نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الرابع عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الرابع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 303

إسرائيل نيابة عن شموئيل... وممن نص عليه والد (الدهلوي) في (إزالة الخفاء). إذن، لم يثبت انفكاك الرئاسة عن النبوة. والحمد لله رب العالمين.

ص 305

بقية كلام الدهلوي

 إحتمالان مردودان

ص 307

1 إبطال احتمال عدم حضور أبي بكر في المدينة قوله: وأيضا: يحتمل عدم حضور أبي بكر في المدينة المنورة. أقول: هذا مردود بوجوه: 1 - لا أثر لحضوره وعدم حضوره في المدينة إنه لا يخفى على الممعن المنصف أن لا أثر لحضور أبي بكر وعدم حضوره في المدينة المنورة يوم قصة الطير... في استدلال الإمامية بالحديث، ولا علاقة لذلك بوجه من الوجوه في الاحتجاج به... لأن محط الاستدلال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أحب الخلق إليك وإلي ، وهذه الجملة صريحة الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام أحب إلى الله والرسول من جميع الحاضرين والغائبين والسابقين واللاحقين، ومن كل من يدخل تحت عنوان

ص 308

الخلق ويشمله هذا اللفظ. وغياب أبي بكر لا يستلزم خروجه عن الخلق وولوجه في غير المخلوقات. نعم لو كان أبو بكر غائبا وكذا عمر وعثمان وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ائتني بأحب من حضر الآن وفي المدينة إليك وإلي أو نحوه... لكان لما احتمله (الدهلوي) وجه. وعلى الجملة، إنه لا يكفي إخراج أبي بكر عن المدينة، بل لا بد من إخراجه - بل الثاني والثالث أيضا - عن الخلق ثم التعرض للاستدلال بالقدح والإشكال... 2 - قول عائشة: اللهم اجعله أبي. وكذا حفصة. إن ما أخرجه أبو يعلى في (المسند) دليل قاطع على سقوط هذا الإحتمال الذي أبداه (الدهلوي) تبعا للكابلي... وذلك لأن في الحديث المذكور: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام. فقالت عائشة: اللهم اجعله أبي. وقالت حفصة: اللهم اجعله أبي... قال أنس: فقلت أنا: اللهم اجعله سعد بن عبادة... . فلو كان الأول والثاني في خارج المدينة المنورة ساعة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن دعائه كان مختصا بالحاضرين في المدينة، فما معنى قول عائشة وحفصة: اللهم اجعله أبي؟ وهلا يكون دعاء بلا طائل وكلاما بدون حاصل؟ لقد حاول الكابلي و(الدهلوي) بإبداع هذا الإحتمال حفظ شأن الشيخين، ولكن لازمه الإزراء والتهجين لأمهما المكرمتين!!

ص 309

3 - كان الشيخان حاضرين للحديث الصحيح وكأن (الدهلوي) قد أقسم على تقليد الكابلي وإن خالف ما قالته الأحاديث الصحيحة الواردة في كتب قومه... لقد احتمل في هذا المقام رجما بالغيب غياب أبي بكر عن المدينة المنورة من دون أن ينظر في أحاديث وأخبار القصة... لقد سمعت - فيما تقدم - رواية أبي يعلى المشتملة على مجئ الشيخين، وهذا نصها مرة أخرى: حدثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع - ثقة -، ثنا عيسى بن عمر، عن إسماعيل السدي، عن أنس بن مالك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده طائر فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك يأكل معي من هذا الطير. فجاء أبو بكر فرده، ثم جاء عمر فرده، ثم جاء عثمان فرده، ثم جاء علي فأذن له (1). ورواه النسائي بقوله: أخبرني زكريا بن يحيى قال: ثنا الحسن بن حماد قال: ثنا مسهر بن عبد الملك، ثنا عيسى بن عمر، عن السدي، عن أنس بن مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده طائر فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر. فجاء أبو بكر فرده ثم جاء عمر فرده ثم جاء علي فأذن له (2). فإذا لم يكن هذا الحديث - وبهذا اللفظ - دليلا على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام، فما هو مدلوله يا منصفون؟ فلقد كان أمير المؤمنين عليه السلام هو المصداق الوحيد ل‍ أحب الخلق وأنه الذي أذن له النبي بالدخول والأكل معه، وأما غيره فقد رد... فأي قصور في دلالة هذا الحديث

(هامش)

(1) مسند أبي يعلى 7 / 105 رقم: 1297 باختلاف يسير. (2) خصائص علي 29 / 10. (*)

ص 310

الصحيح على مطلوب الإمامية، يا منصفون؟!... وعلى كل حال، فقد سقط هذا الإحتمال الذي أبداه (الدهلوي) للقدح في الاستدلال بحديث الطير... من حديث صحيح أخرجه الحافظ أبو يعلى في (مسنده) والحافظ النسائي في (الخصائص) الذي ذكره له (الدهلوي) في (أصول الحديث) وفي (التحفة) في الكتب المصنفة من قبل علماء أهل السنة في مناقب أهل البيت عليهم السلام... لكن لا ندري هل كان حين إبداع هذا الإحتمال على علم بوجود الحديث المذكور في (الخصائص) أو لا؟ إنه - وإن كان الإحتمال الثاني هو الأقوى بالنظر إلى القرائن العديدة - فللأول أيضا مجال، لأنه - مضافا إلى وجود النظائر العديدة للمقام حيث وجدناه ينكر شيئا عن علم وعمد - أجاب عن سؤال وجه إليه حول حديث الطير في (الخصائص) بالطعن في راويه - وهو السدي - لا بإنكار وجوده في الكتاب المذكور. 4 - هل كانوا خارجين في جميع وقائع قضية الطير؟ لو سلمنا ترتب أثر على هذا التأويل، فإنما يترتب في حال احتمال خروج أبي بكر وعمر وعثمان كلهم لا الأول وحده من المدينة المنورة، في جميع وقائع حديث الطير، لثبوت تعدد القضية وتكررها، ومن العجيب جدا خروجهم كذلك ولم يذكره أحد من أصحاب السير، مع شدة اعتنائهم بضبط الأحوال خاصة أحوال الثلاثة، وعدم نقلهم هكذا خبر دليل على عدم وقوعه. كما قال ابن تيمية في (منهاجه) في نظائر المقام. لقد ادعى الكابلي خروج الثلاثة جميعا حيث قال: ويحتمل أن يكون الخلفاء غير حاضرين في المدينة، والكلام يشمل الحاضرين فيها دون غيرهم، ودود إثبات حضورهم خرط القتاد ، لكن (الدهلوي) استبعد هذا الاحتمال فاستحيى من ذكره واكتفى باحتمال خروج أبي بكر فقط.

ص 311

وبما أن الكابلي يعترف بأن الكلام يشمل الحاضرين في المدينة، وقد عرفت حضور الشيخين بل الثلاثة كلهم بالدلائل القاطعة، فالكلام شامل لهم، فأمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى الله والرسول منهم. والحمد لله على ذلك حمدا كثيرا. ولا يخفى اضطراب القوم وتناقضهم في مسألة خروج الشيخين من المدينة المنورة، فإذا اعترض على الشيخين وطعن فيهما بعدم تأمير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهما في بعثة أو سرية وعدم إرساله إياهما في أمر من الأمور - كما كان يفعل مع غيرهما من صحابته - قالوا بضرورة وجودهما عند النبي في المدينة، لكونهما وزيرين له، يشاورهما في أموره وجميع شؤونه، فلم يكن له غنى عنهما حتى يرسلهما في عمل، ومن هنا وضعوا على لسانه صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا المعنى. أما إذا قيل لهم: إن حديث الطير وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يدل على أفضلية علي عليه السلام منهما، قالوا: لعلهما لم يكونا حاضرين في المدينة حينذاك!! قوله: وكان الدعاء خاصا بالحاضرين لا الغائبين. أقول: إن (الدهلوي) بعد أن ذكر احتمال عدم حضور أبي بكر في المدينة المنورة لدى دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ادعى اختصاص هذا الدعاء بالحاضرين، ولكن الدليل الذي أقامه على هذه الدعوى - وهو: عدم جواز خرق العادة على الأنبياء إلا في حال التحدي مع الكفار - باطل جدا ومعارض بما ستعلم.

ص 312

وأيضا: فإن أحدا لم يدع اختصاص دعاء النبي في قصة الطير بالغائبين، بل ليس هذا الإحتمال مما يلتفت إليه أحد من العقلاء، سواء من الشيعة أو غيرهم... فنفي (الدهلوي) احتمال اختصاصه بالغائبين لم يكن مناسبا لشأنه المزعوم في البلاغة والرصانة في البيان، فاستبصر ولا تكن من الغافلين. نعم لو كانت عبارته: وكان الدعاء خاصا بالحاضرين ولا يعم الغائبين، لم يرد عليه هذا الإعتراض. قوله: بدليل أنه قال: اللهم ائتني... أقول: لو قال بدليل ائتني لكانت عبارته أخصر وأمتن كما لا يخفى على من له ذوق سليم، وهذا التطويل غريب ممن يدعي التمييز والفهم المستقيم، ويرمي كلمات علي عليه السلام بما ينبو عنه الأسماع لوهمه السقيم. قوله: لأن إحضار الغائب من المسافة البعيدة عن طريق خرق العادة في تلك اللمحة الواحدة التي كانت مجلس الأكل والشرب أمر متصور. أقول: كون مطلوبه صلى الله عليه وآله وسلم حضور من طلب إتيانه في لمحة واحدة لا دليل عليه في شيء من ألفاظ حديث قضية الطير، فمن أين جاء (الدهلوي) بهذا؟ وأيضا: إذا كان التخصيص باللمحة الواحدة مستفادا من الحديث عنده

ص 313

فلماذا تجشم مؤنة إيجاد احتمال غيبة أبي بكر عن المدينة المنورة؟ هلا اكتفى باحتمال بعد أبي بكر عن مجلس الأكل بمسافة لا يكون حضوره متصورا في لمحة واحدة من دون خرق العادة؟ قوله: والأنبياء لا يطلبون خرق العادة من الله تعالى إلا عند التحدي مع الكفار. أقول: إن (الدهلوي) يدعي هذا المطلب لكونه في مقام التحدي مع الإمامية، وإلا فكيف ينسى الكرامات العجيبة الغريبة التي يدعونها لأئمتهم في التصوف ولا شيء منها في مقام التحدي مطلقا؟ فإذا جاز هذا لمشائخ الصوفية فما المانع عنه بالنسبة للأنبياء؟! بل لقد أجاز ابن تيمية صدور خوارق العادة من آحاد الناس، في جوابه عن كرامة لأمير المؤمنين عليه السلام أوردها العلامة الحلي رحمه الله، قال ابن تيمية: روى جماعة أهل السير بأن عليا كان يخطب على منبر الكوفة، فظهر ثعبان فرقى المنبر، وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم، فخاطبه ثم نزل، فسأل الناس عنه فقال: إنه حاكم الجن، التبست عليه قضية فأوضحتها له. وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل فيه باب الثعبان. فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة، فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة طويلة حتى سمي باب القتلى. والجواب: إنه لا ريب أن من دون علي بكثير يحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله، وهذا معلوم قديما وحديثا. فإن كان هذا قد وقع فقدره أجل من ذلك، وهذا من أدنى فضائل من هو دون علي. وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك، وإنما من باشر أهل الخير والذين لهم أعظم من هذه الخوارق، أو رأى

ص 314

من نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق، لم تكن هذه مما توجب أن يفضل بها عليا، ونحن لو ذكرنا ما باشرناه من هذا الجنس مما هو أعظم من ذلك لذكرنا شيئا كثيرا، ونحن نعلم أن من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منا بكثير، فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجة على فضيلة علي على الواحد منا، فضلا عن أبي بكر وعمر؟ ولكن الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به، فهم لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد، والجائع للكسرة من الخبز. والرافضة لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء، فإذا سمعوا مثل هذا على علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق، وليس الأمر كذلك. بل هذه الخوارق المذكورة وما هو أعظم منها يكون لخلق كثير من أمة محمد المعترفين بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا خير منهم، الذين يتولون الجميع ويحبونهم ويقدمون من قدم الله ورسوله، لا سيما الذين يعرفون قدر الصديق ويقدمونه، فإنه أخص هذه الأمة بولاية الله وتقواه، واللبيب يعرف ذلك بطرق، إما أن يطالع الكتب المصنفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء، مثل كتاب ابن أبي الدنيا، وكتاب الخلال، وكتاب اللالكائي، وغيرهم. ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين مثل: كتاب الحلية لأبي نعيم، وصفوة الصفوة، وغير ذلك. وإما أن يكون قد باشر من رأى منه ذلك. وإما أن يخبره بذلك من هو عنده صادق، فما زال الناس في كل عصر يقع لهم من ذلك شيء كثير، ويحكي ذلك بعضهم لبعض، وهذا كثير في كثير من المسلمين. وإما أن يكون نفسه وقع له بعض ذلك. وهذه جيوش أبي بكر وعمر ورعيتهما، لهم من ذلك ما هو أعظم من ذلك، مثل: العلاء بن الحضرمي وعبوره على الماء كما تقدم ذكره، فإن هذا

ص 315

أعظم من نضوب الماء، ومثل: استسقائه وتغييب قبره، ومثل: النفر الذين كلمهم البقر وكانوا جيش سعد بن أبي وقاص في وقعة القادسية، ومثل: نداء عمر: يا سارية الجبل - وهو بالمدينة وسارية بنهاوند - ومثل: شرب خالد بن الوليد السم، ومثل: إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار فصارت عليه بردا وسلاما لما ألقاه فيها الأسود العنسي المتنبي الكذاب، وكان قد استولى على اليمن، فلما امتنع أبو مسلم من الإيمان به ألقاه في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، فخرج منها يمسح جبينه، وغير ذلك مما يطول وصفه (1). قوله: وإلا لم يقوموا بحرب وقتال وتجهيز للأسباب الظاهرية، وتوصلوا إلى مقاصدهم بخرق العادة. أقول: كأن (الدهلوي) لم يفهم أن الإيجاب الجزئي لا ينافي السلب الكلي، فأخذ الأنبياء عليهم السلام في بعض الأحيان بالأسباب الظاهرية لا يستلزم أن يكونوا دائما كذلك، وأنه إذا لم يطلبوا من الله سبحانه إجراء المعجزة على أيديهم وخرق العادات، فإنه لا يستلزم عدم جواز طلبهم ذلك منه بالكلية... إن الحرب والقتال والتوسل بالأسباب الظاهرية، كل ذلك لا يدل بإحدى الدلالات الثلاث على عدم جواز طلبهم من الله بغير تحد خرق العادة... إن الأنبياء يتبعون في أفعالهم وتروكهم المصالح التي شائها الله سبحانه لهم، يمتثلون ما يأمرهم به، وبأمره يعملون... وإن كانوا لو أرادوا شيئا من الله

(هامش)

(1) منهاج السنة 4 / 196. (*)

ص 316

أعطاهم ولو طلبوا منه إظهار المعجزة على أيديهم أجابهم، سواء حال تحدي أهل الكفر والضلالات وعدمه... * * *

ص 317

2 إبطال احتمال كون المراد: بمن هو من أحب الناس قوله: ويحتمل أن يكون المراد بمن هو من أحب الناس إليك. أقول: 1 - هو باطل بالوجوه المبطلة للتأويل الأول إن البراهين الدامغة والحجج الساطعة التي أقمناها على أن أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى الله ورسوله مطلقا، من الأحاديث النبوية، ومن تصريحات الصحابة، ومن إفادات العلماء... لا تدع مجالا لأي تأويل في حديث الطير، ولا حاجة - بالنظر إليها - إلى دفع هذا التأويل أو غيره بوجه أو وجوه أخرى... لا سيما هذا التأويل الذي يبطله كثير من تلك البراهين... فلاحظ. 2 - هو منقوض باستدلالهم بقوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى)*. ومع ذلك ينبغي أن نذكر جوابا نقضيا واحدا، وآخر حليا... عن هذا الاحتمال الواضح الاختلال... أما الجواب النقضي فهو: إن علماء أهل السنة يزعمون نزول الآية: *(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي

ص 318

ماله يتزكى)*(1) في أبي بكر. ويدعون أن وصف أبي بكر فيها ب‍ الأتقى تصريح بأنه أتقى من سائر الأمة... قال ابن حجر المكي في الآيات الدالة بزعمه على فضل أبي بكر: أما الآيات، فالأولى قوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى)* قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر. ففيها التصريح بأنه أتقى من سائر الأمة، والأتقى هو الأكرم عند الله لقوله تعالى: *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)* والأكرم عند الله هو الأفضل، فينتج أنه أفضل من بقية الأمة (2). فنقول: إذا كان لفظ الأتقى في هذه الآية تصريحا بأن من نزلت فيه أتقى من سائر الأمة فلا ريب في كون لفظ أحب في حديث الطير تصريحا بأن أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق إلى الله ورسوله من سائر الأمة ... فتأويل الحديث بتقدير من فاسد... وكيف يكون لفظ الأتقى نصا صريحا في كون أبي بكر أتقى الأمة عندهم، ولا يكون لفظ أحب الخلق نصا صريحا في كون أمير المؤمنين عليه السلام أحب الخلق من الشيخين وغيرهم إلى الله ورسوله؟! مع أن حديث الطير معتضد بأحاديث أخرى رووها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صريحة الدلالة على أحبية أمير المؤمنين عليه السلام. أليس لفظ الأتقى ولفظ الأحب كلاهما من صيغة أفعل التفضيل؟ فهل من فارق إلا التعصب والعناد؟! نعم بينهما فرق من جهة أن لفظ أحب في الحديث مضاف إلى

(هامش)

(1) سورة الليل: 17 - 18. (2) الصواعق المحرقة: 98. (*)

ص 319

الخلق فيكون دلالته أصرح من دلالة الأتقى فيما يزعمون... فهل هذه الزيادة في الصراحة هي المانعة عن الدلالة على الأحبية من جميع الخلق؟! 3 - هو غير مانع من دلالة الحديث على أحبية علي من الشيخين وأما الجواب الحلي فهو: إن الغرض من هذا التأويل ليس إلا منع دلالة حديث الطير على أحبية أمير المؤمنين عليه السلام من الشيخين، فيكون عليه السلام من أحب الخلق إلى الله ورسوله، لا الأحب مطلقا ليلزم كونه أحب منهما، ولكن دلالة الحديث على أحبيته عليه السلام منهما ثابتة حتى على هذا التأويل، وذلك... لأن النسائي وأبا يعلى رويا الحديث وفيه: فجاء أبو بكر فرده، ثم جاء عمر فرده، ثم جاء علي فأذن له . فظهر أن الشيخين لم يكونا أحب إلى الله ورسوله حتى من بعض الخلق ... فيكون هذا التأويل مستوجبا لمزيد الحط من شأنهما وقدرهما، إذن، بناء على تقدير من أيضا يكون الحديث دالا على أنه هو الأحب إلى الله ورسوله وأن الشيخين ليسا الأحب إليهما. لكن (الدهلوي) ومن قبله الكابلي... لم يفهما ما يستلزمه كلامهما وما ينتهي إليه مرامهما!! وعلى كل حال، فإن هذا التأويل لا يضر باستدلال الشيعة بحديث الطير على كون أمير المؤمنين عليه السلام أحب وأفضل من الشيخين ومن سائر الخلق أجمعين... هذه الأحبية المطلقة الثابتة له من أحاديث العترة الطاهرة والأحاديث التي رواها أهل السنة - المتقدم بعضها - الآبية عن كل تأويل، واللازم هو الأخذ بها - وبحديث الطير - على المعنى الذي هي صريحة فيه... والحمد لله رب العالمين. وأما دعوى نزول قوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى...)* في أبي بكر فقد

ص 320

أثبت علماء الشيعة بطلانها بما لا مزيد عليه. فراجع (1). قوله: وهذا استعمال رائج ومعروف، كما في قولهم: فلان أعقل الناس وأفضلهم. أقول: نعم... التسويل في هؤلاء القوم رائج... إنهم يحاولون صرف أدلة

(هامش)

(1) قد استدلوا بالآية الكريمة على أفضلية أبي بكر، في أغلب كتبهم في التفسير كتفسير الرازي والكلام كالمواقف وشرحها، وشرح المقاصد، ووجه الاستدلال ما ذكرناه، وقد أبطلناه في كتابنا (الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية) في (الطرائف على شرح المواقف) و(المراصد على شرح المقاصد) بأن الاستدلال موقوف على نزول الآية في أبي بكر وصحة الخبر في ذلك، وهذا أول الكلام، لأن: 1 - هذا الخبر مما تفردوا بنقله، فلا يكون حجة في مقام الاستدلال والاحتجاج. 2 - نزول الآية في حق أبي بكر غير متفق عليه بينهم، ولذا نسب القول به في (شرح المواقف) إلى أكثر المفسرين. 3 - من المفسرين من حمل الآية على العموم، ومنهم من قال بنزولها في قصة أبي الدحداح وصاحب النخلة، كما في (الدر المنثور 6 / 358). 4 - خبر نزولها في أبي بكر إنما يرويه آل الزبير، وانحراف هؤلاء عن علي عليه السلام مشهور، فلا يكون قولهم حجة. 5 - سند الرواية غير معتبر. قال الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد 9 / 50): وعن عبد الله الزبير قال: نزلت في أبي بكر الصديق: *(وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى)*. رواه الطبراني وفيه: مصعب بن ثابت، وفيه ضعف . قلت: وهو من آل الزبير، فهو: مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: أراه ضعيف الحديث، لم أر الناس يحمدون حديثه، وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وقال ابن حبان: انفرد بالمناكير عن المشاهير فلما كثر ذلك فيه استحق مجانبة حديثه، وقال ابن سعد: يستضعف، وقال الدارقطني: ليس بالقوي: (تهذيب التهذيب 10 / 144). (*)

ص 321

مناقب أمير المؤمنين عليه السلام عن دلالتها بالتأويلات العليلة، فهم كقول القائل: - وفي تعب من يحسد الشمس نورها * ويجهد أن يأتي لها بضريب - فهل من متكلم عربي أديب يقول: فلان أعقل الناس وأفضلهم وهو يريد فلان من أعقل الناس وأفضلهم ؟ سلمنا فما الدليل على حجية هكذا قول؟ سلمنا فما الملازمة بين صحة هكذا كلام وتمامية التأويل المذكور فيه، وبين مجئ نفس التأويل في حديث الطير؟ والحمد لله رب الذي وفقنا لبيان ركاكة هذه التأويلات وسخافتها... فلننظر فيما قاله غير (الدهلوي) في هذا الباب... * * *

ص 323

دحض تقولات بعض علماء الحديث

ص 325

التوربشتي

 قال الشيخ فضل الله التوربشتي - شارح مصابيح السنة - بشرح حديث الطير: ومنه حديث أنس رضي الله عنه قال: كان عند النبي عليه السلام طير. الحديث. قلت: نحن وإن كنا لا نجهل - بحمد الله - فضل علي رضي الله عنه وقدمه وبلاءه وسوابقه واختصاصه برسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرابة القريبة ومؤاخاته إياه في الدين، ونتمسك من حبه بأقوى وأولى مما يدعيه الغالون فيه، فلسنا نرى أن نضرب عن تقرير أمثال هذه الأحاديث في نصابها صفحا، لما نخشى فيها من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، وهذا باب أمرنا بمحافظته وحمى أمرنا بالذب عنه، فحقيق علينا أن ننصر فيه الحق ونقدم فيه الصدق. وهذا حديث يريش به المبتدع سهامه ويوصل به المنتحل جناحه، فيتخذه ذريعة إلى الطعن في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، التي هي أول حكم أجمع عليه المسلمون في هذه الأمة، وأقوم عماد أقيم به الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول - وبالله التوفيق -: هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريته، من

ص 326

الأخبار الصحاح منضما إليها إجماع الصحابة، لمكان سنده، فإن فيه لأهل النقل مقالا، ولا يجوز حمل أمثاله على ما يخالف الإجماع، لا سيما والصحابي الذي يرويه ممن دخل في هذا الإجماع، واستقام عليه مدة عمره، ولم ينقل عنه خلافه، فلو ثبت عنه هذا الحديث فالسبيل أن يأول على وجه لا ينقض عليه ما اعتقده ولا يخالف ما هو أصح منه متنا وإسنادا، وهو أن يقال: يحمل قوله بأحب خلقك على أن المراد منه: ائتني بمن هو من أحب خلقك إليك، فيشاركه فيه غيره، وهم المفضلون بإجماع الأمة، وهذا مثل قولهم: فلان أعقل الناس وأفضلهم. أي: من أعقلهم وأفضلهم. ومما يبين لك أن حمله على العموم غير جائز هو أن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون علي أحب إلى الله منه. فإن قيل ذاك شيء عرف بأصل الشرع. قلت: والذي نحن فيه عرف أيضا بالنصوص الصحيحة وإجماع الأمة. فيأول هذا الحديث على الوجه الذي ذكرناه. أو على أنه أراد به: أحب خلقه إليه من بني عمه وذويه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق القول وهو يريد تقييده، ويعم به وهو يريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه (1). أقول: 1 - في كلامه اعتراف بدلالة حديث الطير تفيد عبارة التوربشتي بوضوح دلالة حديث الطير على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام وبطلان تقدم المتغلبين عليه، إنه يصرح بصلاحية هذا الحديث لأن يتخذ ذريعة إلى الطعن في خلافة أبي بكر... لكن لما كانت

(هامش)

(1) شرح المصابيح - مخطوط. (*)

ص 327

خلافته إجماعية - بزعمه - فلا مناص من الطعن في سند حديث الطير أو تأويله... 2 - بطلان دعوى أن في سنده مقالا لكن دعوى إن في سنده مقالا لأهل النقل فلا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر... باطلة... فقد أثبتنا - بحمد الله - تواتر حديث الطير وقطعية صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأيت طرقه العديدة الصحيحة، وتصريحات أكابر أعلام القوم بصحته... بقطع النظر عن تواتره... فلو كان بعد ذلك لأحد مقال في سنده فهو مردود عليه. 3 - بطلان دعوى المعارضة ومن العجيب: أن هذا المحدث المتبحر لم يفهم أن أخبار أهل السنة - وإن بلغت عندهم في الصحة أعلى درجاتها - لا تكون حجة على الآخرين، فقوله: هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريته من الأخبار الصحاح ساقط في الغاية. 4 - بطلان دعوى الإجماع على خلافة أبي بكر وأيضا يريد هذا المحدث رد حديث الطير لمخالفته للاجماع المزعوم على خلافة أبي بكر... لكن أين الإجماع على ذلك؟ لقد ثبت وهن التمسك بهذا الإجماع في كتب الإمامية من المتقدمين والمتأخرين مثل (تشييد المطاعن) وغيره، بما لا مزيد عليه... والمؤمن لا يجوز رفع اليد عن حديث صادر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقطع واليقين بهكذا دعوى لا أساس لها من الصحة أصلا...

ص 328

5 - بطلان قوله: إن الصحابي الذي يرويه ممن دخل في الإجماع وأما دعوى أن الصحابي الذي يرويه ممن دخل في هذا الإجماع واستقام عليه مدة عمره ولم ينقل عنه خلافه فمردودة، لأن رواية هذا الحديث غير منحصرة في أنس بن مالك كي يكون لهذه الدعوى حظ من الواقعية، بل لقد ثبت أن غير أنس من الصحابة كسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، وابن عباس، وأبي الطفيل، وغيرهم، يروون حديث الطير. ومن المعلوم أن دخول أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس في الإجماع المزعوم في حيز المنع والامتناع، وعدم نقل الخلاف عنهما باطل محض، بل الدلائل على إبطال أمير المؤمنين عليه السلام - وكذا ابن عباس وسائر بني هاشم بل غيرهم - خلافة أبي بكر لا تحصى... وفي كتاب (المعارف) إن أبا الطفيل كان من غلاة الروافض (1) فكيف يقال بأنه ممن دخل في الإجماع المدعى واستقام عليه مدة عمره ولم ينقل عنه خلافه؟ على أن سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام استدل - فيما استدل في الشورى - بحديث الطير على أحقيته بالخلافة، وقد سلم القوم جميعا كلامه... وقد جاء في حديث احتجاجه على القوم بفضائله قوله لهم: بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع أبو بكر لعمر وأنا والله أولى منه بالأمر منه، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان! إذا لا أسمع ولا أطيع، إن عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لي فضل في الصلاح ولا يعرفونه لي كما نحن فيه شرع سواء، وأيم الله لو أشاء أن أتكلم ثم لا يستطيع عربيهم

(هامش)

(1) كتاب المعارف: 624. (*)

ص 329

ولا عجميهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك رد خصلة منها . ولو سلمنا ما ذكره من دخول رواة حديث الطير من الصحابة في الإجماع وعدم نقل خلاف عنهم... فأي ضرورة لتوجيه هذا الحديث على وجه لا ينافي اعتقادهم بخلافة أبي بكر؟ إنه كثيرا ما يتفق اعتراف الشخص بالحق وهو لا يعتقده، وذاك مصداق قوله عليه السلام: الحق يعلو ولا يعلى عليه . 6 - صرف ألفاظ الشارع عن ظاهرها حرام ثم إن التأويل كيفما كان، ومن أي أحد كان، بلا مجوز، غير جائز... وهذا شيء نص عليه كبار العلماء وأرسلوه إرسال المسلمات... قال المناوي بشرح حديث: إتقوا الحديث عني إلا بما علمتم : قال الغزالي: ومن الطامات: صرف ألفاظ الشارع عن ظاهرها إلى أمور لم تسبق منها إلى الإفهام كدأب الباطنية، فإن الصرف عن مقتضى ظواهرها من غير اعتصام فيه بالنقل عن الشارع، وبغير ضرورة تدعو إليه من دليل عقلي، حرام (1). ولا ريب في أن ما فعله التوربشتي في حديث الطير من أظهر مصاديق هذا الموضوع المتوجه إليه هذا الحكم. 7 - دعوى أن ما دل على تقديم أبي بكر أصح متنا وإسنادا باطلة وأما دعوى أن حديث الطير يخالف ما هو أصح متنا وإسنادا فباطلة: أما أولا: فلأن الفضائل الموضوعة والمناقب المصنوعة موهونة على أصولهم، كما فصل في كتاب (شوارق النصوص). وأما ثانيا: فلأن تلك الأحاديث حتى لو صحت عند أهل السنة فليست بحجة على خصومهم.

(هامش)

(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1 / 132. (*)

ص 330

8 - سخافة التأويل بتقدير من وأما ما ذكره من تقدير من وحمل أحب الخلق على من أحب الخلق فسخيف في الغاية، وقد عرفت ذلك في جواب كلام (الدهلوي). مضافا إلى أنه - بناء على هذا التأويل - يكون كل من المشايخ الثلاثة المفضلين على غيرهم بإجماع الأمة - كما زعم - داخلا في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، و من أحب الخلق إلى الله ، فلماذا جعل الله سبحانه عليا عليه السلام مصداق الدعاء ومن طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجيئه إليه، ولم يجعله أحد الثلاثة المفضل كل منهم عليه عليه السلام كما زعم؟! وأيضا، لو كان كذلك لم يكن من المناسب أن يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشايخ الثلاثة بعد مجئ الواحد منهم تلو الآخر كما ثبت من رواية أبي يعلى، إلا أن يقال بأن الله تعالى أجاب دعوة النبي وأتاه بأحب الخلق إليه لكنه صلى الله عليه وآله وسلم ردهم خلافا لمرضاة ربه!! ولكن هذا مما يهدم أركان الإيمان، وإن لا يبعد إلتزامهم به! ألا ترى (الدهلوي) - في مقام الجواب عن مطعن حديث القرطاس - ينكر إن تكون جميع أقوال النبي وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم مطابقة للوحي الإلهي؟!! لكن الإصرار على هذا التأويل العليل - والالتزام بهذا اللازم الفاسد الشنيع - ينجر إلى سقوط عمدة أدلتهم عن الاستدلال، وهو تمسكهم بقوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى)* على أفضلية أبي بكر. وقد بينا وجه ذلك... فهل يبقون على إصرارهم؟! 9 - وجوه الرد على طعنه في العموم باستلزامه دخول النبي وأما قوله: ومما يبين لك أن حمله على العموم غير جائز هو: أن

ص 331

النبي... فمن أعاجيب الهفوات... وقد كنا نظن أن صدور هذا وأمثاله من المتسننين المتأخرين من قلة ممارستهم لكلام العرب وقصر باعهم في فنون الأدب، لكن صدوره من مثل التوربشتي يبين لك أن الباعث على هذا ونحوه هو التعصب الأعمى للباطل والسقوط في دركات الهوى... وكيف كان، فإن الجواب عما ذكره من وجوه: الوجه الأول: إن أحبية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله من أمير المؤمنين عليه السلام أمر ثابت في أصل الشرع بالأدلة القطعية، وعليه الإجماع من الشيعة الإمامية والمخالفين لهم قاطبة، فمن الضروري رفع اليد عن عموم حديث الطير كيلا يشمل نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذ ليس لتخصيص غيره صلى الله عليه وآله وسلم دليل فالحديث بالنسبة إلى من عدا النبي باق على عمومه. وتمسك التوربشتي للتخصيص الزائد بالنصوص الصحيحة وإجماع الأمة فباطل. أما بالنظر إلى النصوص الصحيحة فلا نص صحيح على أحبية أبي بكر وعمر وعثمان - الذين زعم أفضليتهم بإجماع الأمة - إلى الله وما يرويه أرباب الكذب والإفتراء في باب أحبية الشيخين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنما هو كذب مفتعل، مضافا إلى أن أحدا من أرباب الكذب لم يرو في باب أحبية عثمان إليه حديثا ولو مفترى عليه. وأما بالنظر إلى إجماع الأمة فدعوى قيامها على أحبية أولئك فمن أعاجيب الأكاذيب، لوضوح أن الإمامية الاثني عشرية بل جمهور الشيعة ينفون أصل المحبوبية عنهم فضلا عن الأحبية، فأين إجماع الأمة؟ وهل يرى التوربشتي أو غيره خروج فرق الشيعة عن الأمة؟ لكن دعوى خروج فرق الشيعة عن الأمة وانحصارها في أهل نحلته لا تخلصه من الورطة وذلك:

ص 332

أولا: ما الدليل على قيام إجماع أهل السنة على أحبية القوم؟ ولو كان يكفي مجرد دعوى الإجماع لجاز لكل أحد دعواه على مدعاه. وثانيا: سلمنا، فما الدليل على حجية إجماعهم على غيرهم؟ وثالثا: إنك قد عرفت أن أبا ذر وبريدة كانا يقولان بأحبية أمير المؤمنين عليه السلام، وأن عائشة قد اعترفت بذلك غير مرة حتى أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي كما ورد عنها ما يدل بصراحة على أحبية فاطمة الزهراء عليها السلام وأسامة بن زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... فيكون هؤلاء خارجين عن الإجماع على أحبية المشايخ، وإذا خرج أبو ذر وبريدة وعائشة ورسول الله نفسه عن هذا الإجماع فإن وصفه بإجماع الأمة عجيب!! وكما ظهر بطلان دعوى إجماع الأمة على ما نحن فيه لخروج جملة من الأصحاب عنه... يظهر بطلانه أيضا من خروج: الحسن البصري - من التابعين - والمأمون العباسي - من حكام أهل السنة - ويحيى بن أكثم وغيره - من كبار قضاتهم - والشيخ أبي عبد الله البصري، والحاكم النيسابوري، وقاضي القضاة عبد الجبار، ومحمد بن طلحة الشافعي، ومحمد بن يوسف الكنجي، وجلال الدين الخجندي، وشهاب الدين أحمد، ومحمد بن إسماعيل الأمير... وغيرهم... من كبار علمائهم... المعترفين بالأحبية المطلقة لأمير المؤمنين عليه السلام... وأيضا، فإن كثيرا من الأصحاب والتابعين وعلماء الإسلام يقولون بأفضلية أمير المؤمنين عليه السلام مطلقا، وبين الأفضلية والأحبية تلازم كما هو واضح. وأيضا، فإن كثيرين منهم فضلوه على عثمان، فيلزم خروجهم عن الإجماع المدعى، للتلازم بين الأفضلية والأحبية... وأيضا، فإن كثيرين منهم في مسألة الأفضلية متوقفون... فدخولهم في

ص 333

الإجماع المزعوم غير معلوم. الوجه الثاني: لقد نص أكابر المحققين على أن المتكلم خارج عن عموم كلامه، وبناء على هذه القاعدة فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غير داخل من أول الأمر في عموم أحب الخلق في حديث الطير، وعلى هذا أيضا تبطل دعوى عدم عمومه، ولنذكر عبارة واحدة فيها التصريح بالقاعدة المذكورة: قال شيخ الإسلام عبد الله بن حسن الدين ابن جمال الدين الأنصاري المعروف بمخدوم الملك في كتاب (عصمة الأنبياء): اتفق المليون واجتمعت على أنهم معصومون قبل البعثة وبعدها من الكفر الحقيقي الاختياري، غير أن الأزارقة والفضلية من الخوارج يجوزون صدور ذلك منهم، لا بمعنى فساد العقيدة في التوحيد والجهل في معرفة الذات والصفات، بل باعتبار أن كل ذنب كفر عندهم، وصدور الذنب عنهم جائز، فوقوع الكفر عنهم يكون كذلك. وعن الاضطراري - أي إظهاره تقية - خلافا للشيعة، فإنهم يجوزون إظهار الكفر تقية، بل أوجبه بعضهم. ومعصومون عن الكفر الحكمي أيضا، بمعنى أنه لا يحكم عليهم في صباهم بالكفر تبعا للأبوين ولا تبعا للدار، فإنهم مولودون على الفطرة والمعرفة بالله وصفاته وتوحيده، وهم نشأوا على المعرفة من بدو خلقتهم وأول فطرتهم، ومن طالع سيرتهم مذ صباهم إلى مبعثهم يعلم ذلك يقينا، ثم لم يقدر آباؤهم أن يغووهم عن الفطرة، لكونهم عرفاء بالله تعالى، عقلاء لدينه، مختارين لتوحيده بتأييده. وإسلام الصبي الذي يعقل دينا صحيح، وعقلهم في هذه الحالة من فضله ورحمته عليهم، والله يختص برحمته من يشاء، فلا يكونون أتباعا للآباء. وقوله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فليس على عمومه على ما لا يخفى، مع

ص 334

أن المتكلم لا يدخل تحت الحكم، صرح به أئمة الحديث . الوجه الثالث: إنه لو تأمل التوربشتي في لفظ الحديث لما تفوه بهذا الذي تفوه به... إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اللهم ائتني... فطلب من الله إتيان أحب الخلق إليه وحضوره عنده صلى الله عليه وآله وسلم لا عند غيره... فلم يكن داخلا في عموم كلامه من أول الأمر... وهذا ظاهر كل الظهور، ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له نور. الوجه الرابع: وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الطير: يأكل معي هذا الطير وهل يعقل أن يكون هو نفسه مصداقا لقوله هذا فيكون المؤاكل نفسه؟ الوجه الخامس: إن في كثير من طرق الحديث بعد لفظ أحب خلقك إليك أو نحوه لفظ وإلى رسولك أو نحوه... وهذا صريح في أن السؤال لغيره، وأن الدعاء لا يشمل نفسه، ولنعم ما أفاد العلامة ابن بطريق: قد سأل الله تعالى أن يأتيه بأحب خلقه إليه وإلى رسوله، وتردد السؤال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وفي الجميع لم يأت إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فثبت أنه دعوت الرسول. وإذا كانت المحبة من الله تعالى له هي إرادة تعظيمه ورفعته ودنوه منه وقربه من طاعته وقد سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظة أفعل وهي مما يبالغ به في المدح، لأنه قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، و الأحب على وزن أفعل فصارت هذه غاية المدحة له، وإذا كان الله تعالى يريد قربه ورفعته

ص 335

وتعظيمه زيادة على كافة خلقه، فقد ثبت مزيته على سائر الخلق، بدليل ثابت وهو سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك. وإذا كان أحب خلق الله تعالى إليه وجب الاقتداء به دون غيره، وهذا غاية التنويه بذكره ودعاء الخلق إلى اتباعه. وفي هذه المدحة أيضا قطع النظارة له، لأنه إذا كان أحب خلق الله تعالى ولا مماثل له في ذلك أحد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم خارج من هذه الدعوة، يدل على ذلك قوله حين رآه: اللهم وإلي، وفي الخبر الآخر يقول: إليك وإلى رسولك. ثبت أن السؤال لمن عداه، لئلا يعترض معترض على هذا الكلام. ومن كان أحب خلق الله تعالى إليه وأحب خلق الله إلى رسوله فقد عدم نظيره ووجب تفرده بعلو المنزلة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. - إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم - - لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم خلق وإن كرموا (1) - ولا يخفى أنه لما لم يكن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عموم أحب خلقك إليك متبادرا إلى الأفهام ولا وجه لصحة دعواه من أحد، فقد ذكر المحب الطبري حديث الطير تحت عنوان ذكر أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . 10 - وجوه الرد على التأويل بإرادة الأحب من بني عمه وقول التوربشتي: فيأول هذا الحديث... على أنه أراد به أحب خلقه إليه من بني عمه وذويه فتعصب بحت، وإلا فإنه غير نافع له أبدا لوجوه:

(هامش)

(1) العمدة: 252 - 253. (*)

ص 336

الوجه الأول: إنه لا يقتضي وجه من الوجوه - ولو كان سخيفا - هذا التأويل، ودعوى أنه مقتضى أفضلية الشيخين مصادرة على المطلوب. الوجه الثاني: إنه تأويل من غير دليل شرعي أو ضرورة عقلية، وقد تقدم أن صرف كلام الشارع عن مقتضى ظاهره من غير اعتصام فيه بالنقل عنه وبغير ضرورة حرام. الوجه الثالث: إنه تخصيص بلا مخصص، فهو غير صحيح وغير مسموع... وهذه قاعدة مسلمة، قال المناوي بشرح: إتقوا الحديث عني إلا بما علمتم فمن يكذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار قال: قال الطيبي: الأمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إذ لو قيل: كان مقعده في النار لم يكن كذلك، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم من الكبائر الموبقة والعظام المهلكة، لإضراره بالدين وإفساده أصل الإيمان، والكاذبون عليه كثيرون، وقد اختلفت طرق كذبهم كما هو مبين في مبسوطات أصول كتب الحديث. قال بعضهم: وعموم الخبر يشمل الكذب في غير الدين، ومن خص به فعليه الدليل (1). الوجه الرابع: لقد جاء في صريح الأحاديث المعتبرة الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفضيل قريش على غيرها، ثم تفضيل بني هاشم من قريش على

(هامش)

(1) فيض القدير 1 / 132. (*)

ص 337

غيرهم... وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل من خيار في خيار... فلو سلمنا كون المراد أن عليا عليه السلام أحب الخلق من بني عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذويه لم يناف مدلول الحديث مطلوب أهل الحق... لأن المفروض كون بني عمه صلى الله عليه وآله وسلم خير الخلق مطلقا، فيكون علي عليه السلام أحب خير الخلق وهو المطلوب. وقال محب الدين الطبري: ذكر ما جاء في أنه أفضل من ركب الكور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا ولا ركب الكور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر. خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح (1). فإذا كان جعفر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - بحسب هذا الحديث - فهو أحب الناس إليه، لأن الأحبية تابعة للأفضلية... ومقتضى التأويل المذكور أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام أحب إلى رسول الله من جعفر، فهو أحب الخلق إليه مطلقا. وهو المطلوب. الوجه الخامس: لقد دلت الأحاديث الكثيرة الصحيحة على أفضلية أهل البيت عليهم السلام من جميع الخلق، فهم أحب الخلق إلى الله والرسول... فيكون أمير المؤمنين عليه السلام - الذي هو أحب أهل البيت - أحب الخلق مطلقا. الطيبي وقال الحسين بن عبد الله الطيبي - شارح مشكاة المصابيح - بشرح حديث

(هامش)

(1) ذخائر العقبى: 217. (*)

ص 338

الطير: قوله: بأحب خلقك إليك. التوربشتي: نحن وإن كنا لا نجهل - بحمد الله - فضل علي رضي الله عنه وقدمه وسوابقه في الإسلام واختصاصه برسول الله... أقول: والوجه الذي يقتضيه المقام هو الوجه الثاني، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يأكل وحده، لأنه ليس من شيمة أهل المروة، فطلب من الله أن يتيح له من يؤاكله، وكان ذلك برا وإحسانا منه إليه، وأبر المبرات بر ذي الرحم وصلته، كأنه قال: بأحب خلقك إليك من ذوي القرابة ومن هو أولى بإحساني وبري إليه (1). أقول: لقد أورد الطيبي كلام التوربشتي في تأويل هذا الحديث بنصه ثم أعرض عن الوجه الأول لسخافته وأيد الوجه الثاني من وجهي التأويل بما ذكر، لكن ما جاء به تأييدا لما تقوله التوربشتي باطل من وجوه: 1 - لو كان الدعاء لكراهة الأكل وحده فقد كان أنس وغيره عنده إنه لا ريب في حضور أنس بن مالك وسفينة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قضية الطائر وساعة سؤاله من الله سبحانه أن يأتيه بأحب الخلق إليه، فلو كان السبب في دعائه هو أنه كان يكره أن يأكل وحده لأنه ليس من شيمة أهل المروة لكان يكفي أكل أحد الحاضرين معه، ولم يكن حاجة لطلب غيره لا مرة بل مرات.

(هامش)

(1) الكاشف - شرح المشكاة - مخطوط. (*)

ص 339

2 - لو كان الغرض المؤاكلة فلماذا رد المشايخ؟ ولو كان الغرض أن لا يأكل وحده فطلب من الله أن يتيح له من يؤاكله كما يقول الطيبي، فلماذا رد المشايخ الثلاثة الواحد بعد الآخر، كما في حديثي أبي يعلى والنسائي؟ اللهم إلا أن يضطر الطيبي لأن يعترف بعدم أهليتهم للمؤاكلة معه صلى الله عليه وآله وسلم!! 3 - لو كان المطلوب المؤاكلة والبر لكان أهل الحاجات أولى ولو كان المطلوب هو إتاحة من يؤاكله، وليكون منه صلى الله عليه وآله وسلم برا وإحسانا منه إليه فقد كان المناسب أن يأتيه الله تعالى ببعض الجائعين وأهل الحاجات والمساكين، لا أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام المصداق الوحيد لدعائه، لأن أولئك - وإن كان علي عليه السلام ذا رحم، وأبر المبرات بر ذي الرحم وصلته - هم أولى من جهة افتقارهم وشدة فاقتهم... 4 - لو سلمنا أولوية ذي الرحم ففاطمة أولى من علي سلمنا تقدم ذي الرحم في البر والإحسان والصلة على غير ذي الرحم مع شدة افتقار الغير، لكن ما كان المناسب أن يكون علي عليه السلام مورد انطباق الدعاء واستجابته، لكون فاطمة عليها السلام أولى منه بالبر والإحسان في ذوي القرابة القريبة، فكان اللازم أن تكون هي المصداق لدعوته صلى الله عليه وآله وسلم. 5 - رجاء أنس أن يكون رجلا من الأنصار يبطل هذا الإحتمال ولو كان مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحب خلقك إليك هو أحب خلقك إليك من ذوي القرابة القريبة ومن هو أولى بإحساني وبري

ص 340

إليه كما زعم الطيبي، فلماذا رجا أنس بن مالك أن يكون رجلا من الأنصار؟ ألم يعلم أنس أن لا قرابة بينه وبين الأنصار، وأنهم ليسوا بأولى الناس بإحسانه وبره؟ إن من الطريف قول الطيبي نقلا عن التوربشتي أنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق القول وهو يريد التقييد، ويعم به ويريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال والوقت، أو الأمر الذي هو فيه فإنه يقول هذا ولا يعبأ بفهم أنس الذي فهم ما يخالف هذا التأويل العليل الذي أورده، مع أن أنسا عندهم من ذوي الفهم!! أضف إلى هذه الوجوه: أن كثيرا من ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث واضحة على بطلان هذا التأويل، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم جئني بأحب خلقك وأوجههم عندك . و اللهم ائتنا بخير خلقك . و اللهم أدخل علي أحب خلقك إلي من الأولين والآخرين . و الحمد لله الذي جعلك، فإني أدعو في كل لقمة أن يأتيني الله أحب الخلق إليه وإلي فكنت أنت . و أبى الله يا أنس إلا أن يكون علي بن أبي طالب . و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . و أوفي الأنصار خير من علي؟ أو أفضل من علي . وغير ذلك. الخلخالي تأويل التوربشتي فقط وقال شمس الدين محمد بن مظفر - شارح مصابيح السنة - بشرح

ص 341

الحديث ناقلا كلا تأويلي التوربشتي: أول بعضهم هذا الحديث على أن المراد: بمن هو من أحب خلقك إليك، فيشاركه فيه غيره، وهم المفضلون بإجماع الأمة، وهو كقولهم: فلان أعقل الناس وأفضلهم. أي: من أعقلهم وأفضلهم. ومما يدل على أن حمله على العموم غير جائز: أنه عليه السلام من جملة خلقك ولا جائز أن يكون علي أحب إلى الله منه. فإن قيل: ذلك شيء عرف بأصل الشرع. أجيب: بأن ما نحن فيه أيضا عرف بالنصوص الصحيحة. أو يقال: أراد أحب خلقه من بني عمه، وقد كان عليه السلام يطلق ويريد به التقييد، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه (1). السيوطي تأويل التوربشتي فقط وقال جلال الدين السيوطي - شارح الترمذي - بشرحه: قال التوربشتي: قوله: بأحب خلقك إليك. أي: من هو من أحب خلقك. فيشارك غيره وهم المفضلون بإجماع الأمة، وهذا مثل قولهم: فلان أفضل الناس وأعقلهم. أي: من أفضلهم وأعقلهم. ومما يتبين لك. أن حمله على العموم غير جائز: أنه صلى الله عليه وسلم من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون علي أحب إلى الله منه. أول يأول على أنه أراد به: أحب خلقه إليه من بني عمه وذويه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يطلق القول وهو يريد تقييده، ويعم به ويريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه (2).

(هامش)

(1) المفاتيح - شرح المصابيح - مخطوط. (2) قوت المغتذي على شرح الترمذي - باب مناقب علي. (*)

ص 342

القاري 1 - نقله كلامي التوربشتي والطيبي وقال علي بن سلطان القاري - شارح مشكاة المصابيح - بشرحه: قال الإمام التوربشتي: نحن وإن كنا لا نجهل بحمد الله فضل علي... قال الطيبي: والوجه الذي يقتضيه المقام هو الوجه الثاني... وفيه: إنه لا شك أن العم أولى من ابنه، وكذا البنت وأولادها في أمر البر والإحسان. على أن قول الطيبي هذا إنما يتم إذا لم يكن أحد هناك ممن يؤاكله، ولا شك في وجوده لا سيما وأنس حاضر وهو خادمه، ولم يكن من عادته أن لا يأكل معه. فالوجه الأول هو المعول، ونظيره ما ورد من الأحاديث بلفظ: أفضل الأعمال في أمور لا يمكن جمعها، إلا أن يقال في بعضها: إن التقدير من أفضلها (1) 2 - رده كلام الطيبي أقول: لقد أورد القاري نص عبارة التوربشتي، ثم نص عبارة الطيبي في توجيه الوجه الثاني من تأويلي التوربشتي، ثم رد ما ذكره الطيبي بما رأيت. فظهر من مجموع ذلك: سقوط الوجه الأول عند الطيبي، وسقوط الوجه الثاني عند القاري، مضافا إلى ما ذكرناه بالتفصيل في رد الوجهين والكلامين.

(هامش)

(1) مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح 5 / 569. (*)

ص 343

3 - نقد تأييد القاري للوجه الأول وأما تأييد القاري الوجه الأول بقوله: فالوجه الأول هو المعول، ونظيره ما ورد من الأحاديث بلفظ... ففيه: أنه إذا كان أهل السنة مضطرين إلى التأويل لرفع التهافت في أحاديثهم تلك، فما الملزم للشيعة الإمامية لأن يلتزموا بالتأويل في حديث الطير؟! عبد الحق الدهلوي 1 - نقل كلامي التوربشتي والطيبي وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي - شارح مشكاة المصابيح -: قوله: بأحب خلقك. أوله الشارحون بأن المراد من أحب خلقك - أو أحب خلق الله - من بني عمه، أو بأحب خلقك إليك من ذوي القرابة القريبة، أو من هو أولى وأقرب وأحق بإحساني إليه. وهذا الوجه الأخير أقرب وأوفق بالمقام. هكذا قالوا. (1). 2 - خطأ فضيع من الدهلوي وهذه هي تأويلات التوربشتي والطيبي، وقد عرفت سخافتها وركاكتها بالتفصيل... فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار... لكن من العجيب جدا أن هذا الشيخ ينقل - بعد عبارته المذكورة - كلام التوربشتي - الذي أوردنا نصه بكامله وأبطلناه بما لا مزيد عليه - عن (الصواعق) ناسبا إياه إلى ابن حجر المكي... استمع إليه يقول: ولقد أتى الشيخ ابن حجر في كتاب الصواعق في الاعتذار عن التأويل

(هامش)

(1) اللمعات في شرح المشكاة - باب مناقب علي. (*)

ص 344

لهذا الحديث بكلام مليح فصيح طويل، قال: نحن وإن كنا لا نجهل - بحمد الله - فضل علي رضي الله عنه وقدمه وسوابقه في الإسلام واختصاصه برسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرابة القريبة، ومؤاخاته إياه في الدين، ونتمسك من حبه بأقوى وأولى مما يدعيه الغالون فيه، فلسنا نرى أن نضرب عن تقرير أمثال هذه الأحاديث في نصابها صفحا، لما نخشى فيها من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين. وهذا باب أمرنا بمحافظته، وحمى أمرنا بالذب عنه، فحقيق علينا أن ننصر فيه الحق ونقدم فيه الصدق. وهذا حديث يريش به المبتدع سهامه ويوصل به المنتحل جناحه فيتخذه ذريعة إلى الطعن في خلافة أبي بكر، التي هي أول حكم أجمع عليه المسلمون في هذه الأمة، وأقوم عماد أقيم به الدين بعد رسول الله فنقول - وبالله التوفيق: هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريته، من الأخبار الصحاح. منضما إليه إجماع الصحابة، لمكان سنده، فإن فيه لأهل النقل مقالا، ولا يجوز حمل أمثاله على ما يخالف الإجماع، لا سيما والصحابي الذي يرويه ممن دخل في هذا الإجماع واستقام عليه مدة عمره ولم ينقل عنه خلافه، فلو ثبت عنه هذا الحديث فالسبيل أن يأول على وجه لا ينتقض عليه ما اعتقده ولا يخالف ما هو أصح متنا وإسنادا، وهو أن يحمل على أحد الوجوه المذكورة . وهذا كلام التوربشتي الذي أتينا عليه آنفا، غير أن للدهلوي فيه تصرفا ما في آخره، وليس لهذا الكلام في (الصواعق) عين ولا أثر أبدا، وليته نسبه إلى ابن حجر ولم ينص على أنه في (كتاب الصواعق)!! ثم إن الدهلوي تصدى لتأويل الحديث الشريف حسبما يروق له ويسوقه إليه تعصبه فقال: قال العبد الضعيف - عصمه الله عما يصمه وصانه عما شانه -: إن من الظاهر أن الحديث غير محمول على الظاهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم

ص 345

من جملة خلق الله، وهو أحب الخلق إلى الله من جميع الوجوه والحيثيات، فالمراد أهل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة، وغيره إنما يكون من وجه واحد خاص أو وجوه متعددة مخصوصة، فلا حاجة إلى تخصيص الخلق، بل إلى تخصيص الوجه أو الوجوه، لأنه ليس أحب وأفضل من جميع الوجوه سوى سيد المحبوبين وأفضل المخلوقين صلى الله عليه وسلم. ثم الكلام في الصحابة إنما هو في الأفضلية من كثرة الثواب والأحبية، كما في القول المشهور من بعض العلماء في الفرق بين الأفضلية والأحبية. والمخلص في هذه المسألة: إعتبار الوجوه والحيثيات. والله أعلم . 3 - تكراره استلزام دخول النبي في العموم لقد حكم الدهلوي بعدم جواز بقاء هذا الحديث على ظاهره في العموم لأن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة خلق الله وهو أحب الخلق إلى الله من جميع الوجوه والحيثيات وهذا تكرار لما سبق عن التوربشتي، وقد عرفت سقوطه بوجوه... 4 - حمله الحديث على أنه أحب أهل زمان الرسول إليه باطل وأما حمله الحديث - بعد عدم جواز إبقائه على ظاهره، لأن النبي من جملة خلق الله، وهو أحب الخلق إليه - على أن المراد أهل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة فواضح البطلان، لأنا لو سلمنا رفع اليد عن ظاهر الحديث بسبب استلزام كون أمير المؤمنين عليه السلام أحب إلى الله تعالى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن مقتضى القاعدة رفع اليد عن ظاهر الحديث بقدر الضرورة، بأن يكون عمومه غير شامل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، وأما غيره من الأنبياء والأوصياء والملائكة وسائر الخلق فباق تحت العموم.

ص 346

إن وجوه بطلان هذا الحمل كثيرة، وهو واضح جدا، فلا نطيل المقام ببيان تلك الوجوه، ونكتفي بأن في بعض ألفاظ الحديث: اللهم أدخل علي أحب الخلق من الأولين والآخرين . 5 - دعوى اختصاص النبي بالأحبية من جميع الوجوه مردودة وأما قوله: وغيره إنما يكون من وجه واحد خاص أو وجوه متعددة مخصوصة فلا حاجة إلى تخصيص الخلق بل إلى تخصيص الوجه أو الوجوه، فإنه ليس أحب وأفضل من جميع الوجوه سوى سيد المحبوبين وأفضل المخلوقين صلى الله عليه وسلم فدعوى بلا دليل، لأن اجتماع جميع وجوه الأحبية المعتبرة في الأفضلية في غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير ممنوع أبدا، إنما الممنوع أن يكون كمال جميع الوجوه الموجودة في غيره صلى الله عليه وآله وسلم أزيد من كمالها في شخصه صلى الله عليه وآله وسلم. إذن، لا مانع من اجتماع جميع وجوه الأحبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وحينئذ فما الملزم لتخصيص أحبيته بجهة أو جهات دون غيرها وصرف الكلام النبوي عن ظاهره؟ ولو لم يكن لبطلان هذا التخصيص وجه إلا صرف الحديث عن ظاهره بلا دليل لكفى، فكيف والوجوه على بطلانه كثيرة! تقدمت طائفة منها في رد التأويل الأول الذي زعمه (الدهلوي)، فلا تغفل. ثم العجب من هذا الشيخ يدعي التخصيص في الخلق ويقول فالمراد أهل زمان رسول الله من الصحابة ثم يعود بفاصل قليل ليقول: ... فلا حاجة إلى تخصيص الخلق بل إلى تخصيص الوجه أو الوجوه... وهل هذا إلا تهافت؟!

ص 347

6 - مغايرة الأحبية للأفضلية مردودة عند علمائهم وأما قوله: ثم الكلام في الصحابة إنما هو في الأفضلية من جهة كثرة الثواب، والأحبية غيرها، كما في القول المشهور من بعض العلماء في الفرق بين الأفضلية والأحبية فعجيب أيضا، فقد صرح الرازي في (تفسيره) بأن المحبة من الله إعطاء الثواب، فالأحبية إليه توجب أكثرية الثواب بلا ارتياب، وقد تقدمت عبارته سابقا، كما ستعلم أن أكابر المتكلمين من أهل السنة: كالرازي، والأصفهاني، والعضد، والشريف الجرجاني، والدولت آبادي، وافقوا على كون الأحبية بمعنى أكثرية الثواب. * * *

ص 349

دحض تقولات بعض علماء الكلام

ص 351

القاضي عبد الجبار

 قال القاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الاسترآبادي ما نصه: دليل لهم آخر: وقد تعلقوا بقوله عليه السلام: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر. قالوا: إذا دل على أنه أفضل خلق الله تعالى بعده وأحبهم إلى الله تعالى فيجب أن يكون هو الإمام. وهذا بعيد، لأنه إنما يمكن أن يتعلق به في أنه أفضل، فأما في النص على أنه إمام فغير جائز المتعلق به، إلا من حيث أن يقال: الإمامة واجبة للأفضل. وقد بينا أنها غير مستحقة بالفضل، فإنه لا يمتنع في المفضول أن يتولاها أو من يساويه غيره في الفضل (1). إقراره بالسند والدلالة وإنكاره تعين الأفضل للإمامة أقول: هذا كلام ظاهر في قبول القاضي عبد الجبار حديث الطير سندا ودلالة، ولو كان عنده تأمل في جهة سنده أو جهة دلالته على أفضلية أمير

(هامش)

(1) المغني في الإمامة ج 20 ق 2 / 122. (*)

ص 352

المؤمنين عليه السلام لما سكت عن إظهاره، لكنه منع وجوب الإمامة للأفضل وجوز أن يتولاها المفضول تصحيحا لخلافة المتغلبين عليها... لكن قد أثبتنا في محله أن نصب المفضول لها مع وجود الأفضل غير جائز... فلا يبقى ريب في دلالة حديث الطير على إمامة الإمام وخلافته عن الرسول بلا فصل. ولنعم ما أفاد السيد المرتضى علم الهدى طاب ثراه في نقض كلام القاضي: هذان الخبران اللذان ذكرتهما إنما يدلان عندنا على الإمامة، كدلالة المؤاخاة وما جرى مجراها، لأنا قد بينا أن كل شيء دل على التفضيل والتعظيم فهو دلالة على استحقاق أعلى الرتب والمنازل، وإن أولى الناس بالإمامة من كان أفضلهم وأحقهم بأعلى منازل التبجيل والتعظيم، وقد مضى طرف من الكلام في أن المفضول لا يحسن إمامته، وإن ورد من كلامه شيء من ذلك في المستقبل أفسدناه بعون الله (1). الفخر الرازي وقال الفخر الرازي - في ذكر أدلة الإمامية على أفضلية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام -: الحجة الثانية: التمسك بخبر الطير، وهو قوله عليه السلام: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل هذا الطير معي. والمحبة من الله تعالى عبارة عن كثرة الثواب والتعظيم . فأجاب: أما الثاني - وهو التمسك بخبر الطير - فالاعتراض عليه أن نقول: قوله عليه السلام: بأحب خلقك. يحتمل أن يكون [المراد منه] أحب خلق الله في جميع الأمور، وأن يكون أحب خلق الله في شيء معين. والدليل على كونه محتملا لهما: أنه يصح تقسيمه إليهما فيقال: إما أن يكون أحب خلق الله في جميع الأمور أو يكون أحب خلق الله في هذا الأمر الواحد، وما به

(هامش)

(1) الشافي في الإمامة 3 / 86 - 87. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الرابع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب