نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الخامس عشر

الصفحة السابقة

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الخامس عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 303

خاملا (1) وروى عن ابن عدي قوله: كان يتحامل على علي وعن الدارقطني: وفيه انحراف عن علي (2). وأورد ابن حجر ذلك وأضاف عن الدارقطني: اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فروجة ليذبحها فلم تجد من يذبحها فقال: سبحان الله فروجة لا يوجد من يذبحها وعلي يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم! ثم قال ابن حجر: قلت: وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته. ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان: حريزي المذهب - وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاء - نسبة إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب. وكلام ابن عدي يؤيد هذا. وقد صحف ذلك أبو سعد ابن السمعاني في الأنساب فذكر في ترجمة الجريري بفتح الجيم: أن إبراهيم بن يعقوب هذا كان على مذهب محمد بن جرير الطبري. ثم نقل كلام ابن حبان المذكور، وكأنه تصحف عليه. والواقع أن ابن جرير يصلح أن يكون من تلامذة إبراهيم بن سعد لا بالعكس. وقد وجدت رواية ابن جرير عن الجوزجاني في عدة مواضع من التفسير والتهذيب والتأريخ (3). وقال ابن حجر أيضا: فصل. وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح: من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلق، حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى، وهم أساطين الحديث وأركان الرواية. فهذا إذا عارضه مثله

(هامش)

(1) ميزان الاعتدال 1 / 76. (2) تذكرة الحفاظ 2 / 549. (3) تهذيب التهذيب 1 / 159. (*)

ص 304

أو أكبر منه فوثق رجلا ضعفه هو قبل التوثيق (1). * وفيه: وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرة: زكريا أرفع منه بمائة درجة . لكن الأجلح من رجال الصحيح أبي داود، فكلامه فيه مردود بروايته عنه. * وفيه: وقال ابن سعد: كان ضعيفا جدا . أقول: يا للعجب! كيف يركن من تحلى بالإنصاف إلى تضعيف ابن سعد، مع أن تنطعه وتعنته قد بلغ إلى غاية مردية يستعيذ منها كل من اعتزى إلى الإسلام والإيمان، فإنه خذله الله تكلم في الإمام جعفر الصادق بما لا يتفوه به إلا معاند مارق، ولا ينبس به إلا منابذ منافق! فبالغ في اللجاج والإعوجاج حيث أسقط عنه عليه السلام التمسك والاحتجاج... قال ابن حجر بترجمة الصادق عليه السلام: قال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يحتج به ويستضعف! سئل مرة: سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم. وسئل مرة فقال: إنما وجدتها في كتبه (3). * وفيه: وقال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يتابع عليها . لكنك عرفت من كلماتهم أن الاضطراب في الحديث غير قادح، ولا يسلم منه أحد من المحدثين! على أن العقيلي ممن يتجرء على القدح في الأكابر، فقد ذكر علي بن المديني في (كتاب الضعفاء) قال الذهبي: فبئس ما صنع ! ثم خاطبه بقوله: فمالك عقل يا عقيلي! أتدري فيمن تتكلم؟... وأنا أشتهي أن تعرفني من الثقة الثبت الذي ما غلط... إلى آخر ما سمعت... ومن طاماته الموبقة وجساراته الفاحشة: ذكره الإمام موسى بن جعفر

(هامش)

(1) لسان الميزان 1 / 16. (2) طبقات ابن سعد 6 / 350. (3) تهذيب التهذيب 2 / 89. ترجمة الصادق عليه السلام. (*)

ص 305

عليهما السلام في كتابه المذكور... قال الذهبي: موسى بن جعفر بن محمد ابن علي العلوي الملقب بالكاظم، عن أبيه. قال ابن أبي حاتم: صدوق إمام. وقال أبوه أبو حاتم: ثقة إمام. قلت: روى عنه بنوه، علي الرضا، وإبراهيم، وإسماعيل، وحسين. وأخواه: علي ومحمد. وإنما أوردته لأن العقيلي ذكره في كتابه وقال: حديثه غير محفوظ - يعني في الإيمان - قال: الحمل فيه على أبي الصلت الهروي. قلت: فإذا كان الحمل فيه على أبي الصلت فما ذنب موسى حتى تذكره؟ (1). أقول: وإذا كان الحال كذلك، فلماذا ذكره الذهبي في كتابه المعد لذكر المجروحين، وهو يتحاشى من ذكر الصحابة الذي قدح فيهم البخاري وابن عدي وأمثالهما، بل لا يوردهم ولو بمحض النقل والحكاية، ولو مع تعقيبه بالرد والإنكار، لمجرد كونهم صحابة؟! بل لا يورد أئمة السنية في الفروع... لمجرد جلالة شأنهم وعظمتهم في النفوس!! * وفيه: وقال ابن حبان: كان لا يدري ما يقول، جعل أبا سفيان أبا الزبير. لكن غاية هذا هو الخطأ والسهو، وقد عرفت أنه لم يسلم منه أحد من المحدثين... ثم ابن حبان هو الذي قال عن مولانا الإمام الرضا عليه السلام: يروي عن أبيه عجائب، يهم ويخطئ (2)!... فإذا كان الرجل في هذا الحد من النصب والعدوان والمجازفة والخسران، لم يكن قوله في الأجلح: لا يدري... جارحا وقادحا قطعا...

(هامش)

(1) ميزان الاعتدال 4 / 201. (2) ميزان الاعتدال 3 / 158. (*)

ص 306

وجوه في رد قدح الأجلح مستفادة من كلمات العلماء وإذ عرفت وثاقة الأجلح وبطلان القدح فيه، فإن هناك كلمات للعلماء في الموارد المختلفة يستفاد منها وجوه أخرى في رد القدح في الأجلح: الجرح المجمل غير مقبول مطلقا قال أبو الخطاب عمر بن حسن المعروف بابن دحية الأندلسي: والشريف عبد الله بن محمد بن عقيل، ترك أحاديثه بعض العلماء. قال الحافظ أبو عيسى الترمذي في باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور: وعبد الله ابن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن عقيل... وكذلك وثقه جماعة وقبلوا حديثه... ولا يقبل التجريح من أحد مطلقا حتى يثبت ذلك عليه ويبين الكذب في الأحاديث المنسوبة إليه... (1). وقال السيوطي في شرح النواوي: يقبل التعديل من غير ذكر سببه، على الصحيح المشهور... ولا يقبل الجرح إلا مبين السبب... قال ابن الصلاح: وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله. وذكر الخطيب: أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث كالشيخين وغيرهما... ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه... ومقابل الصحيح أقوال...

(هامش)

(1) شرح أسماء النبي - شرح إمام النبيين : 69. (*)

ص 307

واختار شيخ الإسلام تفصيلا حسنا: فإن كان من جرح مجملا قد وثقه أحد من أئمة هذا الشأن، لم يقبل الجرح فيه من أحد كائنا من كان إلا مفسرا، لأنه قد ثبت له رتبة الثقة، فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي، فإن أئمة هذا الشأن لا يوثقون إلا من اعتبروا حاله في دينه ثم في حديثه وتفقدوه كما ينبغي، وهم أيقظ الناس، لا ينقض حكم أحدهم إلا بأمر صريح... (1). أقول: وعلى أساس تفصيل ابن حجر العسقلاني لا يصغى إلى قدح من قدح في الأجلح بعد توثيق يحيى بن معين والعجلي والفسوي وغيرهم، ورواية أرباب الصحاح عنه في صحاحهم، لأن القادحين منهم من لم يذكر السبب، ومنهم من ذكر سببا غير جارح لا يلتفت إليه، كدعوى الخطأ ونحوه. التعديل مقدم على الجرح عند جمهور العلماء وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني - في كلام له في الدفاع عن مذهب أبي حنيفة -: وإنما قدم جمهورهم التعديل على الجرح وقالوا: الأصل العدالة والجرح طار، لئلا يذهب غالب أحاديث الشريعة، كما قالوا أيضا: إن إحسان النظر بجميع الرواة المستورين أولى، وكما قالوا: إن مجرد الكلام في شخص لا يسقط مرتبته، فلا بد من الفحص عن حاله. وقد خرج الشيخان لخلق كثير عمن تكلم الناس فيهم، إيثارا لإثبات الأدلة الشرعية على نفيها، ليحوز الناس فضل العمل بها، فكان في ذلك فضل كثير للأمة أفضل من تجريحهم... فقد بان لك أنه ليس لنا ترك حديث كل من تكلم الناس فيه بمجرد الكلام، فربما يكون قد توبع عليه وظهرت شواهده، وكان له أصل، وإنما لنا

(هامش)

(1) تدريب الراوي 1 / 258. (*)

ص 308

ترك ما انفرد به، وخالف فيه الثقات، ولم يظهر له شواهد. ولو أننا فتحنا باب الترك لحديث كل راو تكلم بعض الناس فيه لذهب معظم أحكام الشريعة كما مر، وإذا أدى الأمر إلى مثل ذلك فالواجب على جميع أتباع المجتهدين إحسان الظن برواة جميع أدلة المذاهب المخالفة لمذهبهم، فإن جميع ما رووه لم يخرج عن مرتبي الشريعة اللتين هما التخفيف والتشديد (1). لفظة كذاب أيضا تحتاج إلى تفسير ولابن الوزير الصنعاني (2) كلام يشتمل على فوائد منها: إن الجرح الذي لم يفسر لا يقدم على التعديل، بل إنما يوجب الريبة في غير المشاهير بالعدالة والثقة... ثم قال: ومن لطيف علم هذا الباب أن يعلم: أن لفظة كذاب قد يطلقها كثير من المتعنتين في الجرح على من يهم ويخطئ في حديثه، وإن لم يتبين أنه يتعمد ذلك، ولا يبين أن خطأه أكثر من صوابه ولا مثله. ومن طالع كتب التجريح والتعديل عرف ما ذكرته. وهذا يدل على أن هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يفسر سببها، ولهذا أطلقه كثير من الثقات على جماعة من الرفعاء من أهل الصدق والأمانة. فاحذر أن تغتر بذلك في حق من قيل فيه من الثقات الرفعاء، فالكذب في الحقيقة اللغوية مطلق على الوهم والعمد معا، ويحتاج إلى التفسير إلا أن يدل على التعمد قرينة (3).

(هامش)

(1) الميزان - فصل في تضعيف قول من قال أن أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة ضعيفة غالبا. (2) محمد بن إبراهيم، المتوفى سنة 840، محدث، أديب، متكلم له ترجمة في: الضوء اللامع 6 / 272، البدر الطالع 2 / 81 وغيرهما. (3) الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - النوع الثاني مما قدح به على البخاري ومسلم. (*)

ص 309

لا يقبل الجرح فيمن علم عدالته بالتواتر أو كانت أشهر من عدالة الجارح وله كلام آخر اشتمل على فوائد في الباب... كقوله: أن يكون عدالة الراوي معلومة بالتواتر مثل: مالك، والشافعي، ومسلم، والبخاري، وسائر الأئمة الحفاظ، فإنه لا يقبل جرحهم بما يعلم نزاهتهم عنه. ولو كان ذلك مقبولا لكان الزنادقة يجدون السبيل إلى إبطال جميع السنن المأثورة، بأن يتعبد بعضهم ويظهر الصلاح حتى يبلغ إلى حد يجب في ظاهر الشرع قبوله، ثم يجرح الصحابة - رضي الله عنهم - فيرمي عمار بن ياسر بإدمان شرب المسكر، وسلمان الفارسي بالسرقة لما فوق النصاب، وأبا ذر بقطع الصلاة... . إن كانت عدالة الراوي أرجح من عدالة الجارح أو أشهر من عدالة الجارح لم يقبل الجرح، لأنا إنما نقبل الجرح من الثقة لرجحان صدقه على كذبه، ولأجل حمله على السلامة، وفي هذه الصورة كذبه أرجح من صدقه، وفي حمله على السلامة إسائة الظن بمن هو خير منه وأوثق وأعدل وأصلح... . فنقول: إن الأجلح في طبقة مالك بن أنس كما في (تقريب التهذيب)، فليس شأنه بأقل ممن جرحه، بل هو مقدم عليهم في العدالة، للقوادح المذكورة لهم في تراجمهم، فهو أوثق وأعدل منهم، وعدالته أشهر من عدالتهم... وعليه، فلا يقبل تكلمهم فيه. قوله: فلا يجوز الاحتجاج بحديثه.

ص 310

أقول: قد عرفت أن الأجلح من رجال (مسند أحمد) و(صحيح الترمذي) وصحيح النسائي) و(صحيح أبي داود) و(صحيح ابن ماجة)... فهو عند هؤلاء ممن يحتج بحديثه... على أنه لو كان ضعيفا فلا يقتضي ضعفه بطلان هذا الحديث الشريف لدى مهرة الحديث ونقدة الأخبار... لكن (الدهلوي) يجهل أو يتجاهل... قال السبكي في (طبقاته): وإذا ضعف الرجل في السند ضعف الحديث من أجله ولم يكن في ذلك دلالة على بطلانه، بل قد يصح من أخرى، وقد يكون هذا الضعيف صادقا وأمينا في هذه الرواية، فلا يدل مجرد تضعيفه على بطلان ما جاء به . وهذه قاعدة مقررة عندهم يطبقونها في كتبهم في معرفة الأحاديث: قال المناوي بشرح حديث: آدم في السماء... : إسناده ضعيف لكن المتن صحيح، فإنه قطعة من حديث الإسراء الذي أخرجه الشيخان عن أنس لكن فيه خلف في الترتيب (1). فتراه يحكم على حديث ضعيف سندا بالصحة متنا لكونه قطعة من حديث صحيح، مع وجود الخلف في الترتيب... فإذا صحح هذا الحديث فلا ريب في صحة حديث الولاية، وإن ضعف سنده بالأجلح - لو سلم - لا يضر بغيره المنصوص على صحته، ولا يوجب بطلان الحديث من أصله. وقال المناوي بشرح حديث آكل الربا... : وفيه الحارث الأعور، قال الهيثمي بعد عزوه لأبي يعلى وأحمد والطبراني: وفيه الحارث الأعور ضعيف وقد وثق. وعزاه المنذري لابن خزيمة وابن حبان وأحمد ثم قال: رواه

(هامش)

(1) فيض القدير 1 / 49. (*)

ص 311

كلهم عن الحارث الأعور عن ابن مسعود، إلا ابن خزيمة فعن مسروق عن ابن مسعود، وإسناد ابن خزيمة صحيح. إنتهى. فأهمل المصنف الطريق الصحيح وذكر الضعيف ورمز لصحته فانعكس عليه. والحاصل أنه روي بإسنادين أحدهما صحيح والآخر ضعيف، فالمتن صحيح (1). وقال ابن الوزير بعد كلام نقله عن النووي: وفيه ما يدل على أنه لا يعترض على حفاظ الحديث إذا رووا حديثا عن بعض الضعفاء وادعوا صحته، حتى يعلم أنه لا جابر لذلك الضعف من الشواهد والمتابعات، ومعرفة هذا عزيزة لا يحصل إلا للأئمة الحفاظ أهل الدراية التامة بهذا الشأن ثم ذكر موارد لذلك، حيث حكم بعض العلماء على بعض الأحاديث بالضعف، وحكم آخرون على صحة تلك الأحاديث لكونها واردة في طرق أخرى معتبرة، أولها شواهد ومتابعات تدل على صحتها. قبول المراسيل مذهب مالك والشافعي وغيرهما وعموم التابعين وذكر ابن الوزير في كلام له حول المراسيل، فعزى قبولها إلى: مذهب مالك والمعتزلة والزيدية، ونص عليه منهم أبو طالب في كتاب المجرى، والمنصور في كتاب صفوة الأخيار. وروى أبو عمر ابن عبد البر في أول كتاب التمهيد عن العلامة محمد بن جرير الطبري إجماع التابعين على ذلك. ومذهب الشافعية قبول المراسيل على تفصيل مذكور في كتب علوم الحديث والأصول، وهو المختار على تفصيل فيه، وهو قبول ما انجبر ضعفه ثم استدل لذلك بوجوه... (2). فإذا كان المرسل مقبولا فمسند الأجلح مقبول بالأولوية القطعية...

(هامش)

(1) فيض القدير 1 / 55. (2) الروض الباسم - النوع الثاني مما قدح به على البخاري ومسلم. (*)

ص 312

كلام (الدهلوي) حول الأجلح

 وقد سلك (الدهلوي) تبعا للكابلي طريقا آخر في القدح في الأجلح كي يتمكن بزعمه من رد حديث الولاية، فقال في باب المكائد من كتابه: ملازمة بعض الخداعين منهم ثقات المحدثين، وإظهاره البراءة من مذهبه والطعن في أسلافه، وذكر مفاسد ذاك المذهب، وإظهاره التوبة والتقوى والديانة وحسن السيرة، وشدة الرغبة في أخذ الحديث عن الثقات، لينخدع بذلك الطلبة وعلماء أهل السنة فيوثقونه ويعدلونه، ويحصل لهم الاطمينان التام بصدقه وعفافه، ثم يدس في مرويات الثقات بعض الموضوعات المؤيدة لمذهبه، أو يحرف بعض الكلمات لإغواء الناس. وهذا من أعظم كيودهم. منهم الأجلح، فإنه رجل قام بهذه المكيدة حتى وثقه يحيى بن معين، وهو أوثق علماء أهل السنة في باب الجرح والتعديل، فلم يقف على حقيقة أمره لفرط تقيته، فظن كونه من الصادقين التائبين. ولكن انكشف لغيره من أهل السنة كون الرجل خداعا واحترزوا عما انفرد به من الروايات، ومن ذلك ما رواه عن بريدة مرفوعا: إن عليا وليكم بعدي (1). هذا كلامه الذي أورده تعبيرا عما صنعه في عالم الخيال! فجعله من مكائد أهل الحق الشيعة الإمامية! لقد كان عليه - وهو يريد إلزام الشيعة - أن يثبت من كتبهم كون الأجلح من الشيعة الإمامية، ثم إثبات ملازمته محدثي أهل السنة وأخذه الأخبار منهم، وطعنه في مذهب الشيعة أمام أهل السنة، ثم يثبت بعد ذلك كله كون الحديث

(هامش)

(1) التحفة الاثنا عشرية: 56. (*)

ص 313

الشريف - عند أهل الحق - من متفردات الأجلح أو موضوعاته أو محرفاته... فما لم يثبت هذه الأمور لم يمكنه إلزام أهل الحق الشيعة... وجوه الجواب عنه وبعد، فإن ما ذكره مخدوش بوجوه: أحدها: إنه إنه ليس في شيء من كتب الرجال أثر مما زعمه من كون الأجلح شيعيا قد تبرأ في الظاهر من مذهبه ولازم بعض المحدثين الثقات... بل قد عرفت سابقا من إفادات العلماء الأعلام أن الأجلح كان يقول: سمعنا أنه ما سب أبا بكر وعمر أحد إلا مات أو افتقر ... غاية ما هناك نسبة التشيع إليه، لكنك عرفت أن التشيع - في اصطلاح الرجاليين - لا ينافي التسنن، ولذا كان أكابر أهل السنة شيعة... سلمنا، لكن أين تظاهره بالتبري عن التشيع؟ والثاني: إن انخداع يحيى بن معين به دعوى لا دليل عليها أبدا. والثالث: إن يحيى بن معين موصوف عندهم الصفات الجليلة الباهرة والمدائح العظيمة الفاخرة، وإن احتجاج أهل الحق بتوثيقه الأجلح تام حسب قواعد المناظرة وآداب البحث، فمحاولة إسقاط توثيقه إياه عن الاعتبار والسعي وراء تخطئته خروج على تلك القواعد والآداب، ولو كان ذلك مقبولا لكان سبيلا لأهل الكتاب بأن يخطئوا علمائهم في كل مورد استدل أهل الإسلام بأقوالهم إلزاما لهم! والرابع: إن معارضة توثيق يحيى بن معين - الذي اعترف (الدهلوي) بكونه أوثق علماء أهل السنة في الجرح والتعديل - بتضعيف غيره مردودة، لأن الأوثق لا يعارض بغير الأوثق. والخامس: إنه ليس الموثق للأجلح يحيى بن معين فقط، فقد وثقه جمع من كبار أساطين أهل السنة غيره، ومنهم من اعترف (الدهلوي) أيضا بتوثيقه

ص 314

وهو العجلي. والسادس: إن جماعة من كبار أئمتهم: كالثوري، ويحيى القطان، وابن المبارك، وابن نمير، وأمثالهم، يروون عن الأجلح كما لا يخفى على من راجع تراجمه... فكيف خفي على كل أولئك حال الأجلح وانخدعوا واعتمدوا عليه وأخذوا منه؟ إن هذا شيء يدعيه (الدهلوي) لغرض إبطال حديث الولاية!! والسابع: لقد ذكر (الدهلوي) في مواضع عديدة من كتابه (التحفة) وخاصة في باب المكائد منه: إن العالم بالسرائر ليس إلا الله سبحانه، وأنه ليس لأحد أن يدعي العلم بما في القلوب وما تخفي الصدور... فكيف بلغ المتأخرون عن يحيى بن معين رتبة الألوهية وتمكنوا من الاطلاع على حال الأجلح؟ وما كان ذنب يحيى وأمثاله فلم يبلغوا تلك المرتبة؟ والثامن: دعوى تفرد الأجلح بحديث الولاية كاذبة... فإن للحديث طرقا عديدة في كتب أهل السنة، نص كبار أئمتهم على صحتها واعتبارها، كما رأيت... فما أتعب (الدهلوي) نفسه فيه من القدح في الأجلح وإسقاط توثيق ابن معين عن الاعتبار - مع كونه أوثق العلماء في الجرح والتعديل - لا ينفعه. والتاسع: لقد روى ولي الله الدهلوي، والد (الدهلوي) حديث الولاية عن عمران بن حصين وابن عباس بطريقين لا وجود للأجلح في شيء منهما. وأيضا: فقد ذكر ولي الله هذا الحديث في ضمن مآثر أمير المؤمنين عليه السلام ومناقبه، فهو عنده من الأخبار المعتبرة وليس من مجعولات شيعي خداع، وإلا لما أورده في تلك الأخبار. فثبت - والحمد لله - كذب (الدهلوي) من كلام والده الذي وصفه بكون آية من الآيات الإلهية ومعجزة من المعاجز النبوية!! والعاشر: أنه لو جاز أن يكون في الرواة هكذا شخص، بأن يكون من أهل مذهب آخر فيتظاهر بالتوبة منه ثم بالتقوى والصلاح، ويلازم أئمة الحديث

ص 315

ويصاحبهم حيث يثقوا به، فيتمكن من دس الموضوعات والأباطيل المؤيدة لمذهبه في أحاديث الأئمة الثقات... إذا جاز هذا وفتح هذا الباب جاز أن يقال بأن جميع الرواة الموثقين وكبار الأئمة الأساطين من أهل السنة - كأرباب الصحاح وأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم - كانوا في الباطن يهود ونصارى وملاحدة، فجاءوا وتظاهروا بالإسلام ودسوا أنفسهم في صفوف المسلمين، وجعلوا يتبرأون في الظاهر من أديانهم ومذاهبهم كي يثق بهم المسلمون، ثم دسوا في أخبار المسلمين أساطيرهم ورواياتهم الموضوعات والأكاذيب المؤيدة لمذاهبهم... فيكون (الدهلوي) بما ذكره حول الأجلح مصداقا للمثل القائل: بنى قصرا وهدم مصرا!!

 

الصفحة السابقة

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الخامس عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب