه. ومن أقرب الوسائل إلى الله محبته ومحبة من يحبه لحبه. كما أنشدني بعض أهل العلم في معناه: - بالخمسة الغر من قريش * وسادس القوم جبرئيل - - بحبهم رب فاعف عني * بحسن ظني بك الجميل - العدد الموسوم بالستة في هذا البيت أصحاب العباء الذين قال الله تعالى في حقهم *(ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)* وهم: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وسادس القوم جبرئيل (2). المحب الطبري وقال محب الدين الطبري في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: ذكر أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه

(هامش)

(1) مطالب السؤول 1 / 42 - 43. (2) كفاية الطالب: 151. (*)

ص 288

وسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير. فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأكل معه. أخرجه الترمذي، والبغوي في المصابيح في الحسان... (1). وأيضا: قال الطبري في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: ذكر اختصاصه بأحبية الله تعالى له: عن أنس بن مالك قال: كان عند النبي... (2). وأيضا: قال: ذكر محبة الله عز وجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم له: تقدم في الخصائص ذكر أحبيته إلى الله ورسوله، وهي متضمنة للمحبة مع الترجيح فيها على الغير (3). فليمت المنكرون والجاحدون حنقا وغيظا... شهاب الدين أحمد وقال السيد شهاب الدين أحمد - بعد حديث أبي ذر في أحب الخلق إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: قال الشيخ العارف أسوة ذوي المعارف جلال الدين أحمد الخجندي قدس سره - بعد رواية حديث عائشة ومعاذة وأبي ذر رضي الله عنهم كما سبق -: وهذه الآثار عاضدة حديث الطير، إذ لا يكون أحد أحب إلى رسول الله

(هامش)

(1) ذخائر العقبى: 61. (2) الرياض النضرة 3 / 114. (3) الرياض النضرة 3 / 188. (*)

ص 289

صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك أحب إلى الله عز وجل (1). وأيضا: قال السيد شهاب الدين: الباب السابع، في ترنم أغاني النبوة في مغاني الفتوة، بأحبيته إلى الله تعالى ورسوله، وتنسمه شقائق شواهق معالي العناية بما ظهر أنه أشد حبا لله ورسوله: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان عند النبي صلى الله عليه وآله وبارك وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذه الطير. فجاء علي بن أبي طالب فأكل معه. ورواه الطبري وقال: خرجه الترمذي... (2). فحديث الطير عنده دليل الأحبية... ابن تيمية وقال ابن تيمية في الجواب عن حديث الطير ما نصه: السادس - إن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقيها بالقبول تناقض هذا، فكيف يعارض تلك بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه؟ يتبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم... وأيضا: فإن الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان، الذي عمر أفضل منه، وأبو بكر أفضل منهما. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد تقدم بعض ذلك، لكن ذكر هذا ليتبين أن حديث الطير من الموضوعات (3).

(هامش)

(1) توضيح الدلائل - مخطوط. (2) توضيح الدلائل - مخطوط. (3) منهاج السنة 4 / 99. (*)

ص 290

فلولا دلالة هذا الحديث على الأفضلية عند ابن تيمية لما كان بحاجة إلى المعارضة والإستدلال بما ذكر... ولو كانت الأحبية فيه نسبية - كما ذكر (الدهلوي) أو يمكن تأويلها بوجه من الوجوه - لم يكن تناقض بين حديث الطير وما ذكر من أحاديث القوم!! ومن هنا يظهر اضطراب القوم في مقام الجواب عن هذا الحديث الشريف، فالمتقدمون كالرازي وابن تيمية لم يذكروا شيئا من التأويلات إما عن عجز وقصور، وإما للإلتفات إلى ركاكتها وسخافتها، فعمدوا إلى خرافات شيوخهم في باب فضائل الشيخين، فزعموا مناقضتها لحديث الطير، أو ادعوا وضع هذا الحديث الشريف، مكذبين كبار أساطين طائفتهم الذين رووه، وأثبتوه في كتبهم في جملة فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام. والمتأخرون سلكوا سبيل التأويل وإنكار دلالة الحديث على الأحبية والأفضلية المطلقة، مخطئين أولئك الذين أذعنوا بالدلالة وادعوا المعارضة أو الوضع... بل لقد وقع الواحد منهم في التهافت والتناقض... فالرازي يعترف في (نهاية العقول) بدلالة حديث الطير على الأفضلية بصراحة ثم يدعي المعارضة، ويناقض نفسه في (الأربعين) - كما ستسمع فيما بعد - ويمنع الدلالة... لكن الجمع بين المتناقضات ممتنع، وهم بين أمرين، إما رفع اليد عن الحكم بالوضع بدعوى معارضته لما وضعوه في حق الشيخين، وإما الإعتقاد والإقرار بدلالة الحديث على الأحبية ونبذ التأويلات الموهونة... وأما لا هذا ولا ذاك فهذا من وساوس الخناس الأفاك، والله ولي التفضل بالفهم والإدراك. محمد الأمير الصنعاني قال العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في دلالة حديث الطير على أحبية أمير المؤمنين عليه السلام بعد إيراد طرقه: قلت: هذا الخبر رواه جماعة من أنس، منهم: سعيد بن المسيب،

ص 291

وعبد الملك بن عمير، وسليمان بن الحجاج الطائفي، وأبو الرجال الكوفي، وأبو الهندي، وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، ويغنم بن سالم بن قنبر، وغيرهم. وأما ما قال الحافظ الذهبي في التذكرة في ترجمة الحاكم أبي عبد الله المعروف بابن البيع الحافظ المشهور، مؤلف المستدرك وغيره، بعد أن ساق حكاية: وسئل الحاكم أبو عبد الله عن حديث الطير فقال: لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الذهبي: قلت: ثم تغير رأي الحاكم، فأخرج حديث الطير في مستدركه. قال الذهبي: وأما حديث الطير فله طرق كثيرة قد أفردتها بمصنف، ومجموعها يوجب أن الحديث له أصل. إنتهى كلام الذهبي. فأقول: كلام الحاكم هذا لا يصح عنه، أو أنه قاله ثم رجع عنه كما قال الذهبي ثم تغير رأيه. وإنما قلنا ذلك لأمرين: أحدهما - وهو أقواهما - إن القول بأفضلية علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مذهب الحاكم، كما نقله الذهبي أيضا في ترجمته عن ابن طاهر، قال الذهبي قال ابن طاهر: كان - يعني الحاكم - شديد التعصب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة، وكان منحرفا عن معاوية وإنه يتظاهر بذلك ولا يعتذر منه. إنتهى كلام ابن طاهر، وقرره الذهبي بقوله: أما انحرافه عن خصوم علي فظاهر، وأما الشيخان فمعظم لهما بكل حال، فهو شيعي لا رافضي. إنتهى. قلت: إذا عرفت هذا: فكيف يطعن الحاكم في شيء هو رأيه ومذهبه ومن أدلة ما يجنح إليه؟ فإن صح عنه نفي صحة حديث الطائر فلا بد من تأويله بأنه أراد نفي أعلى درجات الصحة، إذ الصحة عند أئمة الحديث درجات سبع، أو أن ذلك وقع منه قبل الإحاطة بطرق الحديث، ثم عرفها بعد ذلك فأخرجه فيما جعله مستدركا على الصحيحين.

ص 292

والثاني: إن إخراجه في المستدرك دليل صحته عنده، فلا يصح نفي الصحة عنه إلا بالتأويل المذكور. فعلى كل حال فقدح الحاكم في الحديث لا يتم. ثم هذا الذهبي - مع تعاديه وما يعزى إليه من النصب - ألف في طرقه جزء. فعلى كل تقدير قول الحاكم لا يصح. لا بد من تأويله. ولأنه علل عدم صحته بأمر قد ثبت من غير حديث الطير، وهو أنه: إذا كان أحب الخلق إلى الله سبحانه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله من غير حديث الطائر، كما أخرجه أبو الخير القزويني من حديث ابن عباس: إن عليا - رضي الله عنه - دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه وعانقه وقبل بين عينيه، قال له العباس: أتحب هذا يا رسول الله؟ فقال: والله لله أشد حبا له مني. ذكره المحب الطبري رحمه الله. قلت: وفي حديث خيبر الماضي - وقوله صلى الله عليه وسلم: سأعطي الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله - ما يدل لذلك. فإنه ليس المراد من وصفه بحب الله إياه أدنى مراتبها ولا أوسطها بل أعلاها، لما علم ضرورة من أن الله يحب جماعة من الصحابة غير علي رضي الله عنه، قد ثبت ذلك بالنص على أفراد منهم، وثبت أن الله يحبهم جملة، لقوله تعالى: *(إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)* وقد أخبر الله عنهم في عدة آيات أنهم اتبعوا رسوله كقوله تعالى: *(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة)* وغيرها من الآيات المثنية عليهم، الدالة على اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علق محبته تعالى باتباع رسوله، فدل أنهم محبوبون لله تعالى، وأن رتبتهم في المحبة متفاوتة. فلما خص عليا يوم خيبر بتلك الصفة من بينهم، وقد علم أنه قد شاركهم في محبة الله لهم، لأنه رأس المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، علم

ص 293

أنه أعلاهم محبة لله، كأنه صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية أحب الناس إلى الله، ولهذا تطاول لها الصحابة، وامتدت إليها الأعناق، وأحب كل وترجى أن يخص بها. وقد ثبت أن عليا أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الترمذي - وقال الحسن غريب - من حديث عائشة أنها سئلت: أي الناس أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. قيل فمن الرجال؟ قالت: زوجها، إنه كان - ما علمت - صواما قواما. وأخرج المخلص الذهبي والحفاظ أبو القاسم الدمشقي من حديث عائشة - وقد ذكر عنها علي رضي الله عنه قالت: ما رأيت رجلا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا امرأة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من امرأته. وأخرج الخجندي عن معاذة الغفارية قالت: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وعلي خارج من عنده، فسمعته يقول: يا عائشة إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي، فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه. وأخرج الملا في سيرته عن معاوية بن ثعلبة قال: جاء رجل إلى أبي ذر - وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا ذر، ألا تخبرني بأحب الناس إليك، فإني أعرف أن أحب الناس إليك أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أي ورب الكعبة، أحبهم إلي أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذاك الشيخ - وأشار إلى علي رضي الله عنه -. ذكر هذه الأحاديث المحب الطبري رحمه الله. وإذا ثبت أنه أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أحب الخلق إلى الله سبحانه. فإن رسول الله لا يكون الأحب إليه إلا الأحب إلى الله سبحانه. وإنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله من أدلة غير حديث الطائر هذا.

ص 294

فماذا ينكر من دلالة حديث الطير على الأحبية الدالة على الأفضلية؟ وإنها تجعل هذه الدلالة قادحة في صحة الحديث! كما نقل عن الحاكم. ويقرب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم ما أراد إلا الاستدلال على ما يذهب إليه من أفضلية علي رضي الله عنه، بتعليق الأفضلية على صحة حديث الطير، وقد عرف أنه صحيح، فأراد استنزال الخصم إلى الإقرار بما يذهب إليه الحاكم فقال: لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي رضي الله عنه بعده صلى الله عليه وسلم، وقد تبين صحته عنده وعند خصمه، فيلزم تمام ما أراده من الدليل على مذهبه هذا. وفي حديث الطير معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم باستجابة دعائه في إتيانه صلى الله عليه وسلم بأحب الخلق. وفيه دلالة على أن أحب الخلق إلى الله علي، فإنه مقتضى استجابة الدعوة، وأنه لا أرفع منه درجة في الأحبية عنده تعالى بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم دعا ثلاث مرات، وكلها يأتي فيها علي رضي الله عنه لا غيره، ويرجع من طريقه مرة بعد مرة، يرده أمر الله والدعوة النبوية، وألقى في قلب أنس رده له رضي الله عنه مرة بعد مرة، ليظهر الأمر الإلهي والدعوة النبوية، إذ لو فتح له عند أول مرة لربما قيل اتفق أنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقا، فما وقع الترديد من أنس والتردد منه رضي الله عنه إلا ليعلم اختصاصه، وأنه لو كان غيره في رتبته رضي الله عنه لجاء به له أو معه، إذ ليست الدعوة مقصورة على أحد. وقد قدمنا في حديث المحبة بحثا نفيسا في حديث خيبر فلا نكرره، وأشار الإمام المنصور بالله إلى حديث الطير بقوله: - ومن غداة الطير كان الذي * خص بأكل الطائر المشتوي (1) -

(هامش)

(1) الروضة الندية - شرح تحفة العلوية. (*)

ص 295

الملا يعقوب اللاهوري وقال الملا يعقوب اللاهوري في (شرح تهذيب الكلام) في البحث عن أدلة أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام: ولحديث الطير وهو قوله عليه السلام: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاء علي فأكل معه. رواه الترمذي. ولا شك أن الأحب إلى الله تعالى من كان أكثر ثوابا عنده. أقول: وهذا الحديث يدل على أفضلية علي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف الإجماع، والعام المخصوص لا يكون حجة . ودلالة هذا الكلام على مطلوب الإمامية واضحة جدا، فقد نص اللاهوري على دلالة حديث الطير على أفضلية أمير المؤمنين مطلقا حتى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله -. لكن زعم شمول هذا الإطلاق للنبي عليه وآله السلام صريح البطلان، لما نص عليه أكابر العلماء المحققين من عدم دخول المتكلم في إطلاق كلامه... وسيجئ ما يدل على ذلك... وعليه، فهذا العام ليس مخصصا حتى يقال: العام المخصوص لا يكون حجة. ولو سلمنا كونه عاما مخصوصا فهو - على ما نص عليه أجلة المحققين في علم الأصول - حجة أيضا... بل حجيته مورد اجتماع مستند إلى الصحابة، وإليك كلام القاضي عضد الدين الإيجي الصريح في ذلك، فإنه قال في مبحث العام المخصص من (شرح المختصر): لنا ما سبق من استدلال الصحابة مع التخصيص، وتكرر وشاع ولم ينكر، فكان إجماعا. ولنا أيضا: إنا نقطع بأنه إذا قال: أكرم بني تميم وإما فلانا منهم فلا تكرمه، فترك إكرام سائر بني تميم عد عاصيا، فدل على ظهوره فيه وهو المطلوب. ولنا أيضا: إنه كان متناولا للباقي، والأصل بقاؤه على ما كان

ص 296

عليه (1). المولوي حسن زمان وقال المولوي حسن زمان الهندي في معنى حديث الطير: وكان إتيان الشيخين اتفاقا، فلذا صرفهما رضي الله عنهما، ثم إتيان المرتضى إجابة من الله عز وجل لدعائه، ولذا قبله، حيث علم ذلك صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يسوغ رد من أتى الله به! ولذا خرجه النسائي في ذكر منزلة علي من الله عز وجل. وبه تبطل إرادة من أحب الخلق فإن الصديق والفاروق كذلك قطعا، فما وجه تخصيصه بالأحبية بالإتيان به دونهما! ويبطل احتمال أنهما لم يكونا حينئذ بالمدينة الطيبة. وقيل من قال: إن المراد: أحب الناس إلى الله في الأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المرتضى هو كذا، إذ الأكل مع من هو في حكم الولد يوجب تضاعف لذة الطعام. مردود بأن أحب الناس كذلك شرعا وعرفا وعقلا إنما هو فاطمة أو أختها إن كانت، أو الحسن والحسين إن كانا، أو الأزواج المكرمات. واحتمال الأحبية للمجموع احتمال ناش من غير دليل، فلا اختلال به بالاستدلال (2). * * *

(هامش)

(1) شرح المختصر في علم الأصول: 224. (2) القول المستحسن في فخر الحسن - فضائل علي. (*)

ص 297

قوله: ولا ريب في كون حضرة الأمير أحب الناس إلى الله في الوصف المذكور. أقول: لا ريب في كون سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى الله تعالى في ذاك الوصف، بل جميع الأوصاف الفاضلة والمحامد الكاملة. ولو فرضنا قصر دلالة هذا الحديث على الأحبية في الأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدل ذلك على أفضليته من غيره مطلقا، لأن محبة الله ليست منبعثة عن الطبائع النفسانية، وإنما هي دائرة مدار الأفضلية الدينية، فمن كان الأفضل من حيث الفضائل الدينية كان الأكثر محبوبية، لامتناع أحبية المفضول من الفاضل عنده سبحانه، ولوضوح أنه الحكيم على الإطلاق، وأفعاله وأحكامه مبنية على الحكم والمصالح، فهي منزهة عن اللغو والعبث، ولا مساغ للترجيح أو الترجح بلا مرجح في أقواله وأفعاله. وعلى هذا، فكون المفضول أحب عند الله في الأكل مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عبث صريح بل ظلم قبيح وترجيح للمرجوح، وكل ذلك ممتنع في حقه، وتعالى شأنه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ص 298

فأحبية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في الأكل مثبتة لأفضليته في الدين وتقدمه على غيره من المقربين فكيف بالمردودين! فاستبصر ولا تكن من الغافلين. فهذا التأويل لا ينفع الساعين وراء إنكار فضائل الوصي، ودلائل إمامته بعد النبي صلوات الله عليهما. قوله: لأن الأكل مع الولد أو من هو في حكم الولد يوجب تضاعف لذة الطعام. أقول: لا يخفى أن هذه الجملة غير واردة في كلام الكابلي الذي انتحل (الدهلوي) كلماته، وإنما هي زيادة منه أتى بها تماديا في الباطل وسعيا وراء إطفاء نور الله... ولكنه جهل ما يستلزمه ذلك، وإن ذلك سيعرضه إلى مزيد من النقد، لأن أكل الولد أو من في حكمه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يوجب تضاعف لذة الطعام فيما إذا كان ذاك الولد أو من بحكمه أفضل من غيره لدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا فمن الواضح جدا أنه لو كان هناك أفضل من هذا الآكل معه لم يكن أكل هذا المفضول أحب إليه من أكل الأفضل معه، وقد أشرنا سابقا إلى أن ملاك الأحبية والأقربية إلى الله والرسول هو الأفضلية في الدين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يراعي هذا الملاك في جميع جهات معاشرته مع أصحابه، ولم تكن أفعاله وأقواله منبعثة عن الميول النفسانية. ومن هنا كان ما رواه الحافظ ابن مردويه بسنده: عن رافع مولى عائشة قال: كنت غلاما أخدمها، فكنت إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ذات يوم، إذ جاء جاء فدق الباب، فخرجت إليه، فإذا جارية مع إناء مغطى،

ص 299

فرجعت إلى عائشة فأخبرتها فقالت: أدخلها، فدخلت فوضعته بين يدي عائشة، فوضعته عائشة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يأكل وخرجت الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وإمام المتقين يأكل معي. فجاء جاء فدق الباب، فخرجت إليه، فإذا هو علي بن أبي طالب. قال: فرجعت فقلت: هذا علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا وأهلا فقد عنيتك مرتين حتى أبطأت علي، فسألت الله عز وجل أن يأتي بك، إجلس فكل معي (1). فهذا الحديث صريح في أن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ناشئا عن الميل النفساني، بل إن دعائه بحضور أمير المؤمنين عليه السلام عنده وأكله معه كان لأجل كونه عليه السلام أمير المؤمنين وسيد المسلمين وإمام المتقين هذه الأوصاف التي يكفي الواحد منها للإمامة والخلافة من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل. فلو سلم كون الأحبية في حديث الطير مقيدة بالأكل مع النبي، فلا ريب في أن السبب في هذه الأحبية هي الأحبية الحقيقية العامة والأفضلية المطلقة التامة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام. فإنكار دلالة حديث الطير، ودعوى دلالته على مجرد الأحبية في الأكل - أو تأويله بغير هذا التأويل مما ذكره (الدهلوي) - لا يسقط الحديث عن الصلاحية للاستدلال به للإمامة والخلافة بلا فصل لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

(هامش)

(1) مناقب أمير المؤمنين عليه السلام لابن مردويه - مخطوط. (*)

ص 300

قوله: ولو كان المراد الأحبية مطلقا فلا دلالة للحديث على المدعى. أقول: أما أن المراد هو الأحبية المطلقة فقد بينا ثبوته بما لا مزيد عليه. وأما أن هذه الأحبية لا تفيد المدعى فتفوه (الدهلوي) به بعيد، لما أثبتنا بما لا مزيد عليه كذلك من دلالة الأحبية على الأفضلية، وأن الأفضلية توجب الإمامة والرئاسة والخلافة... وقد كان عمر بن الخطاب نفسه يرى ذلك، فإنكار استلزام الأحبية للأفضلية الدالة على الإمامة تكذيب لخليفتهم أيضا. قوله: وأي دليل على أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامة؟ أقول: هلا ألقى (الدهلوي) نظرة في إفادات والده التي نص فيها على الملازمة بين الأحبية والإمامة؟ لكن لا عجب... لأن الانهماك في الباطل والسعي في إبطال الحق قد يؤدي إلى ذلك... وإلا فإن (الدهلوي) متبع لوالده في عقائده وأفكاره، وسائر على نهجه في أخذه ورده... بل، إن هذا الذي قاله تكذيب لجده الأعلى، وإبطال لاستدلاله يوم السقيفة على أولوية أبي بكر بالخلافة... وعلى كل حال، فقد ثبت - والحمد لله - وجوب الرئاسة العامة والإمامة الكبرى لأحب الخلق إلى الله، وأن العاقل المنصف لا يجوز أن يتقدم غير

ص 301

الأحب إلى الله ورسوله على الأحب إليهما في شأن من الشؤون فضلا عن الإمامة والرئاسة العامة، لا سيما إذا كان ذلك الغير غير محبوب عند الله والرسول أصلا!! قوله: فما أكثر الأولياء الكبار والأنبياء العظام الذين كانوا أحب الخلق إلى الله ولم يكونوا أصحاب الرئاسة العامة. أقول: على (الدهلوي) إثبات الأمرين المذكورين. وهما: أولا: إن كثيرا من الأولياء الكبار كانوا أحب الخلق إلى الله. وثانيا: إن هؤلاء لم يكونوا أصحاب الرئاسة العامة. لكنه لم يذكر شاهدا واحدا لما ادعاه فضلا عن جمع منهم، فضلا عن كثير منهم، فضلا عن إثبات الأحبية لهم ونفي الرئاسة عنهم، بدليل قابل للاصغاء وبرهان صالح للاعتناء... إن مرادهم - غالبا - من الأولياء هم الصوفية الذين يدعون لهم المقامات المعنوية العالية، وبطلان دعوى أحبية هؤلاء من البديهيات الأولية... إذ ليس مع وجود الأئمة المعصومين - عليهم السلام - أحب الخلق إلى الله ورسوله كائنا من كان... وأهل السنة لا يقدمون أحدا - غير الثلاثة - على الأئمة المعصومين، فالقول بوجود أولياء غير الأئمة المعصومين هم أحب الخلق إلى الله ولا يكونون أصحاب الرئاسة العامة من أفحش الأقاويل الباطلة، وأوحش الأكاذيب الفاضحة.

ص 302

قوله: مثل سيدنا زكريا وسيدنا يحيى. أقول: إن (الدهلوي) بعد أن نفى الرئاسة العامة عن كثير من الأنبياء العظام ذكر زكريا ويحيى، وغرضه من ذلك أنهما مع كونهما أحب الخلق إلى الله لم تكن لهما الرئاسة العامة. لكن نفي الرئاسة العامة عن هذين النبيين العظيمين كذب، لأنه مع ثبوت النبوة لا ريب في ثبوت الرئاسة العامة، بل نفي الرئاسة نفي للنبوة، لأن معنى النبوة أن يختار الله رجلا معصوما وينصبه لهداية الخلق ويفرض عليهم طاعته في جميع أمور الدين والدنيا، وهذه هي الرئاسة العامة... وهذا ما نص عليه ولي الله والد (الدهلوي) أيضا في غير موضع من كتابه (إزالة الخفا عن سيرة الخلفا). والحاصل: إنه بعد ثبوت النبوة لزكريا ويحيى والرئاسة العامة ثابتة لهما، وإنكارها إنكار للنبوة، وهو كفر. قوله: بل شموئيل الذي كانت الرئاسة العامة في زمانه بالنص الإلهي لطالوت. أقول: هذا تخديع وتضليل، أما أولا: فإن ثبوت الرئاسة العامة لطالوت غير متفق عليه بين أهل السنة. وأما ثانيا: فإنه - على تقدير عموم الرئاسة - لم يكن باستقلاله كذلك، بل صريح المحققين منهم أن طالوت كان حاكما في بني

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الرابع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب