ص 353
الاشتراك غير مستلزم بما به الامتياز، فإذن، هذا اللفظ لا يدل على كونه أحب إلى
الله تعالى في جميع الأمور، فإذن، هذا اللفظ لا يفيد إلا أنه أحب إلى الله في بعض
الأمور، وهذا يفيد كونه أزيد ثوابا من غيره في بعض الأمور، ولا يمتنع كون غيره أزيد
ثوابا منه في أمر آخر، فثبت أن هذا لا يوجب التفضيل. وهذا جواب قوي (1). وجوب
الجواب عن هذا الكلام وهذا الإعتراض الذي وصفه بالقوة في غاية الضعف والسخافة، لما
قدمنا في جواب التأويل الأول من تأويلات (الدهلوي)، من الوجوه القويمة الدالة على
بطلان تأويل حديث الطير وحمل الأحبية فيه على بعض الوجوه دون بعض. ونقول هنا
بالإضافة إلى ذلك: أولا: تخصيص الأحبية ببعض الأمور صرف للكلام عن ظهوره وهو
حرام بلا ريب، كما سبق وسيأتي فيما بعد أيضا. وثانيا: صحة الاستثناء دليل العموم،
إذ يصح أن يقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك إلا في كذا، وإذ لم يستثن فالكلام عام،
وهذه القاعدة مقررة ومقبولة بلا كلام. وثالثا: لو سلمنا أن مدلول حديث الطير كونه
أحب إلى الله في بعض الأمور، وأن هذا يفيد كونه أزيد ثوابا من غيره في بعض الأمور
فالحديث يدل على أنه عليه السلام أفضل من الثلاثة، إذ لا سبيل لأهل السنة لأن
يثبتوا للإمامية أن أحدهم يستحق ثوابا في الأمر الفلاني المحبوب لله ورسوله، فضلا
عن الأحبية وأكثرية الثواب، فضلا عن أن يكون أحدهم أحب وأكثر ثوابا منه
(هامش)
(1) الأربعين في أصول الدين - مبحث أدلة الإمامية على أفضلية على. (*)
ص 354
عليه السلام. الشمس السمرقندي وقال شمس الدين محمد بن أشرف الحسني السمرقندي:
الفصل الثالث في أفضل الناس بعد النبي. المراد بالأفضل ههنا أن يكون أكثر ثوابا عند
الله. واختلفوا فيه فقال أهل السنة وقدماء المعتزلة: إنه أبو بكر. وقال الشيعة
وأكثر المتأخرين من المعتزلة: هو علي: إستدل أهل السنة بوجهين: الأول: قوله تعالى:
*(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله)* السورة. والمراد هو أبو بكر - رضي الله عنه -
عند أكثر المفسرين، والأتقى أكرم عند الله تعالى، لقوله تعالى: *(إن أكرمكم عند
الله أتقاكم)* والأكرم عند الله أفضل. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: والله ما
طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر. وأجاب الشيعة:
بأن هذا لا يدل على أنه أفضل، بل على أن غيره ليس أفضل منه. واحتجت الشيعة: بأن
الفضيلة إما عقلية أو نقلية، والعقلية إما بالنسب أو بالحسب، وكان علي أكمل الصحابة
في جميع ذلك، فهو أفضل. أما النسب: فلأنه أقرب إلى رسول الله، والعباس - وإن كان عم
رسول الله لكنه - كان أخا عبد الله من الأب، وكان أبو طالب أخا منهما. وكان علي
هاشميا من الأب والأم، لأنه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعلي بن فاطمة
بنت أسد بن هاشم، والهاشمي أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: اصطفى من ولد إسماعيل
قريشا واصطفى من قريش هاشما. وأما الحسب فلأن أشرف الصفات الحميدة: الزهد والعلم
والشجاعة،
ص 355
وهي فيه أتم وأكمل من الصحابة. أما العلم: فلأنه ذكر في خطبه من أسرار التوحيد
والعدل والنبوة والقضاء والقدر وأحوال المعاد ما لم يوجد في الكلام لأحد من
الصحابة، وجميع الفرق ينتهي نسبتهم في علم الأصول إليه، فإن المعتزلة ينسبون أنفسهم
إليه، والأشعري أيضا منتسب إليه، لأنه كان تلميذ الجبائي المنتسب إلى علي، وانتساب
الشيعة بين، الخوارج - مع كونهم أبعد الناس عنه - أكابرهم تلامذته، وابن عباس رئيس
المفسرين كان تلميذا له. وعلم منه تفسير كثير من المواضع التي تتعلق بعلوم دقيقة
مثل: الحكمة والحساب والشعر والنجوم والرمل وأسرار الغيب، وكان في علم الفقه
والفصاحة في الدرجة العليا، وعلم النحو منه وأرشد أبا الأسود الدؤلي إليه، وكان
عالما بعلم السلوك وتصفية الباطن الذي لا يعرفه إلا الأنبياء والأولياء، حتى أخذه
جميع المشايخ منه أو من أولاده أو من تلامذتهم، وروي أنه قال: لو كسرت الوسادة ثم
جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل
الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو
سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء
نزلت. وروي أنه قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. وقال صلى الله عليه وسلم:
أقضاكم علي. والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم. وأما الزهد: فلما علم منه بالتواتر من
ترك اللذات الدنياوية والاحتراز عن المحظورات من أول العمر إلى آخره مع القدرة،
وكان زهاد الصحابة: كأبي ذر وسلمان الفارسي وأبي الدرداء تلامذته. وأما الشجاعة،
فغنية عن الشرح، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو
الفقار. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: لضربة علي خير من عبادة الثقلين.
وكذا السخاء: فإنه بلغ فيها الدرجة القصوى، حتى أعطى ثلاثة أقراص
ص 356
ما كان له ولا لأولاده غيرها عند الإفطار، فأنزل الله تعالى: *(ويطعمون الطعام على
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)*. وكان أولاده أفضل أولاد الصحابة كالحسن والحسين. وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: هما سيدا شباب أهل الجنة، ثم أولاد الحسن مثل: الحسن
المثنى، والحسن المثلث، وعبد الله بن المثنى، والنفس الزكية. وأولاد الحسين مثل:
الأئمة المشهورة وهم اثنا عشر. وكان أبو حنيفة ومالك - رحمهما الله - أخذا الفقه من
جعفر الصادق والباقون منهما، وكان أبو يزيد البسطامي - من مشايخ الإسلام - سقاء في
دار جعفر الصادق، والمعروف الكرخي أسلم على يد علي الرضا وكان بواب داره. وأيضا:
اجتماع الأكابر من الأمة وعلمائها على شيعيته دال على أنه أفضل، ولا عبرة بقول
العوام. وأما الفضائل النقلية: فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأولى: خبر
الطير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا
الطير فجاء علي وأكل معه. الثانية: خبر المنزلة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: أنت
مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنه لا نبي بعدي. وهذا أقوى من قوله في حق أبي بكر:
والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين على أفضل من أبي بكر، لأنه إنما يدل على أن
غيره ليس أفضل منه لا على أنه أفضل من غيره. وأيضا: يدل على أن الغير ما كان أفضل
منه لا على أنه ما يكون، فجاز أن لا يكون عند ورود هذا الخبر ويكون بعده. وأيضا:
خبر المنزلة يدل على أن له مرتبة الأنبياء لقوله صلى الله عليه وسلم: إلا أنه لا
نبي بعدي، وخبر أبي بكر إنما يدل على أن غيره ممن هو أولى من مراتب الأنبياء ليس
أفضل منه لقوله صلى الله عليه وسلم: بعد النبيين والمرسلين، فجاز أن يكون علي أفضل
منه.
ص 357
الثالثة: خبر الراية، روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع
منهزما، ثم بعث عمر فرجع منهزما، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم مغتما، فلما
أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية وقال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه
الله ورسوله، كرارا غير فرار. فتعرض له المهاجرون والأنصار فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أين علي؟ فقيل: إنه أرمد العينين، فتفل في عينيه، ثم دفع إليه الراية.
الرابعة: خبر السيادة: قالت عائشة: كنت جالسة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ
أقبل علي فقال: هذا سيد العرب. فقلت: بأبي وأمي، ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد
العالمين، وهو سيد العرب. الخامسة: خبر المولى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: من
كنت مولاه فعلي مولاه. وروى أحمد والبيهقي في فضائل الصحابة أنه قال صلى الله عليه
وسلم: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى يوشع في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه،
وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى وجه علي. السادسة: روي عن أنس
بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخي ووزيري
وخير من أتركه من بعدي يقضي ديني وينجز وعدي: علي بن أبي طالب. السابعة: روي عن ابن
مسعود أنه قال صلى الله عليه وسلم: علي خير البشر من أبى فقد كفر. الثامنة: روي أنه
قال صلى الله عليه وسلم - في ذي الثدية، وكان رجلا منافقا - يقتله خير الخلق. وفي
رواية: خير هذه الأمة. وكان قاتله علي بن أبي طالب. وقال صلى الله عليه وسلم
لفاطمة: إن الله تعالى اطلع على أهل الدنيا واختار منهم أباك واتخذه نبيا، ثم اطلع
ثانيا فاختار منهم بعلك.
ص 358
هذا ما قالوا. والحق: إن كل واحد من الخلفاء الأربعة - بل جميع الصحابة - مكرم عند
الله، موصوف بالفضائل الحميدة (1). إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل أقول: لقد
أنصف السمرقندي، فنقل استدلالات الشيعة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام، وإن
أضاف إليها - عن كياسة أو جهل - كلمات غير صادرة عنهم، وأذعن بدلالالتها وأقر
بمتانتها... ومنها حديث الطير، فإنه أورده ولم يناقش في سنده، ولم يتبع الفخر
الرازي في تقولاته - وإن قلده في مواضع كثيرة ونقل أقواله ولو بالتفريق والتوزيع
ووافقه عليها - لما رأى فيها من السخافة والركاكة المانعة من التفوه بها. ويؤكد
إقراره بالحق أو عجزه عن الجواب تخلصه عن استدلال الشيعة بقوله: والحق: إن كل
واحد... . فإنه يعلم بأن هذه الجملة لا تفي للجواب عن تلك الاستدلالات المتينة
والبراهين الرصينة، التي يكفي كل واحد واحد منها لإثبات مطلوب الشيعة، على أن ما
قاله مجرد دعوى فهو مطالب بالدليل عليها. ولو فرض أن الثلاثة - بل جميع الصحابة
مكرم عند الله موصوف بالفضائل الحميدة فإن هذا لا ينافي أفضلية أمير المؤمنين
عليه السلام منهم.
(هامش)
(1) الصحائف في علم الكلام - مخطوط. قال كاشف الظنون 2 / 1075 أوله: الحمد لله
الذي استحق الوجود والوحدة. الخ. وهو على مقدمة وست صحائف وخاتمة، ومن شروحه:
المعارف في شرح الصحائف، أوله: الحمد لله الذي ليس لوجوده بداية الخ للسمرقندي شمس
الدين محمد، وشرحه البهشتي أيضا بشرحين وأرخ وفاته بسنة 600. لكن في هدية
العارفين 2 / 106: رأيت شرحه على المقدمة البرهانية للنسفي، فرغ منه سنة 690
فليصحح. وذكر له مؤلفات أخرى. (*)
ص 359
القاضي البيضاوي

وقال القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي - في بيان وجوه
استدلال الشيعة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام -: السادس - إن عليا كرم
الله وجهه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ثبت بالأخبار
الصحيحة أن المراد من قوله تعالى حكاية *(أنفسنا وأنفسكم)* علي، ولا شك أنه ليس نفس
محمد صلى الله عليه وسلم بعينه، بل المراد به أنه بمنزلته أو هو أقرب الناس إليه،
وكل من كان كذلك كان أفضل الخلق بعده. ولأنه أعلم الصحابة، لأنه كان أشدهم ذكاء
وفطنة وأكثرهم تدبيرا وروية، وكان حرصه على التعلم أكثر، واهتمام الرسول عليه
السلام بإرشاده وتربيته أتم وأبلغ، وكان مقدما في فنون العلوم الدينية أصولها
وفروعها، فإن أكثر فرق المتكلمين ينتسبون إليه ويسندون أصول قواعدهم إلى قوله،
والحكماء يعظمونه غاية التعظيم، والفقهاء يأخذون برأيه. وقد قال عليه السلام:
أقضاكم علي. وأيضا: فأحاديث كثيرة، كحديث الطير وحديث خيبر، وردت شاهدة على كونه
أفضل. والأفضل يجب أن يكون إماما . فقال في الجواب: وعن السادس: إنه معارض
بمثله، والدليل على أفضلية أبي بكر قوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى)* فإن المراد به
إما أبو بكر أو علي وفاقا، والثاني مدفوع لقوله تعالى: *(وما لأحد عنده من نعمة
تجزى)* لأن عليا نشأ في تربيته وإنفاقه وذلك نعمة تجزى، وكل من كان أتقى كان أكرم
عند الله وأفضل، لقوله تعالى: *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)*. وقوله عليه السلام:
ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر. وقوله عليه
السلام لأبي بكر وعمر: هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا
ص 360
النبيين والمرسلين (1). إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل أقول: لقد ذكر
البيضاوي أدلة للشيعة على أفضلية الإمام عليه السلام، فلم يناقش في شيء منها، لا في
السند ولا في الدلالة. وذكر منها حديث الطير وأقر بدلالته، ولم يذكر له أي تأويل.
ويؤكد ما ذكرنا أنه لم يأت في الجواب إلا بالمعارضة بأشياء يروونها في فضل خلفائهم،
فإن المعارضة - كما هو معلوم - فرع تمامية السند والدلالة... لكن ما استند إليه في
المعارضة باطل حتى على أصولهم (2)، وعلى فرض التسليم فإنه ليس بحجة على الشيعة.
الشمس الأصفهاني وقال شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني - في بيان أدلة
الشيعة على إمامة سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام: السادس - إن عليا كان أفضل
الناس بعد النبي، لأنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن المراد من قوله تعالى: *(قل تعالوا
ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)* علي،
(هامش)
(1) طوالع الأنوار - مخطوط. (2) هذا الحديث أخرجه الهيثمي وحكم بسقوطه، وإليك نصه:
عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا الدرداء يمشي
بين يدي أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء تمشي قدام رجل لم تطلع الشمس بعد النبيين
على رجل أفضل منه. فما رؤي أبو الدرداء بعد يمشي إلا خلف أبي بكر. رواه الطبراني في
الأوسط، وفيه: إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذاب. وعن أبي الدرداء قال: رآني رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أمشي أمام أبي بكر فقال: لا تمشي أمام من هو خير
منك، إن أبا بكر خير من طلعت عليه الشمس، أو غربت رواه الطبراني، وفيه: بقية، وهو
مدلس مجمع الزوائد 9 / 44. (*)
ص 361
ولا شك أن عليا ليس نفس محمد صلى الله عليه وسلم بعينه، بل المراد أن عليا بمنزلة
النبي، أو أن عليا هو أقرب الناس إلى النبي فضلا، وإذا كان كذلك كان أفضل الخلق
بعده. ولأن عليا كان أعلم الصحابة، لأنه كان أشدهم ذكاء وفطنة وأكثرهم تدبيرا
وروية، وكان حرصه على العلم أكثر واهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاده
وتربيته أتم وأبلغ، وكان مقدما في فنون العلوم الدينية أصولها وفروعها، فإن أكثر
فرق المتكلمين ينتسبون إليه ويسندون أصول قواعدهم إلى قوله، والحكماء يعظمونه غاية
التعظيم، والفقهاء يأخذون برأيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي،
والأقضى أعلم لاحتياجه إلى جميع أنواع العلم. وأيضا: أحاديث كثيرة وردت شاهدة على
أن عليا أفضل. منها: حديث الطير، وهو إنه عليه السلام أهدي له طير مشوي، فقال عليه
السلام: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاءه علي وأكل معه، والأحب إلى الله
تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه. وليس في ذلك ما يدل على كونه عليه السلام
أفضل من النبي والملائكة، لأنه قال: ائتني بأحب خلقك إليك، والمأتي به إلى النبي
يجب أن يكون غير النبي، فكأنه قال: أحب خلقك إليك، غيري ولقوله عليه السلام: يأكل
معي، وتقديره: إئتني بأحب خلقك إليك ممن يأكل فيأكل معي، والملائكة لا يأكلون،
وبتقدير عموم اللفظ للكل فلا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبي عليه السلام
والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهما. ومنها: حديث خيبر، فإن النبي عليه السلام بعث
أبا بكر إلى خيبر، فرجع منهزما ثم بعث عمر فرجع منهزما. فغضب رسول الله صلى الله
عليه وسلم لذلك، فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه راية وقال: لأعطين الراية اليوم رجلا
يحب الله ورسوله ويحبه الله والرسول، كرار غير فرار فعرض له
ص 362
المهاجرون والأنصار قال عليه السلام: أين علي. فقيل له: إنه أرمد العينين، فتفل في
عينيه، ثم دفع الراية إليه. وذلك يدل على أن ما وصفه به مفقود فيمن تقدم، فيكون
أفضل منهما، ويلزم أن يكون أفضل من جميع الصحابة. والأفضل يجب أن يكون إماما . قال
الأصفهاني في الجواب عما ذكر من الأدلة: وعن السادس: إن ما ذكرنا من الدلائل
الدالة على أن عليا أفضل، معارض بما يدل على أن أبا بكر أفضل، والدليل على أفضلية
أبي بكر قوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى الذي...)* الآية. فإن المراد إما أبو بكر أو
علي بالاتفاق، والثاني - وهو أن يكون المراد به عليا - مدفوع، لأنه تعالى ذكر في
وصف الأتقى قوله *(الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى)*.. (1).
إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل تبعا للبيضاوي وتبع الأصفهاني ماتنه البيضاوي
في ذكر طائفة من دلائل الشيعة، والسكوت عنها من حيث السند والدلالة، وهو إقرار منه
كذلك بالأمرين. ثم أجاب عن تلك الدلائل بالمعارضة. والجواب الجواب. تأويله الحديث
في كتاب آخر تبعا للرازي لكنه في كتاب آخر له تبع الفخر الرازي في دعوى التأويل،
فإنه ذكر حديث الطير فيما استدل به الإمامية بقوله: ومنها: حديث الطائر. بيان
ذلك: أنه أهدي له طائر مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي
وأكل معه. والأحب إلى
(هامش)
(1) مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار - مخطوط. (*)
ص 363
الله تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه، وليس في ذلك ما يدل على كونه أفضل
من النبي والملائكة، لأنه قال: ائتني بأحب خلقك إليك، والمأتي به إلى النبي يجب أن
يكون غير النبي، فكأنه قال: أحب خلقك إليك غيري، ولقوله: يأكل معي. وتقديره: ائتني
بأحب خلقك ممن يأكل معي، والملائكة لا يأكلون. وبتقدير عموم اللفظ للكل لا يلزم من
تخصيصه بالنسبة إلى النبي والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهما . فأجاب: وحديث
الطير لا يدل على أنه أحب الخلق مطلقا، بل أمكن أن يكون أحب الخلق بالنظر إلى شيء
دون شيء، إذ يصح الاستفسار بأن يقال: أحب خلقك في كل شيء أو في بعضه، وعند ذلك لا
يلزم من زيادة ثوابه في بعض الأشياء على غيره الزيادة في كل شيء، بل جاز أن يكون
غيره أزيد ثوابا في شيء آخر. فإن قيل: فعلى هذا التقدير أي فائدة في قوله: ائتني
بأحب خلقك إليك؟ قلنا: الفائدة فيه تخصيصه عمن ليس أحب عند الله من وجه (1). الرد
على ما ذكره أقول: أما ما ذكره تبعا للفخر الرازي فقد عرفت اندفاعه فلا نعيد. وأما
ما ذكره في جواب الإعتراض الذي أورده: فقد كان الأولى به أن لا يتفوه به، لأن
الثلاثة وأضرابهم لم يكونوا محبوبين عند الله من وجه من الوجوه فضلا عن الأحبية،
فيكون الحديث دليلا على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام منهم. وبغض النظر عن ذلك،
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد
(هامش)
(1) تشييد القواعد شرح تجريد العقائد - مخطوط. (*)
ص 364
الشيخين - بل الثلاثة - من الدخول عليه في قضية الطير، وبناء على ما ذكره الأصفهاني
من أن فائدة الحديث تخصيص علي عليه السلام عمن ليس بأحب عند الله من وجه، فالثلاثة
ليسوا بأحب عند الله من وجه، فضلا عن الأحبية المطلقة. القاضي العضدي والشريف
الجرجاني وقال القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي في (المواقف) وكذا السيد
الشريف علي بن محمد الجرجاني في (شرحه) بتأويل حديث الطير... فقد جاء في (شرح
المواقف) في وجوه أدلة الشيعة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام: الثاني:
حديث الطير، وهو قوله عليه السلام - حين أهدي إليه طائر مشوي -: اللهم ائتني بأحب
خقلك إليك يأكل معي هذا الطير، فأتى علي وأكل معه الطير. والمحبة من الله كثرة
الثواب والتعظيم، فيكون هو أفضل وأكثر ثوابا. وأجيب: بأنه لا يفيد كونه أحب إليه في
كل شيء، لصحة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض، ألا ترى أنه يصح أن يستفسر ويقال:
أحب خلقه إليه في كل شيء أو في بعض الأشياء؟ وحينئذ جاز أن يكون أكثر ثوابا في شيء
دون آخر، فلا يدل على الأفضلية مطلقا (1). ما ذكراه هو تأويل الرازي والجواب
الجواب أقول: وإن ما ذكراه في الجواب عن حديث الطير، هو التأويل الذي اعتمده الفخر
الرازي، الذي عرفت سقوطه لدى تعرضنا لكلامه... فالجواب
(هامش)
(1) شرح المواقف 8 / 367 - 368. (*)
ص 365
الجواب، فلا نطيل المقام.
السعد التفتازاني

وقال سعد الدين مسعود بن عمر
التفتازاني: تمسكت الشيعة القائلون: بأفضلية علي رضي الله تعالى عنه بالكتاب
والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: *(قل تعالوا ندع أبناءنا...)* وقوله
تعالى: *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى...)* ولا خفاء في أن من وجب
محبته بحكم نص الكتاب كأن أفضل... وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: من أراد أن
ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته
وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب. ولا خفاء في أن من يساوي هذه
الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل. وقوله عليه الصلاة والسلام: أقضاكم علي.
والأقضى أعلم وأكمل. وقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل
معي من هذا الطير فجاء علي فأكل معه. والأحب إلى الله أكثر ثوابا، وهو معنى الأفضل.
وكقوله صلى الله عليه وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولم يكن عند موسى أفضل
من هارون. وكقوله عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه. الحديث. وقوله
عليه الصلاة والسلام يوم خيبر... وقوله عليه الصلاة والسلام: أنا دار الحكمة وعلي
بابها. وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي: أنت أخي في الدنيا والآخرة... وقوله صلى
الله عليه وسلم: لمبارزة علي وعمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة ومن أحبك فقد
أحبني ومن أحبني هو حبيب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، وبغيضي بغيض الله، فالويل لمن
أبغضك بعدي.
ص 366
وأما المعقول فهو: إنه أعلم الصحابة... وأيضا: هو أشجعهم... وأيضا: هو أزهدهم...
وأيضا: هو أكثرهم عبادة... وأكثرهم سخاوة... وأحملهم... وأيضا: هو أفصحهم لسانا على
ما يشهد به كتاب نهج البلاغة وأسبقهم إسلاما... وبالجملة، فمناقبه أظهر من أن تخفى
وأكثر من أن تحصى. فالجواب: إنه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتصافه
بالكمالات واختصاصه بالكرامات، إلا أنه لا يدل على الأفضلية، بمعنى زيادة الثواب
والكرامة عند الله تعالى، بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية
أبي بكر وعمر، والاعتراف من علي رضي الله عنه بذلك. على أن فيما ذكر مواضع بحث لا
تخفى على المحصل، مثل: أن المراد *(بأنفسنا)* نفس النبي صلى الله عليه وسلم كما
يقال: دعوت نفسي إلى كذا، وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي
- رضي الله عنه - لا اختصاص به، وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء، وأن
أحب خلقك يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - عملا بأدلة أفضليتهما،
ويحتمل أن يراد أحب الخلق إليك في أن يأكل منه... (1). إنكاره دلالة ما ذكره على
الأفضلية بمعني زيادة الثواب مردود أقول: لقد ذكر التفتازاني طائفة من الحجج
البالغة والدلائل الواضحة على أفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام... ثم أنكر
أن يكون شيء منها دالا على أفضليته بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله تعالى...
لكن إنكاره ذلك ساقط مردود، فقد أثبت علماء الشيعة دلالة كل واحد واحد من تلك
الأدلة في محله...
(هامش)
(1) شرح المقاصد 5 / 295 - 299. (*)
ص 367
وفي خصوص حديث الطير نقول: إن صريح الفخر الرازي في (تفسيره) - في عبارته المتقدمة
سابقا - أن معنى محبة الله تعالى لعبده إعطاؤه الثواب... فلا ريب - إذن - في أن
معنى أحبية العبد لديه أكثرية الثواب منه إليه، وإذا كانت الأحبية بمعنى الأكثرية
ثوابا لم يبق أي ترديد في دلالة حديث الطير على أفضلية الإمام عليه السلام... ولقد
سلم - والحمد لله - الفخر الرازي في (نهاية العقول) و(الأربعين) وكذا شمس الدين
الأصفهاني في (شرح التجريد) والقاضي العضدي في (المواقف) والشريف الجرجاني في (شرح
المواقف) والشهاب الدولت آبادي في (هداية السعداء) بأن الأحبية بمعني الأكثرية في
الثواب. وإذا رأى المنصف اعتراف هؤلاء الأعاظم - في مقابلة الشيعة - بكون الأحبية
في حديث الطير بمعنى الأكثرية في الثواب - يفهم جيدا فظاعة ما تفوه به التفتازاني
في هذا المقام. ومن العجائب: استدلال التفتازاني - في نفس هذا الكتاب قبل عبارته
هذه بورقة تقريبا - بحديث عمرو بن العاص على أفضلية أبي بكر، من جهة أن الأحبية تدل
على الأكثرية ثوابا فالأفضلية... فكيف يقول بدلالة ذاك الحديث على أفضلية أبي بكر
وكونه أكثر ثوابا، ومع ذلك ينفي - في جواب احتجاج الشيعة بحديث الطير - دلالته على
أن أمير المؤمنين عليه السلام أكثر ثوابا؟ وجوه الرد على دعوى الاتفاق على أفضلية
أبي بكر وعمر وأما قوله: بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية
أبي بكر ثم عمر فدعوى كاذبة مردودة بوجوه: الأول: قال الحافظ ابن عبد البر: من
قال بحديث ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر
ثم عثمان ثم نسكت فلا نفاضل. فهو الذي أنكر ابن معين وتكلم فيه بكلام غليظ، لأن
ص 368
القائل بذلك قد قال خلاف ما اجتمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه
والآثار: إن عليا كرم الله وجهه أفضل الناس بعد عثمان. هذا مما لم يختلفوا فيه،
وإنما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان. واختلف السلف أيضا في تفضيل علي رضي الله عنه
وأبي بكر رضي الله عنه. وفي إجماع الجميع الذي وصفناه دليل على أن حديث ابن عمر وهم
وغلط، وأنه لا يصح معناه وإن كان إسناده صحيحا. ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر
وحديث أبي سعيد: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم
لا يقولون بذلك. فناقضوا. وبالله التوفيق (1). الثاني: لقد ثبت أن جمعا من أعلام
الصحابة قالوا بأفضلية الإمام عليه السلام من أبي بكر... قال ابن عبد البر: روي
عن سلمان وأبي ذر والمقداد وحذيفة وحباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن الأرقم: أن
علي بن أبي طالب أول من أسلم، وفضله هؤلاء على غيره (2). قلت: ومن الصحابة
القائلين بأفضليته: عبد الله بن عمر، فقد روى السيد علي الهمداني: عن أبي وائل،
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا إذا عددنا أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم قلنا: أبو بكر وعمر وعثمان. فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن فعلي! قال: علي من
أهل البيت، لا يقاس به أحد، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في درجته، إن الله
يقول: *(الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)* ففاطمة مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في درجته، وعلي معهما (3). والعباس عم النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، قال أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة الحكيم البغدادي في (تاريخ
بغداد) بترجمة شريك: دخل
(هامش)
(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 52 - 53. (2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 /
27 (3) المودة في القربى. انظر: ينابيع المودة 1 / 174. (*)
ص 369
شريك على المهدي فقال له: ما ينبغي أن تقلد الحكم بين المسلمين. قال: ولم؟ قال:
بخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة. قال: أما قولك: بخلافك على الجماعة فمن الجماعة
أخذت ديني، فكيف أخالفهم وهم أصلي في ديني؟ وأما قولك: بالإمامة. فما أعرف إلا كتاب
الله وسنة رسوله. وأما قولك: مثلك لا يقلد الحكم بين المسلمين، فهذا شيء أنتم
فعلتموه، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه، وإن كان صوابا فأمسكوا عنه. قال: ما تقول
في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال فيه أبوك العباس وعبد الله. قال: وما قالا؟ قال:
أما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما
نزل من النوازل، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله. وأما عبد الله فإنه كان يضرب
بين يديه، وكان في حروبه رأسا متبعا وقائدا مطاعا. فلو كانت إمامة علي جورا كان
أولى أن يقعد عنها أبوك، لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله. فسكت المهدي وأطرق،
ولم يمض بعد هذا المجلس إلا قليل حتى عزل شريك . وحسان بن ثابت. ذكر ذلك (الدهلوي)
في جواب السؤال الرابع من (المسائل البخارية). الثالث: ونفى أبو بكر نفسه كونه خير
الأمة، واعترف بأفضلية أمير المؤمنين عليه السلام منه حيث قال على المنبر مخاطبا
المسلمين: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم (1). الرابع: وقال جماعة من أعلام
العلماء أيضا بأفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام من الشيخين. منهم القاضي
شريك كما عرفت من (تاريخ بغداد) ومنهم عبد الرزاق الصنعاني، وجماعة الصوفية كما في
(المسائل البخارية). الخامس: لو سلمنا قيام هذا الإجماع، فإنه إجماع على خلاف قول
الله
(هامش)
(1) إبطال الباطل - مخطوط (*)
ص 370
ورسوله، وما كان كذلك فلا يحتج به ولا يعبأ به. سلمنا عدم مخالفته، لكنه غير ثابت
عند الشيعة فلا وجه لإلزامهم به. دعوى اعتراف الإمام بأفضلية أبي بكر مستندة إلى
خبر موضوع وأما دعوى التفتازاني الاعتراف من علي عليه السلام بأفضلية الشيخين منه
فإنها *(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)* وذكرها في مقابلة الشيعة
مباهتة، ولكن إذا لم تستح فاصنع ما شئت . وعلى كل حال، فإنه لم يكن إعتراف من
الإمام بأفضلية الشيخين أو أحدهما منه أبدا، وما رواه أسلاف القوم في هذا الباب
فخبر مكذوب موضوع *(قاتلهم الله أنى يؤفكون)* *(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون)*. تأويل حديث الطير باطل وأما مناقشته في دلالته الأدلة التي ذكرها،
فمردودة في مواضع الاستدلال والاحتجاج بها من كتب الإمامية، كما أن تأويل حديث
الطير بما ذكره، قد عرفت أن جميع التأويلات التي ذكروها لها فاسدة، فلا نعيد.
العلاء القوشجي وقال علاء الدين علي بن محمد القوشجي: وخبر الطائر: أهدي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم طائر مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك حتى يأكل
معي. فجاء علي وأكل. والأحب إلى الله تعالى أفضل فأجاب: وأجيب بأنه: لا كلام في
عموم مناقبه... (1).
(هامش)
(1) شرح التجريد: 379. (*)
ص 371
ذكر عبارة التفتازاني والجواب الجواب أقول: لقد تبع القوشجي التفتازاني في هذا
المقام في الجواب عن الاستدلال بحديث الطير، حيث نقل كلامه بحذافيره، فنكتفي في
الجواب: بما ذكرناه في الرد على التفتازاني ولا نعيد. الشهاب الدولت آبادي وقال
شهاب الدين ملك العلماء الدولت آبادي الهندي: إعلم أن أحاديث فضيلة علي - كرم
الله وجهه - من الصحاح، ولكن احتجاجهم على الخطأ. إحتج الشيعة بخبر الطير... قال
أهل السنة: هذا الحديث لا يدل على أنه أحب في كل شيء من أبي بكر - رضي الله تعالى
عنه -. لعل المراد: خيرا لأكل هذا الطير (1). اعتراف بصحته وتأويل عرفت بطلانه
أقول: قد اعترف هذا الرجل بصحة حديث الطير، لكنه أجاب عن الاستدلال به بتأويله عن
ظاهره، ناسبا هذا التأويل إلى أهل السنة، وقد عرفت بطلان هذا التأويل وفساده كغيره
مما ذكروه، وأن كثيرا منهم لم يلجأوا إلى التأويل لوضوح وهنه وسخافته، فزعموا
المعارضة بما وضعوه في فضل الشيخين، أو أحدهما.
(هامش)
(1) هداية السعداء. الهداية الأولى من الجلوة السابعة. (*)
ص 372
إسحاق الهروي

وقال إسحاق الهروي - سبط الميرزا مخدوم - مقتصرا على بعض هفوات
التفتازاني في جواب حديث الطير: والجواب: إنه يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر - رضي
الله تعالى عنهما - عملا بأدلة أفضليتهما. وأيضا: يحتمل أن يكون أحب الخلق إليك في
أن يأكل، لا مطلق الأحب . ذكر تأويل التفتازاني وقد عرفت فساده وما ذكره هذا الرجل
ليس إلا تأويل التفتازاني، وقد عرفت فساده فلا نعيد. حسام الدين السهارنفوري تأويل
تقدم فساده واقتصر حسام الدين السهارنفوري في (مرافض الروافض) على بعض هفوات عبد
الحق الدهلوي الذي عرفت فسادها فيما سبق. محمد البدخشاني وأجاب الميرزا محمد بن
معتمد خان البدخشاني عن الاستدلال بحديث الطير لا بالقدح في سنده، ولا بالتأويل، بل
بالمعارضة بالحديث الموضوع في فضل عمر بن الخطاب: ما طلعت الشمس على رجل خير من
عمر (1).
(هامش)
(1) رد البدعة - مخطوط. (*)
ص 373
اعتراف بالسند والدلالة ودعوى المعارضة والمهم اعترافه الضمني بسند حديث الطير
وتمامية دلالته على أفضلية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، فإن في ذلك تخطئة لكل
أولئك الذين حاولوا القدح في سنده أو تأويله عن ظاهره. وأما دعوى معارضته بالحديث
الموضوع المذكور فهي متابعة لبعض أسلافه، وقد أجبنا عنها فيما تقدم. وحاصل ذلك: أن
هذا الحديث موضوع، وعلى فرض تماميته سندا فهو معتبر عندهم وليس بحجة على الشيعة،
بخلاف حديث الطير الذي ثبت من طرق أهل السنة فيكون حجة عليهم... ومن المعلوم أن ما
ليس بحجة لا يعارض الحجة. ولي الله الدهلوي وتشبث الشيخ ولي الله الدهلوي (والد
الدهلوي) في الجواب عن الاستدلال بحديث الطير بأباطيل عديدة... حيث قال بجواب
المحقق الطوسي صاحب التجريد: قوله: وخبر الطير، عن أنس قال: كان عند النبي صلى
الله عليه وآله وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير،
فجاء علي فأكل معه. أخرجه الترمذي. لا يخفى ورود مثل هذه الفضائل في حق الشيخين
كقوله: يتجلى الله تعالى لأبي بكر خاصة وللناس عامة . و ما طلعت الشمس على رجل
خير من عمر . وأيضا: لا يخفى أن لفظ الأحب وارد بحق كثير من الصحابة وترتفع
المعارضة بأحد وجوه ثلاثة: إما أن نقول: بأن الحب على أنواع: حب الرجل زوجته، وتارة
يطلقون لفظ الأحب ويريدون هذا الحب. وحب الرجل أولاده وأقربائه، وحب الرجل
لليتيم، وحب الرجل لشيخه، وحب الرجل مشاركه في العلم. والحب الوارد
ص 374
في هذه الأخبار يمكن تنزيله بالتأمل على أحد هذه المعاني، كما عن عائشة الصديقة
أنها قالت: كان أبو بكر أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر. ثم
قالت: لو استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستخلف أبا بكر ثم عمر. وعن جميع بن
عمير، قال: دخلت مع عمتي على عائشة فسألت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت زوجها. أخرجه الترمذي. فظهر أن
المراد من الأحبية في الحديث الأول حب المشابهة في الفضائل التي هي المناط في
الاستخلاف، وفي الحديث الثاني حب الأولاد والأقارب. وأما أن نقول: بأن الحب يتعلق
بالصفات المحمودة التي يحصل بسببها القرب من الله تعالى والرسول ويوجب الرضا
عندهما. ولكل صفة من تلك الصفات مقام من الرضا والحب، فيجوز أن يكون شخص أحب لصفة
مثل الشجاعة ومحاربة الأعداء، والآخر أحب بصفة أخرى مثل الحل والعقد في أمر
الخلافة. وإما أن نقول: إن الأحب بمعنى من الأحب فيكون صنف من المحبوبين
أرجح على سائر المحبوبين، و الأحب لفظ يمكن إطلاقه بإزاء كل فرد من هذا الصنف
(1). دعوى المعارضة ب يتجلى الله لأبي بكر... أقول: إن هذا الكلام في أقصى
درجات الهوان ومراتب الفساد، كما لا يخفى على من نظر في مباحثنا المتقدمة بإمعان
وإنصاف... ولكن من المناسب أن نبين حال هذا الكلام بإيجاز فنقول:
(هامش)
(1) قرة العينين في تفضيل الشيخين: 288. (*)
ص 375
أما دعواه المعارضة بحديث: يتجلى الله لأبي بكر خاصة وللناس عامة فباطلة جدا، فمن
العجب تمسك هذا المحدث الكبير!! بمثل هذا الحديث الموضوع عند محققي أهل نحلته!!.
ألا يعلم بتنصيص المجد الفيروزآبادي على أنه من المفتريات التي يعلم بطلانها ببداهة
العقل (1). وأنه قد أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) (2). وأخرجه ابن عدي في كتابه
(الكامل في الضعفاء) وصرح ببطلانه (3). واعترف الذهبي في (ميزان الإعتدال في نقد
الرجال) بسقوطه في غير موضع (4)... وقد فصل ذلك كله في كتاب (شوارق النصوص). فما
يقول أولياء والد (الدهلوي) في مقام الدفاع عنه وتوجيه ما ادعاه؟! دعوى المعارضة ب
ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر وأما دعواه المعارضة بحديث: ما طلعت الشمس
على رجل خير من عمر فكذلك، لأنه حديث موضوع مفتعل باطل، كما فصل في (شوارق
النصوص) كذلك، وإليك عبارة المناوي المشتملة على إبطال جماعة إياه: ما طلعت الشمس
على رجل خير من عمر. أخرجه الترمذي في المناقب والحاكم في فضائل الصحابة عن أبي
بكر. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بذاك. إنتهى. وقال الذهبي: فيه عبد الله بن
داود الواسطي ضعفوه، وعبد الرحمن بن أخي محمد المنكدر لا يكاد يعرف، وفيه كلام.
(هامش)
(1) سفر السعادة - باب فضائل أبي بكر. (2) الموضوعات 1 / 304. (3) الكامل في
الضعفاء 4 / 1557. (4) ميزان الاعتدال 2 / 415. (*)
ص 376
والحديث شبه الموضوع. إنتهى. وقال في الميزان - في ترجمة عبد الله بن داود الواسطي
-: في أحاديثه مناكير، وساق هذا منها ثم قال: هذا كذب. وأقره في اللسان عليه (1).
وبعد، فإن تمسك ولي الله بهذين الحديثين عجيب من جهة أخرى وهي: إن هذا المحدث ينص
في نفس كتابه (قرة العينين) على أن أحاديث الصحيحين - فضلا عن غيرها - غير صالحة
للإحتجاج على الإمامية بل الزيدية... فكيف يحتج في هذا الكتاب بهكذا حديثين والحال
هذه؟ دعوى المعارضة ب من أحب الناس إليك؟... وأما دعواه ورود لفظ الأحب
المطلق في حق كثير من الصحابة فممنوعة، وكذا المعارضة بما لا يجوز الاحتجاج به من
أخبارهم: أما حديث عمرو بن العاص المشتمل على مجئ هذا اللفظ بالنسبة إلى عائشة
وأبيها، فحاله في القدح والجرح معلوم. وأما حديث أنس الوارد فيه ذلك أيضا، فهو من
رواية حميد عن أنس وقد نصوا على عدم جواز الاحتجاج به إلا إذا قال: حدثنا أنس
. أما أنه من رواية حميد عن أنس من غير قول حدثنا فذلك ظاهر من رواية ابن
ماجة والترمذي. قال ابن ماجة: حدثنا أحمد بن عبدة والحسين بن الحسن المروزي قال:
ثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟
قال: عائشة. قيل: من الرجال؟ قال: أبوها (1). وقال الترمذي: حدثنا أحمد بن عبدة
الضبي، نا المعتمر بن سليمان،
(هامش)
(1) فيض القدير - شرح الجامع الصغير: 5 / 454. (2) سنن ابن ماجة 1 / 38. (*)
ص 377
عن حميد، عن أنس قال قيل: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قيل: من
الرجال؟ قال: أبوها. هذا حديث حسن [صحيح] غريب من هذا الوجه من حديث أنس (1).
وأما أن رواية حميد عن أنس لا تقبل إلا إذا قال حميد حدثنا أنس فقد نص عليه
ابن حجر بترجمته بقوله: قال أبو بكر البرديجي: وأما حديث حميد، فلا نحتج منه إلا
بما قال: حدثنا أنس (2). وبالجملة: فإن حديث أنس - كحديث عمرو بن العاص - لا يجوز
الاحتجاج به وإن حكم الترمذي بحسنه وصحته، لكنه مع ذلك حكم بغرابته... على أنه حديث
اتفق الشيخان على الإعراض عنه. وإذ لا حديث معتبر محتج به مشتمل على إطلاق الأحب
مطلقا على غير سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، كان حديث الطير بلا معارض، حتى
يحتاج إلى ما ذكره من وجه لرفع المعارضة. هذا، وعلى فرض وجود لفظ الأحب على
الإطلاق في حق كثير من الصحابة في الأخبار المتناقضة المتكاذبة عند أهل السنة، فأي
ملزم للإمامية لأن يتكلفوا ويتجشموا التأويلات المخترعة لأجل رفع التعارض بين تلك
الأحاديث وبين حديث الطير، مع أن تلك الأحاديث ليست من أحاديثهم؟ إنه لا عليهم إلا
التمسك بالأحاديث الدالة على أحبية أمير المؤمنين عليه السلام، وطرح غيرها من
الأحاديث حتى ولو كانت في أعلى درجات الصحة عند أهل السنة؟! على أنه لو كان على
الشيعة جمع الأخبار المتعارضة الواردة عند أهل السنة في هذا الباب، فلا موجب لتجشم
الجمع بين ما رووه في حق الشيوخ
(هامش)
(1) صحيح الترمذي 5 / 707. (2) تهذيب التهذيب 3 / 35. (*)
ص 378
وأحزابهم، وبين أحاديث أحبية أمير المؤمنين عليه السلام، بل مقتضى الإنصاف أن
أخبارهم في أحبية الشيخين وغيرهما معارضة بأخبار أخرى لهم لا تحصى، في كفرهم
ونفاقهم وفسقهم، فلا تصل النوبة إلى وقوع المعارضة بين أخبار أحبية أولئك، وأخبار
أحبية الإمام عليه السلام، حتى يحتاج إلى جمع!! دعوى تنوع حب الله والرسول وأما
قوله: وترفع المعارضة بأحد وجوه ثلاثة: إما أن نقول بأن الحب على أنواع... والحب
الوارد في هذه الأخبار يمكن تنزيله بالتأمل على أحد هذه المعاني فمردود بوجوه:
أما أولا: فلا ريب في بطلان القول بتنوع حب الله تعالى بهذه الأنواع، إذ ليس له
تعالى زوجة ولا أولاد ولا شيخ، ومفاد حديث الطير بصراحة أحبية أمير المؤمنين عليه
السلام إلى الله عز وجل. فلو تأمل المتأملون إلى يوم القيامة لم يمكن تنزيل حديث
الطير على شيء من هذه المعاني. وأما ثانيا: فإنه إذا اضطر أولياء ولي الله إلى
القول بأن مراده رفع المعارضة بين الأحاديث الأخرى غير حديث الطير، وتلك الأحاديث
مفادها الأحبية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا إلى الله تعالى، فذلك
باطل كذلك، لما نص عليه أكابر القوم - كما مضى سابقا - من كون الأحب إلى الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم هو الأحب إلى الله تعالى، فمن ورد في حقه في الأخبار أنه أحب
الخلق إلى الرسول فالمراد منه الأحب إلى الله تعالى، وقد عرفت أن بطلان تنوع حب
الله إلى تلك الأنواع من القطعيات. فما ذكره ولي الله لا يرفع المعارضة من بين تلك
الأخبار أيضا. وأما ثالثا: فإن في انقسام حب الرسول - بقطع النظر عما ذكر - مناقشات
عديدة، بل تجويز بعض أنواع الحب بالنسبة إليه واضح الفساد، لعلم الكل
ص 379
- حتى الصبيان - بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له شيخ حتى يكون له
محبوبا عنده ويطلق عليه الأحب باعتبار كونه شيخا له. وأما رابعا: فلأن كل عاقل
يعلم - بالنظر إلى الأدلة السابقة - بابتناء حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
للأشخاص على أساس سوابقهم الدينية، فمن لم يكن، سواء من اليتامى أو الأولاد أو
الأزواج أو غيرهم - أفضل في الدين من غيره لم يجز أن يكون أحب الناس إليه صلى الله
عليه وآله وسلم. وأما خامسا: فلأنه لو جازت أحبية بعض الأزواج أو الأولاد إليه صلى
الله عليه وآله وسلم من حيث كونها زوجة له أو كونه ولدا - حتى مع عدم الأفضلية في
الدين - لم يجز إطلاق لفظ الأحب بنحو الإطلاق في ذاك المورد، لما عرفت - بحمد
الله - بالتفصيل من عدم جواز إطلاق صيغة أفعل التفضيل بلحاظ بعض الحيثيات غير
المعتبرة... فظهر عدم جواز تنزيل الأحب في الأخبار المعتبرة على بعض تلك
المعاني التي ذكرها ولي الله الدهلوي. الاستدلال بقول عائشة: كان أبو بكر أحب الناس
ثم عمر وأما قوله: كما عن عائشة الصديقة أنها قالت: كان أبو بكر أحب الناس إلى
رسول الله ثم عمر. ثم قالت: لو استخلف رسول الله لاستخلف أبا بكر ثم عمر...
فتزوير غريب مطعون فيه بوجوه: أولا: لو صح في أخبارهم صدور هذين القولين من عائشة،
فلا ثبوت لهما عند الشيعة، لعدم اعتبارهم بأخبار أهل السنة هذه. وثانيا: على فرض
ثبوتهما عنها، فلا اعتبار بها عند الشيعة ليحتج بأقوالها عليهم. وثالثا: إنه قد
رووا عن عائشة أحبية أبي عبيدة بعد الشيخين، وكذا استخلاف النبي صلى الله عليه وآله
وسلم - لو استخلف!! - أبا عبيدة
ص 380
بعدهما... وقد روى ولي الله الدهلوي نفسه هذين القولين عنها كذلك في نفس كتاب (قرة
العينين) وهذا لفظه: قيل لها: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟
قالت: أبو بكر. قيل: ثم من؟ قالت: عمر. قيل: ثم من؟ قال: أبو عبيدة. أخرجه الترمذي
وابن ماجة . سئلت: من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. فقيل
لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت أبو عبيدة ابن
الجراح. ثم انتهت إلى هذا. أخرجه البخاري ومسلم . لكن هذين القولين باطلان
بالضرورة، لأن الذي بعد الشيخين - بناء على مذهب أهل السنة في التفضيل - إما عثمان
وإما أمير المؤمنين عليه السلام، فلا مناص من تكذيب أو تخطئة ما رووا عن عائشة في
هذا الباب. ورابعا: إن إقرار العقلاء على أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود. فقول
عائشة في حق غير علي وفاطمة عليهما السلام في مقابلة قولها لجميع بن عمير غير
مقبول. وخامسا: إنه بقطع النظر عما ذكر، فإن ما تقوله عائشة في فضل أبيها غير مقبول
لدى العقلاء، لكونها بلا ريب متهمة في هذا الباب، بخلاف قولها في أحبية أمير
المؤمنين عليه السلام، فإنه لا احتمال لأن تكون كاذبة فيه. وسادسا: إنه لا ريب في
أن عائشة تحب أباها أبا بكر بخلاف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام الذي بلغت
عداوتها له الحد الأقصى، فكيف يعبأ عاقل بقولها في حق محبوبها في مقابلة قولها في
حق المبغوض عندها؟ وسابعا: إن ما رووه عنها في حق أبيها خبر واحد، وما رووه عنها في
باب أمير المؤمنين عليه السلام مستفيض، والواحد لا يقابل الكثير المستفيض. وثامنا:
إن كلماتها المنقولة عنها في حق أمير المؤمنين عليه السلام أقوى دلالة مما قالته في
حق أبي بكر، فمن ذلك قولها: ما خلق الله خلقا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم من علي بن أبي طالب وقولها: والله
ص 381
ما أعلم رجلا كان أحب إلى رسول الله من علي ولا في الأرض امرأة كانت أحب إلى رسول
الله من امرأته . وتاسعا: إن بعض المنقول عنها في حق أمير المؤمنين عليه السلام
مؤيد باليمين بخلاف ما رووه عنها في حق أبيها. وعاشرا: إن أقوالها في حقه عليه
السلام مؤيدة ببراهين منها نفسها حيث قالت: أن كان ما علمت صواما قواما هكذا
رواه الترمذي، وإن أطرح منه ولي الله الدهلوي هذه الجملة لدى نقله عن الترمذي! وفي
لفظ آخر: فوالله لقد كان صواما قواما، ولقد سالت نفس رسول الله في يده فردها إلى
فيه . وليست هذه الأشياء في قولها في حق أبي بكر. والحادي عشر: لو كان أحبية أمير
المؤمنين عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى مجرد محبة
الإنسان لأولاده وأقربائه، لما أجابت عائشة سؤال المرأة من الأنصار أي أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: علي بن
أبي طالب ، لأن الأصحاب لم يكونوا منحصرين في الأولاد والأقارب، فالسؤال والجواب
لم يكن في حدود الأولاد والأقرباء فقط، حتى يحمل ما ورد عن عائشة في أحبية الإمام
إلى النبي على أنه كان أحب الأولاد والأقرباء. والثاني عشر: إن حمل كلامها على ذلك
يبطله أيضا قولها للنبي: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي فما قالته
لجميع بن عمير باق على إطلاقه، وتأويله من قبيل تأويل الكلام بما لا يرضى صاحبه.
والثالث عشر: إنه لو كان مرادها أحبية الإمام إلى النبي من بين الأولاد والأقرباء
فقط، لكان ذلك خير طريق لها للتخلص عن تعيير جميع بن عمير وعروة بن الزبير ومعاذة
الغفارية، لخروجها على أمير المؤمنين عليه السلام. والرابع عشر: إنه لو سلمنا ما
ادعاه ولي الله الدهلوي من أن مراد عائشة
ص 382
- فيما روي عنها في أحبية الأمير عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم -
أنه أحب إليه من بين الأولاد والأقرباء... فإن ذلك لم يكن إلا اجتهادا منها في
مقابلة النص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله
عليه وآله وسلم مخاطبا إياها: يا عائشة، إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي،
فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه ومن المعلوم أن لا اعتبار باجتهادها في مقابل النص عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل يظهر من ذلك كونها في مقام العناد والمخالفة
له صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا حال ولي الله الدهلوي الذي يحاول تثبيت التأويل
المذكور، وحال غيره أصحاب التأويلات الأخرى. تأويل الحديث ببعض الوجوه وبالجملة،
فقد ثبت - والحمد لله - إطلاق أحبية أمير المؤمنين عليه السلام إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، فهو أحب الخلق إليه من جميع الجهات، وإن تأويل ذلك بشيء من
التأويلات تأباه ألفاظ حديث الطير وغيره من الأخبار والروايات، فيبطل قول ولي الله:
وإما أن نقول بأن الحب يتعلق بالصفات المحمودة... . مضافا إلى بطلان ما يومي
إليه كلامه من أن أحبية الإمام عليه السلام كانت لمجرد الشجاعة ومحاربة الأعداء،
فإنه باطل بالأدلة المتكثرة ومنها أقوال عائشة المشتملة على التعليل بكونه صواما
قواما وهو الشيء الذي حذفه ولي الله!! ومضافا إلى بطلان ما يومي إليه كلامه من
كون الشيخين أحب إليه من حيث صفة الحل والعقد، فإنه لو كان كذلك فلماذا أعرض رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عما قال له ابن مسعود ليلة الجن بشأن استخلافهما من
بعده كما في (آكام المرجان لبدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي)؟!
ص 383
ومما ذكرنا - من إطلاق أحبية الإمام إلى النبي وبطلان تقييده بجهة من الجهات - يبطل
أيضا قوله: وإما أن نقول: إن الأحب بمعنى من الأحب... . فإن هذا تأويل التوربشتي
ومن تبعه... وقد عرفت سقوطه بحمد الله... فلا نعيد. الخلاصة: إن كل مساعي القوم في
رد حديث الطير لا تسمن ولا تغني من جوع، وإن كل أعمالهم ذاهبة هباء منثورا... لقد
سعوا كثيرا وبذلوا جهدا كبيرا... لكن ضل سعيهم وما شروا بذلك إلا جهنم وسعيرا...
كلمات في ذم التأويل إنه ما كان عند القوم أزيد من القدح في السند، والمعارضة في
الدلالة، والحمل والتأويل.. وقد عرفت سقوط ذلك كله... ولننقل بعض الكلمات في ذم
التأويل لآيات الكتاب والأحاديث النبوية عن بعض أكابرهم: قال الغزالي: وأما
الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح، وأمر آخر يخصها وهو: صرف ألفاظ الشرع عن
ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام شيء يوثق به، كدأب
الباطنية في التأويلات، فهذا أيضا حرام وضرره عظيم، فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى
ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل
العقل، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ، وسقط به منفعة كلام الله تعالى ورسوله صلى
الله عليه وسلم، فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له، بل
يتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيلها على وجوه شتى. وهذا أيضا من البدع
ص 384
الشائعة العظيمة الضرر، وإنما قصد أصحابها الإغراب، لأن النفوس مائلة إلى الغريب
ومستلذة له، وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها
وتنزيلها على رأيهم... (1). وقال ابن قيم الجوزية: إذا سئل عن تفسير آية من
كتاب الله وسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم فليس أن يخرجها عن
ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة الموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من
الإفتاء والحجر عليه، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الكلام قديما وحديثا
(2). قال: وقال بعض أهل العلم: كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله من يحمل كلامه
على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها
بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم: *(ولكم الويل مما
تصفون)*؟... ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل
عليها كلامه أنهم قالوا برأيهم على الله، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي، وجعلوا
آراءهم عيارا على كلام الله ورسوله؟ ولو علموا علموا أي باب شر فتحوا على الأمة
بالتأويلات الفاسدة، وأي بناء الإسلام هدموا بها، وأي معاقل وحصون استباحوها، وكان
أحدهم لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك... (3).
وقال محمد معين السندي: ومن أشنع ما يخرجون كلام الشارع - صلى الله تعالى عليه
وسلم - عن الحقيقة والمجاز، ويفتحون فيه باب التأويل، فهو فعلهم ذلك إذا حملهم عليه
نصرة إمامهم على غيره من الأئمة،
(هامش)
(1) إحياء علوم الدين 1 / 37. (2) أعلام الموقعين 4 / 245. (3) أعلام الموقعين 4 /
249. (*)
ص 385
فحفظ رأيه أهم عليهم من إخراج كلام نبيهم صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحقيقة...
والإمام ليس بمعصوم حتى نأول له كلمات الشريعة ونترك حقيقة الكلام، ولم يأذن الله
تعالى ورسوله لأحد بهذه النصرة لأحد... (1).
(هامش)
دراسات اللبيب - الدراسة الثامنة. (*)
ص 387
تفنيد المعارضة بحديث الاقتداء بالشيخين

ص 389
وبقي شيء... وهو آخر ما تذرع به (الدهلوي) في جواب حديث الطير... دعوى معارضته
بحديث الاقتداء الذي يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... وهذا: قوله:
وأيضا، فإنه - على تقدير دلالته على المدعى - لا يقاوم الأخبار الصحاح الدالة على
خلافة أبي بكر وعمر، مثل: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وغير ذلك . أقول:
هذا الكلام المشتمل على الاحتجاج بحديث الاقتداء في غاية الوهن والهوان، لأن الحديث
المذكور من الأحاديث الموضوعة، فدعوى صحته والاحتجاج به باطلة، مضافا إلى الوجوه
الأخرى لبطلان هذا الكلام... فنقول: 1 - المعارضة بما اختصوا بروايته غير مسموعة إن
هذا الكلام لا يناسب شأن (الدهلوي)... لأن من القواعد المقررة
ص 390
للبحث والمناظرة، المعلومة لأصاغر الطلبة فضلا عن الأفاضل: عدم جواز الاحتجاج على
الخصم بما لا يرويه ولا يرضاه، فكيف يحتج (الدهلوي) بحديث الاقتداء ونحوه مما اختص
أهل السنة بروايته ويريد إلزام الشيعة بذلك؟ إنه لا يجوز الاحتجاج على الشيعة بما
لا ترضاه حتى لو كان في غاية الصحة عند أهل السنة... 2 - المعارضة به ينافي ما
التزم به (الدهلوي) بل معارضة (الدهلوي) واستدلاله بهذا الحديث ينافي ما التزم به
في نفس كتابه (التحفة)... فإنه قد صرح في أوله بأنه قد التزم فيه بعدم النقل إلا عن
الكتب المعتبرة للشيعة، وأن يكون إلزامهم بها لا بما يرويه أهل السنة... فالعجب منه
كيف نسي هذا الأصل في غير موضع من بحوث كتابه!! والأعجب من ذلك تكراره لهذا الذي
التزم به وتأكيده إياه، فراجع كلامه في الباب الرابع بعد ذكر حديث الثقلين، وفي
الباب السادس بعد ذكر مسألة تفضيل غير الأنبياء، وفي الباب السابع أيضا - وهو باب
الإمامة - نص على عدم تمسكه بغير روايات الشيعة... في مقابلتها! فقد تعهد (الدهلوي)
وجدد عهده وميثاقه غير مرة، ولكنه نقض العهد وخالف الالتزام غير مرة كذلك!! 3 -
المعارضة به ينافي ما نص عليه والده وينافي أيضا ما نص عليه والده ولي الله
الدهلوي، وهو إمامه وأستاذه ومقتداه في كل شيء... فقد نص ولي الله في آخر كتابه
(قرة العينين في تفضيل الشيخين) على عدم جواز المناظرة مع الإمامية والزيدية حتى
بأحاديث الصحيحين وأمثالها، لكونهم لا يرون صحتها، فكيف يلزمون بها.
ص 391
4 - المعارضة به ينافي ما نص عليه تلميذه وهذا هو الذي نص عليه وقرره تلميذه رشيد
الدين الدهلوي، فقد نص في كتابه (الشوكة العمرية) على أن كل فرقة من الشيعة والسنة
لا تعتمد على ما تختص به الأخرى، إذن، لا يجوز الاحتجاج بهكذا روايات من الطرفين...
وتخلص - إلى الآن - أن احتجاج (الدهلوي) بحديث الاقتداء، وكذا احتجاجه بغير هذا
الحديث من أخبارهم التي اختصوا بها، وكذا احتجاج غيره من علماء القوم... باطل...
بمقتضى المناظرة... وهو ما نص عليه (الدهلوي) نفسه ووالده وتلميذه... 5 - هذا
الحديث واه بجميع طرقه حسب تصريحاتهم وبعد... فإن ما ذكرناه هو القاعدة العامة التي
يسقط على أساسها كثير من احتجاجات القوم واستدلالاتهم... ومنها الاحتجاج والمعارضة
بحديث الاقتداء... لكن هذا الحديث مقدوح مطعون فيه بجميع طرقه... فوصف (الدهلوي)
إياه بالصحة جهل أو كذب... وإليك بيان ذلك في رسالة خاصة استفيد فيها كثيرا من
تحقيقات السيد في هذا الحديث:
ص 393
رسالة في تحقيق حديث الاقتداء بالشيخين تأليف السيد علي الحسيني الميلاني

ص 395
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله
الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين. وبعد فلا
يخفى أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي عند المسلمين -
وإن وقع الخلاف بينهم في طريقها - فمنها - بعد القرآن الكريم - تستخرج الأحكام
الإلهية، وأصول العقائد الدينية، والمعارف الفذة، والأخلاق الكريمة، بل فيها بيان
ما أجمله الكتاب، وتفسير ما أبهمه، وتقييد ما أطلقه، وإيضاح ما أغلقه... فنحن
مأمورون باتباع السنة والعمل بما ثبت منها، ومحتاجون إليها في جميع الشؤون ومناحي
الحياة، الفردية والاجتماعية... إلا أن الأيدي الأثيمة تلاعبت بالسنة الشريفة حسب
أهوائها وأهدافها... وهذا أمر ثابت يعترف به الكل... ولهذا وذاك... انبرى علماء
الحديث لتمييز الصحيح من السقيم، والحق من الباطل... فكانت كتب (الصحاح) وكتب
(الموضوعات)...
ص 396
ولكن الحقيقة هي تسرب الأغراض والدوافع الباعثة إلى الاختلاق والتحريف إلى المعايير
التي اتخذوها للتمييز والتمحيص... فلم تخل (الصحاح) من الموضوعات والأباطيل، ولم
تخل (الموضوعات) من الصحاح والحقائق... وهذا ما دعا آخرين إلى وضع كتب تكلموا فيها
على ما أخرج في الصحاح وأخرى تعقبوا فيها ما أدرج في الموضوعات... وقد تعرضنا لهذا
في بعض بحوثنا المنشورة... وحديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر أخرجه
غير واحد من أصحاب الصحاح.. وقال بصحته غيرهم تبعا لهم... ومن ثم استندوا إليه في
البحوث العلمية. ففي كتب العقائد... في مبحث الإمامة... جعلوه من أقوى الحجج على
إمامة أبي بكر وعمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم... وفي الفقه... استدلوا به
لترجيح فتوى الشيخين في المسألة إذا خالفهما غيرهما من الأصحاب... وفي الأصول... في
مبحث الإجماع... يحتجون به لحجية اتفاقهما وعدم جواز مخالفتهما فيما اتفقا عليه...
فهل هو حديث صحيح حقا؟ لقد تناولنا هذا الحديث بالنقد، فتتبعنا أسانيده في كتب
القوم، ودققنا النظر فيها على ضوء كلمات أساطينهم، ثم عثرنا على تصريحات لجماعة من
كبار أئمتهم في شأنه، ثم كانت لنا تأملات في معناه ومتنه... فإلى أهل الفضل
والتحقيق هذه الصفحات اليسيرة المتضمنة تحقيق هذا الحديث في ثلاثة فصول... والله
أسأل أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم... إنه
خير مسؤول.
ص 397
(1) نظرات في أسانيد حديث الاقتداء

إن حديث الاقتداء من الأحاديث المشهورة في فضل
الشيخين، فقد رووه عن عدة من الصحابة وبأسانيد كثيرة... لكن لم يخرجه البخاري ومسلم
في صحيحيهما مطلقا، ولم يخرج في شيء من الصحاح عن غير حذيفة وعبد الله بن مسعود،
وقد ذهب غير واحد من أعلام القوم إلى عدم قبول ما لم يخرجه الشيخان من المناقب،
وكثيرون منهم إلى عدم صحة ما أعرض عنه أرباب الصحاح. وعلى ما ذكر يسقط حديث
الاقتداء مطلقا أو ما كان من حديث غير ابن مسعود وحذيفة. لكنا ننظر في أسانيد هذا
الحديث عن جميع من روي عنه من الصحابة، إلا أنا نهتم في الأكثر بما كان من حديث
حذيفة وابن مسعود، ونكتفي في البحث عن حديث الآخرين بقدر الضرورة فنقول: لقد رووا
هذا الحديث عن: 1 - حذيفة بن اليمان. 2 - عبد الله بن مسعود. 3 - أبي الدرداء. 4 -
أنس بن مالك. 5 - عبد الله بن عمر. 6 - جدة عبد الله بن أبي الهذيل. ونحن نذكر
الإسناد إلى كل واحد منهم، وننظر في رجاله:
ص 398
حديث حذيفة رواه أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن زائدة، عن عبد الملك
بن عمير، عن ربعي ابن حراش، عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، قال
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (1) وقال أيضا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان،
عن عبد الملك بن عمير، عن مولى لربعي ابن حراش، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، كنا
جلوسا عند النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال: إني لست أدري ما قدر بقائي فيكم،
فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - قال: وما حدثكم ابن مسعود
فصدقوه (2). ورواه الترمذي حيث قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزاز، أخبرنا
سفيان بن عيينة، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي عن حذيفة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. قال أبو
عيسى: هذا حديث حسن. وفيه عن ابن مسعود قال: روى سفيان الثوري هذا الحديث عن عبد
الملك بن عمير، عن مولى لربعي، عن ربعي، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه [وآله]
وسلم . قال: حدثنا أحمد بن منيع وغير واحد، قالوا، أخبرنا سفيان بن عيينة،
(هامش)
(1) مسند أحمد 5 / 382. (2) مسند أحمد 5 / 385. (*)
ص 399
عن عبد الملك بن عمير، نحوه . وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث فربما
ذكره عن زائدة عن عبد الملك بن عمير، وربما لم يذكر فيه عن زائدة . وروى هذا
الحديث إبراهيم بن سعد، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن هلال مولى ربعي،
عن ربعي، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم (1). وقال: حدثنا محمود
بن غيلان، أخبرنا وكيع، أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن مولى لربعي، عن
ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: كنا جلوسا... (2). ورواه ابن ماجة بسنده عن عبد
الملك بن عمير، عن مولى لربعي بن حراش، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم....
(3). ورواه الحاكم بإسناده: عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن
اليمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يقول: اقتدوا باللذين من
بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد
(هامش)
(1) صحيح الترمذي - مناقب أبي بكر وعمر 5 / 609. (2) صحيح الترمذي - مناقب عمار بن
ياسر. (3) سنن ابن ماجة - مناقب أبي بكر 1 / 37. (*)
ص 400
وعنه، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وإذا حدثكم ابن أم عبد فصدقوه .
وعنه: عن هلال مولى ربعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، أن رسول الله صلى الله عليه
[وآله وسلم] قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر . وبإسناده: عن عبد الملك
بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان: أن رسول الله صلى الله عليه [وآله]
وسلم قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد
ابن أم عبد . ثم قال الحاكم: هذا حديث من أجل ما روي في فضائل الشيخين، وقد أقام
هذا الإسناد عن الثوري ومسعر: يحيى الحماني، وأقامه أيضا عن مسعر: وكيع وحفص بن عمر
الإيلي (1) ثم قصر بروايته عن ابن عيينة: الحميدي وغيره، وأقام الإسناد عن ابن
عيينة: إسحاق بن عيسى بن الطباع. فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث وإن لم يخرجاه
(2).
(هامش)
(1) لقد اقتصرنا في النقد على الكلام حول عبد الملك بن عمير الذي عليه مدار هذا
الحديث الذي بذل الحاكم جهدا في تصحيحه فكان أكثر حرصا من الشيخين على رواية ما
وصفه ب أجل ما روي في فضائل الشيخين وإلا فإن حفص بن عمر الإيلي هذا مثلا
أدرجه العقيلي في الضعفاء وروى عنه حديث الاقتداء ثم قال: أحاديثه كلها إما منكر
المتن، أو منكر الإسناد، وهو إلى الضعف أقرب الضعفاء 2 / 797. و يحيى الحماني
قال الحافظ الهيثمي بعد أن روى الحديث عن الترمذي والطبراني في الأوسط: وفيه يحيى
بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف مجمع الزوائد 9 / 295. (2) المستدرك 3 / 75. (*)
ص 401
نقد السند 1 - هذه أشهر طرق هذا الحديث عن حذيفة بن اليمان، ويرى القارئ، الكريم
أنها جميعا تنتهي إلى: (عبد الملك بن عمير) وهو رجل مدلس، ضعيف جدا، كثير الغلط،
مضطرب الحديث جدا: قال أحمد: مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته، ما أرى له خمسمائة
حديث، وقد غلط في كثير منها (1). وقال: إسحاق بن منصور: ضعفه أحمد جدا (2).
وقال: أحمد أيضا: ضعيف يغلط (3). أقول: فمن العجيب جدا رواية أحمد في مسنده حديث
الاقتداء وغيره عن هذا الرجل الذي يصفه بالضعف والغلط، وقد جعل المسند حجة بينه
وبين الله!! وقال ابن معين: مخلط (4) وقال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغير حفظه
(5). وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه (7). وقال الذهبي: وأما ابن الجوزي
فذكره فحكى الجرح وما ذكر التوثيق (8). وقال السمعاني: كان مدلسا (9).
(هامش)
(1) تهذيب التهذيب 6 / 411 وغيره. (2) تهذيب التهذيب 6 / 412، ميزان الاعتدال 2 /
660. (3) ميزان الاعتدال 6 / 660. (4) ميزان الاعتدال 6 / 660، المغني 2 / 407،
تهذيب التهذيب 6 / 412. (5) ميزان الاعتدال 2 / 660. (6) تهذيب التهذيب 6 / 412.
(7) ميزان الاعتدال 2 / 660. (8) ميزان الاعتدال 2 / 660. (9) الأنساب 10 / 50 في
القبطي . (*)
ص 402
وكذا قال ابن حجر العسقلاني (1). وعبد الملك - هذا - هو الذي ذبح عبد الله بن يقطر
أو قيس بن مسهر الصيداوي وهو رسول الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة، فإنه لما رمي
بأمر ابن زياد من فوق القصر وبقي به رمق أتاه عبد الملك بن عمير فذبحه، فلما عيب
ذلك عليه قال: إنما أردت أن أريحه (2). 2 - ثم إن (عبد الملك بن عمير) لم يسمع هذا
الحديث من (ربعي بن حراش) و(ربعي) لم يسمع من (حذيفة بن اليمان)... ذكر ذلك المناوي
حيث قال: قال ابن حجر: اختلف فيه على عبد الملك، وأعله أبو حاتم، وقال البزار
كابن حزم: لا يصح لأن عبد الملك لم يسمعه من ربعي، وربعي لم يسمع من حذيفة. لكن له
شاهد (3). قلت: الشاهد إن كان حديث ابن مسعود كما هو صريح الحاكم والمناوي فستعرف
ما فيه. وإن كان حديث حذيفة بسند آخر عن ربعي فهو ما رواه الترمذي بقوله: حدثنا
سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، نا وكيع، عن سالم بن العلاء المرادي، عن عمرو بن هرم،
عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم
فقال: إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر
(4). ورواه ابن حزم بقوله: وأخذناه أيضا عن بعض أصحابنا، عن القاضي أبي الوليد
بن الفرضي، عن ابن الدخيل، عن العقيلي، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن فضيل، ثنا
(هامش)
(1) تقريب التهذيب 1 / 521. (2) تلخيص الشافي 3 / 35، روضة الواعظين: 177، مقتل
الحسين: 185. (3) فيض القدير 2 / 56. (4) صحيح الترمذي - مناقب أبي بكر وعمر 5 /
610. (*)