ص 53
قلت: فلم قلت: إن السمع والبصر ليسا من صفات الأجسام، وحينئذ يعود البحث المذكور
(1). وقال ابن القيم: ومن ظن به تعالى - أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله
خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه
على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعدائه الكاذبين عليه،
بالمعجزات التي يؤيد بها أنبيائه ورسله ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه
يحسن منه كل شيء، حتى تعذيب من أفنى عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين،
وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفع إلى أعلى عليين، وكلا
الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا عرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق،
وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظن به ظن السوء (2). وقال كمال
الدين السهالي (3): إن حسن الأفعال وقبحها عقلي، على المذهب المنصور، وهو مذهب
أبي منصور الماتريدي، بناء على بطلان الترجيح بلا مرجح، وإن جعل بعض الأفعال مناطا
للثواب والمدح والبعض الآخر مناطا للعقاب والذم بلا موجب مرجح من ذاتها مستحيل
قطعا، والصانع الحكيم لا يرجح المرجوح بل المساوي. وبالجملة: حكمة الأمر قاضية بأن
تخصيصات الأفعال بثمراتها لا بد لها من مرجح من ذواتها، وقد بين في موضعه.
(هامش)
(1) المحصل: 248 - 249. (2) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 99. (3) من علماء
الهند، له مصنفات. توفي سنة 1175. (*)
ص 54
وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن علي العربي - قدس سره - في بعض
مصنفاته: لو لم يكن للأفعال خصوصية داعية إلى ثمرتها المخصوصة بها، يكون الأفعال
التي على هوى النفس والتي على خلاف هواها سواسية في تعلق ثمراتها بها، ويلزم نسبة
الظلم إلى الله تعالى الله عن ذلك، فإن الطاعات الواجبة كلها على خلاف هوى النفس،
ولذا قال عليه السلام: أفضل العبادات أحمزها، بل الفعل على خلاف الهوى عين الطاعة،
والمعاصي كلها على وفاق هواها، بل وفاق الهوى عين المعصية. وإذا كانت الطاعات
متساوية النسبة في الواقع بجعلها مناطا للثواب والعقاب، وكذا المعاصي بجعلها مناطا
لهما، فتحريم المعاصي بكف النفس عن الشهوات في الدنيا وإيجاب الطاعات بقهر النفس
فيها بلا ضرورة باعثة، ظلم، لأنه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا
بلا فائدة، ولو عكس الله الأمر لفاز العبد بالراحتين في الأولى والآخرة (1). وقال
عبد العلي الأنصاري: مسألة: قال الأشعرية على التنزل: شكر المنعم ليس بواجب عقلا،
خلافا للمعتزلة ومعظم مشايخنا، وقد نص صدر الشريعة على أن شكر المنعم واجب عقلا
عندنا، وفي الكشف نقلا عن القواطع: وذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح
ضربان، ضرب يعلم بالعقل كحسن العدل والصدق النافع وقبح الظلم والكذب الضار. ثم قال:
وإليه ذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة الإمام، خصوصا العراقيين منهم، وهو مذهب
المعتزلة بأسرهم، ومعرفة الحسن هو الوجوب أو لازمه، إذ الغرض أن المؤاخذة في ترك
الشكر عقلية تعرف
(هامش)
(1) كتاب العروة الوثقى، مسألة الجبر والاختيار. (*)
ص 55
بالعقل. والمراد بالشكر ههنا صرف العبد جميع ما أعطي له إلى ما خلق لأجله، كالعين
لمشاهدة ما يحل مشاهدته، ليستدل به على عجب صنعة الحق تعالى ويعلمهم، وأرادوا
بالصرف الصرف الذي يدرك بالعقل، لا الصرف مطلقا، وإلا فلا معنى لدعوى العقلية
(1). وقال المقبلي: مسألة التحسين والتقبيح... جميع العقلاء يعلمون تحقق ماهية
الإحسان والإسائة ونحوهما وخاصة كل منهما والفرق بينهما، وأن الإحسان يقبل العقول
الرفع من شأن المتصف به ولا تأباه، وتأبى الحط من شأنه ولا تقبله، والعكس في
الإساءة. هذا تحرير محل النزاع، فمن أنكر القدر الذي ذكرناه فقد كابر فلا يستحق
المناظرة، وما زاد على هذا، فليس من محل النزاع، بل بعضه تفريع غير صحيح... فإن
قلت: كيف تقول: جميع العقلاء؟ والقول بنفي ما ذكرت نار على شاهق، والمدعون لذلك
يدعون الأكثرية، وكيف يمكن إطباق الجم الغفير على إنكار الضرورة؟ قلت: إنما أنكر
الإحسان والإساءة ونحوهما نزر من النظار في معركة الجدال، وهم مع سائر العقلاء في
جميع تصرفاتهم الدينية والدنياوية عاملون عليها. ولنضرب لك مثلا ملكين متصلي
المملكة، أما أحدهما ففي غاية العدل والإنصاف، وأما الآخر ففي غاية الجور، قد اغتصب
أموالهم وعم فجوره... فمن لم يقر أن عقله يقبل الرفع من شأن العادل بالمدح وما هو
من قبيله، ويأبى
(هامش)
(1) فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت 1 / 47. هامش المستصفى. (*)
ص 56
الوضع من شأنه، والعكس في الجائر وقال: لا فرق بينهما، أمدح أيهما شئت وأذمه، فلو
صدقناه لقلنا بهيمة عجماء، ولكنا علمنا أن الله تعالى كلفه فهو عاقل مكابر... هذا
بيان إطباق جميع العقلاء على ما ذكرنا. فصح قولنا: جميع العقلاء، وإنكار أفراد
النظار في حال الجدال لا يقدح في علمهم، بل كثيرا ما يقر تلك الطائفة بألسنتهم مرة
وإن أنكروا أخرى، وإنما يعبرون بالنقص والكمال، ثم هم يقرون في جميع تصرفاتهم
الحالية والمقالية سوى ما ذكر، فصح أنه لا يخالف إلا نزر من النظار... وأما
المقلدون أو الغافلون... فالغافل لا يحل لنا رميه بهذه الداهية التي تهدم الدين
والدنيا كما سنذكره. وأيضا، فهو كذب عليه أو تخمين. وأما المقلد، فلم يلم على الأول
إلا لحسن الظن بمسقط رأسه وأول أرض مس جلده ترابها، وسمع الناس يقولون شيئا
فقاله... وأما النظار الذين يعرفون هذه الحقائق ويقبلونها علما: أما في زماننا فلا
تكاد تجد منهم أحدا، لم أر وأسمع في اليمن ولا في الحرمين ممن يعتزى إلى الأشعري
ويعرف هذا الشأن غير ثلاثة هم: إبراهيم الكردي، وتلميذه البرزنجي، ويحيى الساوي
المصري العربي. وثلاثتهم معترف بتعليل أفعال الباري تعالى، ومسألة تعليل أفعاله
تعالى ملازمة لهذه المسألة، والمفرق بينهما مخطئ كما نذكره، لأن المراد أنه تعالى
لا يفعل إلا الأولى لأنه أولى، كما مر في العبادات. وأما في الماضين، فلا تحكم على
أحد بهذه المقالة التي لا يصح معها سمع - كما نذكره إن شاء الله تعالى - وهي مكابرة
في العقل كما بيناه، فلا تحكم إلا على من أعرب عن نفسه. وأكثر المصنفين أو كثير
منهم إنما يحكي
ص 57
المقالات، وقلما يصرحون بأني أدين الله تعالى بهذا، أو أقر به، أو نحو ذلك... إذا
حققت هذا، ظهر لك أنهم أفراد في النظار يقولون ذلك في معركة الجدال، ولسان النظار
لعارض حماية حمى الآباء والأسلاف، ورعاية أمور قام بها شر الخلاف... فإن قلت: لا
يسع عقلي نسبة جماعة عرفوا بالخير إلى إنكار الضرورة، فما عذرك في ذلك؟ قلت: إنهم
لم يقعوا في إنكار الضرورة بادئ بدء، إنما شأنهم شأني وشأنك، وقعوا في حجور أقوام
وربوهم، وحسن ظنهم بهم، ثم نظروا صور أدلتهم، ثم أصابهم ما أصاب جميع العقلاء
اليهود والنصارى وسائر الفرق، فإن العقل يجمعهم. وقد علمت أن ناسا جاز عندهم أن
يكون الآله حجرا، وامتنع أن يكون البشر رسولا، واستحسن أحسن الناس رعاية لمكارم
الأخلاق أن يطوفوا مكشفي السوءة رجالهم ونساؤهم، ولا تجد فرقا إلا قولك هؤلاء
المسلمون وأولئك كفار، وهو دور، إذ لا يعرف المحق حتى يعرف الحق، ولو عرفت الحق
لبينته لي، واسترحت من التعلق بأذيال من لا يفصل بينه وبين سائر المدعين، إلا بمثل
ما يدلي به سائر خصومك من المسلمين والكفرة. على أن الخبر المدعى مترتب على صحة هذه
المسألة، لأن الصدق والكذب سواء عندك، فتصديق الكاذب كتصديق الصادق، فيجوز أن جميع
الشرائع كذب، ولم يجئ سلفك بفرق يتلعثم عنده الأبله فضلا عن العقلاء، وأكثر
اعتذارهم أن العادة قاضية بصدق من ظهرت عليه المعجزة، وهذا الكلام مع سماجته من عدة
جهات - كما قد أوضحناه في كتابنا العلم الشامخ - لم يقع على محل النزاع، لأن منكر
النبوة لم يعلق إنكاره بآخر نبي، إنما أنكر النبوة مطلقا، فأول نبي يورد عليه جوز
أنه كاذب، ولا يلزم من المعجزة الصدق بل
ص 58
التصديق ولا تجدي، فهل يتكلم ويعتذر بها من فيه مرعة من الحياء! سبحانك اللهم
وبحمدك، لا إله إلا أنت! واعلم أن هذه المسألة متصلة بمسألة تعليل أفعال الباري
تعالى، لأنا لا نريد بتعليل أفعاله إلا أنه لا يفعل إلا ناظرا إلى كون الشيء حكمة
وأولى، ولا يجوز خلو فعله عن ذلك، لأنه عبث، وفاعل العبث ليس بحكيم، وفاعل القبيح
أي الفاعل لأجل القبح كذلك، والحكيم من كان فعله لحكمة ليس إلا، فمن فرق بين
المسألتين كسعد الدين فقد أخطأ. وقد ذيلوا هذا القول بعذر أقبح منه، فقالوا: جميع
أفعال الله تعالى لا تخلو عن فائدة وعاقبة محمودة، لكنها غير مقصودة، فلزمهم سد باب
إثبات الصانع، لأن عجائب الملكوت ومحاسن الشرائع اتفاقية، وحينئذ فلا دليل لهم على
إثبات الصانع، لتجويزهم تخصيصها، مع أنها تفوت الحصر كثرة بلا تخصيص، وحصول نفس
العالم فرد واحد، فيجوز حصوله بلا مرجح، على أن من جعل ابتناء البيت اتفاقيا لم
يتلعثم أحد في تكذيبه، فكيف نظام العالم! وأيضا، أنكروا نعمة الله تعالى، لأن ما لم
يقصد ليس بنعمة. وأيضا، فهو مناقضة محضة مع قولهم أن كل واقع بفعله، وفي الواقع ما
ليس بمحمود. وخذ ما شئت من هذا القبيل. ومن أقبح تفريعاتهم قولهم: يجوز أن يبدل
الله تعالى الشرائع بنقائضها، فيحرم الصدق ويوجب الكذب، ويحرم عبادة الرحمن وشكره،
ويوجب عبادة الشيطان. وعلى الجملة: يوجب كل قبيح ويحرم كل حسن. وهو تفريع صحيح على
أصل خبيث. وقد فرع عليهما البيضاوي في منهاجه جواز التكليف بالمحال لذاته، قال: لأن
حكمته تعالى لا تستدعي غرضا، فلا يستدعي التكليف إلا الإتيان به.
ص 59
وهذا منه تعطيل لمعنى الطلب، فيتعطل جميع التكاليف، ولم أر غيره اجترأ على ذلك، وهو
من المخلصين لأصول الأشعري، وحاصلها التعطيل كما ترى (1). وقال المقبلي: المثال
الثامن: قال الله تعالى: *(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)* لا أوضح من هذا
النص، وقد أكده بآلة الحصر من النفي والاستثناء، فهو الصراط المستقيم. فمالت عنه
الأشاعرة إلى أقصى مرمى. وقالت بلسان المقال ولسان أصولهم: ليس الأمر كذلك، بل لا
لغرض أصلا فضلا عن الحصر، وزادت على ذلك، فنفت الغرض على العموم، فلا يوجد منه
تعالى فعل لغرض. وتزايد شرهم من وقت إلى وقت، حتى صرح البيضاوي في منهاجه في الأصول
بناء على هذه القاعدة الفلسفية: إن مدلول الأوامر والنواهي غير مطلوب حصوله، وإلا
كان غرضا وهو مستحيل، صحح بذلك التكليف بغير الممكن، فاستنتج من الحية عقربا... ولم
أر من تجاسر على هذا التفريع، فهو إذا رئيس متخلعة المتكلمين، وفي كلماته في تفسيره
شيء من هذه الرائحة الخبيثة، فهو في الكلام في الجبرية كابن عربي وأهل نحلته في
متخلعة المتصوفة، وكلهم ذرية بعضها من بعض... (2). وقال: بحث التحسين والتقبيح:
اختلف الناس هل في الأفعال في نفس الأمر، حقائق متقررة في نفسها هي أهل لأن تراعى
وتؤثر على نقائضها وتستتبع الرفع من شأن المتصف به كالصدق والإنصاف وإرشاد الضال
مثلا، وحقائق هي متقررة في نفسها أهل لأن يعدل عنها وتستتبع الوضع من شأن من اتصف
بها من تلك الحيثية كالكذب والظلم؟
(هامش)
(1) المسائل الملحقة بالأبحاث المسددة. (2) المسائل الملحقة بالأبحاث المسددة. (*)
ص 60
قالت المعتزلة وأكثر العقلاء الحنفية: نعم. والمراد بالحنفية الآن المعروف
بالماتريدية، نسبة إلى أبي المنصور الماتريدي. وكذلك أفراد من غيرهم، كالإمام
المحقق الشهير ابن تيمية، حتى عدها عليه السبكي مما خالف فيه الإجماع أو الأكثر.
وقد دل ذلك على نزول درجة السبكي! فإن دعوى الإجماع كاذبة، وكذلك الكثرة، مع أن
مخالفة الأكثر غير ضائرة *(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)* ولم ينفرد ابن تيمية،
فكم في الحنابلة من صنف في الحط على الأشعري وأتباعه، كما تجده في التراجم للذهبي
وغيره... ومن جملة ما ينقم عليه هذه المسألة، فيقل القائلون بها، لأن المذاهب
المشهورة بين مطبقة على خلاف الأشعري أو مختلفة مع تهجين المخالف لهذه المقالة، فلا
يغرنك شيوعها في هذه المقلدة كالسبكي وولده، حوامل حوامل قد كررنا أسبابها إن كنت
موفقا، ومن عدل بالله غيره فقد شابه الكفار... (1). ترجمة المقبلي قال الشوكاني
بترجمة المقبلي ما ملخصه: صالح بن مهدي، أخذ العلم عن جماعة من أكابر علماء
اليمن، ثم دخل بعد ذلك صنعاء، وجرت بينه وبين علمائها مناظرات أوجبت المنافرة، لما
فيه من الحدة والتصميم على ما يقتضيه الأدلة وعدم الالتفات إلى التقليد. ثم ارتحل
إلى مكة واستقر بها، حتى مات في سنة 1108. وهو ممن برع في جميع علوم الكتاب والسنة،
وحقق الأصول والعربية والمعاني والبيان والحديث والتفسير، وفاق في جميع ذلك، وله
مؤلفات كلها مقبولة عند العلماء، محبوبة إليهم، يتنافسون فيها ويحتجون بترجيحاته،
وهو حقيق بذلك.
(هامش)
(1) العلم الشامخ: 32. (*)
ص 61
وفي عباراته قوة وفصاحة وسلاسة، تعشقها الأسماع وتلتذ بها القلوب. ولكلامه وقع في
الأذهان، قل أن يمعن في مطالعته من له فهم، فيبقى على التقليد بعد ذلك. وقد أكثر
الحط على المعتزلة في بعض المسائل الكلامية، وعلى الأشعرية في بعض آخر، وعلى
الصوفية في غالب مسائلهم، وعلى الفقهاء في كثير من تفريعاتهم، وعلى المحدثين في بعض
غلوهم. وقد كان قد ألزم نفسه سلوك مسلك الصحابة، وعدم التعويل على التقليد لأهل
العلم في جميع الفنون (1).
(هامش)
(1) البدر الطالع 1 / 288 - 289. (*)
ص 63
وجوه الجواب عن: الاستدلال بموت هارون قبل موسى على نفي خلافة الأمير بعد النبي

ص 65
قوله: وأيضا، فالأمير مشبه بهارون، ومعلوم أن هارون كان خليفة موسى في حياته وعند
غيبته، والخليفة بعد وفاة موسى يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، فعلي خليفة النبي في
حياته وعند غيبته، لا بعد وفاته، بل الخليفة بعد وفاته غيره. وهذا مقتضى تمام
التشبيه. أقول: هذا الاستدلال باطل بوجوه: 1 - إعترافه سابقا بدلالة الحديث على
الإمامة لقد اعترف (الدهلوي) في أول كلامه على هذا الحديث بدلالته على إمامة أمير
المؤمنين عليه السلام... حيث قال: أصل هذا الحديث أيضا دليل لأهل السنة على إثبات
فضيلة الأمير وصحة إمامته في وقتها . إذن، يدل هذا الحديث عند أهل السنة -
باعترافه - على إمامة أمير المؤمنين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فما
ذكره هنا من سلب دلالته على إمامته بعده مطلقا يناقض ما تقدم منه. أللهم إلا أن
يقال بأنه يعترف بدلالته عليها عند أهل السنة، وهو ليس منهم بل هو من رؤساء فرق
النواصب! وأيضا: صريح كلامه - بعد عبارته السابقة حيث قال: لأنه يستفاد من هذا
ص 66
الحديث استحقاقه الإمامة - دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام...
فما ذكره هنا تقول يبطله هذا الكلام السابق منه كذلك. وأيضا: نسبته القدح في دلالة
الحديث على إمامة الأمير وخلافته إلى النواصب، وزعمه أن أهل السنة يردون على قدح
النواصب بأجوبة قاطعة... صريح في أن القدح في دلالته على الإمامة غير مرضي عند أهل
السنة، وهو ليس إلا من النواصب... لكنه في هذا المقام يقيم الدليل على صحة قدح
النواصب... وهذا من أعجب العجائب! وهذا بعض الوجوه التي يرد بها كلام (الدهلوي) في
هذا المقام، استنادا إلى كلماته السابقة في الجواب عن الحديث. وحاصل ذلك: أنه إن
كان (الدهلوي) من أهل السنة، فقد اعترف بقولهم بدلالة الحديث على الإمامة ردا على
النواصب، وإن أصر على نفي دلالته على ذلك، فهو خارج عن أهل السنة ومعدود من النواصب
بل رؤسائهم... 2 - إعترافه لاحقا بدلالة الحديث على الإمامة وكما اعترف بدلالة
الحديث على الإمامة في غير موضع من بحثه حول الحديث، ونسب ذلك إلى أهل السنة خلافا
للنواصب... فقد اعترف به في الباب الحادي عشر من كتابه، في بيان الأوهام، حيث قال:
النوع التاسع: أخذ القوة مكان الفعل. كقولهم: إن الأمير كان إماما في حال حياة
النبي، لقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. فلو لم يكن إماما بعده لزم عزله وعزل
الإمام غير جائز. والحال أن الأمير كان لدى حضور النبي إماما بالقوة لا إماما
بالفعل... (1).
(هامش)
(1) التحفة الاثنا عشرية: 350. (*)
ص 67
فهو - إذا - يعترف بدلالة الحديث على الإمامة. وأين هذا الكلام مما ذكره في هذا
المقام؟ وهل هذا إلا تناقض يا أولي الأحلام! 3 - إعترافات تلميذه الرشيد بدلالة
الحديث وكما اعترف (الدهلوي) بدلالة الحديث على الإمامة والخلافة، كذلك تلميذه رشيد
الدين الدهلوي... إعترف في غير موضع بدلالة الحديث على ذلك، من ذلك قوله في (إيضاح
لطافة المقال): إن هذا الحديث بنظر أهل السنة من جملة الأحاديث الدالة على فضائل
باهرة لأمير المؤمنين، بل هو دليل على صحة خلافة ذاك الإمام، لكن من غير أن يدل على
نفي الخلافة عن الغير، كما صرح به صاحب التحفة حيث قال... . وحاصل الوجوه
المستخرجة من كلام الرشيد الدهلوي هو الاعتراف بدلالة الحديث على الإمامة والخلافة،
وأن هذا هو مذهب السنة، وقد نقل كلمات الدهلوي في (التحفة) شاهدا على ما ذكره
واعترف به... قال: ومعاذ الله من إنكار دلالة هذا الخبر على أصل الخلافة . هذا،
ولا يخفى أن دلالة الحديث على الإمامة، هذه الدلالة التي اعترفوا بها، مطلقة غير
مقيدة بقيد، فتقييدهم إمامته عليه السلام بالمرتبة الرابعة جاءت بدليل منفصل مزعوم
من قبل القوم، وذاك بحث آخر... 4 - إعترافات والده بدلالة الحديث على الإمامة
واعترف - بحمد الله وفضله - والد (الدهلوي) أيضا بدلالة الحديث على الإمامة
والخلافة لأمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم... في
كتابيه (إزالة الخفا) و(قرة العينين).
ص 68
قال: حاصل الحديث: إن موسى استخلف هارون على بني إسرائيل لدى غيبته بخروجه إلى
الطور، فكان هارون قد جمع بين ثلاثة خصال: كان خليفة موسى من بين أهل بيته، وكان
خليفته بعد غيبته، وكان نبيا. ولما استخلف النبي صلى الله عليه وسلم المرتضى في
غزوة تبوك شابه المرتضى هارون في خصلتين، إحداهما: الخلافة في وقت الغيبة، والأخرى
كونه من أهل البيت، دون الثالثة وهي النبوة. وهذا المعنى لا علاقة له بالخلافة
الكبرى التي تكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (1). إذا، فقد شابه الأمير هارون
عليهما السلام في الخلافة، ولا دلالة للتشبيه المذكور في الحديث على سلب الخلافة
عنه عليه السلام. 5 - اعتراف الكابلي بدلالة الحديث على الإمامة والكابلي أيضا -
وهو الذي انتحل (الدهلوي) كتابه وتبعه في أباطيله وتعصباته - معترف بدلالة
الحديث... وهذا نص كلامه في (الصواقع): ولأن منزلة هارون من موسى كانت منحصرة في
أمرين: الاستخلاف مدة غيبته، وشركته في النبوة. ولما استثنى منهما الثانية بقيت
الأولى . وتلخص: إن (الدهلوي) ووالده، وكذا شيخ (الدهلوي) وتلميذه... كلهم يعترفون
مرة بعد أخرى... بدلالة الحديث على الإمامة للأمير عليه السلام... فدعوى أنه لا يدل
إلا على نفي خلافته، كذب صريح وافتراء فضيح...
(هامش)
(1) إزالة الخفا، قرة العينين. مبحث حديث المنزلة. (*)
ص 69
6 - كلمات شراح الحديث وعلماء الكلام (1) وكلمات المحققين من شراح الحديث، شواهد
أخرى على كذب دعوى دلالة الحديث على نفي الخلافة والإمامة عن الأمير عليه السلام...
فإنهم بين مصرح بدلالته على الإمامة والخلافة، وبين مصرح بدلالته على فضيلة لمولانا
الأمير... وإليك نصوص عبارات جملة منهم: فضل الله التوربشتي: فقال يا رسول الله،
زعم المنافقون كذا. فقال: كذبوا إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي
وأهلك، أما ترضى - يا علي - أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. يأول قول الله
سبحانه: *(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي)* (2). وقال أيضا: وإنما يستدل
بهذا الحديث على قرب منزلته واختصاصه بالمؤاخاة من قبل الرسول (3). ونقله القاري
أيضا (4). إذن، ليس مدلول الحديث نفي الخلافة...
(هامش)
(1) ولا يخفى أن كل كلمة من هذه الكلمات تعد وجها مستقلا على بطلان ما ادعاه
الدهلوي، إلا أنا وضعناها تحت عنوان واحد. (2) أنظر: المرقاة في شرح المشكاة 5 /
564. (3) شرح المصابيح - مخطوط. (4) المرقاة 5 / 564. (*)
ص 70
شمس الدين الخلخالي: إنما يدل على قربه واختصاصه بما لا يباشر إلا بنفسه في أهله،
وإنما اختص بذلك، لأنه يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفان: القرابة
والصحبة. فلهذا اختاره دون غيره (1). مظهر الدين الزيداني: وإنما يستدل به على
قربه واختصاصه بما لا يباشر إلا بنفسه صلى الله عليه وسلم. وإنما اختص بذلك لأنه
بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفان: القرابة والصحبة، فلهذا اختاره لذلك
دون غيره (2). محب الدين الطبري: ولا إشعار في ذلك بما بعد الوفاة، لا بنفي ولا
بإثبات (3). فعنده لا إشعار في الحديث بالخلافة بعد الوفاة، لا بنفي ولا بإثبات،
فدعوى دلالته على النفي باطلة قطعا... قال: لا يقال: عدم استخلاف موسى هارون بعد
وفاته إنما كان لفقد هارون عليه السلام، ولو كان حيا ما استخلف - والله أعلم -
غيره، بخلاف علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يتم لو كان هارون حيا عند
وفاته واستخلف غيره. لأنا نقول: الكلام معكم في تبيين أن المراد بهذا القول
الاستخلاف في
(هامش)
(1) شرح المصابيح - مخطوط. (2) المفاتيح - شرح المصابيح - مخطوط. (3) الرياض النضرة
1 / 224. (*)
ص 71
حال الحياة، لمكان التنزيل بمنزلة هارون من موسى، ومنزلة هارون من موسى في
الاستخلاف لم تتحقق إلا في حال الحياة، فثبت أن المراد به ما تحقق، لا أمر آخر وراء
ذلك، وإنما يتم متعلقكم منه لو حصل استخلاف هارون بعد وفاة موسى (1). وصريح هذه
العبارة: أن المراد من الحديث هو الاستخلاف حال الحياة، فما ادعاه (الدهلوي) يكون
من الأمر الآخر الذي نفاه الطبري. أبو شكور الحنفي: وأما قوله: أما ترضى أن تكون
مني بمنزلة هارون من موسى، أراد به القرابة والخلافة غير النبوة (2). إذن، لم يرد
به نفي الخلافة. عبد الرؤف المناوي: علي مني بمنزلة هارون من أخيه موسى. يعني:
متصل بي ونازل مني منزلة هارون من أخيه حين خلفه في قومه. إلا أنه لا نبي بعدي،
ينزل بشرع ناسخ، نفى الاتصال به من جهة النبوة، فبقي من جهة الخلافة، لأنها تليها
في الرتبة... (3). فالحديث مثبت للخلافة لا ناف لها... كما زعم (الدهلوي) وادعى.
(هامش)
(1) الرياض النضرة 1 / 224. (2) التمهيد في بيان التوحيد. (3) التيسير في شرح
الجامع الصغير. (*)
ص 72
ابن تيمية: وكذلك هنا، إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق، وهو استخلافه
في مغيبه، كما استخلف موسى هارون (1). إذا، لا يدل الحديث إلا على ما يدل عليه
سياقه وهو الاستخلاف... فكيف يدعى دلالته على نفيها؟! قال: وقول القائل: هذا
بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا، هو كتشبيه الشيء بالشئ، وتشبيه الشيء يكون بحسب ما دل
عليه السياق، ولا يقتضي المساواة في كل شيء (2). ابن حجر المكي: وعلى التنزل،
فلا عموم له في المنازل، بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث: إن عليا خليفة من النبي
صلى الله عليه وسلم مدة غيبة تبوك، كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته
عنهم للمناجاة (3). فأين هذا الذي يقوله ابن حجر مما يدعيه (الدهلوي)؟ وقال: ...
فعلم مما تقرر: إنه ليس المراد من الحديث، مع كونه أحادا لا يقاوم الإجماع، إلا
إثبات بعض المنازل الكائنة لهارون من موسى، وسياق الحديث وسببه يبينان ذلك البعض،
لما مر أنه إنما قاله لعلي حين استخلفه، فقال علي - كما في الصحيح -: أتخلفني في
النساء والصبيان؟ كأنه استنقص تركه وراءه. فقال له: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة
هارون من موسى. يعني حيث
(هامش)
(1) منهاج السنة 7 / 331. (2) منهاج السنة 7 / 330. (3) الصواعق المحرقة: 29. (*)
ص 73
استخلفه عند توجهه إلى الطور إذ قال له *(اخلفني في قومي وأصلح)*(1). ابن طلحة
الشافعي: إعلم بصرك الله تعالى بخفايا الأسرار وغوامض الحكم: إن رسول الله لما
وصف عليا بكونه بمنزلة هارون من موسى، فلا بد من بيان المنزلة التي كانت لهارون من
موسى عليهما السلام، فأقول: قد نطق القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه بأن موسى دعا ربه وقال: *(واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري
وأشركه في أمري)* وإن الله أجابه إلى مسئوله، وأجناه من شجرة ثمرة سؤله، فقال عز
وجل: *(قد أوتيت سؤلك يا موسى)* وقال في سورة أخرى: *(ولقد آتينا موسى الكتاب
وجعلنا له أخاه هارون وزيرا)* وقال في سورة أخرى: *(سنشد عضدك بأخيك)*. فظهر أن
منزلة هارون من موسى كونه وزيرا له، والوزير مشتق من أحد معان ثلاثة: أحدها الوزر
بكسر الواو وإسكان الزاي وهو الثقل لكونه وزيرا له يحمل عنه أثقاله ويخففها عنه.
والمعنى الثاني من الوزر بفتح الواو والزاء وهو المرجع والملجأ ومنه قوله تعالى
*(كلا لا وزر)* مرجوع إلى رأيه ومعرفته وإسعاده ويلجأ إليه في الاستعانة به.
والمعنى الثالث: من الأزر وهو الظهر، ومنه قوله تعالى عن موسى *(اشدد به أزري)*
فيحصل بالوزير قوة الأمر واشتداد الظهر، كما يقوى البدن ويشتد به، فكان من منزلة
هارون من موسى أنه يشد أزره ويعاضده ويحمل عنه من أثقال بني إسرائيل بقدر ما تصل
إليه يد مكنته واستطاعته هذه من كونه وزيره. وأما رمق كونه شريكه في أمره، فكان
شريكه في النبوة على ما نطق به القرآن الكريم، وكان قد استخلفه على بني إسرائيل عند
(هامش)
(1) الصواعق المحرقة: 29. (*)
ص 74
توجهه وسفره إلى المناجاة على ما نطق به القرآن. فتلخيص منزلة هارون من موسى أنه
كان أخاه ووزيره وعضده وشريكه في النبوة وخليفته على قومه عند سفره. وقد جعل رسول
الله عليا منه بهذه المنزلة وأثبتها له إلا النبوة، فإنه استثناها في آخر الحديث
بقوله: إنه لا نبي بعدي، فبقي ما عدا النبوة المستثناة ثابتا لعلي من كونه أخاه
ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك (1). ابن الصباغ المالكي:
فتلخص: أن منزلة هارون من موسى صلوات الله عليهما، أنه كان أخاه، ووزيره، وعضده في
النبوة، وخليفته على قومه عند سفره، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا منه
بهذه المنزلة، إلا النبوة (2). إذن، ليس مفاد الحديث نفي الخلافة عن أمير
المؤمنين عليه السلام. محمد الأمير الصنعاني: ولا يخفى: أن هذه منزلة شريفة ورتبة
عالية منيفة، فإنه قد كان هارون عضد موسى الذي شد الله به أزره، ووزيره وخليفته على
قومه حين ذهب لمناجاة ربه (3).
(هامش)
(1) مطالب السئول: 53 - 54. (2) الفصول المهمة: 44. (3) الروضة الندية - شرح التحفة
العلوية. (*)
ص 75
ابن روزبهان: ... بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك، كما استخلف
موسى هارون عند ذهابه إلى الطور، بقوله تعالى: *(واخلفني في قومي)*. وأيضا، ثبت به
لأمير المؤمنين فضيلة الأخوة والمؤازرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ
الرسالة، وغيرهما من الفضائل، وهي مثبتة يقينا لا شك فيه (1). الطيبي: وتحريره
من جهة علم المعاني: إن قوله: مني خبر للمبتدأ، ومن اتصالية، ومتعلق الخبر خاص،
والباء زائدة. كما في قوله تعالى: *(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به)*. أي فإن آمنوا
إيمانا مثل إيمانكم. يعني: أنت متصل بي ونازل مني منزلة هارون من موسى . أقول: وهل
يوجد بين الاتصال به وشدة القرب منه، وبين سلب الخلافة عنه، مناسبة، حتى يكون سلبها
من المنازل المثبتة؟ قال: وفيه تشبيه، ووجه التشبيه مبهم لم يفهم أنه رضي الله
عنه فيما شبهه به صلى الله عليه وسلم، فبين بقوله: إلا أنه لا نبي بعدي، أن اتصاله
به ليس من جهة النبوة، فبقي الاتصال من جهة الخلافة، لأنها تلي النبوة في المرتبة
(2). فدعوى دلالة الحديث على سلب الخلافة ونفيها عنه كذب.
(هامش)
(1) إبطال نهج العاطل، انظر: دلائل الصدق لنهج الحق 2 / 389. (2) الكاشف - مخطوط.
(*)
ص 76
علي القاري: قال الطيبي: وتحريره... وفيه تشبيه، ووجه الشبه مبهم... (1). ابن
حجر العسقلاني: وقال الطيبي: معنى الحديث أنه متصل بي، نازل مني منزلة هارون من
موسى... وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: إلا أنه... (2). علي العزيزي: علي مني
بمنزلة هارون من أخيه موسى. يعني: متصل بي ونازل مني منزلة هارون من أخيه موسى، حين
خلفه في قومه . قال: إلا أنه لا نبي بعدي ينزل بشرع ناسخ. نفى الاتصال من جهة
النبوة، فبقي الاتصال من جهة الخلافة، لأنها تلي النبوة في المرتبة (3). شمس
الدين العلقمي: ووجه التشبيه مبهم لم يفهم... لأنها تلي النبوة في المرتبة (4).
(هامش)
(1) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 564. (2) فتح الباري 7 / 60. (3) السراج المنير -
شرح الجامع الصغير. مخطوط. (4) الكوكب المنير - شرح الجامع الصغير. مخطوط. (*)
ص 77
القسطلاني: وبين بقوله: إلا أنه ليس نبي بعدي. وفي نسخة: لا نبي بعدي: أن اتصاله
به ليس من جهة النبوة، فبقي الاتصال من جهة الخلافة (1). أقول: وبما ذكرنا - من
أن شدة القرب والاتصال، كما يدل عليه الحديث - واعترفوا به - لا يتناسب مع نفي
الخلافة وسلبها، لمنافاته للقرب والاتصال - يندفع توهم بعضهم اختصاص الخلافة بحال
الحياة. كما أن بالوجوه والكلمات التي ذكرنا - ونذكرها - يندفع دعوى يوسف الأعور
دلالة الحديث على نفي إمامة الأمير، وكذا ما زعمه الرازي... أما كلام الأعور، فقد
تقدم سابقا. وأما كلام الرازي فسنذكره فيما بعد في الوجوه الآتية. الفخر الرازي:
لا نقول إنه يفيد منزلة واحدة، بل نتوقف فيه ونحمل الحديث على السبب، لأنه المتحقق،
فإن السبب لا يجوز خروجه من الخطاب، وما عداه يلزمكم أن تقفوا فيه . إذن، لا بد من
التوقف عن دعوى دلالة الحديث على سلب الإمامة ونفيها عن أمير المؤمنين عليه السلام،
لأن هذا المعنى يدخل تحت ما عداه حسب زعم الرازي. قال: ثم إن سلمنا أن هارون
عليه السلام لو عاش بعد موسى عليهما
(هامش)
(1) إرشاد الساري - شرح صحيح البخاري 6 / 118. (*)
ص 78
السلام لكان منفذا للأحكام، ولكن لا شك في أنه ما باشر تنفيذ الأحكام، لأنه مات قبل
موسى عليه السلام، فإن لزم من الأول كون علي رضي الله عنه إماما، لزم من الثاني أن
لا يكون إماما، وإذا تعارضا تساقطا (1). إذن، فدعوى دلالة الحديث على سلب الإمامة
ساقطة بالتعارض - حسب زعم الرازي -، فتكون دلالته على الخلافة بوجه ثبوت خلافة
هارون من قول موسى: *(اخلفني)* سالمة عن المعارض. لكن لا يخفى سقوط دعوى المعارضة،
لأنها فرع دلالة الحديث على نفي الخلافة، وهي أول الكلام... مضافا إلى أن الرازي
نفسه يأمر بالتوقف في ما عدا حمل الحديث على السبب، والدلالة على نفي الخلافة من
جملة ذلك، فكيف يكون ما يجب فيه التوقف معارضا؟ 7 - لو تم الاستدلال لدل على نفي
خلافته مطلقا إنه لو كان تشبيه الأمير بهارون عليه السلام - يقتضي نفي خلافة أمير
المؤمنين، من جهة وفاة هارون قبل موسى - عليهما السلام - لزم أن لا يكون الأمير
خليفة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أصلا ولو بعد عثمان، لأن هارون لم يكن
خليفة عن موسى ولا آنا ما... فهذا الاستدلال لا يتفوه به إلا النواصب والخوارج ومن
كان على شاكلتهم... وإذا كان مذهب أهل السنة في الواقع والحقيقة نفي إمامته مطلقا،
فليستدلوا بهذا الوجه وأمثاله، وليبوحوا بما يضمرون ويعلنوا عما يخفون! وأما ما
ذكره الرازي للتفصي عن هذا الاشكال، فسيأتي بيان بطلانه...
(هامش)
(1) نهاية العقول - مخطوط. (*)
ص 79
8 - إنه ينافي مراد الشيعة والسنة معا وقد نص عبد الكريم البلجرامي على أن هذا
الاستدلال يخالف معتقد الشيعة والسنة معا... فقال في كتابه الموسوم: (إلجام
الرافضة): ... فيلزم أن يكون خلافة علي موقتة إلى رجوع النبي من الغزوة المذكورة،
كما كانت خلافة هارون موقتة إلى رجوع موسى من الطور. وأيضا: لم تصل الخلافة إلى
هارون بعد موسى، فكذا ينبغي أن لا تصل إلى علي بعد فوت المصطفى. وهو خلاف مرادنا
ومرادكم . ومقتضى هذا الكلام أن يخرج (الدهلوي) ومن سبقه في هذه الدعوى الباطلة،
عن ملة الإسلام... لأنه قال بما لا يرتضيه الشيعة ولا السنة في هذا المقام. 9 -
كلام بعض النواصب كما نقله الراغب وذكر أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب
الأصبهاني أنه: كان بعض الشيعة يستدل بقول النبي صلى الله عليه: علي مني بمنزلة
هارون من موسى. فقال بعض النواصب: وما تلك المنازل؟ فإن هارون كان أخا موسى من أبيه
وأمه، وكان شريكه في النبوة، ومات قبله، وليس شيء من هذه المنازل لعلي. فلم يبق إلا
أن يأخذ بلحيته وبرأسه. يعني قوله *(لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي)* (1). فهذا
الناصبي - مع شدة نصبه وبغضه لأمير المؤمنين عليه السلام - لم يتفوه بما تفوه به
(الدهلوي)!!
(هامش)
(1) المحاضرات 2 / 481. (*)
ص 80
وأما الشبهة هذه - حيث حمل أخذ موسى لحية ورأس هارون على معنى غير صحيح - فيردها
كلمات أهل السنة أيضا، فقد ذكر الرازي ضمن الكلام على هذه الآية: وثانيها: إن
موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه، فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل
الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ويفتل
أصابعه ويقبض على لحيته، فأجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه، لأنه كان
أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب. وأما قوله *(لا
تأخذ بلحيتي ولا برأسي)* فلا يمتنع أن يكون هارون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو
إسرائيل من سوء ظنهم أنه منكر عليه غير معاون له. ثم أخذ في شرح القصة فقال: *(إني
خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل)*. وثالثها: إن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء
الظن بموسى عليه السلام، حتى أن هارون غاب عنهم غيبة، فقالوا لموسى: أنت قتلته،
فلما وعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، وكتب له في الألواح كل شيء، ثم
رجع فرأى من قومه ما رأى، فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة، فخاف
هارون عليه السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقا على موسى: *(لا
تأخذ بلحيتي)* لئلا يظن القوم ما لا يليق بك (1).
(هامش)
(1) تفسير الرازي 22 / 108. (*)
ص 81
10 - تشبث الرازي بخرافات الجاحظ قد عرفت أن دعوى دلالة الحديث الشريف على سلب
الخلافة والإمامة عن أمير المؤمنين - عليه السلام - مخالفة لإجماع المسلمين من
الشيعة والسنة، ولقد اعترف به الفخر الرازي فإنه ذكر ذلك بعنوان الدخل المقدر، ثم
عجز عن الجواب، فتشبث بخرافات الجاحظ المعروف بالبغض لأمير المؤمنين عليه السلام
والزندقة... وهذه عبارات الرازي: وعذرهم عن ذلك: إن هارون عليه السلام إنما لم
يباشر عمل الإمامة لأنه مات قبل موسى عليه السلام، وأما علي - رضي الله عنه - فإنه
لم يمت قبل النبي - عليه السلام - فظهر الفرق. فجوابنا عنه أن نقول: إما أن يلزم من
انتفاء المسبب أو لا يلزم. فإن لزم، فكون هارون منفذا للأحكام إنما كان بسبب كونه
نبيا، والنبوة ما كانت حاصلة لعلي - رضي الله عنه - فيلزم من انتفاءها انتفاء كونه
متوليا للأحكام. وإما أن لا يلزم فنقول: عدم إمامة هارون - عليه السلام - إنما كان
لموته قبل موت موسى - عليه السلام -، فوجب أن لا يلزم من عدم موت علي - رضي الله
عنه - قبل رسول الله - عليه السلام - أن لا يحصل له المسبب، وهو نفي الخلافة. لا
يقال: إنه لا يجوز الاستدلال بأن هارون عليه السلام لم يعمل عمل الإمامة، لأن فقد
الخلافة نفي، والنفي لا يكون منزلة، وإنما الإثبات هو المنزلة، فلا يتناول الحديث
ذلك النفي. وإن سلمنا أن النفي منزلة ولكن الكلام خرج مخرج الفضيلة لعلي - رضي الله
عنه - فلا يجوز أن يدخل فيه إلا ما يكون فضيلة، ونفي الخلافة غير فضيلة، وإن سلمنا
صحة اندراج هذا النفي تحت الحديث، ولكن الإجماع منعقد على أنه غير داخل فيه، لأن
الأمة إما قائل بدلالة هذا الحديث على إمامته، وإما قائل بأنه لا دلالة فيه على
إمامته. أما
ص 82
القول بدلالته على أنه ما كان إماما فذلك لم يقله أحد بعد من الأمة. وإن سلمنا عدم
الإجماع ولكن لو حكمنا بدلالته على عدم إمامته لزم أن لا يكون إماما بعد عثمان وهو
باطل. لأنا نقول: أما الأول فجوابه: أن معنى قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى:
أن حالك معي أو عندي كحال هارون من موسى، وهذا القول يدخل تحته أحوال هارون نفيا
وإثباتا. وأما الثاني فجوابه: إن إفادة الكلام لهذا النفي لا يمنع من دلالته على
الفضل. بيانه: إن إماما لو ولى ابنه إمارة بلدة معينة فقط، ثم ولى إمام آخر بعده
إنسانا آخر تلك البلدة فقط، فطلب ذلك الإنسان من الإمام الثاني تولية بلدة أخرى،
فإنه يحسن من الإمام الثاني أن يقول له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة ابن الإمام
الأول منه، فهذا الكلام مع ما يفيد من فضيلة ذلك الإنسان فإنه يفيد نفي توليته عن
سائر البلاد، فكذلك هنا. وأما الثالث: فجوابه: إنا لا نسلم إجماع الأمة على عدم
دلالة هذا الحديث على نفي إمامته، فإن الجاحظ احتج به عليه. وإن سلمنا انعقاد
الإجماع ولكن نحن لم نذكر ما قلنا للاستدلال، بل لنجعله معارضا لما ذكرتموه حتى
يبطل به ذلك. وبهذا يظهر الجواب عما ذكروه رابعا (1). فترى الرازي يقول: لا
نسلم إجماع الأمة على عدم دلالة هذا الحديث على نفي إمامته أي مطلقا، ثم يعلل عدم
التسليم لهذا الإجماع بقوله: فإن الجاحظ احتج به عليه .
(هامش)
(1) نهاية العقول - مخطوط. (*)
ص 83
من فضائح الجاحظ فالعجب من الرازي كيف يقدح في هذا الإجماع المحقق المعترف به من
أعلامهم بكلام سخيف من الجاحظ، الذي نصوا على إلحاده وتزندقه، وأنه كان من أئمة
البدع؟! قال الذهبي: قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون (1). قال الذهبي: كان من
أئمة البدع (2). وقال: يظهر من شمائل الجاحظ أنه يختلق (3). وإليك نص كلام
الحافظ ابن حجر المشتمل على كثير من الكلمات بترجمته: عمرو بن بحر الجاحظ. صاحب
التصانيف. روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل. قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون.
قلت: وكان من أئمة البدع. قال الجاحظ في كتاب البيان: لما قرأ المأمون كتبي في
الإمامة فوجدها على ما أخبروا به، وصرت إليه وقد أمر البريدي بالنظر فيها ليخبره
عنها قال لي: قد كان بعض من يرتضى ويصدق خبره خبرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة
وكثرة الفائدة. فقلنا: قد يربى الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى
على الصفة، فلما فليتها أربى الفلى على العيان، وهذا كتاب لا يحتاج إلى حضور صاحبه
ولا يفتقر إلى المحتجين، وقد جمع استقصاء المعاني واستيفاء جميع الحقوق، مع اللفظ
الجزل والمخرج السهل، فهو سوقي ملوكي وعامي خاصي. قلت: وهذه - والله - صفة كتب
الجاحظ كلها، فسبحان من أضله على
(هامش)
(1) ميزان الاعتدال 3 / 247 رقم 6333. (2) ميزان الاعتدال 3 / 247 رقم 6333. (3)
سير أعلام النبلاء 11 / 528. (*)
ص 84
علم. قال المسعودي: وفي سنة خمس وخمسين وقيل سنة ست وخمسين مات الجاحظ بالبصرة، ولا
يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبا منه، وحكى يموت بن الزرع عن الجاحظ - وكان
خاله - أنه دخل إليه ناس وهو عليل فسألوه عن حاله؟ فقال: عليل من مكانين، من
الإفلاس والدين، ثم قال: أنا في علل متناقضة يتخوف من بعضها التلف، وأعظمها علي نيف
وتسعون - يعني عمره - قال أبو العيناء: قال الجاحظ: كان الأصمعي منانيا. فقال له
العباس بن رستم: لا والله ما كان منانيا ولكن تذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ
نعله بيده - وهي مخصوفة عن يده ويقول - نعم متاع القدري، نعم متاع القدري، فعلمت
أنه يعنيك، فقمت وتركته. وحكى الخطيب بسند له أنه كان لا يصلي. وقال الخطابي: هو
مغموص في دينه. وذكر أبو الفرج الأصبهاني: إنه كان يرمى بالزندقة، وأنشد في ذلك
أشعارا. قال ابن قتيبة في اختلاف الحديث: ثم نصير إلى الجاحظ وهو أحسنهم للحجة
استثارة وأشدهم تلطفا، لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويكمل
الشيء وينقصه، فتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة، ومرة للزندقة على السنة، ومرة
يفضل عليا ومرة يؤخره، ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ويتبعه أقوال
المجان، ويذكر من الفواحش ما يجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر في كتاب ذكر
أحد منهم فيه، فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرين! ويعمل كتابا يذكر فيه حجج النصارى
على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على
ما لا يعرفون،
ص 85
وتشكيك الضعفة، ويستهزء بالحديث استهزاءا لا يخفى على أهل العلم، وذكر الحجر الأسود
وأنه كان أبيض فسوده المشركون، قال: وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين استلموه.
وأشياء من أحاديث أهل الكتاب. وهو مع هذا أكذب الأمة، وأوضعهم للحديث، وأنصرهم
للباطل. وقال ابن حزم في الملل والنحل: كان أحد المجان الضلال، غلب عليه قول الهزل،
ومع ذلك، فإنا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتا لها، وإن كان كثير
الإيراد لكذب غيره. وقال أبو منصور الأزهري في مقدمة تهذيب اللغة: وممن تكلم في
اللغات بما حصده لسانه، وروى عن الثقات ما ليس من كلاهم: الجاحظ، وكان أوتي بسطة في
القول وبيانا عذبا في الخطاب ومجالا في الفنون، غير أن أهل العلم ذموه وعن الصدق
دفعوه. وقال ثعلب: كان كذابا على الله وعلى رسوله وعلى الناس (1). أقول: فهل من
الجائز تمسك الرازي بكلام الجاحظ حول هذا الحديث، وبكلامه حول حديث الغدير؟! ومن
هنا يظهر أن (الدهلوي) مقلد (للجاحظ) الملحد الزنديق عندهم فيما ذكره في هذا
المقام... هذا، وكأن الرازي ملتفت إلى شناعة استدلاله بخرافة الجاحظ في مقابلة
إجماع المسلمين فقال: وإن سلمنا انعقاد الإجماع، ولكن نحن لم نذكر ما قلنا
للاستدلال . لكن إذا لم يكن ما تفوه به الجاحظ صالحا للاستدلال فما معنى
(هامش)
(1) لسان الميزان 5 / 286 - 291 رقم 6300. (*)
ص 86
قوله: بل لنجعله معارضا لما ذكرتموه حتى يبطل به ذلك ؟ وهل يجوز أن يجعل ما لا
يصلح للاستدلال معارضا لما ذكره الإمامية؟ وإذا كان الرازي يسلم الإجماع، فقد ثبت
قول الإمامية، فأي معارضة تحصل بقول الجاحظ؟ وكيف يظهر مما ذكره الجواب عما ذكروه
رابعا ؟ لقد أوقع الرازي نفسه في ورطة لم يتخلص منها، فناقض نفسه وتهافتت
كلماته... وهكذا يفتضح المبطلون!! أقول: ثم إن الرازي ذكر جوابين عن إشكال سلب
الإمامة عن أمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان حيث قال: وأيضا، فلو استدللنا
بالخبر، فإمامة علي بعد عثمان إنما تثبت بالاختيار، وليس الأمر كذلك في حق هارون
عليه السلام، فلا يتناوله الحديث. وأيضا، فلو تناوله لكان لنا أن نخرج هذه الحالة
عن عموم النص بدليل، ويبقى ما قبل وفاة عثمان رضي الله عنه على ظاهره . وهذا كلام
ظاهر البطلان... لأن مقتضى تمام المماثلة والمشابهة بين هارون وأمير المؤمنين -
عليهما السلام - أن يكون إمامة الأمير بالنص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما
كانت إمامة هارون بالنص عن موسى عليه السلام، لا بالاختيار... على أن الإشكال هو:
أنه إذا كنتم تنفون إمامة علي - لأن هارون مات قبل موسى ولم يصر إماما - فاللازم
نفيها حتى بعد عثمان... وهذا الإشكال يتوجه سواء كانت الإمامة بالنص أو
بالاختيار... فما ذكره في الجواب لا ربط له بالإشكال أصلا...
ص 87
وأما ما ذكره ثانيا، فبطلانه أوضح، إذ للخصم أن يعيد عليه نفس الكلام فيقول: إن
الحديث يتناول جميع منازل هارون نفيا وإثباتا، لكن عدم مباشرة عمل الإمامة قد خرج
بدليل مخرج... فالمعارضة ساقطة... تذييل: إن للجاحظ كلمات في تفضيل أهل البيت عليهم
السلام على سائر الناس مطلقا، فقد ذكر أبو إسحاق القيرواني ما نصه: فصل - لأبي
عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في ذكر قريش وبني هاشم: قد علم الناس كيف كرم قريش
وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها، وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها، وكيف
إيجازها وتحيرها، وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم، وحدة أذهانها إذا كل الحديد،
وكيف صبرها عند اللقاء وثباتها في اللأواء، وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر، وكيف
جودها إذا حب المال، وكيف ذكرها لأحاديث غد وقلة صدودها عن جهة القصد، وكيف إقرارها
بالحق وصبرها عليه، وكيف وصفها له، ودعاؤها إليه، وكيف سماحة أخلاقها وصونها
لأعراقها، وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم وطريفهم بتليدهم، وكيف أشبه علانيتهم سرهم،
وقولهم فعلهم، وهل سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بعد غوره؟ وهل غفلته إلا في وزن صدق
ظنه؟ وهل ظنه إلا كيقين غيره؟ وقال عمر: إنك لا تنتفع بعقله حتى تنتفع بظنه. قال
أوس بن حجر: الألمعي الذي يظن بك الظن * كأن قد رأى وقد سمعا وقال آخر:
ص 88
مليح نجيح أخو مازن * فصيح يحدث بالغائب وقال بلعاء بن قيس: وأبغي صواب الرأي أعلم
أنه * إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره بل قد علم الناس كيف جمالها وقوامها، وكيف
نماؤها وبهاؤها، وكيف سرورها ونجابتها، وكيف بيانها وجهارتها، وكيف تفكيرها
وبداهتها. فالعرب كالبدن وقريش روحها، وقريش روح وبنو هاشم سرها ولبها، وموضع غاية
الدين والدنيا منها. وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا، وجنى العالم، والسنام الأضخم،
والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس
المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم وينبوع العلم، وشهلان ذو الهضاب في الحلم،
والسيف الحسام في العزم، مع الأناة والحزم، والصفح عن الجرم، والقصد بعد المعرفة،
والصفح بعد المقدرة. وهم الأنف والسنام الأكرم، وكالماء الذي لا ينجسه شيء، وكالشمس
التي لا تخفى بكل مكان، وكالذهب لا يعرف بالنقصان، وكالنجم للحيران والبارد للظمآن.
ومنهم الثقلان، والأطيبان، والسبطان، والشهيدان، وأسد الله، وذو الجناحين، وذو
قرنيها، وسيد الوادي، وساقي الحجيج، وحليم البطحاء، والبحر، والحبر. والأنصار
أنصارهم، والمهاجرون من هاجر إليهم، أو معهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق
بين الحق والباطل فيهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير إلا
لهم، أو فيهم، أو معهم، أو يضاف إليهم. وكيف لا يكونون كذلك؟
ص 89
ومنهم رسول رب العالمين، وإمام الأولين والآخرين، ونجيب المرسلين، وخاتم النبيين،
الذي لم يتم لنبي نبوة إلا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عم برسالته ما
بين الخافقين، وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون (1). 11 - الحديث لا
يتناول إلا منزلة ثابتة. قاله عبد الجبار قال القاضي عبد الجبار في (المغني):
قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، لا يتناول إلا منزلة ثابتة منه، ولا يدخل تحته
منزلة مقدرة، لأن المقدر ليس بحاصل، ولا يجوز أن يكون منزلة، لأن وصفه بأنه منزلة
يقتضي حصوله على وجه مخصوص، ولا فرق في المقدر بين أن يكون من الباب الذي كان يجب
لا محالة على الوجه الذي قرر أو لا يجب في أنه لا يدخل تحت الكلام. ويبين صحة ذلك
أن قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، يقتضي منزلة لهارون من موسى معروفة يشبهها
منزلته، فكيف يصح أن يدخل في ذلك المقدر، وهو كقول القائل: حقك علي مثل حق فلان على
فلان، ودينك عندي مثل دين فلان، إلى ما شاكل ذلك، في أنه لا يتناول إلا أمرا معروفا
حاصلا. وإذا ثبت ذلك، فلنا أن ننظر، فإن كانت منزلة هارون من موسى معروفة حملنا
الكلام عليها، وإلا وجب التوقف، كما يجب مثله فيما مثلناه من الحق والدين، ويجب أن
ننظر، إن كان الكلام يقتضي الشمول حملناه عليه، وإلا وجب التوقف عليه، ولا يجوز أن
يدخل تحت الكلام ما لم يحصل لهارون من المنزلة ألبتة. وقد علمنا أنه لم يحصل له
الخلافة بعده، فيجب أن لا يدخل ذلك تحت
(هامش)
(1) زهر الآداب وثمر الألباب 1 / 95 - 97. (*)
ص 90
الخبر، ولا يمكنهم أن يقولوا بوجوب دخوله تحت الخبر على التقدير الذي ذكروه، لأنا
قد بينا أن الخبر لا يتناول التقدير الذي لم يكن، وإنما يتناول المنزلة الكائنة
الحاصلة. فإن قيل: المنزلة التي نقدر لهارون هي كأنما ثابتة، لأنها واجبة
بالاستخلاف في حال الغيبة، وإنما حصل فيها منع وهو موته قبل موسى عليه السلام،
ولولا هذا المنع لكانت ثابتة. قيل له: إن الذي ذكرته إذا سلمناه، لم يخرج هذه
المنزلة من كونها غير ثابتة في الحقيقة، وإن كانت في الحكم كأنها ثابتة، وقد بينا
أن الخبر لم يتناول المقدر، صح وجوبه أو لم يصح، فنحن قبل أن نتكلم في صحة ما
أوردته ووجوبه قد صح كلامنا، فلا حاجة بنا إلى منازعتك في هذه المنزلة: هل كانت تجب
لو مات موسى قبله أو كانت لا تجب. يبين ذلك أنه عليه السلام لو ألزمنا صلاة سادسة
في المكتوبات، أو صوم شوال، لكان ذلك شرعا له ولوجب لمكان المعجز، وليس بواجب أن
يكون من شرعه الآن، وإن كان لو أمر به للزم، وكذلك القول فيما ذكروه، وليس كل مقدر
سبب وجوبه وكان يجب حصوله لولا المانع يصح أن يقال إنه حاصل، وإذا تعذر ذلك فكيف
يقال إنه منزلة . أقول: ومحل الاستشهاد ما ذكره غير مرة وأكده من أن هذا الحديث لا
يتناول إلا منزلة ثابتة، ولا يدخل تحته منزلة مقدرة، لأن المقدر ليس بحاصل، وعليه،
فإن نفي الإمامة الذي ليس منزلة ثابتة بلا كلام، ليس بداخل في مدلول الحديث...
فيبطل ما ادعاه الرازي والأعور و(الدهلوي)، والحمد لله على ذلك.
ص 91
ثم إنه قد أجاب علم الهدى السيد المرتضى رحمه الله عن شبهة القاضي عبد الجبار هذه،
فقال: لم قلت إن ما يقدر لا يصح وصفه بأنه منزلة؟ فما نراك ذكرت إلا ما يجري مجرى
الدعوى! وما أنكرت من أن يوصف المقدر مقدرا، ومن أن يكون معروفا يصح أن يشار إليه
ويشبه به غيره، لأنه إذا صح وكان مع كونه مقدرا معلوما حصوله ووجوبه عند وجود شرطه
فالإشارة إليه صحيحة والتعريف به حاصل، وقد رضينا بما ذكرته في الدين، لأنه لو كان
لأحدنا على غيره دين مشروط يجب في وقت منتظر، يصح قبل ثبوته وحصوله أن يقع الإشارة
إليه ويحمل غيره عليه، ولا يمنع من جميع ذلك فيه كونه منتظرا متوقعا، ويوصف أيضا
بأنه دين وحق، وإن لم يكن في الحال ثابتا. ومما يكشف عن بطلان قولك: إن المقدر وإن
كان مما يعلم حصوله لا يوصف بأنه منزلة: أن أحدنا لو قال: فلان مني بمنزلة زيد من
عمرو في جميع أحواله، وقد علمنا أن زيدا قد بلغ من الاختصاص بعمرو والقرب منه
والزلفة عنده إلى حد لا يسأله معه شيئا من أمواله إلا أجابه إليه وبذله، ثم إن
المشبه حاله بحاله لو سأل صاحبه درهما من ماله أو ثوبا لوجب عليه - إذا كان قد حكم
بأن منزلته منه منزلة من ذكرناه - أن يبذله له، وإن لم يكن وقع ممن شبه حاله به مثل
تلك المسألة بعينها، ولم يكن للقائل الذي حكينا قوله أن يمنعه من الدرهم والثوب،
بأن يقول: إني جعلت لك منازل فلان من فلان، وليس في منازله أنه سأله درهما أو ثوبا
فأعطاه، بل يوجب عليه جميع ما سمع العطية من حيث كان المعلوم من حال من جعل له مثل
منزلته أنه لو سأله في ذلك كما سأل هذا أجيب إليه، وليس يلزم على هذا أن يكون
الصلاة السادسة وما أشبهها من العبادات التي لو أوجبها الرسول عليه السلام علينا
لوجب مما يجري عليها الوصف الآن
ص 92
بأنها من شرعه، لأنه لم يحصل له سبب وجوب واستحقاق، بل سبب وجوبها مقدر، كما أنها
مقدرة، وليس كذلك ما أوجبناه، لأنا لا نصف بالمنزلة إلا ما حصل استحقاقه وسبب
وجوبه، ولو قال عليه السلام صلوا بعد سنة صلاة مخصوصة خارجة عما يعرف من الصلوات،
لجاز أن يقال بل وجب أن يكون تلك الصلاة من شرعه قبل حصول الوقت، من حيث ثبت سبب
وجوبها. وبمثل ما ذكرناه سقط قول من يقول: فيجب على كلامكم أن يكون كل أحد منا
إماما على سائر الأحوال التي يجوز على طريق التقدير أن يحصل عليها، مثل أن يكون
وصيا لغيره وشريكا له، إلى غير ذلك، لأنه على طريق التقدير يصح أن يكون على جميع
هذه الأحوال، لوجود أسبابها وشروطها. وإنما لم يلزم جميع ما عددناه، لما قدمنا ذكره
من اعتبار ثبوت سبب المنزلة واستحقاقها، وجميع ما ذكرتم لم يثبت له سبب استحقاق ولا
وجوب، ولا يصح أن يقال إنه منزلة. ثم يقال له: ما نحتاج إلى مضايقتك في وصف المقدر
بأنه منزلة، وكلامنا يتم وينتظم من دونه، لأن ما عليه هارون عليه السلام من استحقاق
منزلة الخلافة بعد وفاة موسى عليه السلام إذا كان ثابتا في أحوال حياته، صح أن يوصف
بأنه منزلة، وإن لم يصح وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة في حال الحياة، لأن
التصرف في الأمر المتعلق بحال مخصوصة غير استحقاقه، وأحد الأمرين منفصل عن الآخر،
وإذا ثبت أن استحقاقه للخلافة بعد الوفاة يجري عليه الوصف بالمنزلة، ووجب حصوله
لأمير المؤمنين عليه السلام كما تحصل لهارون عليه السلام، ثبت له الإمامة بعد النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - لتمام شرطها فيه، ألا ترى أن من أوصى إلى غيره وجعل
إليه التصرف في أمواله بعد وفاته يجب له ذلك بشرط الوفاة، وكذلك من استخلف غيره
بشرط غيبته عن
ص 93
بلده ليكون نائبا عنه بعد الغيبة، تجب له هذه المنزلة عند حصول شرطها، فحال التصرف
والقيام بالأمر المفوض غير حال استحقاقه، ولو أن غير الموصي أو المستخلف قال: فلان
مني بمنزلة فلان من فلان، وأشار إلى الموصي والموصى إليه، لوجب أن يثبت له من
الاستحقاق في الحال والتصرف بعدها ما أوجبناه للأول، ولم يكن لأحد أن يتطرق إلى منع
هذا المتصرف من التصرف إذا بقي إلى حال وفاة صاحبه، من حيث لا يوصف التصرف المستقبل
بأنه منزلته قبل حضور وقته، ولا من حيث كان من شبهت حاله به لم يبق بعد الوفاة لو
قدرنا أنه لم يبق. فإن قال صاحب الكتاب: إنما صح ما ذكرتموه، لأن التصرف في مال
الموصي والخلافة لمن استخلف في حال الغيبة، وإن لم يكونا حاصلين في حال الخطاب، ولم
يوصفا بأنهما منزلتان فيما يقتضيهما من الوصية والاستخلاف الموجبين لاستحقاقهما،
يثبت في الحال ويوصف بأنه منزلة. قلنا: وهكذا نقول لك فيما أوجبناه من منازل هارون
من موسى عليهما السلام لأمير المؤمنين عليه السلام حرفا بحرف. وليس له أن يخالف في
أن استحقاق هارون لخلافة موسى بعد الوفاة كان حاصلا في الحال، لأن كلامه في هذا
الفصل مبني على تسليمه، وإن كان قد خالف في ذلك في فصل استأنفه يأتي مع الكلام عليه
فيما بعد. وقد صرح في مواضع من كلامه الذي حكيناه بتسليم هذا الموضع، لأنه بنى
الفصل على أن الخلافة لو وجبت بعد الوفاة حسبما نذهب إليه لم يصح وصفها قبل حصولها
بأنها منزلة، ولو كان مخالفا في أنها مما يجب أن يحصل لاستغنى بالمنازعة عن جميع ما
تكلفه. فقد بان من جملة ما أوردناه أن الذي اقترحه من أن الخبر لم يتناول
ص 94
المقدر، لم يغن عنه شيئا، لأنا - مع تسليمه - قد بينا صحة مذهبنا في تأويله، وأن
كلامه إذا صح لم يكن له من التأثير أكثر من منع الوصف بالمنزلة ما كان مقدرا. وليس
يضر من ذهب في هذا الخبر إلى النص الامتناع من وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة
قبل حصولها، إذا ثبت له أنها واجبة مستحقة، وأن ما يقتضيها يجب وصفه بأنه منزلة
(1). أقول: ولقوة ومتانة ما ذكره السيد في تقرير أن استحقاق هارون عليه السلام
الخلافة عن موسى عليه السلام منزلة ثابتة لا مقدرة... فقد عجز الفخر الرازي عن
الجواب عنه بعد إيراده له... وهذا نص عبارته: الثاني: أن لا ندعي خلافة هارون
لموسى عليهما السلام، بل نقول: إن هارون كان شريكا لموسى عليهما السلام في الرسالة،
فلا شك أنه لو بقي بعد وفاته لقام مقامه في كونه مفترض الطاعة. وذلك القدر كاف في
المقصود، لأنه لما دل الحديث على أن حال علي كحال هارون في جميع المنازل، وكان من
منازل هارون استحقاقه القيام مقامه في وجوب الطاعة، وجب أن يكون علي كذلك، ولا معنى
للإمامة إلا ذلك. لا يقال: الحديث لا يتناول إلا المنازل الثابتة دون المقدرة،
وإمامة هارون بعد موسى - عليهما السلام - ما كانت حاصلة، بل كانت مقدرة، فلا
يتناولها الحديث.
(هامش)
(1) الشافي في الإمامة 3 / 20 - 23. (*)
ص 95
لأنا نقول: إستحقاق هارون القيام مقام موسى عليه السلام بعد وفاته منزلة ثابتة في
الحال، لأن استحقاق الشيء قد يكون حاصلا وإن كان المستحق متأخرا (1). فهو لم يجب
على قول السيد: لأنا نقول: استحقاق هارون... بشيء - كما لا يخفى على من راجعه -
وأما شبهاته على المواضع الأخرى من الكلام، فسيأتي ذكرها وبيان وهنها. 12 - دعوى
الدلالة على نفي الخلافة فرض وتقدير ويظهر من كلام القاضي أن دعوى دلالة الحديث على
نفي الإمامة إنما هي على سبيل الفرض والتقدير، وأنه ليست هذه الدلالة ثابتة
حقيقة... فإنه قال: على أنه لو جعل ذلك دلالة على ضد ما قالوه - بأن يقال: لم يكن
لهارون من موسى عليه السلام منزلة الإمامة بعده ألبتة، فيجب إذا كان حال علي من
النبي حال هارون من موسى أن لا يكون إماما بعده - لكان أقرب مما تعلقوا به، لأنهم
راموا إثبات منزلة مقدرة ليست حاصلة بهذا الخبر. فإن ساغ لهم ذلك، ساغ لمن خالفهم
أن يدعي أن الخبر يتناول نفي الإمامة بعد الرسول عليه السلام، من حيث لم يكن ذلك
لهارون عليه السلام من موسى بعده. ومتى قالوا: ليس ذلك مما يعد من المنازل فيتناوله
الخبر. قلنا بمثله في المقدر الذي ذكروه . فصريح كلامه أن هذه الدعوى إنما تذكر
على سبيل الفرض والتقدير من جانب المخالفين إلزاما للإمامية... فلا حقيقة لهذه
الدعوى... وهذا ما نريد
(هامش)
(1) نهاية العقول - مخطوط. (*)
ص 96
إثباته ردا على (الدهلوي). لكن الإلزام المذكور خيال محض وتوهم باطل... كما ستعرف
من كلمات السيد المرتضى رحمه الله. 13 - إستحقاق الخلافة منزلة ثابتة لهارون فلقد
قال السيد في رد كلام القاضي المذكور: فأما ادعاؤه اقتضاء الخبر لنفي الإمامة من
حيث لم يكن هارون بعد وفاة موسى إماما، وجعله أنه لم يكن بهذه الصفة منزلة، فبعيد
من الصواب. لأن هارون وإن لم يكن خليفة لموسى بعد وفاته، فقد دللنا على أنه لو بقي
لخلفه في أمته، وإن هذه المنزلة وإن كانت مقدرة تصح أن تعد في منازله، وأن المقدر
لو تسامحنا بأنه لا يوصف بالمنزلة، لكان لا بد من أن يوصف ما هو عليه من استحقاق
الخلافة بعده بأنه منزلة، لأن التقدير وإن كان في نفس الخلافة بعده، فليس هو في
استحقاقها، وما يقتضي وجوبها، وإذا ثبت ذلك فالواجب فيمن شبهت حاله بحاله، وجعل له
مثل منزلته إذا بقي إلى بعد الوفاة أن يجب له الخلافة، ولا يقدح في ثبوتها له أنها
لم تثبت لهارون بعد الوفاة (1). 14 - عدم صحة القول بأن فلانا بمنزلة فلان في أنه
ليس كذا وقال رحمه الله في جوابه: ولو كان ما ذكره صحيحا لوجب فيمن قال لوكيله:
أعط فلانا في كل شهر إذا حضرك دينارا. ثم قال في الحال أو بعدها بمدة: وأنزل عمرا
منزلته. ثم قدرنا أن المذكور الأول لم يحضر المأمور ليعطيه ولم يقبض ما جعله له من
الدينار أن يجعل الوكيل - إن كان الأمر على ما ادعاه
(هامش)
(1) الشافي في الإمامة 3 / 34. (*)
ص 97
صاحب الكتاب - تأخر المذكور الأول طريقا إلى حرمان الثاني العطية، وأن يقول له: إذا
كنت إنما أنزلت منزلة فلان، وفلان لم يحصل له عطية، فيجب أن لا يحصل لك أيضا. وفي
علمنا بأنه ليس للوكيل ولا غيره منع من ذكرنا حاله، ولا أن يعتل في حرمانه بمثل علة
صاحب الكتاب. دليل آخر على بطلان هذه الشبهة: على أن النفي وما جرى مجراه لا يصح
وصفه بأنه منزلة، وإن صح وصف المقدر الجاري مجرى الإثبات بذلك، إذا كان سبب
استحقاقه ووقوعه ثابتا. ألا ترى أنه لا يصح أن يقول أحدنا: فلان مني بمنزلة فلان في
أنه ليس بأخيه ولا شريكه ولا وكيله ولا فيما جرى مجراه من النفي، وإن صح هذا القول
فيما يجري مجرى المقدر من أنه إذا شفع إليه شفعه، وإذا سأله أعطاه، ولا يجعل أحد
أنه لم يشفع إذا كان ممن لو شفع يشفع منزلة يقتضي فيمن جعل له مثل منزلته لإيجاب
شفاعته (1). 15 - المنزلة هي المرتبة وهي الأمر الثابت ثم إن (الدهلوي) جهل - على
إمامته المزعومة في العلوم المختلفة! - معنى المنزلة ... فلو علم معنى هذه
الكلمة ولو بالرجوع إلى كتب اللغة لم يتطرق إلى هذه الشبهة، ولم يتفوه بتلك
الدعوى... قال الجوهري: المنزلة: المرتبة، لا تجمع، واستنزل فلان أي حط عن مرتبته
(2). وقال: الرتبة المنزلة، وكذلك المرتبة، قال الأصمعي: المرتبة المرقبة،
(هامش)
(1) الشافي في الإمامة 3 / 34 - 35. (2) الصحاح في اللغة - نزل. 5 / 1828 - 1829.
(*)
ص 98
وهي أعلى الجبل. وقال الخليل: المراتب في الجبل والصحاري هي الأعلام التي ترتب فيها
العيون والرقباء، وتقول: رتبت الشيء ترتيبا. ورتب الشيء يرتب رتوبا. أي ثبت، يقال:
رتب رتوب الكعب. أي انتصب انتصابه، وأمر راتب أي دار ثابت (1). وقال الفيروز
آبادي: رتب رتوبا: ثبت ولم يتحرك، كترتب، ورتبته أنا ترتيبا، والترتب كقنفذ
وجندب: الشيء المقيم الثابت، وكجندب الأبد والعبد السوء والتراب، ويضم، وكذا جاؤا
ترتبا جميعا، واتخذ ترتبة كطرطبة، أي شبه طريق يطؤه، والرتبة بالضم والمرتبة:
المنزلة (2). وقال ابن الأثير: وفيه: من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث
عليها. المرتبة: المنزلة الرفيعة. أراد بها الغزو والحج ونحوهما من العبادات
الشاقة، وهي مفعلة من رتب إذا انتصب قائما. والمراتب جمعها (3). إذن، المرتبة
مشتقة من رتب بمعنى ثبت فالأمر غير الثابت لا يدخل في مدلول المرتبة ،
و المنزلة لكونها هي بمعنى المرتبة لا يدخل في مدلولها الأمر غير الثابت.
وعليه، فإن الحديث بنفسه ينفي أن يكون دالا على نفي الخلافة. وأيضا: في كلام ابن
الأثير وغيره تفسير المرتبة ب المنزلة الرفيعة فمنه ومن تفسير الجوهري
المنزلة ب المرتبة يظهر أخذ الرفعة في مفهوم المنزلة ... وهل في نفي
الخلافة رفعة كي يدل عليه الحديث؟! وأيضا، قد فسر الفيروز آبادي المنزلة ب
الدرجة حيث قال:
(هامش)
(1) الصحاح: رتب 1 / 133. (2) القاموس: رتب 1 / 71. (3) النهاية في غريب الحديث:
رتب 2 / 193. (*)
ص 99
والمنزلة موضع النزول والدرجة (1). والمراد من الدرجة هو المنزلة الرفيعة
كما قال الراغب: الدرجة المنزلة، لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون
الامتداد على البسيط كدرجة السطح والسلم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة. قال الله
تعالى: *(وللرجال عليهن درجة)* بينها لرفعة منزلة الرجال عليهن في العقل والسياسة
ونحو ذلك من المشار إليه بقوله: *(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على
بعض)* (2). وبالجمع بين العبارتين، يظهر أن الرفعة مأخوذة في المنزلة ،
فلا يكون الحديث دالا على نفي الخلافة، لعدم وجود الرفعة في هذا النفي بل بالعكس،
كما هو واضح. هذا، ومن غرائب الأمور: أن الرازي في كتبه الحكمية يشنع على القائلين
بثبوت الأمر المعدوم، حتى أنه يخرجهم عن زمرة العقلاء... وفي هذا المقام يقع في تلك
البلية ويجعل نفي الخلافة مصداقا للمنزلة التي هي بمعنى الأمر الثابت!! يقول
الرازي: الفصل التاسع في أن المعدوم ليس بثابت. فإن قوما ممن عمشت بصائرهم في
حقائق الأبحاث المتعلقة بالوجود والعدم، زعموا أن ما ليس بموجود ينقسم إلى ما يكون
ممتنع الوجود، وإلى ما لا يكون، فإن كان ممتنع الوجود فهو النفي الصرف، وإن كان
ممكن الوجود فإنه يكون عند كونه معدوما ثابتا. وزعموا أنه موصوف بصفات ثابتة حالة
العدم، وتلك الصفات لا موجودة ولا معدومة . وإذا كان المعدوم لا يتصف بالثبوت، فإن
نفي الخلافة لا يتصف بذلك...
(هامش)
(1) القاموس المحيط: نزل 4 / 56. (2) المفردات في غريب القرآن: درج 310. الطبعة
المحققة. (*)
ص 100
فنفي الخلافة لا يكون منزلة بمعنى المرتبة، إذ المرتبة تدل على الثبوت كما عرفت.
قال: ... على أن كل ذلك براهين أوردناها في الموضع البديهي الأولي الفساد، فإنا قد
بينا أن الوجود هو نفس الحصول في الأعيان، ومن جعل هذا الحصول مجامعا للا حصول، فقد
خرج من غريزة العقل (1). فيكون الرازي ومن تبعه في دعوى دلالة الحديث على نفي
الخلافة خارجين عن غريزة العقل. 16 - حديث المنزلة في حق الشيخين ثم إن دعوى دلالة
الحديث المنزلة على سلب الخلافة عن أمير المؤمنين عليه السلام، يبطل خلافة خلفاء
القوم... وهذا ما يجعلهم بين أمرين، فإما رفع اليد عن الدعوى المذكورة، وإما
الالتزام بسلب الخلافة عن الشيخين وثالثهما... وذلك، لأنه إذا كان تشبيه أمير
المؤمنين عليه السلام بهارون وكونه بمنزلته موجبا لسلب الخلافة عنه بعد النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، فإنها أيضا تسلبهما عن الشيخين والثالث... لأنهم وضعوا حديث
المنزلة في حق الشيخين ونزلوهما منزلة هارون عليه السلام... فقد روى المناوي عن
الخطيب البغدادي أنه روى: أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى (2).
(هامش)
(1) المباحث المشرقية. الباب الأول من الكتاب الأول 1 / 134 - 136. (2) كنوز
الحقائق ط هامش الجامع الصغير. (*)
ص 101
17 - تشبيه عثمان بهارون وفي حديث آخر - موضوع كسابقه - شبه عثمان بهارون عليه
السلام... فقد روى الحافظ المحب الطبري: عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما من نبي إلا وله نظير في أمتي، فأبو بكر نظير إبراهيم، وعمر نظير موسى،
وعثمان نظير هارون، وعلي بن أبي طالب نظيري. خرجه الخلعي والملا في سيرته (1).
ورواه السيوطي عن ابن عساكر عن أنس (2). 18 - طلب الأمير الخلافة منذ قبض النبي ولو
كان الحديث دليلا على نفي الخلافة وسلبها عن أمير المؤمنين عليه السلام، لما خفي
ذلك على الإمام عليه السلام وأهل بيته وأتباعه، لكن قد ثبت بالقطع واليقين أنه عليه
السلام طلب الخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن قبض... وقال ابن عبد
البر: روينا من وجوه: أن الحسن - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة قال للحسين
أخيه: يا أخي، إن أباك حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر،
ورجا أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه ووليها أبو بكر، فلما حضرت أبا بكر الوفاة
استشرف لها أيضا فصرفت عنه إلى عمر، فلما قبض عمر، جعلها شورى بين ستة هو أحدهم،
فلا يشك أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما هلك عثمان بويع له، ثم نوزع حتى
جرد السيف في طلبها، فما
(هامش)
(1) الرياض النضرة 1 / 50 - باب ذكر النظير. (2) الخصائص الكبرى 2 / 267. (*)
ص 102
صفا له شيء منها (1). فهذا الاستشراف أدل دليل عند أهل الإنصاف على بطلان دعاوي
أهل الاعتساف... 19 - كلام العباس لأمير المؤمنين حول الخلافة وروى أهل السنة: أن
العباس قال لأمير المؤمنين عليه السلام قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أدخل بنا عليه نسأله عن هذا الأمر، فإن كان لنا بينه، وإن كان لغيرنا وصى الناس .
واستدل به الرازي - فيما استدل بزعمه - على عدم النص على أمير المؤمنين بالخلافة
قائلا: إنه لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال العباس لعلي: أنا أعرف
الموت في وجوه بني عبد المطلب، وقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأدخل بنا عليه نسأله عن هذا الأمر، فإن كان لنا بينه، وإن كان لغيرنا وصى
الناس. ومعلوم أن عليا لو كان منصوصا عليه، لكان العباس أعرف الناس بذلك، فكان لا
يقول مثل هذا الكلام. لا يقال: مراد العباس منه أن الإمارة التي جعلها النبي عليه
السلام هل تسلم لهم أم لا. لأنا نقول: لفظة لنا أو لغيرنا يقتضي الملك والاستحقاق،
ولم يقل العباس سله هل يسلم هذا الأمر إلينا أم لا، حتى يصح ما قاله السائل. وأيضا:
فقد روي أن عليا - رضي الله عنه - قال له فيما بعد: خفت أن يقول النبي عليه السلام:
إنه لغيركم فلا يعطيناه الناس أبدا. ومعلوم أن ذلك إنما
(هامش)
(1) الاستيعاب 1 / 391. الطبعة المحققة. (*)