ص 3
بسم الله الرحمن الرحيم
ص 5
هل العزل منقصة منفرة؟

ص 7
تجويز انقطاع الخلافة باطل لأنه نقص منفر

قوله: الثالث: إن ما ذكروه من أن زوال هذه
المرتبة من هارون يستلزم عزله، وعزل النبي غير جائز. نقول: إطلاق العزل على
انقطاع العمل خلاف العرف واللغة. أقول: تجويز انقطاع خلافة هارون عليه السلام
دعوى شنيعة، لعدة أسباب: الأول: إن خلافة هارون عن موسى عليهما السلام كانت شرفا
ومقاما جديدا له، لأنها أثبتت له الإمامة مع الواسطة بالإضافة إلى إمامته الثابتة
له بلا واسطة، فكان جامعا بين الإمامتين، ولا ريب في أن زوال الإمامة بعد ثبوتها
انحطاط في المرتبة، يوجب التنفير والتعيير، وهذا ما نص عليه القيصري والجامي في
شرحيهما على (فصوص الحكم)، وهي حقيقة لا تقبل الجدل والبحث. وداود القيصري المتوفى
سنة 751 من كبار العلماء العرفاء المحققين عندهم، كما لا يخفى على من راجع ترجمته
في (الشقائق النعمانية 1 / 70) وغيره. كما أن عبد الرحمن الجامي المتوفى سنة 898 من
أشهر عرفائهم
ص 8
وأدبائهم، كما لا يخفى على من راجع ترجمته في (البدر الطالع 1 / 327) و(شذرات الذهب
7 / 360) وغيرهما. الثاني: لقد حصلت لهارون عليه السلام - بسبب استخلاف موسى إياه -
مرتبة تنفيذ الأحكام... حسب تصريح الفخر الرازي... فإذا كانت الخلافة هذه منقطعة
انقطع بانقطاعها استمرار تلك المرتبة الجديدة الحاصلة على أساسها، فلا تنفذ أحكامه
ولا تمضي رئاسته، ويزول عنه ذاك الشرف العظيم والمقام الجليل، ولا ريب في أن ذلك
يستلزم الهتك والتحقير، ويستوجب العيب والتعيير، سواء صح على ذلك إطلاق العزل
أو لم يصح... إذ ليس النزاع في الاسم والعنوان، بل في الحقيقة والمعنون. الثالث: إن
تشكيك (الدهلوي) في صحة عنوان العزل على انقطاع العمل والخلافة يدفعه صريح
ما ذكره ابن تيمية، في كلامه الطافح بالبغض والعناد لأمير المؤمنين عليه السلام،
حيث أطلق العزل على انقطاع الخلافة بعود المستخلف عن سفرته... وهذا عين عبارته:
وقوله: لأنه لم يعزله عن المدينة. قلنا: هذا باطل، فإنه لما رجع النبي صلى الله
عليه وسلم انعزل علي بنفس رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع (1). فلو كان هناك
انقطاع لخلافة هارون عليه السلام، فقد تحقق العزل في
(هامش)
(1) منهاج السنة 7 / 351. (*)
ص 9
حقه... ومعاذ الله من ذلك كله... وأيضا، يندفع تشكيكه بصريح كلام القاري في دعوى
انعزال أمير المؤمنين عليه السلام برجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك إلى
المدينة... وقد تقدمت عبارته سابقا. الرابع: بل إن بعضهم يرى انقطاع الرسالة
بسبب الموت ، ويصحح حينئذ إطلاق العزل ... وقد صدر هذا التجاسر من الأشعرية
في حق نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: قال الشيخ أبو شكور الكشي في (التمهيد):
ناظرت أشعريا فقال لي: إن الوضوء والصلاة عندكم أن يجلس أحدكم تحت الميزاب حتى يبتل
وجهه وذراعاه ورأسه وقدماه، ثم يبسط خرء الحمام ويقوم عليه ويقول بالفارسية: خدا
بزرك. يعني: الله أكبر. ويقرأ بالفارسية مقدار آية ويقول: دو برگ سبز. يعني: قوله
تعالى *(مدهامتان)* ثم يركع ويسجد ساكتا ويقعد مقدار التشهد وقت العقود، ثم يضرط،
فهذه عبادتكم. قال هذا طعنا لأبي حنيفة ولأصحابهم رحمهم الله. فأجبته وقلت: إنكم
تعتقدون بأن الله تعالى ما كان خالقا ولا رازقا ولا معبودا قبل أن يخلق الخلق،
والآن ليس بغافر ولا مثيب ولا معاقب، والرسول اليوم ليس برسول، وقبل الوحي ما كان
رسولا، والمؤمنون بالمعصية ينقص إيمانهم، فلذلك المعبود الذي اعتقدت بأنه ما كان
ربا معبودا ثم صار معبودا، وإن هذا الرسول ما كان رسولا ثم صار رسولا ثم عزل، فإن
المؤمن الذي ينقص إيمانه بالضحك ونحوه يكتفي بهذا القدر من العبادة، نعوذ بالله من
ذلك .
ص 10
فلو كانت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنتفي بموته ويصح إطلاق العزل في
حقه، كان نفي الخلافة عن هارون عليه السلام بزعم انقطاعها في حال الحياة أولى
بإطلاق العزل عليه، ويكون استلزامه للإهانة والتحقير آكد وأشد... الخامس: وأخيرا،
فإنا قد وجدنا (الدهلوي) نفسه ينص على أن انقطاع الخلافة هو العزل !! وهذا
من طرائف الأمور... فلقد كرر الرجل دعوى عدم صحة إطلاق العزل على انقطاع الخلافة
والعمل.. إلا أنه في مقام رفع العيب والنقص عن عمر بن الخطاب بسبب العزل، التجأ إلى
النقض بوقوع العزل في حق هارون عليه السلام!! يقول (الدهلوي) في الجواب عن المطعن
الخامس من مطاعن أبي بكر: سلمنا أن عمر كان معزولا من قبل النبي، لكنه مثل هارون
الذي برجوع موسى عليه السلام من الطور انعزل عن خلافته، إلا أنه لما كان نبيا
بالاستقلال لم يوجب هذا العزل نقصا في إمامته، وكذلك عمر بن الخطاب الذي قال في
حقه: لو كان بعدي نبي لكان عمر، لم يوجب عزله نقصا في إمامته (1). إذن، عزل هارون
عن الخلافة برجوع موسى، لكن عزله لم يكن بقول من موسى، بل بمجرد عوده من الميقات...
لكن العزل يوجب الإهانة كما نص عليه (الدهلوي) نفسه، فدعوى انقطاع الخلافة
باطلة... وحديث لو كان بعدي نبي لكان عمر قد أوضحنا فساده في بعض مجلدات كتابنا
فليراجع.
(هامش)
(1) التحفة الاثنا عشرية: 286. (*)
ص 11
التمثيل بعادة السلاطين لا يرفع الإشكال قوله: لأن السلاطين إذا خرجوا من دار
السلطنة استخلفوا نوابهم وبطانتهم، فإذا رجعوا انقطعت تلك الخلافة قهرا، ولا يقال
بأنهم عزلوا، ولا يتوهم وقوع الإهانة عليهم. أقول: أين الثريا من الثرى، وأين الدر
من الحصى؟! ثم إن موسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام في قومه من غير تقييد
بمدة، إذ لم يقل له إلا: *(اخلفني في قومي)*، وليس هذا حال الرؤساء والسلاطين،
فإنهم لا يستخلفون غالبا - إذا خرجوا - هذا الاستخلاف المطلق، بل إن ذلك الاستخلاف
منهم يكون مقيدا ومحدودا بتلك السفرة فقط، ولذا لا يصدق العزل على نوابهم إذا
انقطعت النيابة والخلافة برجوعهم. فلو فرض أن رئيسا استخلف أحدا الاستخلاف المطلق
غير المقيد بأمد، ثم قطع الخلافة، كان الخليفة معزولا لغة وعرفا والمنكر مكابر
قطعا. ولو سلمنا أن قطع عمل الخليفة غير المقيدة خلافته بزمان من الأزمنة، لا
يستوجب الإهانة في حقه، فإن ذلك ليس إلا لاختلاف مراتب الإهانة والتنفير، فإن بعض
الأمور توجب الإهانة بالنسبة إلى الأنبياء والسلاطين معا، وبعضها لا توجبها بالنسبة
إلى السلاطين ورجال أهل الدنيا، وتوجبها بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة قطعا، لوضوح
أن مرتبتهم أعلى وأجل من مراتب السلاطين والرؤساء، فما يكون منفرا بالنسبة إلى
السلاطين والوزراء منفر بالنسبة إلى الأئمة
ص 12
والأنبياء، دون العكس... وتلخص: أنه لو فرض أن انقطاع العمل لا يوجب إهانة في حق
الوزراء ونواب السلاطين، فإن ذلك لا يستلزم أن لا يكون انقطاع الخلافة عن الأنبياء
موجبا للتنفر... ومن هنا يشترط في الإمامة والخلافة ما لا يشترط في الوزارة
والرئاسة الدنيوية... وهذا واضح جدا. إثبات النبوة الاستقلالية لهارون لا يرفع
الإشكال قوله: وإن كان عزلا فلماذا يكون - مع وصول النبوة الاستقلالية بعد موت موسى
إلى هارون، وهي أعلى من الخلافة بألف درجة - موجبا للنقصان والإهانة له؟ أقول: قد
عرفت صدق العزل ولزوم التنفير . وأما أنه عليه السلام كان ذا نبوة
استقلالية، فهذا لا يرفع الإشكال: أما أولا: فلأنه بعد تحقق ما يوجب الإهانة
والتحقير له لا يصلح للنبوة أصلا، لاشتراط خلو النبي من العيوب والمنفرات، فيكون
فرض كونه نبيا فرضا لتحقق الشيء مع وصف حصول المانع عنه فيه، وهذا مجرد فرض، لوضوح
أن الشيء لا يتحقق مع تحقق المانع عن تحققه. وأما ثانيا: فرضنا حصول النبوة
الاستقلالية له بعد موت موسى، لكن ذلك لا يرفع
ص 13
الإهانة الحاصلة له منذ رجوع موسى من الطور حتى وفاة هارون عليه السلام... وكأن
(الدهلوي) فرض تحقق النبوة الاستقلالية له بمجرد رجوع موسى وانعزاله عن خلافته! وقد
تنبه إلى هذا التوهم في باب المطاعن، وعدل عن إثبات النبوة المذكورة له بعد موت
موسى، وادعى حصولها له في حياته، وحاول أن يرفع بذلك الإشكال بلزوم النقص من العزل.
لكن غيره من الأئمة السنية التجأ إلى زعم وقوع عزل هارون بعد موت موسى، وجعل حصول
النبوة الاستقلالية له دافعا لإهانة العزل: قال في (شرح المواقف): الجواب: منع
صحة الحديث كما منعه الآمدي، وعند المحدثين إنه صحيح وإن كان من قبيل الآحاد. ونقول
على تقدير صحته: لا عموم له في المنازل، بل المراد استخلافه على قومه في قوله:
*(اخلفني في قومي)* لاستخلافه على المدينة. أي: المراد في الحديث أن عليا خليفة منه
على المدينة في غزوة تبوك، كما أن هارون كان خليفة لموسى في حال غيبته، ولا يلزم
دوامه، أي دوام استخلاف موسى بعد وفاته، فإن قوله: *(اخلفني)* لا عموم له بحيث
يقتضي الخلافة في كل زمان، بل المتبادر استخلافه مدة غيبته، ولا يكون حينئذ عدم
دوامه بعد وفاة موسى - لقصور دلالة اللفظ عن استخلافه فيه - عزلا، كما لو صرح
بالاستخلاف في بعض التصرفات دون بعضها، ولا عزله إذا انتقل إلى مرتبة أعلى - وهو
الاستقلال بالنبوة - منفرا، يعني وإن سلمنا تناول اللفظ لما بعد الموت، وأن عدم
بقاء خلافته بعده عزله، لم يكن ذلك العزل منفرا عنه، وموجبا لنقصانه في الأعين.
وبيانه: إنه وإن عزل عن خلافة موسى، فقد صار بعد العزل مستقلا بالرسالة والتصرف عن
الله تعالى، وذلك أشرف وأعلى من كونه مستخلف
ص 14
موسى مع الشركة في الرسالة (1). وفي (شرح المقاصد): ولو سلم، فلا دلالة على
بقائها بعد الموت، وليس انتفاؤها بموت المستخلف عزلا ولا نقصا، بل ربما يكون عودا
إلى حالة أكمل، هو الاستقلال بالنبوة والتبليغ من الله تعالى (2). وفي (الصواقع):
وليس في اللفظ ما يدل على الاستمرار والبقاء بعد انقضاء مدة الغيبة، ودعوى كونه
خليفة له بعد موته من المنازل، ممنوع، فإنه ادعاء محض، وزوال المرتبة الثابتة له في
حياة موسى بوفاته لا يستلزم نقصا، بل إنما يستلزم كمالا، لأنه يصير بعده مستقلا
بالرسالة في التبليغ من الله تعالى، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكا له في الرسالة
(3). أقول: لكنه توهم باطل، لاستلزامه كون هارون عليه السلام خليفة لموسى من حين
خروجه إلى الطور وحتى وفاته، وأن خلافته لم تنقطع برجوع موسى من الطور بل بموته،
وهذا واضح البطلان، لأنه لا دخل لموت المستخلف في العزل، وأن الخلافة الثابتة في
حال حياته لا تزول بسبب موته أبدا. وليس عاقل يقول بأن موت المستخلف من أسباب عزل
الخليفة، بل إن موت المستخلف يكون مصححا لخلافة الخليفة عنه، قال ابن تيمية:
والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته . وبالجملة، موت المستخلف لا
ينافي خلافة الخليفة بل يصححها كما هو
(هامش)
(1) شرح المواقف 8 / 362. (2) شرح المقاصد 5 / 275. (3) الصواقع الموبقة - مخطوط.
(*)
ص 15
صريح عبارة ابن تيمية - وإن كان يزعم بأن حياته تنافي خلافة الخليفة - وعلى هذا،
فكيف يجوز عاقل زوال خلافة هارون - الثابتة من حين خروج موسى إلى الطور - بسبب موت
موسى؟ على أن كثيرين من الأنبياء استخلفوا في حياتهم وبقيت خلافة الخليفة بعد
مماتهم. فإن (يوشع) كان خليفة لموسى بعد موته كما عرفت. ويوشع استخلف (كالب بن
يوفنا) فكان خليفة من بعد يوشع كما ذكر الثعلبي (1). وكالب استخلف ابنه (يوشا فاش)
كما روى الكسائي (2) والثعلبي (3). واستخلف (إلياس) على بني إسرائيل (اليسع).
واستخف اليسع (ذا الكفل) كما ذكر الثعلبي (4) وغيره. وكما يظهر من هذه العبارات
الحاكية لتلك الاستخلافات بطلان ما زعموا من زوال الخلافة بالموت، كذلك يظهر بطلان
ما زعمه ابن تيمية من امتناع الخلافة في حال حياة المستخلف، فقد ذكروا أن ذا الكفل
كان حاكما على الناس في حياة اليسع.. كما في رواية الرازي بتفسير الآية: *(وإسماعيل
وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين)*(5). وأيضا: ذكروا أن (داود) استخلف ابنه
(سليمان) وأن (سليمان) استخلف
(هامش)
(1) العرائس في قصص الأنبياء: 250. (2) قصص الأنبياء - مخطوط. (3) العرائس: 250
وفيه: يوسافوس. (4) العرائس: 261. (5) تفسير الرازي 22 / 210 - 211. والآية في سورة
الأنبياء 21: 85. (*)
ص 16
ابنه (رخيعم) (1). وبعد، فإن العزل مطلقا عيب موجب للتنفير، سواء كان في حال الحياة
أو بعد الموت... فما التجأوا إليه لرفع نقص العزل غير مفيد. وتلخص: إن العزل
منقصة... لا يشك في ذلك ذو لب... وقال ابن القيم في كلام له: إن من المدح ما يكون
ذما وموجبا لستورة مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النفوس
بما يمدح به وتظنه عنده، فلا تجده كذلك، فينقلب ذما، ولو ترك بغير مدحة لم تحصل له
هذه المفسدة، ويشبه حاله حال من ولي ولاية سنية ثم عزل عنها، فإنه تنقص مرتبته عما
كانت قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس عما كان عليه قبلها (2). وأما ثالثا: فإن
ما ذكروه من لزوم حصول النبوة بالاستقلال لهارون عليه السلام، لم يقيموا عليه دليلا
قطعيا، لا من النقل ولا من العقل، ومجرد الدعوى في مقام البحث والمناظرة لا يرفع
الإشكال. وأما رابعا: فلقد ثبت أن هارون عليه السلام كان مطيعا لموسى في حال حياته،
مع كونه شريكا له في رسالته، فلو كان باقيا بعد موته لكان تابعا له مع اتصافه
بالنبوة... أما كونه مطيعا لموسى في حال حياته، فهذا مما لا سبيل إلى نفيه وإنكاره،
فقد روى السيوطي عن: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم،
(هامش)
(1) العرائس: 290 - 291 و328. (2) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 6. (*)
ص 17
عن ابن عباس في قصة السامري: فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن،
وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن
يقول له موسى فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، وكان له هائبا مطيعا (1). وكذا
في (العرائس) و(عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان). وأما خامسا: فإن يوشع كان خليفة
لموسى من بعده، مع أنه كان حينذاك نبيا من الأنبياء... فكما أمكن اجتماع الخلافة
والنبوة في يوشع، ولم تمنع نبوته من خلافته لموسى، فكذلك هارون - لو قدر بقاؤه حيا
بعد موسى - لم تكن نبوته مانعة من أن يكون خليفة لموسى. وفي ذلك كفاية لأهل
الدراية. وأما سادسا: فإن الأنبياء بعد موسى كانوا جميعا مبعوثين لتجديد وإحياء ما
نسيته أو تركته بنو إسرائيل من أحكام التوراة، فهم جميعا تبع لشريعة موسى، ولو قدر
بقاء هارون بعده نبيا لكان كذلك، ولم يكن نبيا مستقلا... فسقط ما ذكروه. أما أن
الأنبياء كانوا يبعثون بعد موسى بشريعة موسى لا بشريعة مستقلة، فهذا ما نص عليه
علماء القوم: قال الثعلبي: قال الله تعالى: *(وإن إلياس لمن المرسلين)* إلى آخر
القصة. قال ابن إسحاق والعلماء ومن أصحاب الأخبار: لما قبض الله تعالى حزقيل عليه
السلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وظهر فيهم الفساد، ونسوا العهد الذي عهد إليهم
في التوراة، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله عز وجل. فبعث إليهم إلياس نبيا،
وهو إلياس بن يسى بن فنحاص بن عيزار
(هامش)
(1) الدر المنثور 5 / 594. (*)
ص 18
ابن عمران بن هارون. وإنما كانت الأنبياء بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا
وضيعوا من أحكام التوراة (1). وقال شمس الدين العلقمي بشرح الحديث: أنا أولى
الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ليس بيني وبينه نبي : قوله: ليس بيني
وبينه نبي. قال في الفتح: هذا أورده كالشاهد لقوله: إنه أقرب الناس إليه، واستدل به
على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر: لأنه ورد أن
الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية، المذكورة قصتهم في سورة يس، كانوا من
أتباع عيسى، وأن جرجيس وخالد ابن سنان كانا نبيين وكانا بعد عيسى. والجواب: إن هذا
الحديث يضعف ما ورد من ذلك، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال. أو المراد: إنه لم
يبعث أحد بعد عيسى بشريعة مستقلة، وإنما بعث بعده من بعث بتقرير شريعة عيسى. وقصة
خال بن سنان أخرجها الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس، ولها طرق جمعتها في
ترجمته في كتابي في الصحابة (2). إضطرابهم في معني النبوة ووقت حصولها ثم لا
يخفى: أن دعوى استقلال هارون بالنبوة على تقدير بقاءه بعد موسى - هذه الدعوى التي
أرادوا بها رفع إشكال ورود النقص عن هارون بعزله عن الخلافة - ضعيفة جدا، بحيث لم
يجزم الفخر الرازي بها مع كونه الأصل فيها،
(هامش)
(1) العرائس: 252. (2) الكوكب المنير - شرح الجامع الصغير - مخطوط. (*)
ص 19
وهم قد أخذوها منه، بل ذكرها على سبيل الفرض والتقدير. ولكن القوم الذين أخذوا منه
هذه الدعوى ذكروها على سبيل الجزم فتورطوا... وهذه عبارة الفخر الرازي: ثم إن
سلمنا أنه منفر، ولكن متى؟ إذا حصلت عقيبه مرتبة أخرى أشرف منها، أو إذا لم يحصل؟
بيانه: وهو إن هارون عليه السلام لو بقي بعد موسى عليه السلام، وقدرنا أن الله
تعالى كان يأمره أن يتولى تنفيذ الأحكام على طريق الأصالة لا على طريق النيابة من
موسى عليه السلام، كان ذلك أشرف من نيابة موسى، وعلى هذا التقدير لا يلزم من فوات
خلافته لموسى حصول أمر منفر . أقول: لكن ذلك لم يتحقق، وذاك التقدير لم يكن، فيلزم
من فوات خلافته لموسى أمر منفر، وإذا كان لا يجوز هذا اللازم، فالملزوم - وهو فوات
الخلافة - غير متحقق. هذا، ولو كانت الإشكالات كلها تندفع وترفع بالتقديرات غير
الواقعة وغير الجائزة، لم يبق إشكال في مسألة أصلا، للزم انسداد باب البحث والتحقيق
في شتى العلوم... ومن هنا لما رأى المتأخرون عن الرازي سقوط هذا الأسلوب لرفع
الإشكال، عمد جماعة منهم إلى دعوى حصول النبوة بالاستقلال لهارون بعد موت موسى
جزما... وقد عرفت سقوطها كذلك. وجماعة آخرون عمدوا إلى دعوى حصول النبوة بالاستقلال
لهارون في حياة موسى عليه السلام: منهم: محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني في (شرح
التجريد)، فإنه قال بعد منع خلافة هارون على قوم موسى: سلمنا إنه استخلفه في حال
حياته،
ص 20
ولكن لا نسلم استخلافه له بعد موته، فإن قوله *(اخلفني)* ليس فيه صيغة عموم بحيث
يقتضي الخلافة في كل زمان، ولهذا فإنه لو استخلف وكيلا في حال حياته على أمواله،
فإنه لا يلزم من ذلك استمرار استخلافه له بعد حياته، وإذا لم يكن ذلك مقتضيا
للخلافة في كل زمان، فعدم خلافته في بعض الزمان لقصور دلالة اللفظ عن استخلافه فيه
لا يكون عزلا له، كما لو صرح بالاستخلاف في بعض التصرفات دون بعض، فإن ذلك لا يكون
عزلا فيما لو يستخلف فيه، وإذا لم يكن عزلا فلا ينفر. سلمنا أن ذلك يكون عزلا له،
ولكن متى يكون ذلك منفرا عنه؟ إذا كان قد زال عنه بالعزل حالة توجب نقصه في الأعين،
أو إذا لم يكن؟ الأول مسلم والثاني ممنوع. فلم قلتم بأن ذلك مما يوجب نقصه في
العين؟ وبيان عدم نقصه هو: إن هارون كان شريكا لموسى في النبوة، وحال المستخلف دون
حال الشريك في نظر الناس، فإذن، الاستخلاف حالة منقصة بالنظر إلى حال الشركة، وحال
المنقصة لا يكون زواله موجبا للتنقيص. سلمنا لزوم التنقيص من ذلك، لكن إذا لزم منه
العود إلى حالة هي أعلى من حالة الاستخلاف، أو إذا لم يعد؟ الأول ممنوع والثاني
مسلم. لكن لم قلتم أنه لم يعد إلى حالة هي أعلى؟ وبيان ذلك: إنه وإن عزل عن
الاستخلاف فقد صار بعد العزل مستقلا بالرسالة عن الله تعالى لا عن موسى، وذلك أشرف
من استخلافه عن موسى . ومنهم: إسحاق الهروي، حيث قال (في السهام الثاقبة): ولو
سلم فأي دلالة على بقاء الخلافة بعد موت موسى عليه السلام، وانتهاء الشغل بانتهاء
العمل ليس من باب العزل، خصوصا إذا اشتمل على العود إلى حالة أكمل، وهو الاستقلال
بالنبوة والتبليغ من الله، لا من موسى عليه السلام .
ص 21
أقول: لكن هذه الدعوى أيضا لا ترفع الإشكال. لأنه إن كان المراد من حصول النبوة
بالاستقلال لهارون في حياة موسى، حصول وصف زائد له على شركته مع موسى في النبوة،
بعد عزله عن الخلافة عنه، فهذا مخدوش: أولا: بأنه لا دليل لهم على أنه بعد عزله عن
الخلافة لموسى حصل له وصف زائد على شركته لموسى في النبوة. وثانيا: بأن هذه الدعوى
واضحة البطلان، إذ لا يجوز عاقل أن يكون هارون عليه السلام قبل الخلافة عن موسى
تابعا لموسى وشريكا له في النبوة، ويكون بعد عزله عن الخلافة - الصريح في الدلالة
على النقص والتنفير - في مرتبة أعلى من وصف التبعية، وهي مرتبة النبوة المستقلة.
وإن لم يكن المراد من الاستقلال في النبوة أمرا زائدا، بل يكون حاله بعد العزل
كحاله قبل الاستخلاف، وهو الشركة في النبوة مع موسى والتبعية له، فأين العود إلى
مرتبة أعلى وأشرف، حتى يرتفع به إشكال النقص والتنفير الحاصل بالعزل عن الخلافة؟
ولعل الأصفهاني إلتفت إلى أن لا جدوى لسلوك هذا الطريق لرفع إشكال التنفير، فلذا
عدل في (شرح الطوالع) عما ذكره في (شرح التجريد) وسلك طريقا آخر فقال: ولئن سلم
أن ذلك - أي عدم خلافة هارون بعد وفاة موسى عليهما السلام على تقدير حياة هارون
عليه السلام - عزل، ولكن إنما يكون نقصا له إذا
ص 22
لم يكن له مرتبة أعلى من الاستخلاف، وهي الشركة في النبوة (1). فجعل الرافع للنقص
والتنفير الحاصل بالعزل: الشركة في النبوة. لكن هذه الشركة في النبوة كانت حاصلة له
قبل الاستخلاف، وبعد العزل المزعوم، فأين العود إلى مرتبة أعلى ترفع النقص الحاصل
بسبب العزل؟ خلاصة الكلام في هذا المقام وتلخص من جميع ما ذكرنا: 1 - إن العزل عن
الخلافة نقص وعيب ومنفر. 2 - إن المنفر لا يجوز حصوله بالنسبة إلى النبي، لما تقرر
من أن النبي يجب أن يكون سالما عن جميع المنفرات. 3 - إن جميع ما ذكروه لرفع إشكال
حصول المنفر عن هارون عليه السلام - بسبب ما زعموه من عزله عن خلافة موسى - غير
رافع للإشكال. أما التمثيل بعادة السلاطين، فقد عرفت ما فيه. وأما أن النبوة
المستقلة الحاصلة لهارون ترفع النقص والعيب الحاصل بعزله، فقد رأيت اضطرابهم في
بيان ذلك، فتارة جعلوا العزل مقارنا للرجوع من الطور وحصول النبوة بعد موسى. وأخرى:
جعلوا العزل بعد وفاة موسى لا عند رجوعه من الطور. وثالثة: جعلوا العزل في حياة
موسى وحصول النبوة في حياته أيضا. ورابعة: جعلوا مجرد الشركة في النبوة رافعا للنقص
الحاصل بسبب العزل. والكل - كما رأيت - بمعزل عن الصواب، مستغرب غاية الاستغراب عند
أولي الألباب.
(هامش)
(1) شرح الطوالع - مخطوط. (*)
ص 23
وبقي وجه آخر ذكره (الدهلوي) وهو: قوله: بل هو نظير أن يعزل نائب الوزير - بعد موت
الوزير - ويجعل وزيرا مستقلا. أقول: لكنه سخيف جدا. أما أولا: فوزارة نائب الوزير -
بعد موت الوزير - ليست عزلا، بل ترفيع في المرتبة ورفعة في المقام. وأما ثانيا: إن
صرفه عن النيابة وجعله وزيرا مستقلا يكون في وقت واحد تقريبا ومن غير فاصل زماني،
ولذا لا يكون ذلك الصرف عن النيابة إهانة تستلزم التنفير. وإنما يتحقق الإهانة
والتنفير فيما لو عزل عن النيابة ولم ترتفع درجته بالحصول على الوزارة. وبهذا تعرف
أن التنظير بين ما ذكره وبين ما نحن فيه سخيف جدا... فإنهم يدعون تحقق العزل
لهارون عليه السلام، ويقولون إن هذا النقص كان يرتفع بنبوته الاستقلالية التي كانت
تكون له لو قدر بقاؤه حيا مدة أربعين سنة وحتى بعد موت موسى!!
ص 25
هل يجوز المنفر على الأنبياء؟

ص 27
وإن جميع ما ذكره القوم في هذا المقام مبني على عدم جواز المنفر على الأنبياء عليهم
السلام... فإنهم - بعد أن زعموا وقوع العزل عن الخلافة في حق هارون، وسلموا كون
العزل منقصة منفرة، والمنفرات غير جائزة على الأنبياء - انبروا لتوجيه هذا العزل
وإخراجه عن كونه منفرا... كلام شنيع للفخر الرازي وقد عرفت أن الأصل - في أكثر ما
ذكروه - هو الفخر الرازي في كتابه (نهاية العقول). لكن الرازي ذكر وجها آخر - وكأنه
يعلم في قرارة نفسه أن جميع ما ذكره هو وغيره غير رافع للإشكال - استحيى مقلدوه من
ذكره لقبحه وشناعته... وهو: جواز التنفير في حق الأنبياء عليهم السلام...!! وهذه
عبارته: ثم إن سلمنا إنه منفر مطلقا، فلم لا يجوز على الأنبياء؟ فإن المنع منه
بناء على القول بالتحسين والتقبيح. وقد مضى القول فيه . كلمات في وجوب نزاهة
الأنبياء عن المنفرات وإن هذا الكلام في الشناعة والفظاعة بحيث تقشعر منه الجلود
وتتألم القلوب، إنه كلام يتحاشى عن التفوه به أطفال أهل الإسلام...
ص 28
إذا كان يجوز على الأنبياء ما يوجب الإهانة والحقارة والمذلة لهم، ويستلزم تنفر
الطباع وابتعادها عنهم، فأي أثر لبعثهم؟ وأي فائدة للشرائع التي يبعثون بها؟ فانظر
إلى أي حد يصل بالقوم إصرارهم على إنكار فضائل أمير المؤمنين وتكذيبها!! إن العجز
عن رد تلك الفضائل يلجؤهم إلى نسبة العيب والنقص إلى الأنبياء!! وإن الالتزام بهذه
الطامات عندهم أسهل وأفضل من الاعتراف بفضل أمير المؤمنين!! إن كل هذه الأباطيل حول
خلافة هارون، وكل تلك الافتراءات على هارون نفسه، لأجل إبطال خلافة أمير المؤمنين
المشبهة بخلافة هارون عن موسى؟! فتعسا لهؤلاء! كيف قادتهم العصبية إلى النار؟
واختاروا النار على الإقرار؟! لقد نص شاه ولي الله الدهلوي في (إزالة الخفا) على
وجوب اشتراك الخليفة مع النبي في الجد الأعلى، كي لا ينظر الناس إلى الخليفة بعين
التحقير... ونص ابن القيم على وجوب نزاهة النبي من أن يكون له خائنة الأعين قال:
أي إن النبي لا يخالف ظاهره باطنه ولا سره علانيته، وإذا قصد حكم الله وأمره لم يوم
به، بل صرح به وأعلنه (1). ونص ابن الهمام وابن أبي شريف على وجوب سلامة النبي من
كل نقص ومنفر. وهذا كلام ابن الهمام بشرح ابن أبي شريف: شرط النبوة الذكورة. لأن
الأنوثة وصف نقص. وكونه أكمل أهل زمانه عقلا وخلقا. بفتح الخاء المعجمة وسكون
اللام. حال الإرسال. وأما عقدة لسان السيد موسى عليه السلام قبل الإرسال فقد
(هامش)
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 185. (*)
ص 29
أزيلت بدعوته عند الإرسال بقوله: *(واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)* كما دل عليه
قوله تعالى *(قد أوتيت سؤلك يا موسى)*. وأكملهم فطنة وقوة رأي. كما هو مقتضى كونه
سائس الجميع ومرجعهم في المشكلات. والسلامة. بالرفع عطف على الذكورة. أي وشرط
النبوة السلامة. من دناءة الآباء ومن غمز الأمهات. أي الطعن بذكرهن بما لا يليق من
أمر الفروج. والسلامة من القسوة. لأن قسوة القلب موجبة للبعد عن جناب الرب، إذ هي
منبع المعاصي، لأن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد
الجسد كله، كما نطق به الحديث الصحيح. وفي حديث - حسنه الترمذي، ورواه البيهقي - إن
أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي. والسلامة من العيوب المنفرة منهم، كالبرص
والجذام، ومن قلة المروة، كالأكل على الطريق. ومن دناءة الصناعة كالحجامة، لأن
النبوة أشرف مناصب الخلق مقتضية لغاية الإجلال اللائق بالمخلوق، فيعتبر لها انتفاء
ما ينافي ذلك (1). وقال البزدوي - في (أصول عقائده) -: وجه قول عامة أهل السنة
والجماعة: إن الله تعالى بين أن بعض الرسل حصل منهم ذنوب، ولا يستقيم أن يكون
ذنوبهم عن قصد واختيار، فإنه لو كان كذلك لكان لا يؤمن منهم الكذب، فيؤدي إلى تفويت
ما هو المقصود بالرسالة، ولأنه إذا كان يجئ منهم الذنوب قصدا نفر طباع الناس عنهم،
فيؤدي إلى أن لا يكون في بعث الرسل فائدة . وقال التفتازاني بشرح عقائد النسفي:
وأما الصغائر فتجوز عمدا عند
(هامش)
(1) المسامرة في شرح المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة. (*)
ص 30
الجمهور، خلافا للجبائي وأتباعه، وتجوز سهوا بالاتفاق، إلا ما يدل على الخسة، كسرقة
لقمة والتطفيف بحبة. لكن المحققين اشترطوا أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه. هذا كله بعد
الوحي. وأما قبله، فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة. وذهب المعتزلة إلى امتناعها،
لأنها توجب النفرة المانعة عن اتباعهم، فتفوت مصلحة البعثة. والحق منع ما يوجب
النفرة، كعهر الأمهات والفجور، والصغائر الدالة على الخسة (1). وقال بشرح
المقاصد: خاتمة: من شروط النبوة: الذكورة، وكمال العقل، والذكاء، والفطنة، وقوة
الرأي - ولو في الصبي كعيسى ويحيى عليهما السلام -، والسلامة عن كل ما ينفر، كدناءة
الآباء وعهر الأمهات، والغلظة، والفظاظة، والعيوب المنفرة كالبرص والجذام ونحو ذلك،
والأمور المخلة بالمروءة، كالأكل على الطريق والحرف الدنية كالحجامة، وكل ما يخل
بحكمة البعثة من أداء الشرائع وقبول الأمة (2). وقال الشعراني: كان إمام
الحرمين رحمه الله تعالى يقول: من جوز وقوع الصغيرة من الأنبياء سهوا قيدها بغير
الدالة على الخسة (3). وقال القاري: وأما الصغائر، فما كان منها دالا على الخسة
كسرقة لقمة، فلا خلاف في عصمتهم فيه مطلقا (4). وقال عبد العلي الأنصاري: وأما
غير الكذب من الكبائر، والصغائر الخسيسة كسرقة لقمة وغيرها مما يدل على الخسة وإن
كانت مباحة، فالاتفاق
(هامش)
(1) شرح العقائد النسفية - مبحث عصمة الأنبياء: 222. (2) شرح المقاصد 5 / 61. (3)
اليواقيت والجواهر، المبحث الحادي والثلاثون. (4) ضوء المعالي في شرح بدء الأمالي -
مبحث عصمة الأنبياء. (*)
ص 31
بين فرق الإسلام على عصمتهم عن تعمدها سمعا عند أهل السنة القامعين للبدعة كثرهم
الله تعالى، أو عقلا عند المعتزلة والروافض خذلهم الله تعالى، وقد عرفت شبههم
وجوابها (1). وكذا قال (الدهلوي) نفسه (2). مع ابن روزبهان وقد نص عليه ابن
روزبهان، لكن من العجائب جهله أو تجاهله بما تفوه به الرازي في (نهاية العقول) حتى
رد على قول العلامة الحلي: إن الأشاعرة لزمهم باعتبار نفي الحسن والقبح أن يذهبوا
إلى جواز بعثة من هو موصوف بالرذائل والأفعال الدالة على الخسة بقوله: نعوذ
بالله من هذه الخرافات والهذيانات، وذكر هذه الفواحش عند ذكر الأنبياء، والدخول في
زمرة: *(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب شديد في الدنيا
والآخرة)*، وكفى بإساءة الأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء أمثال هذه الترهات، ثم
يفترى على مشايخ السنة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه، وقد علمت أن
الحسن والقبح يكون بمعان ثلاثة: أحدها: وصف النقص والكمال. والثاني: الملائمة
والمنافرة. وهذان المعنيان عقليان لا شك فيهما، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنهما
عقليان فأي نقص أتم من أن يكون صاحب الدعوة الإلهية موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها
هذا الرجل السوء الفحاش. وكأنه حسب أن الأنبياء أمثاله من رعاع الحلة الذين يفسدون
على شاطئ الفرات بكل ما ذكره. نعوذ بالله من التعصب، فإنه أورده النار .
(هامش)
(1) شرح مسلم الثبوت 2 / 99 هامش المستصفى. (2) التحفة الاثنا عشرية، مبحث النبوة:
163. (*)
ص 32
أقول: إنه يتجاسر على العلامة، وهو يتجاهل كلام الرازي، على أن الأشاعرة لا يرون
امتناع شيء عقلا على الله تعالى، فلا بد أن يكون من الجائز عندهم عقلا عهر أمهات
الأنبياء عليهم السلام، ومن هنا صرح الرازي بمنع عدم جواز المنفرات على الأنبياء،
وبنى ذلك على القول بالحسن والقبح العقليين... لكن لما كان هذا التجويز شنيعا جدا،
فقد تجاهله ابن روزبهان وأنكر على العلامة كلامه!! إلا أن الأعجب هو أن ابن روزبهان
نفسه يصرح بأنه ليس من القبيح عند العقل أن يظهر الله المعجزة على يد الكذابين!!
قال العلامة: لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير، لما قبح من الله شيء،
ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكذابين، وتجويز ذلك يسد
باب معرفة النبوة، فإن أي نبي أظهر المعجزة عقيب ادعاء النبوة لا يمكن تصديقه، مع
تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوة . فقال ابن روزبهان: جوابه:
إنه لم يقبح من الله شيء. قوله: لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد
الكذابين. قلنا: عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه قبيحا عقلا، بل لعدم
جريان عادة الله تعالى الجاري مجرى المحال العادي بذلك الإظهار . فإذا كان هذا
جائزا، فأي ريب في تجويز الأشاعرة بعث الموصوف بالرذائل والخسائس؟! وقال العلامة:
إنه لو كان الحسن والقبح شرعيين، لحسن من الله أن يأمر
ص 33
بالكفر، وتكذيب الأنبياء، وتعظيم الأصنام، والمواظبة على الزنا، والسرقة، والنهي عن
العبادة والصدق، لأنها غير قبيحة في أنفسها، فإذا أمر الله تعالى بها صارت حسنة، إذ
لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة، وأن شكر المنعم، ورد الوديعة، والصدق، ليست حسنة
في أنفسها، ولو نهى الله تعالى عنها كانت قبيحة، لكن لما اتفق أنه تعالى أمر بهذه
مجانا لغير غرض ولا حكمة صارت حسنة، واتفق أنه نهى عن تلك فصارت قبيحة، وقبل الأمر
والنهي لا فرق بينهما. ومن أداه عقله إلى تقليد يعتقد ذلك فهو أجهل الجهال وأحمق
الحمقى، إذا علم أن معتقد رئيسه ذلك، وإن لم يعلم ووقف عليه ثم استمر على تقليده
فكذلك، فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم، لئلا يضل غيرهم ولا تستوعب البلية جميع الناس
أو أكثرهم . فأجاب ابن روزبهان: أقول: جوابه: إنه لا يلزم من كون الحسن والقبح
شرعيين بمعنى أن الشرع حاكم بالحسن والقبح، أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي،
لأن المراد بهذا الحسن إن كان استحسان هذه الأشياء فعدم هذه الملازمة ظاهر، لأن من
الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم، وقد ذكرنا أن المصلحة والمفسدة
حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها، وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه، فقد
ذكرنا أنه لا يمتنع عليه شيء عقلا، لكن جرى عادة الله تعالى على الأمر بما اشتمل
على مصلحة من الأفعال، والنهي عما اشتمل على مفسدة من الأفعال. فالعلم العادي حاكم
بأن الله تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قط، ولم ينه عن شكر المنعم ورد
الوديعة... .
ص 34
أقول: فإذا لم تكن تلك الأمور ممتنعة عقلا، لم يكن بعث الموصوف بالرذائل ممتنعا
كذلك عندهم... وأيضا، يقول ابن روزبهان: ثم استدل على بطلان كونه خالقا للقبائح
بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب، وقد استدل قبل هذا بهذا مرارا،
وأجبناه في محاله. وجواب هذا وما ذكر بعده من ترتب الأمور المنكرة على خلق القبائح
مثل ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها: إنا نجزم بالعلم العادي وبما
جرى من عادة الله تعالى، أنه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب، فهو محال عادة كسائر
المحالات العادية، وإن كان ممكنا بالذات، لأنه لا يجب على الله تعالى شيء على
قاعدتنا، فكل ما ذكروه من لزوم جواز تزيين الكفر في القلوب عوض الإسلام، وأن ما
عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقية يمكن أن يكون كفرا وباطلا، فلا يستحقون الجواب.
فجوابه: إن جميع هؤلاء لا يقع عادة كسائر العاديات، ونحن نجزم بعدم وقوعه وإن جاز
عقلا، حيث لم يجب عليه تعالى شيء، ولا قبيح بالنسبة إليه . فظهر أن جميع ما ذكره
من الطعن والسب للعلامة الحلي متوجه إلى الفخر الرازي، بل إلى نفسه وإلى جميع
الأشاعرة. جواب دعوى الرازي ابتناء المسألة على الحسن والقبح وأما دعوى الفخر
الرازي بأن عدم جواز المنفر على الأنبياء - مبتني على القول بالتحسين والتقبيح، وإذ
أنهم يقولون بذلك، فلا مانع من المنفر على
ص 35
الأنبياء عليهم السلام. فيردها: أولا: لقد نص عبد العلي الأنصاري في كلامه المنقول
آنفا عن (شرح مسلم الثبوت) على أن مذهب أهل السنة عصمة الأنبياء عن الأمور الخسيسة
بالسمع، وإن كانت تلك الأمور مباحة... فإذن، لا يتوقف القول بعدم جواز الأمور
المنفرة على الأنبياء على القول بالتحسين والتقبيح العقليين. ثانيا: لقد ذكر ابن
روزبهان أن امتناع الرذائل الخسيسة على الأنبياء لا يبتني على ثبوت الحسن والقبح
العقليين بمعناهما المتنازع فيه، بل إن ثبوتهما، بمعنى وصف الكمال والنقص - الذي
تقول الأشاعرة به أيضا - كاف لامتناع الرذائل عليهم، وبما أن الرازي أيضا يصرح في
(نهاية العقول) بثبوت الحسن والقبح بالمعنى المذكور، فلا ينافي منع الحسن والقبح
العقليين بالمعنى المتنازع فيه القول بامتناع الرذائل والأمور المنفرة على
الأنبياء، لأنه بناء على ثبوتهما بهذا المعنى يكون اتصاف النبي بصفة النقص عين
اتصافه بصفة القبح. من الأشاعرة من يقول بالتحسين والتقبيح العقليين ثالثا: إنه وإن
نفى جمهور الأشاعرة التحسين والتقبيح العقليين بالمعنى المتنازع فيه، لكن فيهم جمعا
كثيرا من النحارير المشاهير يصرحون بإثباتهما... وإليك نصوص عبارات طائفة منهم: قال
عبد العزيز بن أحمد البخاري: قوله: ومن قضية الشرع. أي: ومن حكم الشريعة في هذا
الباب - أي باب الأمر - أن حكم الآمر إلى المأمور به يوصف بالحسن، والمعنى: إن ثبوت
الحسن للمأمور به من قضايا الشرع لا من قضايا اللغة، لأن هذه الصفة تتحقق في قبيح
كالكفر والسفه والعبث، كما تتحقق في الحسن. ألا ترى أن السلطان
ص 36
الجائر إذا أمر إنسانا بالزنا والسرقة والقتل بغير حق كان آمرا حقيقة، حتى إذا
خالفه المأمور ولم يأت بما أمر به يقال خالف أمر السلطان. ثم اختلف أن الحسن من
موجبات الأمر أم من مدلولاته؟ فعندنا هو من مدلولات الأمر. وعند الأشعرية وأصحاب
الحديث هو من موجباته، وهو بناء على أن الحسن والقبح في الأفعال الخارجة عن
الإضطرار هل يعرف بالعقل أم لا؟ فعندهم لا حظ له في ذلك، وإنما يعرف بالأمر والنهي،
فيكون الحسن ثابتا بنفس الأمر، لا أن الأمر دليل ومعرف على حسن سبق ثبوته بالعقل.
وعندنا: لما كان للعقل حظ إلى معرفة حسن بعض المشروعات، كالإيمان وأصل العبادات
والعدل والإحسان، كان الأمر دليلا ومعرفا لما يثبت حسنه بالعقل وموجبا لما يعرف به.
كذا في الميزان. وذكر في القواطع: ذهب أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله إلى أن العقل
بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه، ولا يعرف حسن الشيء وقبحه، حتى يرد
السمع بذلك، وإنما العقل آلة يدرك به ما حسن وما قبح، بعد أن يثبت ذلك بالسمع، وذهب
إلى هذا كثير من المتكلمين. وذهب إليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله. قال:
وذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح ضربان، ضرب علم بالعقل كحسن العدل
والصدق النافع وشكر النعمة، وقبح الظلم والكذب الضار وشرب الخمر. قالوا: وفائدة
السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده مؤكدا لما في العقل. وإليه ذهب من
أصحابنا: أبو بكر القفال الشاشي، وأبو بكر الصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو
حامد، والحليمي وغيرهم. وإليه ذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، خصوصا
العراقيون منهم. وهو مذهب المعتزلة بأسرهم (1).
(هامش)
(1) كشف الأسرار في شرح أصول البزدوي 1 / 389. (*)
ص 37
أقول: المراد من الميزان هو كتاب (ميزان الأصول في نتائج العقول) ومؤلفه: علاء
الدين محمد بن أحمد السمرقندي. قال كاشف الظنون: ميزان الأصول في نتائج العقول في
أصول الفقه، للشيخ الإمام علاء الدين شمس النظر أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي
الحنفي الأصولي (1). والمراد من القواطع هو كتاب (القواطع في أصول الفقه)
ومؤلفه: أبو المظفر السمعاني. قال كاشف الظنون: القواطع في أصول الفقه، لأبي
المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي المتوفى سنة 489 (2). وقال البخاري
المذكور: فأما المتقدمون من أصحابنا فقالوا: سبب وجوب العبادات نعم الله على كل
واحد من عباده، فإنه تعالى أسدى إلى كل واحد منا من أنواع النعم ما يقصر العقول عن
الوقوف على كنهها، فضلا عن القيام بشكرها، وأوجب هذه العبادات علينا بإزائها ورضي
بها، شكرا لسوابق نعمه بفضله وكرمه، وإن كان بحيث لا يمكن لأحد الخروج عن شكر نعمه
وإن قلت مدة عمره أو طالت، وهذا لأن شكر النعمة واجب لا شك عقلا ونصا، على ما قال
الله تعالى *(أن اشكر لي ولوالديك)* وقال عليه الصلاة والسلام: من أنزلت عليه نعمة
فليشكرها، في نصوص كثيرة وردت فيه، وكل عبادة صالحة لكونها شكر النعمة من النعم،
وقد ورد النص الدال على كون العبادة شكرا، وهو ما روي أنه عليه السلام صلى حتى
تورمت قدماه، قيل له: إن الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما
(هامش)
(1) كشف الظنون 2 / 1916. (2) كشف الظنون 2 / 1357. (*)
ص 38
تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ أخبر أنه يصلي لله تعالى شكرا على ما أنعم عليه.
ثم نعم الله على عباده أجناس مختلفة، منها إيجاده من العدم، وتكرمته بالعقل والحواس
الباطنة، ومنها الأعضاء السليمة وما يحصل له بها من التقلب والانتقال من حالة إلى
ما يخالفها من نحو القيام والقعود والانحناء. ومنها ما يصل إليه من منافع الأطعمة
الشهية والاستمتاع بصنوف المأكولات، ومنها صنوف الأموال التي يتوصل بها إلى تحصيل
منافع النفس ودفع المضار عنها، فعلى حسب اختلافها وجبت العبادات. فأما الإيمان وجب
شكرا لنعمة الوجود وقوة النطق وكمال العقل، الذي هو أنفس المواهب التي اختص الإنسان
بها من سائر الحيوانات وغيرها من النعم، فالوجوب بإيجاب الله، لكنه بالعقل يعرف أن
شكر المنعم واجب، فكان النعم معرفا له، ووجوب شكر المنعم بواسطة المعرفة وهو العقل.
وهذا معنى قول الناس: العقل موجب أي دليل ومعرف لوجوب الإيمان بالنظر في سببه، وهو
النعم (1). وقال أبو شكور الكشي: القول في مستحسنات العقل. قالت المعتزلة:
الحسن ما يستحسنه العقل والقبيح ما يستقبحه العقل. وقالت عامة الفقهاء: الحسن ما
يستحسنه الشرع والقبيح ما يستقبحه الشرع. والتفصيل في هذا حسن، لأن الحسن والقبيح
في الأشياء على مراتب، منها ما يكون حسنا بعينه، كالإيمان بالله تعالى، والعبادة،
وشكر النعمة. ومنها ما هو حسن بمعنى في غيره كبناء الرباطات والمساجد وإماطة الأذى
عن الطريق. وكذلك في القبيح منها ما هو قبيح بعينه كالإشراك
(هامش)
(1) كشف الأسرار في شرح أصول البزدوي 2 / 649 - 650. (*)
ص 39
بالله تعالى والزنا والسرقة وأشباه ذلك. ومنها ما هو قبيح بمعنى في غيره. فنقول: كل
ما هو حسن أو قبيح بمعنى في غيره، فإن الحسن ما يكون حسنا باستحسان الشرع، والقبيح
ما يكون قبيحا باستقباح الشرع، ولا مجال للعقل في هذا. وكل منها هو حسن بعينه أو
قبيح بعينه فنقول: الحسن حسن والشرع يستحسنه. والقبيح قبيح والشرع يستقبحه. هكذا
روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال في كتاب العالم والمتعلم: إن الظلم قبيح بعينه،
ولا نقول قبيح أو حسن بالعقل، بل نقول نعرف هذا الحسن والقبيح بدلالة العقل، كما
نعرف بدلالة الشرع، حتى لو لم يكن الشرع، فالإسلام والعبادات وما يشاكله يكون حسنا
بعينه، والكفر والظلم يكونان قبيحين بعينهما (1). وقال الغزالي: بعد أن نفى الحسن
والقبح العقليين تبعا للأشاعرة: بأن هذا لا يشفي العليل ولا يزيل الغموض، وهذا نص
كلامه: فإن قيل: فإن لم يكن مدرك الوجوب بمقتضى العقول، يؤدي ذلك إلى إفحام
الرسول، فإنه إذا جاء بمعجزة وقال: انظر فيها، فللمخاطب أن يقول: إن لم يكن النظر
واجبا فلا أقدم عليه، وإن كان واجبا، فيستحيل أن يكون مدركه العقل، إذ العقل لا
يوجب، ويستحيل أن يكون مدركه الشرع، والشرع لا يثبت إلا بالنظر في المعجزة، ولا يجب
النظر قبل ثبوت الشرع، فيؤدي إلى أن لا يظهر صحة الشرع أصلا. والجواب: إن هذا
السؤال مصدره الجهل بحقيقة الوجوب، وقد بينا أن
(هامش)
(1) التمهيد في بيان التوحيد، الباب الأول، في العقل: 16. (*)
ص 40
معنى الوجوب ترجيح جانب الفعل على الترك، لدفع ضرر موهوم في الترك أو معلوم، فإذا
كان هذا هو الوجوب، فالموجب هو المرجح وهو الله تعالى، فإنه إذا ناط العقاب بترك
النظر ترجح فعله على تركه، ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه وجب: أنه
مرجح بترجيح الله تعالى في ربطه العقاب بأحدهما. وأما المدرك فهو عبارة عن جهة
معرفة الوجوب لا عن نفس الوجوب، وليس شرط الواجب أن يكون وجوبه معلوما، بل أن يكون
عمله ممكنا لمن أراده، فيقول النبي: إن الكفر سم مهلك فالإيمان شفاء مسعد، فأن جعل
الله تعالى أحدهما مسعدا والآخر مهلكا، ولست أوجب عليك شيئا، فإن الإيجاب هو
الترجيح والمرجح هو الله تعالى، وإنما أنا مخبر عن كونه سما ومرشد لك إلى طريق تعرف
به وهو النظر في المعجزة، فإن سلكت الطريق عرفت ونجوت، وإن تركت هلكت. مثاله مثال
طبيب إنتهى إلى مريض وهو يتردد بين دوائين فقال: أما هذا فلا تناوله، فإنه مهلك
للحيوان وأنت قادر على معرفته بأن تطعمه هذا السنور فيموت على الفور، فيظهر لك ما
قلت. وأما هذا ففيه شفاؤك وأنت قادر على معرفته بالتجربة، وهو أن تشرب فتشفى، ولا
فرق في حقي ولا في حق استادي بين أن تهلك أو تشفى، فإن استادي غني عن بقائك وأنا
أيضا كذلك. فعند هذا لو قال المريض: هذا يجب علي بالعقل أو بقولك، وما لم يظهر لي
هذا لم أشتغل بالتجربة، كان مهلكا نفسه ولم يكن عليه ضرر. فكذلك النبي - صلى الله
عليه وسلم - قد أخبره عن الله تعالى بأن الطاعة شفاء والمعصية داء، وأن الإيمان
مسعد والكفر مهلك، وأخبر أنه غني عن العالمين، سعدوا أم شقوا، وإنما شأن الرسول أن
يبلغ ويرشد إلى طريق المعرفة، فمن نظر فلنفسه ومن قصر فعليها، وهذا واضح.
ص 41
فإن قيل: فقد رجع الأمر إلى أن العقل هو الموجب، من حيث أنه بسماع كلامه ودعواه
يتوقع عقابا، فيحمل بالعقل على الحذر ولا يحصل إلا بالنظر، فوجب عليه النظر. قلت:
الحق - الذي يكشف الغطاء في هذا من غير أتباع اسم وتقليد أمر - هو أن الوجوب لما
كان عبارة عن نوع رجحان في العقل، فالموجب هو الله تعالى، لأنه هو المرجح، والرسول
مخبر عن الترجيح، والمعجزة دليل على صدقه في الخبر، والنظر سبب في معرفة الصدق،
والعقل آلة للنظر ولفهم معنى الخبر، والطبع مستحث على الحذر بعد فهم المحذور
بالعقل، فلا بد من طبع يخالفه العقوبة الموعودة، ويوافقه الثواب الموعود ليكون
مستحثا. لكن لا يستحث ما لم يفهم المحذور ولم يقدره ظنا أو علما، ولا يفهم إلا
بالعقل، والعقل لا يفهم الترجيح بنفسه، بل بسماعه من الرسول، والرسول ليس يرجح
الفعل على الترك بنفسه، بل الله هو المرجح والرسول مخبر، وصدق الرسول لا يظهر بنفسه
بل المعجزة، والمعجزة لا تدل ما لم ينظر فيها، والنظر بالعقل. فإذا قد انكشف
المعاني، فالصحيح في الألفاظ أن يقال: الوجوب هو الرجحان، والموجب هو الله تعالى،
والمخبر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - المعرف للمحذور، ومصدق الرسول هو العقل،
والمستحث على سلوك سبيل الخلاص هو الطبع. هكذا ينبغي أن يفهم الحق في هذه المسألة،
ولا يلتفت إلى الكلام المعتاد الذي لا يشفي العليل ولا يزيل الغموض (1).
(هامش)
(1) الاقتصاد في الاعتقاد: 119 - 121. (*)
ص 42
وقال عبيد الله بن تاج الشريعة: على أن الأشعري سلم الحسن والقبح عقلا. بمعنى
الكمال والنقصان، فلا شك أن كل كمال محمود، وكل نقصان مذموم، وأن أصحاب الكمالات
محمودون بكمالاتهم، وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم، فإنكاره الحسن والقبح بمعنى
أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما، في غاية التناقض، وإن أنكرهما بمعنى
أنه لا يوجد في الفعل شيء يثاب به الفاعل أو يعاقب لأجله فنقول: إن عني أنه لا يجب
على الله تعالى الاثابة أو العقاب لأجله، فنحن نساعده في هذا، وإن عني أنه لا يكون
في معرض ذلك، فهذا بعيد عن الحق، وذلك لأن الثواب والعقاب آجلا وإن كان لا يستقل
العقل بمعرفة كيفيتهما، لكن كل من علم أن الله تعالى عالم بالكليات والجزئيات، فاعل
بالاختيار، قادر على كل شيء، وعلم أنه غريق نعمة الله تعالى في كل لمحة ولحظة، ثم
مع ذلك كله، ينسب من الصفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إليه،
تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فلم ير بعقده أنه يستحق بذلك مذمة، ولم يتيقن أنه في معرض
سخط عظيم وعذاب أليم، فقد سجل على غباوته ولجاجه، وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه،
واستخف بفكره ورأيه، حيث لم يعلم بالشر الذي من ورائه، عصمنا الله تعالى عن الغباوة
والغواية، وأهدانا هدايا الهداية. فلما أبطلنا دليل الأشعري، رجعنا إلى إقامة
الدليل على مذهبنا، وإلى الخلاف الذي بيننا وبين المعتزلة: م: وعند بعض أصحابنا
والمعتزلة حسن بعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له، ويعرفان عقلا
أيضا. ش: أي يكون ذات الفعل بحيث يحمد فاعله عاجلا ويثاب آجلا لأجله،
ص 43
أو يذم فاعله عاجلا ويعاقب آجلا لأجله. أو يكون للفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب
لأجلها أو يذم فاعله ويعاقب لأجلها. وإنما قال أيضا لأنه لا خلاف في أنهما
يعرفان شرعا. م: لأن وجوب تصديق النبي عليه السلام إن توقف على الشرع يلزم الدور.
ش: واعلم أن النبي عليه السلام ادعى النبوة وأظهر المعجزة وعلم السامع أنه نبي،
فأخبر بأمور مثل: إن الصلاة واجبة عليكم، وأمثال ذلك، فإن لم يجب على السامع تصديق
شيء من ذلك تبطل فائدة النبوة، وإن وجب فلا يخلو من أن يكون وجوب تصديق بعض
إخباراته عقليا، أو لا يكون بل يكون وجوب تصديق كل إخباراته شرعيا. والثاني باطل،
لأنه لو كان وجوب تصديق الكل شرعيا لكان وجوبه بقول النبي عليه السلام، فأول
الإخبارات الواجبة التصديق لا بد أن يجب تصديقه بقول النبي عليه السلام، لأن تصديق
الإخبار الأول واجب، فنتكلم في هذا القول، فإن لم يجب تصديقه لا يجب تصديق الأول،
وإن وجب فإما أن يجب بالإخبار الأول فيلزم الدور، أو بقول آخر فنتكلم فيه، فيلزم
التسلسل. وإذا ثبت ذلك تعين الأول، وهو كون وجوب تصديق شيء من إخباراته عقليا.
فقوله: م: وإلا. ش: أي، وإن لم يتوقف على الشرع. م: كان واجبا عقلا، فيكون حسنا
عقلا. ش: لأن الواجب العقلي ما يحمد على فعله ويذم على تركه عقلا، والحسن العقلي ما
يحمد على فعله عقلا، فالواجب العقلي أخص من الحسن العقلي، وكذلك تقول في امتثال
أوامره: إنه إما واجب عقلا... إلى آخره. وهذا
ص 44
الدليل لإثبات الحسن العقلي صريحا. وقوله: م: وأيضا: وجوب تصديق النبي عليه السلام
موقوف على حرمة الكذب، فهي إن ثبتت مشرعا يلزم الدور، وإن ثبتت عقلا يلزم قبحه
عقلا. ش: وهذا يدل على القبح العقلي صريحا، وكل منهما - أي الحسن والقبح - يدل على
الآخر التزاما، لأنه إذا كان الشيء واجبا عقلا يكون تركه قبيحا عقلا، وإن كان الشيء
حراما عقلا فتركه يكون واجبا عقلا، فيكون حسنا عقلا (1). وقال الشاشي: الأمر في
اللغة قول القائل لغيره: إفعل. وفي الشرع: تصرف إلزام العقل على الغير. وذكر بعض
الأئمة - رحمهم الله - أن المراد بالأمر يختص بهذه الصيغة، واستحال أن يكون معناه
أن حقيقة الأمر تختص بهذه الصيغة، فإن الله تعالى متكلم في الأزل عندنا، وكلامه أمر
ونهي وإخبار واستخبار، واستحال وجود هذه الصيغة في الأزل، واستحال أيضا أن يكون
معناه أن المراد بالأمر للشارع يختص بهذه الصيغة، فإن المراد للشارع بالأمر وجوب
الفعل على العبد، وهو معنى الابتلاء عندنا، وقد ثبت الوجود بدون هذه الصيغة، أليس
أنه وجب الإيمان على من لم تبلغه الدعوة بدون ورود السمع. قال أبو حنيفة - رضي الله
عنه -: لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على العقلاء معرفته بعقولهم. فيحمل ذلك
على أن المراد يختص بهذه الصيغة في حق العبد في الشرعيات، حتى لا يكون فعل الرسول
بمنزلة قوله: إفعلوا (2).
(هامش)
(1) التوضيح في حل غوامض التنقيح. (2) الأصول، فصل في الأمر، من البحث الأول، في
كتاب الله: 101. (*)
ص 45
وقال القاري: إن العقل آلة للمعرفة، والموجب هو الله تعالى في الحقيقة، ووجوب
الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة، فقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى: إن أبا حنيفة
قال: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه، لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه
وغيره. ويؤيده قوله تعالى: *(قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض)* وقوله
تعالى: *(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)* وحديث: كل مولود يولد
على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. قال: وعليه مشايخنا من أهل
السنة والجماعة. حتى قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي في الصبي العاقل: إنه
يجب عليه معرفة الله تعالى، وهو قول كثير من مشايخ العراق، خلافا لكثير من مشايخنا،
لعموم قوله عليه السلام: رفع القلم عن ثلاث: الصبي حتى يبلغ أي يحتلم. الحديث. وحمل
الشيخ أبو منصور الحديث على الشرائع، مع اتفاقهم أن إسلام هذا الصبي صحيح ويدعى هو
إلى الإسلام كما يدعى البالغ إليه. وقال الأشعري: لا يجب، لقوله تعالى *(وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا)* وأجيب: بأن الرسول أعم من العقل والنبي... (1). وقال
البزدوي: قال أهل السنة والجماعة: لا يجب أداء شيء ما إلا بالخطاب من الله تعالى
على لسان واحد من عباده، وكذا لا يجب عليه الامتناع عن شيء ما إلا به، وبه قال
الأشعري. وعند المعتزلة: يجب الإيمان بالله تعالى والشكر له قبل بلوغ الخطاب. وهل
يجب عندهم الإقرار بالرسل؟ عند بعضهم لا يجب. وقد قال الشيخ أبو منصور الماتريدي -
رحمه الله - بمثل ما قال المعتزلة،
(هامش)
(1) شرح الفقه الأكبر، المسائل الملحقات: 166. (*)
ص 46
وهو قول عامة علماء سمرقند، وقول بعض علمائنا من أهل العراق، وقد ذكر الكرخي في
مختصره عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه قال: لا عذر لأحد في معرفة الخالق، لما
يرى في العالم من أمارات الحدوث. وأئمة بخارى الذين شاهدناهم كانوا على القول
الأول. والمسألة تعرف بأن العقل هل هو موجب؟ عند الفريق الأول: غير موجب. وعند
الفريق الثاني: موجب. وهذا مجاز من الكلام، فإن العقل لا يكون موجبا شيئا، ولكن عند
المعتزلة وأبي منصور الماتريدي - رحمه الله - وعند من يقول بقولهم: الله تعالى هو
الموجب ولكن بسبب العقل، فيكون العقل عندهم سبب الوجوب. وفائدة الاختلاف: إن من لم
تبلغه دعوة رسول ما، ولا دعوة رسول من رسله، ولم يؤمن، هل يخلد في النار؟ عند
الفريق الأول: لا يخلد، ويكون حكمه حكم المجانين والأطفال. وعند الفريق الآخر:
يخلد. ولكن عند الفريق الأول: لو أسلم مع هذا يصح إسلامه ويصير من أهل الجنة. وكذا
الصبي العاقل عند الفريق الأول لا يخاطب بأداء الإسلام، ولكن إذا أسلم يصح إسلامه
في أحكام الدنيا والآخرة جميعا... (1). وقال السعد التفتازاني: ... ولقوة هاتين
الشبهتين ذهب بعض أهل السنة - وهم الحنفية - إلى أن حسن بعض الأشياء وقبحها مما
يدرك بالعقل، كما هو رأي المعتزلة، كوجوب أول الواجبات، ووجوب تصديق النبي عليه
الصلاة والسلام، وحرمة تكذيبه، دفعا للتسلسل، وكحرمة الإشراك بالله تعالى، ونسبة ما
هو في غاية الشناعة إليه، على من هو عارف به وبصفاته وكمالاته، ووجوب ترك ذلك.
(هامش)
(1) أصول العقائد: 61. (*)
ص 47
ولا نزاع في أن كل واجب حسن وكل حرام قبيح، إلا أنهم لم يقولوا بالوجوب أو الحرمة
على الله تعالى، وجعلوا الحاكم بالحسن والقبح والخالق لأفعال العباد هو الله تعالى،
والعقل آلة لمعرفة بعض ذلك، من غير إيجاب ولا توليد، بل بإيجاد الله تعالى، من غير
كسب في البعض، ومع الكسب بالنظر الصحيح في البعض (1). وقال ابن الهمام: لا نزاع
في استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح، بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل، ورد
به الشرع أم لا، وبمعنى ملائمة الغرض وعدمها، كقتل زيد بالنسبة إلى أعدائه وإلى
أوليائه. إنما النزاع في استقلاله بدركه في حكم الله تعالى: فقال المعتزلة: نعم،
يجزم العقل بثبوت حكم الله في الفعل بالمنع، على وجه ينتهض معه سببا للعقاب، إذا
أدرك قبحه، وبثبوت حكمه جل ذكره فيه بالإيجاب والثواب بفعله، والعقاب بتركه إذا
أدرك حسنه، على وجه يستلزم تركه قبحا، كشكر المنعم. وهذا بناء على أن للفعل في نفسه
حسنا وقبحا ذاتيين أو لصفة فيه، قد يستقل بدركهما فيعلم حكم الله تعالى باعتبارهما
فيه، وقد لا يستقل فلا يحكم بشيء حتى يرد الشرع، كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح
صوم أول يوم من شوال. وقالت الأشاعرة قاطبة: ليس للفعل نفسه حسن ولا قبح، وإنما
حسنه ورود الشرع بإطلاقه وقبحه وروده بحظره. وإذا ورد الشرع بذلك فحسناه أو قبحناه
بهذا المعنى، فحاله بعد ورود الشرع بالنسبة إلى الوصفين كحاله قبل وروده، فلا يجب
قبل البعثة شيء، لا إيمان ولا غيره، ولا يحرم كفر.
(هامش)
(1) شرح المقاصد 4 / 293. (*)
ص 48
وقالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للفعل على الوجه الذي قالته المعتزلة .
وقال أيضا: ولا أعلم أحدا منهم - يعني الحنفية - جوز عقلا تكليف ما لا يطاق.
واختلفوا هل يعلم باعتبار العلم بثبوتهما في فعل حكم في ذلك الفعل تكليفي؟ فقال
الأستاذ أبو منصور وعامة مشايخ سمرقند: نعم يعلم وجوب الإيمان بالله وتعظيمه وحرمة
نسبة ما هو شنيع إليه تعالى، ووجوب تصديق النبي، وهو معنى شكر المنعم. روى في
المنتقى عن أبي حنيفة - رضي الله عنه -: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه، لما يرى من
خلق السماوات والأرض. وعنه أنه قال: لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته
بعقولهم . قال: وقال أئمة بخارى منهم: لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة،
كقول الأشاعرة، وحملوا المروي عن أبي حنيفة على ما بعد البعثة. وهو ممكن في العبارة
الأولى دون الثانية (1). كلام أبي حنيفة في كتاب العالم والمتعلم: قال المتعلم:
هو كما وصفت، ولكن أخبرني عن الرسول عليه السلام من قبل الله نعرفه أو نعرف الله من
قبل الرسول؟ فإن زعمت أنك إنما تعرف الرسول من قبل الله فكيف يكون ذلك؟ الرسول هو
الذي يدعوك إلى الله تعالى. قال العالم: نعم نعرف الرسول من قبل الله، لأن الرسول
وإن كان يدعو إلى الله فلم يكن أحد يعلم الذي يقول الرسول حق، حتى يقذف الله في
قلبه
(هامش)
(1) المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، الأصل الخامس، من الركن الثالث. (*)
ص 49
التصديق والعلم بالرسول، ولذلك قال الله تعالى *(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله
يهدي من يشاء)* ولو كان معرفة الله من قبل الرسول لا من قبل الله، لكانت المنة في
معرفة الله من قبل الرسول على الناس، ولكن المنة لله على الرسول في معرفة الرب عز
وجل، والمنة لله على الناس بما عرفهم من التصديق بالرسول، ولذلك لا ينبغي لأحد أن
يقول إن الله يعرف من قبل الرسول، بل ينبغي أن يقول العبد لا يعرف شيئا من الخير
إلا من قبل الله تعالى . وقال ابن الهمام: واعلم أن الحنفية لما استحالوا عليه
تكليف ما لا يطاق كما مر، فهم لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في الطاعة مخالفا
لهوى نفسه في رضا مولاه أمنع، بمعنى أنه يتعالى عن ذلك، فهو من باب التنزيهات، إذ
التسوية بين المسئ والمحسن أمر غير لائق بالحكمة في نظر سائر العقول. وقد نص تعالى
على قبحه حيث قال: *(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا
الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)*، فجعله حكما سيئا (1). وقال: وقد
تقدم أن محل الاتفاق إدراك العقل قبح الفعل، بمعنى صفة النقص وحسنه بمعنى صفة
الكمال، وكثيرا ما يذهل أكابر الأشاعرة عن محل النزاع في مسألتي التحسين والتقبيح
العقليين، لكثرة ما يشعرون النفس أن لا حكم للعقل بحسن ولا قبح، فذهب لذلك عن
خاطرهم محل الاتفاق، حتى تحير كثير منهم في الحكم باستحالة الكذب عليه تعالى لأنه
نقص، لما ألزم القائلون بنفي الكلام
(هامش)
(1) المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، الأصل الخامس من الركن الثالث. (
ص 50
النفسي القديم الكذب على تقدير قدمه في الإخبارات، وهو مستحيل عليه لأنه نقص. حتى
قال بعضهم - ونعوذ بالله مما قال -: لا يتم استحالة النقص عليه تعالى إلا على رأي
المعتزلة القائلين بالقبح العقلي. وقال إمام الحرمين: لا يمكن التمسك في تنزيه الرب
جل جلاله عن الكذب بكونه نقصا، لأن الكذب عندنا لا يقبح بعينه. وقال صاحب التلخيص:
الحكم بأن الكذب نقص إن كان عقليا كان قولا بحسن الأشياء وقبحها عقلا، وإن كان
سمعيا لزم الدور. وقال صاحب المواقف: لم يظهر لي فرق بين النقص العقلي والقبح، بل
هو هو بعينه. وكل هذا منهم للغفلة عن محل النزاع، حتى قال بعض محققي المتأخرين منهم
- بعد ما حكى كلامهم هذا - وأنا أتعجب من كلام هؤلاء المحققين الواقفين على محل
النزاع في مسألتي الحسن والقبح العقليين (1). أقول: حمل كلامهم على الغفلة عن محل
النزاع لا يخلص القوم عن الورطة، لأنهم على كل حال يصرحون بجواز الكذب على الله
تعالى. ثم إنه وإن كان الحسن والقبح العقليان بمعنى النقص والكمال مما يعترف به
الأشاعرة، إلا أنه بناء على امتناع صفة النقص عليه تعالى، ووجوب اتصافه بصفات
الكمال عقلا، يمتنع عليه سائر القبائح، مثل تعذيب المحسن والتكليف بما لا يطاق، لأن
جواز صدور القبائح أيضا صفة نقص عليه... وعلى هذا ينهدم
(هامش)
(1) المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، الأصل الخامس من الركن الثالث. (
ص 51
أساس مذهب الأشاعرة. ولما كانت الملازمة بين الحسن والقبح العقليين بالمعنى
المتنازع فيه، مع الحسن والقبح العقليين بمعنى النقص والكمال، في غاية الوضوح
والظهور، فلهذا منع الفخر الرازي في (المحصل) امتناع النقص عليه تعالى، وإن أثبت في
(نهاية العقول) الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص. وهذا كلامه في (المحصل):
مسألة: إتفق المسلمون على أنه تعالى سميع بصير، لكنهم اختلفوا في معناه. فقالت
الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري: ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات
والمبصرات، وقال الجمهور منا ومن المعتزلة والكرامية: إنهما صفتان زائدتان على
العلم. قلنا: إنه تعالى حي، والحي يصح اتصافه بالسمع والبصر، وكل من يصح اتصافه
بصفة، فلو لم يتصف بها لاتصف بضدها، فلو لم يكن الله سبحانه سميعا بصيرا كان موصوفا
بضدهما، وضدهما نقص، والنقص على الله تعالى محال. فإن قيل: حياة الله تعالى مخالفة
لحياتنا، والمختلفان لا يجب اشتراكهما في جميع الأحكام، ولا يلزم من كون حياتنا
مصححة للسمع والبصر كون حياته تعالى كذلك. سلمنا ذلك. لكن لم لا يجوز أن يقال:
حياته تعالى وإن صححت السمع والبصر، لكن ماهيته تعالى غير قابلة لهما، كما أن
الحياة وإن صححت الشهوة والنفرة، ولكن ماهيته تعالى غير قابلة لهما. فكذلك ههنا.
سلمنا أن ذاته تعالى قابلة لهما. لكن لم لا يجوز أن يكون حصولهما موقوفا على شرط
ممتنع التحقق في
ص 52
ذات الله تعالى؟ وهذا هو قول الفلاسفة، فإن عندهم أيضا رؤية الشيء مشروط بانطباع
صورة صغيرة مشابهة لذلك المرئي في الرطوبة الجليدية، وإذا كان ذلك في حق الله تعالى
ممتنعا لا جرم لا يثبت الصحة. سلمنا حصول الصحة، لكن لم تسلمتم أن القائل للصفة
يستحيل خلوها عنها وعن ضدها معا، وقد سبق تقريره. سلمنا ذلك. لكن ما المعني بالنقص؟
ثم لم تسلمتم أن النقص محال؟ فإن رجعوا فيه إلى الإجماع صارت الدلالة سمعية، وإذا
كان الدليل على حقية الإجماع هو الآية، والآيات الدالة على السمعية والبصرية أظهر
دلالة من الآيات الدالة على صحة الإجماع، فكان الرجوع في هذه المسألة إلى التمسك
بالآيات أولى. فالمعتمد التمسك بالآيات، ولا شك أن لفظ السمع والبصر ليس حقيقة في
العلم بل مجازا فيه، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام
المعارض، وحينئذ يصير الخصم محتاجا إلى إقامة الدليل على امتناع اتصافه تعالى
بالسمع والبصر. ومن الأصحاب من قال: السميع والبصير أكمل ممن ليس بسميع ولا بصير،
والواحد منا سميع وبصير، فلو لم يكن الله تعالى كذلك لزم أن يكون الواحد منا أكمل
من الله تعالى، وهذا محال. لكن هذا ضعيف، لأن للقائل أن يقول: الماشي أكمل مما لا
يمشي، والحسن الوجه أكمل من قبيح الوجه، والواحد منا موصوف به، فلو لم يكن الله
تعالى موصوفا به لزم أن يكون الواحد منا أكمل من الله تعالى. فإن قلت: المشي صفة
كمال في الأجسام، والله تعالى ليس بجسم، ولا يتصور ثبوته في حقه.