ص 3
بسم الله الرحمن الرحيم
ص 5
إهداء:

إلى حامل لواء الإمامة الكبرى والخلافة العظمى
ولي العصر المهد المنتظر
الحجة ابن الحسن العسكري أرواحنا فداء
يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا
ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المصدقين
علي
ص 7
حديث الولاية

وأحد ألفاظه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علي مني وأنا من
علي وهو وليكم من بعدي
ص 9
كلمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
وبعد، فهذا قسم (حديث الولاية) والبحث عن سنده ومدلوله. فأما من الناحية السندية،
فقد أخرجه غير واحد من أرباب الصحاح والمسانيد والمعاجم والكتب المعتبرة المشهورة،
بأسانيد صحيحة، عن اثني عشر نفسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم:
1 - أمير المؤمنين علي عليه السلام. 2 - الإمام الحسن السبط عليه السلام. 3 - أبو
ذر الغفاري. 4 - عبد الله بن عباس. 5 - أبو سعيد الخدري. 6 - البراء بن عازب. 7 -
عمران بن الحصين.
ص 10
8 - أبو ليلي الأنصاري. 9 - بريدة بن الحصيب. 10 - عبد الله بن عمرو. 11 - عمرو بن
عاص. 12 - وهب بن حمزة. كما ستعلم بالتفصيل في أواخر قسم السند. وله أسانيد في بعض
المسانيد قد نص غير واحد من أعلام الحديث على صحتها. كما أنا سنذكر في أول الملحق
بعض الأسانيد الصحيحة الأخرى له بعون الله. إذن، لا جدوى للنقاش في صحة الحديث
وثبوت صدوره عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم... كما التجاء إليه ابن
تيمية على عادته... ولا مناص من الاعتراف بذلك، كما فعل جماعة من الأعلام. وأما من
الناحية الدلالة، فقد ذكر لها في هذا الكتاب أربعون وجها، مما يتعلق بفقه الحديث،
أو متنه، أو القرائن الخارجية، أو الأحاديث الأخرى... كل ذلك على ضوء الكتب
المعتبرة، وبالاستناد إلى كلمات أشهر علماء القوم في العلوم المختلفة... بحيث لا
يبقى مجال للتشكيك في دلالة هذا الحديث الشريف على أفضلية أمير المؤمنين وولايته
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة. التحريف في لفظ الحديث وهذا ما دعا
جماعة من كبار علماء القوم إلى تحريف الحديث، فالقدر المهم المستدل به في البحث هو
قوله صلى الله عليه وآله وسلم - مخاطبا لعلي
ص 11
عليه السلام -: أنت ولي كل مؤمن من بعدي . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم -
مخاطبا بريدة لما شكى عليا إليه -: يا بريدة، لا تغضبه، إن عليا مني وأنا من علي
وهو وليكم من بعدي . فمنهم - كالبخاري - أخرج القصة ورواه حتى النهي عن البغض،
وأما الفقرة: إن عليا... فأسقطها. ومنهم: من رواها، وأسقط كلمة من بعدي
كالبغوي صاحب (مصابيح السنة)، وذلك لكي يكون الحديث دالا على الولاية، لكن لا
مباشرة!! ولذا قال بعضهم بصحة الحديث، وبدلالتها على الإمامة، لكن في حينها أي
بعد الخلفاء الثلاثة!! تأويلات وتمحلات وهذا الذي فعله البغوي - وتبعه عليه بعض من
تأخر - هو في الحقيقة اعتراف بصحة الاستدلال بالحديث على الإمامة مباشرة، لثبوت
وجود لفظة بعدي فيه، في الأسانيد الصحيحة الموجودة في بعض الصحاح والمسانيد
والكتب المعتبرة الأخرى. فتأويل الحديث وحمله - بعد التلاعب في لفظه - على الإمامة
والخلافة في وقتها - كما في تعبير بعضهم - ساقط، بل إنه شاهد بتمامية دلالته
على ما تذهب إليه الإمامية. فاضطر بعضهم - كصاحب الصواعق - إلى أن يقول: وعلى
تقدير الصحة، فيحتمل أنه رواه بالمعنى بحسب عقيدته. وعلى فرض أنه رواه بلفظه،
فيتعين تأويله على ولاية خاصة، نظير قوله صلى الله عليه وآله وسلم -: أقضاكم علي .
إذن، الحديث يدل على الإمامة والولاية بعد النبي صلى الله عليه وآله
ص 12
وسلم، فتبطل خلافة غيره بكل وضوح، وهذا ما يقتضي القول بأن الراوي كان شيعيا فروى
الحديث بالمعنى بحسب عقيدته!! أولا: إذا فتحنا هذا الباب في الأحاديث المروية عن
الرسول وغيره، بطلت الشريعة، وتبدل الدين الإسلامي بأصوله وفروعه، وهذا ما لا يلتزم
به مسلم!! وثانيا: من أين يثبت ابن حجر أن رواة هذا الحديث كلهم شيعة، وقد رووه
بحسب العقيدة؟ وثالثا: ماذا يقول ابن حجر في: أبي داود الطيالسي، وأحمد، بن حنبل،
والترمذي، والنسائي، وأبي يعلى، والطبري، والطبراني، والخطيب، وابن عبد البر، وابن
حجر العسقلاني، وجلال الدين السيوطي...؟ لم ينتبهوا إلى رواية الشيعي هذا الحديث
بحسب عقيدته ؟ أو كانوا شيعة مثله؟ هذا بالنسبة إلى تأويله الأول. قال: وعلى فرض
أنه رواه بلفظه فيتعين وتأويله على ولاية خاصة . إذن، يدل على الولاية لكن
يتعين تأويله على ولاية خاصة . فما هي الولاية الخاصة ؟ وما هو المخصص ؟ لم
يذكر لنا ابن حجر شيئا!! والكلام إذا كان ظاهرا في العموم والإطلاق لا يجوز رفع
اليد عما هو ظاهر فيه إلا بدليل قوي... إذن، التأويل غير جائز، لأنه بلا دليل، وهذا
ما اضطر إلى الاعتراف به فقال: على أنه وإن لم يحتمل التأويل... . فلماذا
يتعين تأويله ؟ قال: فالإجماع على حقية ولاية أبي بكر وفرعيها... . إذن... كل
هذه المحاولات، كإنكار ابن تميمة أصل الحديث.
ص 13
والتحريفات، كما في رواية البخاري، والبغوي، ومن تبعهما... والتمحلات، كما في كلمات
ابن حجر المكي... كل ذلك للاجماع على ولاية أبي بكر وفرعيها، يعني: ولاية عمر
وعثمان؟ فانتهى الكلام إلى هذا الإجماع وهو أول الكلام!! نكات في الحديث وثمة
أشياء يستخرجها الناظر في ألفاظ الحديث الولاية الصادر عن رسول الله صلى عليه
وآله وسلم في مناسبات المختلفة، عمدتها قضية بعثه عليا وخالد بن الوليد على جيشين
إلى اليمن، وأنه إذا التقيا كان علي عليه السلام على الجيش كله، ففي ألفاظ هذه
الخبر وملابساته أمور تحلب النظر وينبغي الالتفات إليها، وتتلخص في النقاط التالية:
1 - وجود أشخاص كانوا يبغضون عليا على حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول
بريدة: أبغضت عليا لم أبغضه أحد قط، وأجبت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغض علي،
فبعث الرجل على خيل، فصحبته وما صحبته إلا على بغض علي وهذا الرجل هو خالد بن
الوليد فهو الذي بعث، وصحبه بريدة، كما في الأحاديث الأخرى، لكنه هنا حيث يصرح
بالبغض لا يصرح بالاسم!! 2 - ثم إن هؤلاء كانوا ينتهزون الفرص للنيل من علي عند
رسول الله، ولذا لما أخذ علي الجارية من الخمس، قال خالد لبريدة: إغتنمها وكتب
بذلك إلى النبي، وجعل بريدة يشيع الخبر في المدينة المنورة فقيل له - ولم ترد في
الخبر أسماء القائلين -: أخبره حتى يسقط من عينه !! 3 - فلما أخبر بريدة - هو
وجماعة سيرهم خالد معهم - النبي بما صنع علي، وجعل ينال منه، وقرأ عليه كتاب خالد
وجعل يصدقه، غضب رسول الله
ص 14
صلى الله عليه وآله وسلم غضبا شديدا، وقال دعوا عليا، دعوا عليا، دعوا عليا
وخاطب بريدة بقوله: أتبغض عليا؟ قال: نعم. قال: فلا تبغضه قال بريدة فما كان
من الناس أحد بعد قول رسول أحب إلى من علي فتاب بريدة، أما عن خالد والجماعة
الآخرين فلا نعرف عن رجوعهم عن البغض شيئا، بل إن الحوادث التي تلت وفاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أكدت استمراره على البغض والعداء!! 4 - وجاء في الخبر أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال لبريدة: أنا فقت يا بريدة ؟ أي: إن بغض علي عليه
السلام علامة النفاق، وهذا ما جاءت به الأحاديث الصحيحة الكثيرة، فاستغفر بريدة
وأخذ يد النبي وقال: أبايعك على الإسلام مما يدل على أن بغض علي خروج عن
الإسلام... وبهذا تعرف حال خالد والجماعة الذين حرضوا بريدة على الشكاية من علي عند
النبي حتى يسقط من عينه ! 5 - وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه
الأخبار أن عليا إنما يفعل ما يؤمر به . ودلالة هذه العبارة على علو مقامه غير
خافية.
علي الحسيني الميلاني
25 / 1 / 1416
ص 15
كلمة السيد صاحب العبقات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحميد الحكيم العلي،
الذي جعل الوصي ولي المؤمنين بعد النبي، وأنالهما وآلهما كل مقام سني، فحبهم عنوان
طيب الزكي وبعضهم علامة خبث الدعي، وصلى الله على النبي الصفي وآله الكرام
المخصوصين بالفضل الوضي. وبعد، فيقول العبد الضعيف الدني: حامد حسين ابن علامة
السيد محمد قلي الموسوي - بعثه الله يوم الروع بالوجه المشرق البهي -: إن هذا هو
المجلد الثالث من المنهج الثاني من كتاب عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار.
وهذا المجلد موضوع لذكر الحديث الثالث من الأحاديث التي ذكرها صاحب (التحفة) في باب
الإمامة، وحصر فيها استدلال أهل الحق والكرامة، جسارة وقلة اكتراث بالسلامة، والله
ولي التوفيق والصيانة، وبه الاستعانة وإليه الضراعة والاستكانة
ص 16
كلام الدهلوي

قال المحدث الشيخ عبد العزيز الدهلوي: الحديث الثالث: ما رواه بريدة
مرفوعا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عليا مني وأن من علي وهو ولي كل مؤمن من
بعدي. وهو حديث باطل. لأن في إسناده الأجلح . وهو شيعي متهم في روايته، وقد ضعفه
الجمهور، فلا يجوز الاحتجاج بروايته. وأيضا الولي من الألفاظ المشتركة، فما
الموجب لأن يكون المراد منه هو الأولي بالتصرف ؟ وأيضا: فإنه غير مقيد، وهذا
مذهب أهل السنة، فإن حضرة الأمير كان الإمام المفترض الطاعة في وقت من الأوقات بعد
النبي صلى الله عليه وسلم .
(هامش)
(1) التحفة الإثنا عشرية: 211. (*)
ص 17
مقدمة: في بيان شناعة إنكار فضائل أمير المؤمنين عليه السلام

أقول: لقد سولت لهذا
الرجل نفسه لأن يسعى وراء إنكار فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بكل جهده،
فما من فضيلة من تلك الفضائل التي أورد ها في كتابة إلا وطعن فيها أو ناقش في
دلالتها... ففي (حديث الغدير) و(حديث المنزلة) ضعف دلالتهما على مقصود الإمامية،
وهو - إن لم يبطلهما كما فعل بعض أسلافه المتعصبين - قد سكت عن ذكر تعدد طرق حديث
الغدير وصحته فضلا عن تواتره، وعن ذكر تواتر حديث المنزلة كذلك... وحاول تأويل هذين
الحديثين وتوجيههما، تأويلا وتوجيها *(كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه
لم يجد شيئا)*. لكنه وجد هذا الحديث - بسبب لفظ بعدي - أقوى دلالة، فلم يتمالك
نفسه، فاتبع أسلافه المعاندين وقال ببطلانه! وكذا في (حديث الطير) وحديث (أنا مدينة
العلم وعلي بابها) لما وجدهما قويين في الدلالة على مذهب الإمامية، فلم يستح من
ردهما وتكذيبهما، مع أن والده من القائلين بثبوتهما! وهكذا كان موقفه من (حديث
التشبيه) و(حديث النور) اللذين يرويهما أكابر قومه، بل والده أيضا من القائلين
بثبوت أولهما... وهذا هو سبيل الذي سلكه في (المنهج الأول) بالنسبة إلى الآيات
القرآنية، فكان أول ما بدء به القدح في رواية نزول قوله تعالى: *(إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا...)* بشأن سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، هذه الرواية التي
ص 18
أخرجها كبار علماء الحديث والتفسير في كتبهم المعتمدة وأسفارهم المعتبرة... فادعي
تفرد الثعلبي بها... ثم قدح في رواياته ونسب ذلك إلى المحدثين من أهل السنة قاطبة!
ووصف الثعلبي نفسه بأنه حاطب ليل لا يفرق بين الرطب واليابس...! مع أن الثعلبي يعد
من أجلة علمائهم، كما لا يخفى على من يراجع كتبهم، ومنها (إزالة الخفا في سيرة
الخلفا) لوالد (الدهلوي)... كما أن دعوى تفرده بهذه الرواية من الأكاذيب الواضحة
الفاضحة... وعلى الجملة، فهذا أسلوب هذا الرجل في كتابه، إنه لم يترك دليلا من
الأدلة الدالة على مذهب الإمامية، الواردة في كتب أهل السنة المعتبرة على لسان كبار
علمائهم الأعلام، إلا وقابله بالتكذيب والرد والتعصب والعناد... ومن ذلك هذا الحديث
الشريف... الذي سيرى المنصف طرفا من أسانيده، وسيجده من جلائل فضائل أمير المؤمنين
الثابتة بالأخبار الصحيحة، وسيظهر له مدى تمادى (الدهلوي) في البغضاء والشحناء...
كلام لأبي جعفر الإسكافي ولأجل أن يتبين فظاعة إنكار مناقب أمير المؤمنين وشناعة
إبطال فضائله ننقل في هذا المقام كلاما لأبي جعفر الإسكافي قاله في جواب قول
الجاحظ: قالت العثمانية: أفضل الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة،
لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره، وذلك أن الناس اختلفوا في الناس
إسلاما فقال قوم: أبو بكر. وقال قوم: زيد بن حارثة. وقال قوم: خباب بن الأرت. وإذا
تفقدنا أخبارهم وعددنا رجالهم ونظرنا في صحة أسانيدهم كان الخبر في تقدم إسلام أبي
بكر أعم ورجاله أكثر وأسانيده أصح، وهو بذلك أشهر
ص 19
واللفظ فيه أظهر، مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - وبعد وفاته، وليس بين الأشعار والأخبار فرق إذا امتنع في
مجيئها وأصل مخرجهما التساعد والاتفاق والتواطؤ. ولكن ندع هذا المذهب جانبا ونضرب
عنه صفحا اقتدارا على الحجة، ووثوقا بالفلج والقوة، على أدنى منازل أبي بكر وننزل
على حكم الخصم فنقول: إنا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد وخباب، ووجدنا من يزعم
أنهما أسلما قبله، وأوسط الأمور أعدلها وأقربها من محبة الجميع ورضا المخالف أن
نجعل إسلامهم كان معا، إذا الأخبار متكافئة والآثار متساوية على ما يزعمون، وليست
إحدى القضيتين أولى في صحة النقل عن الأخرى. ويستدل على إمامة أبي بكر بما ورد من
الحديث، وبما أبانه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غيره... قالت العثمانية:
فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة؟ وقد تعلمون كثرة
مقدميه والرواية فيه؟ قلنا: قد علمنا بالرواية الصحيحة والشهادة القائمة أنه أسلم
وهو حدث غرير وطفل صغير، فلم نكذب الناقلين ولم نستطيع أن نلحق إسلامه بإسلام
البالغين، لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن
تسع سنين، فالقياس أن يؤخذ بين الروايتين وبالأمر بين الأمرين، وإنما يعرف حق ذلك
من باطله بأن يحصى سنيه التي ولي فيه، الخلافة، وسني عمره، وسني عثمان، وسني أبو
بكر، ومقام النبي بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة، فإذا فعلنا ذلك صح أسلم
وهو ابن سبع سنين. فالتاريخ المجمع عليه أنه في شهر رمضان سنة أربعين
(هامش)
(1) العثمانية: 5 (*)
ص 20
فقال أبو جعفر الإسكافي في جوابه: لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد لم
نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية، فقد علم الناس كافة: أن الدولة والسلطان
لأرباب مقالتهم، وعرف كل أحد أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور كلمتهم وقهر
سلطانهم وارتفاع التقية عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل
أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك، وما ولده المحدثون من الأحاديث، طلبا لما
في أيديهم. فكانوا لا يألون جهدا - في طول ما ملكوا - أن يخملوا ذكر علي وولده،
ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم، ويحملوا الناس على شتمهم وسبهم
ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم،
فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقب. حتى أن الفقيه والمحدث
والقاص والمتكلم ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة أن لا يذكروا شيئا
من فضائلهم، ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، حتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذكر
حديثا عن علي كنى عن ذكره فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجل من قريش. ولا يذكر عليا
ولا يتفوه باسمه. ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، ووجهوا الحيل
والتأويلات نحوها، من خارجي مارق، وناصب حنق، ونابت مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق
مكذب وعثماني حسود يعترض فيها ويطعن، ومعتزلي قد نفذ في الكلام وأبصر علم الاختلاف
وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه، وتأول
مشهور فضائله، فمرة يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض،
ولا تزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة ووضوحا واستنارة.
ص 21
وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم - وذلك نحو
ثمانين سنة - لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه
وسوابقه... وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى، فيحملون الناس
على ذلك، حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك
قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعد على ذلك، بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية
وطغاة بني مروان بولد علي وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج
حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها، لإمساك
الآباء عنها وكف المعلمين عن تعليمها، حتى لو قرئت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما
عرفوها ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان، لألف العادة وطول الجهالة، لأنه إذا
استولت على الرعية الغلبة وطالت عليهم أيام التسلط، وشاعت فيهم المخافة، وشملتهم
التقية، اتفقوا على التخاذل والتناكب، وفلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم وتنقص من
ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا
يعرفونها. ولقد كان الحجاج - ومن ولاه كعبد الملك الوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من
فراعنة بني أمية - على إخفاء محاسن علي وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم،
أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأبي، لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال
ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي - عليه السلام - وولده وإظهار
محاسنهم بوارهم وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله،
وحملوا الناس على كتمانها وسترها. وأبي الله أن يزيد أمره وأمر ولد إلا استنارة
وإشراقا، وحبهم إلا شغفا وشدة، وذكرهم إلا انتشارا وكثرة، وحجتهم إلا وضوحا وقوة،
وفضلهم إلا
ص 22
ظهورا، وشأنهم إلا علوا، وأقدارهم إلا إعظاما، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء،
وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا وبهم من الشر تحول خيرا. فانتهى إلينا من ذكر
فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون،
ولا يلحقه الطالبون، ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة
في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، وكان الأمر كما وصفناه (1).
ترجمة أبي جعفر الإسكافي وأبو جعفر الإسكافي من مشاهير أئمة المتكلمين ونحارير
أكابر المعتزلة المعروفين: قال أبو سعد السمعاني: أبو جعفر محمد بن عبد الله
الإسكافي، أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن
علي الكرابيسي يتكلم معه ويناظره. وبلغني مات في سنة 240 (2). وقال ياقوت: محمد
بن عبد ال $ له أبو جعفر الإسكافي، عداده في أهل بغداد، أحد المتكلمين من
المعتزلة، له تصانيف، وكان يناظر الحسين بن علي الكرابيسي ويتكلم معه. ومات في سنة
240 (3). وقال قاضي القضاة عبد الجبار - بعد أن عده في الطبقة السابعة من طبقات
المعتزلة -: كان أبو جعفر فاضلا عالما وصنف سبعين كتابا في علم الكلام، وهو الذي
نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته،
(هامش)
(1) نقض العثمانية ط في آخر العثمانية. (2) الأنساب 1 / 245. (3 معجم البلدان 1 /
181 إسكاف . (*)
ص 23
ودخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقض
كتابي؟ وأبو جعفر جالس، فاختفى منه حتى لم يره. وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على
قاعدة معتزلة بغداد ويبالغ في ذلك، وكان علوي الرأي، محققا منصفا، قليل العصبية
(1).
كلام للسيد حيدر الآملي

وللسيد حيدر الآملي (2) كلام جميل، فيه بعض التفصيل
لما أجمله الإسكافي، يناسب إيراده في هذا المقام، وهذا نصه: ثم لا يغيب عن نظرك:
أن الحاكم إذا لم يقتد بالنبي في حركاته وسكناته التزم أضداد ها، فيحتاج السلطان
إلى المعاون والمعاضد والمشير والمساعد له على مقاصده وأغراضه ومطالبه وشهواته، في
ارتكاب المحرمات وشرب المسكرات، وسماع الغنا والولوع بالمردان والتهتك مع النسوان،
واجتذاب الأموال من غير حلها وعسف الرعية وذلها، فيضطر الملك والسلطان إلى شيطان
يستره وفقيه ينصره وقاض يدلس له، ومتشدق يكذب لدولته، ورئيس يسكن الأمور، وطامع
يشهد بالزور، ومشايخ تتباكى وشبان تتذاكى، ووجيه يهون الأحوال ويثيره على حب المال،
وزاهد يلين الصعاب، وفاسق ينادم على الشراب، وعيون تنظر وألسنة تفجر، حتى ينام
الخليفة أمير المؤمنين سكرانا، ويجد على فسوقه أعوانا. ولا تقوم هذه المملكة إلا
بدحض أضدادها، ولا تتم دعوة قوم إلا بهلاك
(هامش)
(1) انظر: شرح نهج البلاغة 17 / 132 - 133. (2) فقيه، متكلم، مفسر، صنف كتبا منها:
الكشكول فيما جرى على آل الرسول، والتفسير، رافعة الخلاف في وجه سكوت أمير المؤمنين
عن الاختلاف، شرح الفصوص... توفي بعد سنة 782. الأعلام 2 / 290 معجم المؤلفين 4 /
90. (*)
ص 24
أعدائها وعنادها. نظر واعتبار: هل يجب إذا كان هذه الدعوة لعلي بن أبي طالب وملكها
معاوية بن أبي سفيان، ووزيراه عليها عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وقد خصمه علي
ابن أبي طالب - عليه السلام - عليها مدة إلى أن قتله معاوية، أن يرفع قدر الحسن
والحسين - عليهما السلام - وقدر محمد بن الحنيفية، وقدر بني هاشم وآل أبي طالب، وأن
يكرم عبد الله بن العباس، ويراعى حال أصحاب علي أحيائهم والأموات منهم؟ هذا بعيد من
القياس والسياسة الدنياوية. بل يجب على معاوية أن يفعل ما فعل من التدبير في قتل
علي عليه السلام وأولاده، وتشتيت شملهم، وسب علي على المنابر، وتهوين أمره، ونسخ
شرفه من صدور العوام، وبث ذلك في العباد والبلاد، وتهديد من صبا إليهم، والتنكيل
بمن أثني عليهم، هكذا مدة دولة. ثم أودع في قلوب بني أمية بغض علي عليه السلام وبغض
رجاله وآله، حتى أدى الحال إلى قتل الحسن بالسم، والحسين بالسيف الذي نهب فيه حرمه،
وطيف برأسه في العباد والبلاد. وهل تم ذلك إلا برجال ألباء، عقلاء، فقهاء، ومشايخ
فقراء، وأعيان أغياء، فيستعان بهم على تدبير العوام، وإلقاء الهوام، وتخويف النفوس،
وزجر المتكلمين عن الخوض في الناموس؟ فلم يزل السب واللعن والطرد والعزل في علي
وأولاده ورجاله ألف شهر، نشأ فيها رجال، وابيضت لهم واسودت لحي، وولدت صبيان
وأولاد، واستوسقت بلاد وعباد، وساد بمراضي بني أمية من ساد، وانخذل أولاد علي عليه
السلام ورجاله وأتباعه ومن يقتفي أثرهم في المدن والأقاليم، لا ناصر لهم ولا معوان
ولا مساعد ولا إخوان، وبذلت على ذلك أموال، ونشأ
ص 25
عليه رجال، وقيلت فيه أقوال، وركب فيه أهوال، وآل الأمر في الآل إلى ما آل. وجملة
الباعة والفلاحون غافلون عن مقاصد الملوك والسلاطين وكبار الشياطين، وانستر من ذلك
خفايا واشتهرت قضايا، وجرى من طباع أهل المدن وعوامهم ما أراده الملك وتربى الناس
على أغراضه، وأثمرت المحبة لما عند الملك وبغض آل محمد ورجالهم، وتحدثت السوقة بذلك
في الأسواق، وجال بين الناس الشقاق، وصار أتباع الملك مستظهرين بالكلام والجدال
والخصام، ومن يكره الملك تحت السب والقتل والطرد والجلد، وانساقت المنافع إلى معاضد
الملك بيده ولسانه، واحتكمت دولة بني أمية ومعاضدها، وذلل بالقهر والجور معاندها،
وستر المتقي عقيدته، وكتم العاقل عبادته، واستمرت الأمور بين الجمهور، واشتدت
الأيام والعصور، وسارت الكتب المصنفة بذلك في البلاد، والتبس ما فيها من المقاصد
على أكثر العباد، والناس عبيد الدنيا وفي طباعهم حب العاجلة، وعند الملك السيف
والقلم والدينار والدرهم، وآل محمد وأتباعهم تحت الخوف وبعضهم تحت السيف، ولا يكاد
يخفى عن معرفتك سرعة إجابة العوام إلى أغراض الحكام خوفا وطمعا، يتقلبون تحت إرادته
كيف شاء، وأنى شاء، متى شاء! ومع ذلك، الصلوات قائمة، والأذان مرتفع، والصوم معتبر،
والمواقيت والحج مستطاع، والزكاة مأتية، والجهاد قائم، والناس على مراتبهم،
والأسواق منعقدة، والسبل مطرقة، والملاهي بين العوام مبسوطة، وليس في البلاد
والشفاء والخوف والخفاء غير أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -
وأشياعه وأتباعه. ولما استوسق الأمر لبني مروان بسبب قتل عثمان، ومقت علي بن أبي
طالب عليه السلام ورجاله في قلوب الناس، وثبت بينهم هذا الالتباس، ونفخ الشيطان
وقال باللسان هلك الملك وهان، ونشأ في الشريعة أصول، ونما لها فروع، وبسقت لها
أفنان، فأثمرت بها، ثم لم يغرسها الحق، ولا سقاها
ص 26
الرسول، ولا جناها العقل، ولا أكل ثمرها الأولياء، ولا طعمها الفقراء، فظهر بذلك
مذاهب، واختلفت فيه مسائل، ونسخت أخبار وطويت آثار، واستقر العالم على الخلاف
والاختلاف وعدم الايتلاف، والجبلة الحيوانية بحسب مرباها ومنشاها كما أخبر الصادق
الأمين: يولد المولود على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فيمجسانه.
ثم تلاشت دولة بني أمية ونشأت دولة بني العباس، فوجدوا بني أمية قد وطأوا لهم
المملكة بالأصالة لهم، فأقروا الوظائف التي قررها بنو أمية في إخماد نار الطالبيين
على حالها، وساسوا الناس بها، وتناولوها هنية مرية، وأمدوا العالم المعاون على
أغراضهم بالأموال، واستخدموا على ذلك الرجال، ووهبوا على ذلك مقامات ومراتب وولايات
وهبات وصدقات، فلما أحس الطالبيون بولاية بني عباس وأخذت حقوقهم بغير حق، هاجروا
إلى الأطراف والأوساط، خوفا من القتل والسياط، وخاطبوهم في القيام عن هذا البساط،
فندب لهم العباسيون الرجال وأعدوا لهم القتال، وتولاهم المنصور حتى قتل منهم الألوف
وشرد منهم الألوف، ومن وقف على (مقاتل الطالبيين) عرف ما جرى من بني العباس على آل
علي عليه السلام. حتى حطموا شجرتهم وفرقوا كلمتهم وأفنوا أموالهم، وأبادوا رجالهم،
واضطر بنو العباس إلى إقامة دعوتهم ونشر كلمتهم ومراعاة مملكتهم وحراستها من آل علي
عليه السلام نسفا على عناد بني أمية، فما استقرت دولتهم ولا هيبت صولتهم حتى فهموا
أن شجرة الطالبين متفرقة والأغصان ذابلة، والأفنان ناقصة الري مخضودة الشوك يابسة
الشرب، فعندها، استقروا وسكنوا، ولم يأمنوا حتى علموا أن جميع الرعايا في البلاد،
والآفاق المشرقية والمغربية أعداء لآل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يفضلون
أصحابه عليهم، ولا يأنسون بذكرهم...
ص 27
ثم انهمكت الخلفاء والملوك من العرب والعجم في استعمالهم الكذب وارتكاب منكرات التي
لا تجب لمثلهم على سبيل النبوة المحمدية والخلافة العلوية التي فرضها الله تعالى
وسنها محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمر بها ونص عليها. فاضطروا إلى وضع
المدارس مشغلة للعوام التي ألفت بالقلوب والأوهام السماطات الدسمة والملابس الفاخرة
والأنعام، وسموا كل رئيس من الرعاة إماما، ليصح لهم الخلافة المملوكة بينهم، ويصير
الخليفة الغاصب لكل إمام منهم إماما، وهم يعلمون أنهم يرتكبون الآثام ويأكلون
الحرام، وأصلح الساكنين بالمدرسة داعي الخليفة الغاصب، قائما بعرضه، مناوئا
لمعاديه، مرتقبا على من يطعن فيه، مكفرا لمن لا يواليه، يأخذ على ذلك الجواز السنية
والمساكن العلية والمراكب البهية والمطاعم الشهية، والملابس الفاخرة والمقامات
الباهرة، والتنعم والتلذذ في المنام، والتقلب في مستراح الحمام، وأعلا مكانه في
المدرسة أن يناقض ويعارض ويدعي قيام الحجة على الروافض. وتتابع الناس على ذلك طبقا
بعد طبق، وجيلا بعد جيل، واندرجوا عليه خلفا أثر سلف، ونشأ مذهب الجبريين بين
العوام واندرج فيه الخاص والعام، واستتر عمال الشياطين ومكراء الفراعنة من
السلاطين، والعامي بعقده على هذه المذاهب أسرع من انعقاده على معرفة الله، وهو مذهب
يغوث ويعوق ونسر، واشتغل علماء الجمهور بالخلاف والشقاق، وألقوا من تابعهم من
الباعة والفلاحين في يمين الطلاق، وغشيت المدارس وأحدث التفاضل والتنافس، وانتظم
العالم على صورة من قال غيرها - وإن كان صادقا - كفر، ومن التبس بسواها احتقر .
(هامش)
(1) الكشكول فيما جرى على آل الرسول: 19 - 25. (*)
ص 28
من رسائل أبي بكر الخوارزمي

وجاء في (رسائل أبي بكر الخوارزمي): وكتب إلى جماعة
الشيعة بنيسابور لما قصدهم محمد بن إبراهيم واليها: سمعت - أرشدكم الله سعيكم وجمع
على التقوى أمركم - ما تكلم به السلطان الذي لا يتحمل إلا على العدل، ولا يميل إلا
على جانب الفضل، ولا يبالي بأن يمزق دينه إذا رفا دنياه، ولا يفكر في أن لا يقدم
رضا الله إذا وجد رضاه، وأنتم ونحن - أصلحنا الله وإياكم - عصابة لم يرض الله لنا
الدنيا، فذخرنا للدار الأخرى، ورغب بنا عن ثواب العاجل فأعد لنا ثواب الآجل، وقسما
قسمين: قسما مات شهيدا وقسما عاش شريدا، فالحي يحسد الميت على ما صار إليه، ولا
يرغب بنفسه عما جرى عليه. قال أمير المؤمنين ويعسوب الدين - عليه السلام -: المحن
إلى شيعتنا أسرع إلى الحدور. وهذه مقالة أسست على المحن، وولد أهلها في طالع
الهراهز والفتن، فحياة أهلها نغض وقلوبهم حشوها غصص، والأيام عليهم متحاملة والدنيا
عنهم مائلة، فإذا كنا شيعة أئمتنا في الفرائض والسنن ومتبعي آثارهم في ترك كل قبيح
وفعل حسن، فينبغي أن نتبع آثار هم في المحن. غصبت سيدتنا فاطمة صلوات الله عليها
وعلى آلها ميراث أبيها - صلوات الله عليه وعلى آله - يوم السقيفة، وأخر أمير
المؤمنين عن الخلافة، وسم الحسن عليه السلام سرا، وقتل أخوه - عليه السلام - جهرا،
وصلب زيد بن علي بالكناسة، وقطع رأس زيد بن علي في المعركة، وقتل ابناه محمد
وإبراهيم على يد عيسى بن موسى العباسي، ومات موسي بن جعفر في حبس هارون، وسم علي بن
موسى بيد المأمون، وهزم إدريس بفخ حتى وقع إلى الأندلس فريدا،
ص 29
ومات عيسى بن زيد طريدا شريدا، وقتل يحيى ين عبد الله بعد الأمان والإيمان وبعد
توكيد العهود والضمان. هذا غير ما فعل يعقوب بن الليث بعلوية طبرستان، وغير قتل
محمد بن زيد والحسن بن القاسم الداعي على أيدي آل ساسان، وغير ما صنع أبو السياح في
علوية المدينة، حملهم بلا غطاء ولا وطاء من الحجاز إلى السامراء، وهذا بعد قتل
قتيبة بن مسلم الباهلي لابن عمر بن علي حين أخذه بأبويه، وقد ستر نفسه ووارى شخصه،
يصانع حياته ويدافع وفاته، ولا كما فعله الحسين ابن إسماعيل المصعبي بيحيى بن عمر
بن الزيدي خاصة، وما فعله مزاحم بن خاقان بعلوية الكوفة كافة. وبحسبكم أنه ليست في
بيضة الإسلام بلدة إلا وفيها لقتيل طالبي تربة تشارك في قتله الأموي والعباسي،
وأطبق عليهم العدناني والقحاني. - فليس حي من الأحياء نعرفه * من ذي يمان ولا بكر
ولا مضر - إلا وهم شركاء في مائهم * كما تشارك أيسار على جزر - قادتهم الحمية إلى
المنية، وكرهوا عيش الذلة، فماتوا موت العزة، وثقوا بما لهم في الدار الباقية، فسخت
نفوسهم عن هذه الفانية. ثم لم يشربوا كأسا من الموت إلا شربها شيعتهم وأولياؤهم،
ولا قاسوا لونا من الشدائد إلا قاساه أنصارهم وأتباعهم. داس عثمان بن عفان بطن عمار
بن ياسر بالمدينة، ونفى أبا ذر الغفاري إلى الربذة، وأشخص عامر بن عبد قيس التميمي،
وغرب الأشتر النخعي وعدي بن حاتم الطائي، وسير عمر بن زرارة إلى الشام، ونفى كميل
بن زياد إلى العراق، وجفا أبي كعب وأقصاه، وعادى محمد بن حذيفة وناواه، وعمل في دم
محمد بن سالم ما عمل، وفعل مع كعب ذي الحطبة ما فعل. واتبعه في سيرته بنو أمية،
يقتلون من حاربهم ويغدرون بمن سالمهم،
ص 30
لا يحفلون المهاجري ولا يصونون الأنصاري، ولا يخافون الله ولا يحتشمون الناس، قد
اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا، يهدمون الكعبة ويستعبدون الصحابة، ويعطلون
الصلاة الموقوتة، ويحطمون أعناق الأحرار، ويسيرون في حرم الرسول سيرتهم في حرم
الكفار، وإذا فسق الأموي فلم يأت بالضلالة عن كلالة. قتل معاوية حجر بن عدي الكندي
وعمرو بن الحمق الخزاعي بعد الأيمان المؤكد والمواثيق المغلظة، وقتل زياد بن سمية
الألوف من شيعة الكوفة وشيعة البصرة صبرا، وأوسعهم حبسا وأسرا، حتى قبض الله معاوية
على أسوء أعماله وختم عمره بشر أحواله، فاتبعه ابنه، يجهز على جرحاه ويقتل أبناء
قتلاه، إلى أن قتل هاني بن عروة المرادي ومسلم بن العقيل الهاشمي أولا، وعقب بالحر
بن زياد الرياحي، وبأبي موسى عمرو بن قرطة الأنصاري، وحبيب ابن مظاهر الأسدي، وسعيد
بن عبد الله الحنفي، ونافع بن هلال البجلي، وحنظلة بن سعد الشامي، وعابس بن أبي
شبيب الشاكري، في نيف وسبعين من جماعة شيعة الحسين عليه السلام يوم كربلا ثانيا. ثم
سلط الله عليهم الدعي ابن الدعي عبيد الله بن زياد، يصلبهم على جذوع النخل ويقتلهم
ألوان القتل، حتى اجتث الله دابرة ثقيل الظهر بدمائهم التي سفك، عظيم التبعة
بحريمهم الذي انتهك. فانتبهت لنصرة أهل البيت طائفة أراد الله أن يخرجهم من عهدة ما
صنعوا، ويغسل عنهم وضر ما اجترحوا، فصمدوا صمود الفئة الباغية، وطلبوا دم الشهيد من
ابن الزانية، لا يزيدهم قلة عددهم وانقطاع مددهم وكثرة سواد أهل الكوة بأزائهم إلا
إقداما على القتل والقتال، وسخاء بالنفوس والأموال، حتى قتل سليمان بن صرد الخزاعي،
والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد الله بن واصل التميمي، في رجال من خيار المؤمنين
وعلية التابعين، ومصابيح الأنام
ص 31
وفرسان الإسلام. ثم تسلط ابن الزبير على الحجاز والعراق، فقتل المختار بعد أن شفى
الأوتار وأدرك الثار وأفنى الأشرار وطلب بدم المظلوم الغريب، فقتل قاتله ونفى
خاذله، وأتبعوه أبا عمر بن كيسان، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن يزيد، والسائب بن
المالك، وعبد الله بن كامل، وتلقطوا بقايا الشيعة، يمثلون بهم كل مثلة، ويقتلونهم
شر قتلة، حتى طهر الله من عبد الله الزبير البلاد وأرواح من أخيه مصعب العباد،
فقتلهما عبد الملك بن مروان *(كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)* بعد
ما حبس ابن الزبير محمد بن الحنفية وأراد إحراقه، ونفى عبد الله بن العباس وأكثر
إرهاقه. فلما خلت البلاد لآل مروان سلطوا الحجاج على الحجازيين ثم على العراقيين،
فتلعب بالهاشميين وأخاف الفاطميين، وقتل شيعة علي، ومحا آثار بيت النبي، وجرى منه
ما جرى على كميل بن زياد النخعي. واتصل البلاء مدة ملك المروانية إلى الأيام
العباسية، حتى إذا أراد الله أن يختم مدتهم بأكثر آثارهم، ويجعل أعظم ذنوبهم في آخر
أيامهم، بعث على بقية الحق المهمل والدين المعطل زيد بن علي، فخذله منافقوا أهل
العراق، وقتله أحزاب أهل الشام، وقتل معه من شيعته: نصر بن خزيمة الأسدي، ومعاوية
بن إسحاق الأنصاري، وجماعة من شايعه وتابعه، وحتى من روجه وأدناه، وحتى من كلمه
وأناه. فلما انتهكوا ذلك الحريم واقترفوا ذلك الإثم العظيم عضب الله عليهم وانتزع
الملك منهم، فبعث عليهم أبا مجرم لا أبا مسلم، فنظر - لا نظر الله إليه - إلى صلابة
العلوية وإلى لين العباسية، فترك تقاه واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، وافتتح عمله
بقتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسلط طواغيت خراسان
وخوارج سجستان وأكراد إصفهان على آل أبي طالب،
ص 32
يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل، حتى سلط عليه أحب الناس إليه،
فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه أن أسخط الله برضاه
وأن ركب ما يهواه. وحلت من الدوانيقي الدنيا، فخبط فيها عسفا، تقصى فيها جورا
وحيفا، إلى أن مات وقد امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة ومعدن الطيب والطهارة، قد
تتبع غائبهم وتلقط حاضرهم، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند،
على يد عمر بن هشام بن عمر التغلبي، فما ظنك بمن قرب تناوله عليه ولان مسه على
يديه. وهذا قليل في في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما
توجه على الحسين بن علي بفخ من موسى، وما اتفق على علي بن الأفطس الحسيني من هارون،
وما جرى على أحمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسني من حبسه، وعلى علي بن
غسان الخزاعي حين أخذ من قبله. والجملة: إن هارون مات وقد قصر شجرة النبوة واقتلع
غرس الإمامة. وأنتم - أصلحكم الله - لستم أعظم نصيبا في الدين من الأعمش فقد
أخافوه، ومن علي بن يقطين فقد اتهموه. فأما في الصدر الأول فقد قتل زيد بن صوحان
العبدي، وعوقب عثمان ابن حنيف الأنصاري، وأقصي حارثة بن قدامة السعدي، وجندب بن
زهير الأزدي، وشريح بن هاني المرادي، ومالك بن كعب الأرحبي، ومعقل بن قيس الرياحي،
والحارث بن الأعور الهمداني، وأبو الطفيل الكناني، وما فيهم إلا من خر على وجهه
قتيلا أو عاش في بيته ذليلا، يسمع شتمة الوصي فلا ينكر، ويرى قتلة الأوصياء
وأولادهم فلا يغير، ولا يخفى عليكم حرج عامتهم وحيرتهم، كجابر الجعفي، وكرشيد
الهجري، وكزرارة بن أعين ليس إلا أنهم - رحمهم الله - يتولون أولياء الله ويتبرأون
من أعداء الله، وكفى به جرما عظيما عندهم وعيبا كبيرا بينهم.
ص 33
وقل في بني العباس، فإنك ستجد - بحمد الله تعالى - مقالا، وجل في، عجائبهم فإنك ترى
ما شئت مجالا، يجبى فيئهم فيفرق على الديلمي والتركي ويحمل إلى المغربي الفرغاني،
ويموت إمام من أئمة الهدى وسيد من سادات المصطفى، فلا تتبع جنازته ولا تجصص مقربه،
ويموت ضراط لهم أو لاعب أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد
التعزية عند القواد والولاة، ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا أو سوفسطائيا، ولا
يتعرضون لمن يدرس كتابا فلسفيا ومانويا، ويقتلون من عرفوه شيعيا، ويسفكون دم من سمى
ابنه عليا. ولم لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس قتيل داود بن علي،
ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحا لا يبرأ، ونائرة لا تطفأ،
وصدعا لا يلتئم، ولا جرحا لا يلتحم. وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعارا
يهجون بها أمير المؤمنين عليه السلام، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم
ودونت أخبارهم، ورواها مثل الواقدي ووهب بن منبه التميمي، ومثل الكلبي والشرقي بن
قطامي، والهيثم بن عدي، ودأب بن الكناني. وإن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب
الوصي، بل في ذكر معجزات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيقطع لسانه، ويمزق
ديوانه، كما فعل بعبد الله ابن عمار البرقي، وكما أريد بالكميت بن زيد الأسدي، وكما
نبش قبر منصور ابن الزبرقان النمري، وكما دمر على دعبل بن علي الخزاعي، مع رفقتهم
من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي، ليس إلا لغلوهما في النصب
واستيجابهما مقت الرب. حتى أن هارون بن الخيزران وجعفر المتوكل على الشيطان لا على
الرحمن، كانا لا يعطيان مالا ولا يبذلان نوالا إلا لمن شتم آل أبي طالب ونصر مذهب
النواصب، مثل عبد الله بن مصعب الزبيري، ووهب بن وهب
ص 34
البختري، ومن الشعراء مثل مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الأدباء مثل عبد الملك بن
قريب الأصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل بكار بن عبد الله الزبيري، وأبي السمط بن أبي
الجون الأموي، وابن أبي الشوارب العبشمي. ونحن - أرشدكم الله - قد تمسكنا بالعروة
الوثقى، وآثرنا الدين على الدنيا، وليس يزيدنا بصيرة زيادة من زاد فينا، ولن يحل
لنا عقيدة نقصان من نقص منا، فإن الإسلام بدء غريبا وسيعود كما بدء. كلمة من الله
ووصيه من رسول الله، يورثها من يشاء من عباده المتقين. ومع اليوم غد وبعد السبت
أحد، قال عمار بن ياسر رضي الله عنه يوم صفين: لو ضربونا حتى نبلغ سعفات هجر لعلمنا
أنا على الحق وأنهم على الباطل. ولقد هزم جيش رسول الله - صلوات الله عليه - ثم
هزم، ولقد تأخر أمر الإسلام ثم تقدم *(ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم
لا يفتنون)*. ولولا محنة المؤمنين وقتلهم، ودولة الكافرين وكثرتهم، لما امتلأت جهنم
حتى تقول من مزيد، ولما قال الله تعالى: *(ولكن أكثرهم لا يعلمون)* ولما تبين
الجزوع من الصبور ولا عرف الشكور من الكفور، ولما استحق المطيع الأجر، ولا احتقب
العاصي الوزر. فأن أصابتنا نكبة فذلك ما تعودناه، وإن رجعت لنا دولة فذلك ما قد
انتظرناه، وعندنا - بحمد الله تعالى - لكل حالة آلة، ولكل مقامة مقالة، فعند المحن
الصبر وعند النعم الشكر. ولقد شتم أمير المؤمنين - عليه السلام - على المنابر ألف
شهر فما شككنا في وصيته، وكذب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بضع عشرة سنة فما
اتهمناه في نبوته، وعاش إبليس مدة تزيد على المدد فلم نرتب في لعنته، وابتلينا
بفترة الحق ونحن مستيقظون بدولته، ودفعنا إلى قتل الإمام بعد الإمام والرضا بعدا
لرضا ولا مرية عندنا في صحة إمامته، وكان وعد الله مفعولا، وكان أمر الله قدرا
مقدورا *(كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون)* و*(سيعلم
ص 35
الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)* *(ولتعلمن نبأه بعد حين)*. إعلموا - رحمكم الله -
أن بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن واتباع الطاغوت والشيطان، جهدوا في دفن
محاسن الوصي، واستأجروا من كذب في الأحاديث على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
وحولوا الجوار إلى بيت المقدس عن المدينة، والخلافة زعموا إلى دمشق عن الكوفة،
وبذلوا في طمس هذا الأمر الأموال وقلدوا عليه الأعمال، واصطنعوا فيه الرجال، فما
قدروا على دفن حديث من الأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا على
تحريف آية من كتاب الله تعالى، ولا على دس أحد من أعداء الله في أولياء الله. ولقد
كان ينادى على رؤوسهم بفضائل العترة، ويبكت بعضهم بعضا بالدليل والحجة، لا تنفع في
ذلك عيبة ولا يمنع منه رغبة ولا رهبة، والحق عزيز وإن استذل أهله، وكثير وإن قل
حزبه، والباطل وإن رصع بالشبه قبيح، وذليل وإن غطي بكل مليح: قال عبد الرحمن بن
الحكم - وهو من أنفس بني أمية -: - سمية أمسى نسلها عدد الحصا * وبنت رسول الله ليس
لها نسل - غيره: - لعن الله من يسب عليا * وحسينا من سوقة وإمام - وقال أبو دهبل
الجمحي، في حمية سلطان بني أمية وولاية آل بني سفيان: - تبيت السكارى من أمية نوما
* وبالطف قتلى ما ينام حميما -) وقال الكميت بن زيد - هو جار خالد بن عبد الله
القسري -: - فقل لبني أمية حيث حلوا * وإن خفت المهند والقطيعا - - أجاع الله من
أشبعتموه * وأشبع من بجوركم أجيعا - وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على
رؤوسهم بالحق وإن
ص 36
كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه. قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون: - آل
النبي ومن يحبهم * يتطامنون مخافة القتل - - أمن النصارى واليهود وهم * من أمة
التوحيد في الأزل - وقال دعبل بن علي - وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم -: - ألم تر
أني مذ ثمانين حجة * أروح وأغدو دائم الحسرات - - أرى فيئهم في غيرهم متقسما *
وأيديهم من فيئهم صفرات - وقال علي بن العباس الرومي - هو مولى المعتصم -: - تأليت
أن لا يبرح المرء منكم * يتل على خر الجبين فيعفج - - كذلك بنو العباس تصبر منكم *
ويصير للسيف الكمي المدجج - - بكل أوان للنبي محمد * قتيل زكي بالدماء مضرج - وقال
إبراهيم بن العباس الصولي - وهو كاتب القوم وعاملهم في الرضا لما قربه المأمون -: -
يمن عليكم بأموالكم * وتعطون من مائة واحدا؟! - وكيف لا ينتقصون قوما يقتلون بني
عمهم جوعا وسغبا، ويملؤن ديار الترك والديلم فضة وذهبا؟! يستنصرون المغربي
والفرغاني ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولون أنباط السواد وزارتهم وقلف العجم
الطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم وفي جدهم؟ يشتهي العلوي الأكلة
فيحرمها ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز وصدقات الحرمين
والحجاز تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي
وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، واقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وجارى بغا
التركي والأفشين الأشروسي كفاية أمة ذات عدد. والمتوكل - زعموا - يتسرى بأثني عشر
ألف سرية، والسيد من السادات
ص 37
أهل البيت يتعفف بزنجية وسندية، وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة وعلى
موائد المخانثة، وعلى طعمة الكلابين ورسوم القرادين، وعلى مخارق، وعلوية المغني،
وعلى زدزد وعمر بن بانة الملهي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على
دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر ويجرون لها ما يفي برزق عسكر، والقوم الذين أحل
لهم الخمس وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضرا ويهلكون
فقرا، وليرهن أحدهم سيفه ويبيع ثوبه وينظر إلى فيئة بعين مريضة، ويتشدد على دهره
بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلا أن جده النبي، وأبوه الوصي، وأمه فاطمة، وجدته خديجة،
مذهبه الإيمان، وإمامه القرآن... إلى آخر ما أفاد وأجاد (1).
صورة ما جاء في آخر
الطبعة المصرية

ولا يخفى أن هذه الرسالة نقلناها من الطبعة المصرية لرسائل أبي بكر
الخوارزمي، وقد جاء في آخر النسخة: وقد تناهى طبع هذه الرسائل التي لم يبلغ شأوها
في الفصاحة سحبان وائل، هو عندها أدنى من بأقل، ولو ظهرت في أيامه لمد إليها كف
مستمد سائل، ولو كانت في عصر قس بن ساعدة الأيادي، لكان لها عليه جميل الأيادي،
فلعمري إنها نسخت ما تركت الأوائل كلمة لقائل، وأحكمت كم ترك الأول للآخر والماضي
للغابر، فليكن الأديب لها نعم الآخذ، وليعض عليها بالنواجذ، فإنه يبلغ بها في
صناعته أشده، وتكون له في الإنشاء أوفر عدة. وكان طبعها على هذا الوجه الحسن،
وتمثلها في هذا القالب المستحسن، بدار الطباعة المصرية الكائنة ببولاق مصر المغربة،
تعلق المستعين بمولاه فيما يعيد ويبدي: عبد الرحمن بيك رشدي، على ذمة حضرة
(هامش)
(1) رسائل أبي بكر الخوارزمي: 118. (*)
ص 38
محمد علي بيك جراح باشي بالديار المصرية، وحضرة حسن أفندي مترجم الكتب العسكرية. لا
زالوا ملحوظين بعين العناية الربانية. وكان تصحيحها حسب الإمكان بمعرفة الفقير إلى
رحمة الرحيم الرحمن، المتوسل إلى ربه بالجاه النبوي: محمد قطة العدوي باشي، مصحح
المطبعة المذكورة، يسر الله في الدارين أموره. وقد وافق انتهاء طبعها وتمام تمثيلها
ووضعها أوائل ذي الحجة، الذي هو في هذا العام لشهور 1279 تسع وسبعين ومأتين وألف من
الهجرة ختام. فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والشكر له على مدى الأوقات،
وصلى الله وسلم على سيد الكائنات وعلى آله وأصحابه ذوي الكرامات، ما لاح بدر تمام
وفاح مسك ختام .
ترجمة أبي بكر الخوارزمي

وهذا موجز ترجمته عن المصادر المعتبرة: 1
- ابن خلكان: أبو بكر محمد بن العباس أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهر، كان
إماما في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب وكان يشار إليه في عصره،
له ديوان رسائل وديوان شعر، ولما رجع من الشام سكن نيسابور ومات بها في منتصف شهر
رمضان سنة 383. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أنه توفي سنة 393 (1). 2 -
الصفدي: كان ابن أخت محمد بن جرير الطبري، قال الحاكم في تاريخه: كان أوحد عصره
في حفظ اللغة والشعر، وكان يذاكرني بالأسماء والكنى حتى يحيرني من حفظه... (2).
(هامش)
(1) وفيات الأعيان 4 / 33. (2) الوافي بالوفيات 3 / 191. (*)
ص 39
3 - السمعاني: أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المعروف، وكان حافظا
للغة، عارفا بأصولها، شاعرا مغلقا، سمع الحديث ببغداد من أبي علي إسماعيل بن محمد
بن إسماعيل الصفار، وأبي بكر أحمد ابن كامل بن خلف ابن شجرة القاضي وغير هما...
(1). وراجع: 1 - سير أعلام النبلاء 16 / 526. 2 - يتيمة الدهر 4 / 194. 3 - بغية
الوعاة 1 / 125. 4 - مرآة الجنان 2 / 416. 5 - شذرات الذهب 3 / 106. كلام للسيد علي
بن معصوم المدني وقال السيد علي المدني (2): إعلم رحمك الله تعالى: أن شيعة أمير
المؤمنين والأئمة من ولده - عليهم السلام - لم يزالوا في كل عصر وزمان ووقت وأوان
مختفين في زوايا الاستتار، محتجبين احتجاب الأسرار في صدور الأحرار، وذلك لما منوا
به من معاداة أهل الإلحاد ومناواة أولي النصب والعناد، الذين أزالوا أهل البيت عن
مقاماتهم ومراتبهم، وسعوا في إخفاء
(هامش)
(1) الأنساب 4 / 44. (2) من كبار العلماء الأدباء، له آثار جليلة في علوم مختلفة،
توفي فيما بين سنة 1117 وسنة 1120 على اختلاف الأقوال. وتوجد ترجمته في: 1 - البدر
الطالع 1 / 428. 2 - نزهة الجليس 1 / 290. 3 - أبجد العلوم: 908. 4 - هدية العارفين
1 / 763. (*)
ص 40
مكارمهم الشريفة ومناقبهم، فلم يزل كل متغلب منهم يبذل في متابعة الهوى مقدوره،
ويلتهب حسدا ليطفئ نورا الله إلا أن يتم نوره. كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي
الباقر عليهما السلام أنه قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا
وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس! إن رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت
الأمر عن معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد
حتى رجعت إلينا، فنكث بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤد حتى
قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم، ووثبت عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر
في جنبه، وانتهب عسكره وخولجت خلاخل أمهات أولاده. فوادع معاوية وحقن ودمه ودماء
أهل بيته وهم قليل حق قليل. ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به،
وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه. ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستظام، ونقضى
ونمتهن ونحرم، ونقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون
الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقرقبون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وأعمال السوء
في كل بلدة تحدثونهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم
نفعله، ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن - عليه
السلام - فقتلت شيعتنا في كل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، من ذكر بحبنا
والانقطاع إلينا سجن ونهب ماله وهدم داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان
عبيد الله بن زياد - لعنه الله - قاتل الحسين عليه السلام. ثم جاء حجاج فقتلهم كل
قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن
يقال له شيعة علي عليه السلام.
ص 41
وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني (1) في كتاب (الأحداث) قال: كتب
معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل
أبي تراب وأهل بيته. فقالت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرأون
منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها
من شيعة علي، فاستعمل عليه زياد بن سمية وضم إليه البصرة، وكان يتبع الشيعة - وهو
بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي - فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي
والأرجل، وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها
معروف منهم. وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من الشيعة علي
وأهل بيته الشهادة. وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته،
والذي يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا إلى بكل ما
يروي رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان
ومناقبه، لما كان يبعثه إليه معاوية من الصلات والكساء والجبات والقطائع، ويفيضه في
العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ
(هامش)
(1) قال الذهبي بترجمته: المدائني، العلامة الحافظ الصادق أبو الحسن علي بن محمد
بن عبد الله بن أبي سيف المدائني الأخباري، نزل بغداد، وصنف التصانيف، وكان عجبا في
معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب، مصدقا فيما ينقله، عالي الإسناد...
وكان عالما بالفتوح والمغازي والشعر صدوقا في ذلك توفي سنة 224، 225. سير أعلام
النبلاء 10 / 400. ترجمته في: في: تاريخ بغداد 12 / 54، مرآة الجنان 2 / 83، معجم
الأدباء 14 / 124، الكامل في التاريخ 6 / 516 وغيرها. (*)
ص 42
أحد بخبر مزور من الناس إلا صار عاملا من عمال معاوية، ولا يروي في عثمان فضيلة أو
منقبة إلا كتب اسمه، وقربه، وشفعه، فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب إلى عماله: إن الحديث
في عثمان قد كثر فشا في مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس
إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا يتركوا خبرا يرويه أحد من
المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر
لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب ولشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه
على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في
رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشاروا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلمي
الكتاتيب، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلموه كما
يتعلمون القرآن، حتى علموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب
عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أخرى: من
اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به وأهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر
منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل
بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدث حتى يأخذ عليه الأيمان
الغليظة ليتمكن عليه. فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء
والقضاة والولاة. وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين
يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويتقربوا
بمجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث
إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب،
ص 43
فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها.
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من
هذا القبيل إلا خائف على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين،
وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرب إليه
أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنهم
أيضا أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغض من
علي ومن عيبه والطعن فيه والشنآن له. حتى أن انسانا وقف للحجاج - ويقال إنه جد
الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به: أيها الأمير: إن أهلي عقوني فسموني عليا وإني
فقير بائس وأنا إلى الأمير محتاج. فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسلت به قد
وليناك موضع كدا. وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه - هو من أكابر المحدثين
وأعلامهم - في (تاريخه) (1) ما يناسب هذا الخبر وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في
فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية، تقريبا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنف
بني هاشم. قال المؤلف - عفا الله عنه - ولم يزل الأمر على ذلك سائر خلافة بني أمية
- لعنهم الله - حتى جاءت الخلافة العباسية، فكانت أدهى وأمر وأضرى وأضر،
(هامش)
(1) ترجم له الذهبي وقال: نفطويه الإمام الحافظ النحوي العلامة الأخباري أبو عبد
الله إبراهيم بن محمد بن عرفة سليمان، العتكي الأزدي الواسطي، المشهور بنفطويه،
صاحب التصانيف... وكان ذا سنة ودين وفتوة ومروة، وحسن خلق، وكيس، مات سنة 323 سير
أعلام النبلاء 15 / 75. وتوجد ترجمته أيضا في: تاريخ بغداد 6 / 159، وفيات الأعيان
1 / 47، المنظم 6 / 277، الوافي بالوافيات 6 / 130، معجم الأدباء 1 / 254، وغيرها.
(*)
ص 44
وما لقيه أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من دولتهم أعظم مما مضوا به في الخلافة
الأموية كما قيل: (- والله ما فعلت أمية فيهم * معشار ما فعلت بنو العباس -) ثم شب
الزمان وهرم، والشأن مضطرم، والدهر لا يزداد إلا عبوسا، والأيام لا تبدي لأهل الحق
إلا بؤسا، ولا معقل للشيعة من هذه الخطة الشنيعة في أكثر الأعصار ومعظم الأمصار إلا
الانزواء في زوايا التقية، والانطواء على الصبر بهذه البلية (1). أقول: وإذا علمت
حال هؤلاء الأسلاف المنهمكين في الأسفاف، فليكن غير خاف على سريرتك النقية عن
الاعتساف، المتحلية بالإنصاف أن (الدهلوي) النحرير، الذي هو عند السنية صدرهم
الكبير وملاذهم الشهير، قد جنح تقليدا للكابلي بجوامع قلبة إلى هؤلاء الجماهير
الكارعين من المشارع الردغة، والناهلين من الموارد الكدرة، الذين زرعوا الفجور
وسقوه الغرور، وحصدوا الثبور ورفعوا الدور، وبنوا القصور وأحكموا الزور وأبرموا
الختور، ولم يرضوا في البغض والمشاحنة بالقصور، وأتوا من غرائب الأمور بما يبقى سوء
ذكره على كر الدهور ومر العصور. فحذا (الدهلوي) حذوهم وحسا حسوهم ونحا نحوهم
واستحسن نخوهم، وشرب روي شربهم وانضوى إلى سربهم وانحاز إلى حزبهم، وآثر ضعنهم
وكبرهم واختار حقدهم ونكرهم واستطاب عجرهم وبجرهم، وأشاع هفواتهم ونفق تلميعاتهم
وزوق تسويلاتهم، وأحكم مرائهم وسر سرائرهم، وأطاب ضمائرهم، وفوق سهامهم وبرى
أقلامهم، وشحذ حرابهم ودرس كتابهم
(هامش)
(1) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة 5 - 8. (*)
ص 45
ونصر أحزابهم، وأسس بنيانهم ولاط جدرانهم، واقتفى شنيع آثارهم وخاض هائل غمارهم
وجاس خلال ديارهم، وسار بسيرهم وشبع من ميرهم وسكن في ديرهم وضار بضيرهم. لم يعض
على النقد والسبر بضرس قاطع، ولم يستضئ من الإدراك والتأمل بمنار ساطع، ولا استعان
من الإصابة والتدرب بوجه شافع، ولا استظهر من الإنصاف والتمييز بمنجد نافع، ولا
استذرى من المواعظ والزواجر والرقائق القوارع إلى ناجه ناجع، رقص بإنكار الواضحات
رقص الجمل، وليس له في التحقيق والتنقيد ناقة ولا جمل. إذا هتف به داعي الحق جعل في
أذنه وقرا، وإذا أهاب به منادي الصدق أبدى عجرفة وغدرا ومكرا، يسلك في هدم قواعد
الدين فنونا، ويبالغ في طمس معاهد اليقين مجونا. إخترع للرد والإبطال والإخمال
لفضائل الآل - عليهم سلام الملك المتعال - طرائق قددا، وابتعد لإطفاء نور الحق
أعاليل بأضاليل بغيا وحسدا، إذا سمع فضيلة حقانية ورواية نورانية يدور عينه كأنه من
الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، ينفخ أوداجه وترتعد فرائصه ويزيد غيظه ويكبر
حنقه، ويبدي فظائع شبهات وهواجس، لا يزعه من الاقتحام في الزلل وازع ولا يردعه عن
المكابرة من الحياء رادع. قد أقحم أتباعه في طخية عمياء، وركب بهم متن عشواء وزرع
في قلوبهم صنوف الإحن والبغضاء، وأورثهم أقسام الترات والوغر والشحناء، وشحن صدورهم
غيظا وحنقا، وسقى أجوافهم آجنا رنقا، وقرر لهم في التلميع قواعد وقوانين، وأحدث من
الخدع حيلا وأفانين. ومن عجائب التهافت والتنافر، وغرائب التناقض والتناكر: أن
(الدهلوي) الماهر، وكذا الكابلي الفاخر، ومن ماثلهما من أسلافهما الأكابر، مع هذا
الجد والجهد والكدح والانهماك، والغرام والوله والشغف والارتباك في إرادة إطفاء
ص 46
أنوار الفضائل الباهرة، ورد المناقب الفاخرة للعترة الطاهرة يباهون بدعوى التمسك
والولاء، يبدون من غاية البهت والمراء، أنهم المخصوصون بنشر الفضائل والإيثار
الاقتداء والاختيار الاقتفاء! فقل لي من المحب الموالي؟ ومن المتوغر القالي؟ ومن
المقبل الواد؟ ومن المعرض الصاد؟ ومن المنحرف الجافي؟ ومن المقتفي لآثار الأطهار
والمؤمن بفضائل هؤلاء الأخيار؟ ومن الصاف على الاتباع الوالج في زرافة الهمج
الرعاع؟ وقد بلغ التعصب (بالدهلوي) المرتاب إلى حد يتجاوز عن القياس والحساب، حتى
أنه ربما أنكر ما أثبته بنفسه بلا اختفاء واحتجاب. ومع هذا التباين والتخالف
والتهافت والتناقض، والتشاحن والتضاغن والتعالل والتمارض، ومع هذا القصور في الباع
وفقد العثور والاطلاع، يشنع على أسلافنا بلسانه السليطة مكثرا للبذاء والمصاغ،
مولعا بالهراء والقذاع، دأبه جحد الواضحات، وسنته رد اللائحات، يروح بكذبه وافتعاله
أرواح مسيلمة وسجاح، ويرفع في إبطال الحق أنكر عقيرة وأوحش صياح. وأعجبت من ذلك أنه
مه هذا التهالك والاستهتار بالإبطال والتكذيب والإنكار، لفضائل أهل البيت الأطهار،
صلوات وسلامه عليهم ما اختلف الليل والنهار، ألقى شراشره على التصديق المفتعلات
والإيمان بالموضوعات المخترعات في حق خلفائه الكبار، مع أنها مما شهد بكذبها شيوخه
وأساطينه الأحبار. فلا أدري بأي وجه يلقى هذا المدعي للولاء يوم القيامة أهل البيت
العظماء، عليهم آلاف والتحية والثناء، وماذا يقول لهم إذا سألوه عما حذاه على تكذيب
فضائلهم الثابتة الصحيحة التي رواها الثقات الكبراء وأثبتها حذاق
ص 47
العماء. وهذا أوان الشروع في نقض ما لفقه هذا الرجل بالتفصيل، والله الموفق وهو
الهادي إلى سواء السبيل:
ص 49
سند حديث الولاية

ص 51
قوله: وهو حديث باطل أقول: إن حكم (الدهلوي) ببطلان هذا الحديث من بدائع
التفوهات وفظائع التقولات، فهو يكشف عن دفائن الضغائن والأحقاد، ويهلك الأستار عن
أصناف العناد واللداد... لأن جمعا غفيرا من كبار الأئمة البارعين والمحدثين
المنقدين ومشاهير الأساطين تشرفوا بروايته، وزينوا أسفارهم بتصحيحه وإثباته، وهذه
أسماء جماعة منهم: أسماء جماعة من رواة الحديث 1 - سليمان بن داود الطيالسي (204).
2 - أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (239). 3 - إمام الحنابلة أحمد بن حنبل
(241). 4 - أبو عيسى الترمذي (2 79). 5 - أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي
(303). 6 - حسن سفيان النسوي (303).
ص 52
7 - أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي (307). 8 - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310).
9 - خثيمة بن سليمان الأطرابلسي (344). 10 - أبو حاتم محمد بن حبان البستي (254). -
11 سليمان بن أحمد الطبراني (360). 12 - أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم
النيسابوري (405). 13 - أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني (410). 14 - أبو نعيم
أحمد بن عبد الله الأصفهاني (430). 15 - أبو القاسم حسين بن محمد الشهير بالراغب
الأصفهاني (أوائل المائة الخامسة). 16 - أبو بكر أحمد ين علي بن ثابت الخطيب
البغدادي (463. 17 - أبو عمر بن يوسف بن عبد الله ابن عبد البر القرطبي (463). 18 -
مسعود بن ناصر السجستاني (477). 19 - أبو الحسن علي بن محمد ابن المغازلي (483). 20
- أبو شجاع شيرويه بن شهردار الديلمي (509). 21 - محمد بن علي بن إبراهيم النطنزي.
22 - أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي (558). 23 - أبو المؤيد الموفق بن أحمد
المكي الخوارزمي (568). 24 - أبو القاسم علي بن الحسن ابن عساكر الدمشقي (571). 25
- أبو حامد محمود بن الصالحاني. 26 - أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير
الجزري (606). 27 - عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي (624). 28 - عز الدين أبو
الحسن علي بن محمد ابن الأثير الجزري (630). 29 - أبو الربيع سليمان بن موسى
الكلاعي المعروف بابن سبع (634).