نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثامن عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثامن عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 103

يلزم إذا قال هو مستحق لغيركم، لا إذا قال: لا يسلمه الناس إليكم . أقول: إن كل هذا الذي رووه غير ثابت عندنا. لكنا نستدل به - من باب الإلزام - فنقول للرازي: لو كان حديث المنزلة يدل على نفي خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، لكان العباس أعرف الناس بذلك، فكان لا يقول مثل هذا الكلام لعلي عليه السلام... فرضنا أن العباس قاله، وفرضنا جهله بحديث المنزلة ومعناه، ولكن، لو كان حديث المنزلة يدل على ما زعم الرازي، لأجاب أمير المؤمنين عليه السلام عن كلام العباس ورده بما دل عليه حديث المنزلة من عدم استحقاقه الخلافة كما يزعمون لا أن يقول له مثل الكلام الذي رووه. 20 - قول العباس له: أمدد يدك أبايعك ويدل على عدم دلالة حديث المنزلة على نفي الخلافة: قول العباس - لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لأمير المؤمنين عليه السلام: أمدد يدك أبايعك، يقول الناس: هذا عم رسول الله بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان . إذ لو كان مدلول الحديث ما زعمه الرازي ومن تبعه، لما قال العباس ذلك... وعلى فرضه لرده أمير المؤمنين عليه السلام. وقد استدل الرازي بهذا الكلام أيضا على عدم النص على أمير المؤمنين بما يظهر منه ثبوته - أي الكلام - عنده.

ص 104

21 - نص عمر على الستة ووصيته لكل منهم واستدل الرازي على عدم النص على أمير المؤمنين عليه السلام بزعمه بقضية الشورى فقال: إن عمر - رضي الله عنه - نص على الستة، وكان يوصي لكل واحد منهم أنه لو صار إماما فإنه لا يجلس أقاربه على رقاب الناس. مع علمه بأنه يعلمون تركه الدين، وإعراضه عن نص الرسول، فما كان فيهم من يقول: كيف تنهانا عن ذلك مع أنك أنت التارك لنص الله ونص رسوله . وأقول: إن لهذا النص ولتلك الوصية ظهورا تاما في تجويز عمر خلافة أمير المؤمنين عليه السلام... فلو كان حديث المنزلة دالا على نفي خلافته لكان عمر بنصه ووصيته تاركا لنص الله ونص رسوله. وأيضا، سكوت الستة - وفيهم الأمير عليه السلام - دليل قاطع على عدم دلالة حديث المنزلة على نفي الخلافة... وإلا لردوا على عمر نصه ووصيته... 22 - قول عمر: فما لهم عن أبي الحسن، فوالله إنه لأحراهم... وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الرحمن بن عبد القادر: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورجلا من الأنصار كانا جالسين، فجئت فجلست إليهما. فقال عمر: إنا لا نحب من يرفع حديثا. فقلت: لست أجالس أولئك يا أمير المؤمنين. قال عمر: بل تجالس هؤلاء وهؤلاء ولا ترفع حديثنا. ثم قال للأنصاري:

ص 105

من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟ فعد الأنصاري رجالا من المهاجرين، ولم يسم عليا. فقال عمر: فما لهم عن أبي الحسن، فوالله إنه لأحراهم، إن كان عليهم لأقامهم على طريقة من الحق . رواه عنه الشيخ محمد صدر العالم (1). وهذا خبر آخر يدل دلالة واضحة على بطلان ما زعمه الرازي ومن تبعه في مدلول حديث المنزلة. 23 - ما فعله عبد الرحمن في الشورى واستدل الرازي - لنفي النص - بقصة الشورى وما فعله عبد الرحمن بن عوف... قال: إن عبد الرحمن لما رام مبايعة علي شرط أن يستن فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، وكان يعلم أن عليا وغيره يعلمون أنه مع الشيخين مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله. أفما كان في الجماعة من كانت له نفس وحمية فيقول لعبد الرحمن: نراك لا تحافظ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو اتبعتهما في تقرير الأمر على المنصوص عليه من قبلهما، لما احتجت إلى هذا القول، فلم لا تكلف نفسك أولا بمتابعة السنة؟ وكيف صبرت نفوسهم - وهم أصحاب الحمية والأنفة والشجاعة وطلاقة اللسان - على السكوت على ذلك؟ فإن كان كذلك فقد كانوا شر أمة أخرجت للناس، منسلخين عن كل حمية ومروة، وكان عبد الرحمن في غاية الوقاحة .

(هامش)

(1) معارج العلى في مناقب المرتضى - مخطوط. (*)

ص 106

أقول: ونحن نعيد على الرازي ما قاله فنقول: لو كان حديث المنزلة يدل على نفي الخلافة وسلبها عن أمير المؤمنين عليه السلام، لما رام عبد الرحمن مبايعة علي، ولرد عليه علي بما دل عليه حديث المنزلة، ولقال له القوم: لم لا تكلف نفسك أولا بمتابعة السنة؟ وكيف صبرت نفوسهم عن هذا القول، وسكتوا على ما فعل عبد الرحمن وقال وهم هم...؟ ومن كل ذلك يظهر كذب ما ادعاه الرازي وأتباعه في باب حديث المنزلة... 24 - مما قاله الأمير في الشورى: ليس هذا أول يوم... وقد روى أبو الفداء في تاريخه جواب الإمام عليه السلام وموقفه مما فعله عبد الرحمن بن عوف... في الشورى... الذي هو نص صريح في اعتراضه عليه السلام على ما كان، وأنه كان يرى الخلافة لنفسه من أول يوم... قال أبو الفداء: ثم جمع عبد الرحمن الناس بعد أن أخرج نفسه عن الخلافة، فدعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. فقال: أرجو أن أفعل وأعمل مبلغ علمي وطاقتي. ودعا بعثمان وقال له مثل ما قال لعلي. فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وبايعه. فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فيه، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم

ص 107

في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك حجة وسبيلا. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن: والله لقد تركته - يعني عليا - وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد، لقد اجتهدت للمسلمين. فقال المقداد: إني لأعجب من قريش، إنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم رجلا أقضى بالحق ولا أعلم منه. فقال عبد الرحمن: يا مقداد، إتق الله، فإني أخاف عليك الفتنة. ثم لما أحدث عثمان - رضي الله عنه - ما أحدث، من توليته الأمصار للأحداث من أقاربه، روي أنه قيل لعبد الرحمن بن عوف: هذا كله فعلك. فقال: لم أظن به، لكن لله علي أن لا أكلمه أبدا. ومات عبد الرحمن وهو مهاجر عثمان رضي الله عنهما. ودخل عليه عثمان عائدا في مرضه فتحول إلى الحائط ولم يكلمه (1). وفي هذه القصة دلالة من جهات، على بطلان ما ادعاه الرازي وأتباعه، في مدلول حديث المنزلة... كما يدل على بطلان خلافة الثلاثة وتوليهم أمور المسلمين، من جهات كذلك...

(هامش)

(1) المختصر في أخبار البشر 1 / 165 - 166. (*)

ص 108

مما تقتضيه المشابهة التامة بين علي وهارون

 قوله: وحمل التشبيه الواقع في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على التشبيه الناقص، خروج كامل عن الديانة. والعياذ بالله. أقول: قد عرفت - حسب كلمات أئمة الحديث وغيرهم من أهل السنة - دلالة حديث المنزلة على الاتصال والقرب... وعرفت - حسب كلمات أئمة اللغة - أن المنزلة بمعنى المرتبة وهي الأمر الثابت. فلا يكون نفي الخلافة داخلا في مدلول المنزلة أبدا. فالتشبيه تام، ولا مدخل للنقصان فيه... بل حمله على نفي الخلافة حمل للتشبيه على الأمر الناقص، ومخالف لكلمات أئمة الحديث وتصريحات أئمة اللغة... وذلك خروج كامل عن الديانة. والعياذ بالله. أضف إلى ذلك كله: إنه إذا كان أمير المؤمنين قد شبه في الحديث بهارون وأنه يجب حمل التشبيه على المشابهة التامة، وأن حمله على المشابهة الناقصة خروج عن الدين المبين... فلا ريب في ثبوت العصمة لأمير المؤمنين عليه السلام، لكون هارون عليه السلام معصوما، ونفي العصمة عن الأمير حمل للتشبيه على المشابهة الناقصة، وهو خروج عن الدين. وأيضا:

ص 109

لا ريب في أفضلية هارون من جميع أمة موسى... ومقتضى التشبيه الكامل هو كون أمير المؤمنين عليه السلام أفضل أمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم... وإلا لزم حمل التشبيه على التشبيه الناقص... وهو خروج عن الدين... ومن هنا يظهر أن تفضيل غيره عليه خروج عن الدين وكفر بالله العظيم... نعوذ بالله من ذلك. وأيضا: مقتضى التشبيه الكامل هو أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة وواجب الامتثال على الإطلاق، بالنسبة إلى جميع أفراد الأمة، في حياة النبي وبعد وفاته... لأن هارون كان كذلك بالنسبة إلى أمة موسى... وإلا كان التشبيه ناقصا، والعياذ بالله.

ص 111

دلالة حديث المنزلة

ص 113

من وجوه دلالته على نفي خلافة الثلاثة قوله: ومع غض النظر عن كل ذلك، فأين دلالة الحديث على نفي إمامة الخلفاء الثلاثة، حتى يتم المدعى؟ أقول: إذا رفع القوم اليد عن المكابرة وتركوا العناد، ونظروا إلى وجه استدلال الإمامية بحديث المنزلة، بعين الإنصاف... لم يبق أي ريب في دلالة الحديث على خلافة الأمير عليه الصلاة والسلام... وبطلان خلافة المتقدمين عليه... لأنه يدل من عدة جهات وبكل وضوح على إمامته بلا فصل، وخلافته المتصلة بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن كلام (الدهلوي) في هذا المقام نظير ما إذا تكلم بعض أتباع مسيلمة الكذاب مثلا في دلائل نبوة نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - بذكر بعض الشبهات الواهية المخالفة للعرف واللغة وكلمات أئمتهم... ثم يقولوا: ولو صرفنا النظر عن كل ذلك، فأين دلالة تلك الأدلة على نفي نبوة مسيلمة...!! فالجواب الجواب. دلالته على الخلافة العامة وأما تلك الجهات التي أشرنا إليها: فإن الخلافة التي يراها الإمامية لهارون عليه السلام هي الخلافة العامة

ص 114

على جميع أمة موسى عليه السلام... فكذلك خلافة الأمير عليه السلام المشبه بهارون... فيكون الثلاثة من جملة رعاياه. دلالته على افتراض الطاعة والحديث يدل على افتراض طاعة أمير المؤمنين على جميع الأمة، كما كانت طاعة هارون مفترضة على جميع أمة موسى، فالثلاثة ممن وجبت عليهم طاعته وامتثال أوامره ونواهيه. دلالته على الأفضلية ويدل الحديث على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام ممن عدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مما اعترف به شعبة بن الحجاج كما سيجئ، ويفيده كلام (الدهلوي) أيضا... والأفضلية تفيد الخلافة بلا فصل. دلالته على العصمة وثبوت عصمته عليه السلام من هذا الحديث، يثبت حصر الخلافة فيه من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وينفي خلافة غيره، لعدم كونهم معصومين بالقطع واليقين. دلالته على الأعلمية وستعلم دلالته على الأعلمية حتى باعتراف عثمان، والأعلمية تثبت الأفضلية، والأفضلية يفيد تعين الخلافة له وتعينه لها، وذلك دليل متين على سلب الخلافة عمن سواه...

ص 115

قوله: غاية ما في الباب ثبوت استحقاق الإمامة له ولو في وقت من الأوقات، وهو عين مذهب أهل السنة. أقول: إنه بعد رفع اليد عن المكابرة، والاصغاء إلى تقرير استدلال الإمامية بالحديث... لا يبقى مجال لهذه الهفوة العجيبة... إذ الحديث يدل على إمامة الأمير بلا فصل، لا في وقت من الأوقات، لأن خلافة هارون - على تقدير بقاءه بعد موسى - كانت كذلك، وحمل التشبيه على غير ذلك حمل على التشبيه الناقص الذي قال بأنه خروج عن الدين... على أنه بعد ثبوت الاستحقاق تكون الخلافة متصلة، لأن من المتفق عليه الذي لا ريب فيه عدم وجود نص على خلافة الثلاثة. وإلى هنا تم الرد على أباطيل (الدهلوي) وشبهاته حول حديث المنزلة. والحمد لله رب العالمين. فلنشرع في شرح وتوضيح بعض الدلائل، الموضحة دلالة حديث المنزلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بلا فصل... ردا على أضاليل وأباطيل الأعور الواسطي، وبيانا لبطلان وهوان خرافات ابن تيمية، وإيضاحا لسقوط وفساد توهمات الفخر الرازي... وبالله التوفيق.

ص 117

الدلائل على دلالة حديث المنزلة

 *(1)* إفتراض طاعة هارون

 إنه بالإضافة إلى خلافة هارون عن موسى، وعدم جواز زوال وانقطاع خلافته عنه... كما عرفت... فإن من منازل هارون الثابتة له بالقطع واليقين: افتراض طاعته ولزوم الانقياد له ووجوب اتباعه... هذه المنزلة التي لم يأت أحد - حتى من المكابرين المعاندين - باحتمال انقطاعها وزوالها، ولم يتمكن المنهمكون في إنكار الواضحات والحقائق البينات من رفضها ومنعها، بل لم يجدوا بدا من تأكيدها وتشييدها... قال شمس الدين الأصفهاني: قوله: إنه كان خليفة له على قومه في حال حياته. قلنا: لا نسلم ذلك، بل كان شريكا له في النبوة، والشريك غير خليفة، وليس جعل أحد الشريكين خليفة عن الآخر أولى من العكس. وقوله تعالى - حكاية عنه -: *(اخلفني في قومي)* فالمراد به المبالغة والتأكيد في القيام بأمر قومه، على نحو قيام موسى، أما أن يكون مستخلفا عنه بقوله فلا، فإن المستخلف عن الشخص بقوله لو لم يقدر استخلافه، لما كان له القيام مقامه في التصرف، وهارون من حيث هو شريك في النبوة فله ذلك ولو لم

ص 118

يستخلفه موسى (1). وقال التفتازاني: ولو سلم العموم، فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الإمامة، لأنه شريك له في النبوة، وقوله *(اخلفني)* ليس استخلافا، بل مبالغة وتأكيدا في القيام بأمر القوم (2). وقال القوشجي: ولو سلم العموم، فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة، على ما هو مقتضى الإمامة، لأنه شريك له في النبوة. وقوله *(اخلفني)* ليس استخلافا، بل مبالغة وتأكيدا في القيام بأمر القوم (3). وقال الهروي في كتابه الموسوم (السهام الثاقبة): وقوله لهارون: *(اخلفني)* ليس استخلافا بالمعنى المشهور، بل تأكيدا بالقيام لأمر الجمهور أيام غيبة موسى عليه السلام، وإلا فهو كان نبيا في زمن موسى عليه السلام ومأمورا بالتبليغ . ومتى كان هارون عليه السلام مفترض الطاعة وواجب الاتباع على حياة موسى عليه السلام، فكذلك أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة وواجب الاتباع في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لثبوت عموم المنازل بالوجوه المتقدمة. وعلى فرض حمل المنزلة على المنازل المشهورة - الذي ذهب إليه شاه ولي الله الدهلوي، في (إزالة الخفا) - فالنتيجة حاصلة كذلك.

(هامش)

(1) تشييد القواعد - مبحث الإمامة. (2) شرح المقاصد 5 / 275. (3) شرح التجريد: 370. (*)

ص 119

ثبوت خلافة الأمير بثبوت فرض طاعته في حياة النبي

 وثبوت افتراض طاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكفي لثبوت خلافته عنه صلى الله عليه وآله وسلم، لوجوه عديدة: الأول: إن القول بوجوب إطاعته في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم صرف الخلافة عنه ودخوله في زمرة الرعايا والمتبوعين بعد وفاته، خلاف الإجماع المركب. الثاني: إنه لا يجوز عقل عاقل أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل هارون عليه السلام في وجوب الاتباع والإطاعة له، ثم تسلب منه هذه المرتبة بعد وفاته، ويكون من جملة التابعين والمطيعين. الثالث: إنه إذا كان أمير المؤمنين - مثل هارون عليهما السلام - واجب الإطاعة على الإطلاق بالنسبة إلى جميع أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان الثلاثة ممن تجب عليهم طاعته واتباعه، كان القول بعدم إمامته وخلافته بعد النبي، وجعل الثلاثة أئمة وخلفاء، مستلزما لقلب الموضوع وعكس المشروع، فيكون التابعون المطيعون أئمة مطاعين، ومن كان واجب الإطاعة والإتباع يكون من الرعايا والأتباع!! سبحانك هذا بهتان عظيم!! و(الدهلوي) نفسه يقول في مقام الاستدلال بقوله تعالى: *(قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد)* الآية، على خلافة أبي بكر: ومن كان واجب الإطاعة فهو إمام (1).

(هامش)

(1) التحفة الاثنا عشرية: 186. (*)

ص 120

فثبوت إطاعة أمير المؤمنين من حديث المنزلة، يثبت إمامته حسب اعتراف (الدهلوي)... ولله الحمد على ذلك. ومما يؤكد قوة هذا الوجه ومتانته: أن (الدهلوي) سكت عن الإجابة عنه في متن كتابه (التحفة)، وفي الحاشية لم يقل إلا ولا يخفى ما فيه !! جواب شبهة أن افتراض الطاعة مسبب عن النبوة لا الخلافة وغاية تخديع أسلاف (الدهلوي)، ونهاية تأويلهم هو: دعوى أن افتراض طاعة هارون عليه السلام كان مسببا عن نبوته، لا عن خلافته عن موسى عليه السلام، وإذ لم يكن أمير المؤمنين نبيا فلا تجب إطاعته... وهذا ما تشبث به القاضي العضد، والشريف الجرجاني، والتفتازاني، والقوشچي، وابن حجر المكي، وغيرهم... قال العضد: ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى، لنبوته لا للخلافة عن موسى، كما اعترفتم به في هذا الوجه، وقد نفى النبوة ههنا، لاستحالة كون علي نبيا، فيلزم نفي مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر (1). وقال التفتازاني - بعد منع كون الخلافة من منازل هارون ومنع بقائها بعد الموت -: ولو سلم، فتصرف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنما يكون لنبوته، وقد انتفت النبوة في حق علي - رضي الله تعالى عنه - فينتفي ما يبتني عليها ويتسبب عنها (2). وقال القوشجي: ولو سلم، فتصرف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موت موسى، إنما يكون لنبوته، وقد انتفت النبوة في حق علي - رضي الله عنه -،

(هامش)

(1) شرح المواقف 8 / 363. (2) شرح المقاصد 5 / 275. (*)

ص 121

فينتفي ما يبتني عليها ويتسبب عنها (1). وقال ابن حجر: ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض، إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه، وقد نفيت النبوة هنا، لاستحالة كون علي نبيا، فيلزم نفي مسببها الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر (2). أقول: لكنه توهم باطل لوجوه: الأول: إن لازم ما ذكروه أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام خليفة في المرتبة الرابعة أيضا، لأن النبوة منتفية عنه في هذه المرتبة كذلك، فلا يكون مفترض الطاعة فيها. الثاني: إنه لو كان انتفاء النبوة مستلزما لانتفاء وجوب الطاعة ونفاذ الأمر، لما أوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الكثيرة - المعتبرة عند الفريقين - طاعة أمير المؤمنين عليه السلام، لكن طاعته واجبة بنص الأحاديث، وسنذكر بعضها. الثالث: إذا كان إفتراض الطاعة ونفاذ الأمر مسببا عن النبوة لا الخلافة، بطلت خلافة الثلاثة، لانتفاء النبوة عنهم أيضا. الرابع: إنه لا ريب في أن العصمة من منازل هارون عليه السلام، فعلي عليه السلام المشبه به معصوم، لعموم التنزيل، والعصمة مستلزمة للإمامة والخلافة، لقبح تقديم غير المعصوم على المعصوم. ولا يلزم انتفاؤها من انتفاء النبوة، وإلا لزم انتفاء العصمة عن الملائكة.

(هامش)

(1) شرح التجريد: 370. (2) الصواعق المحرقة: 74. (*)

ص 122

الخامس: لو جعلت النبوة السبب الوحيد في إفتراض الطاعة، فلا يبقى خصوصية لافتراض الطاعة، بل لهم أن ينفوا سائر الفضائل عن أمير المؤمنين، بزعم أن جميع فضائل هارون مسببة عن نبوته لا خلافته. السادس: إنه ليس إفتراض الطاعة مسببا عن النبوة فحسب، بل قد تجب الطاعة ولا نبوة، كوجوب طاعة الله وطاعة الخلفاء. فإذا كان لشيء سببان أو أكثر لم ينتف المسبب بانتفاء أحد الأسباب، وتعدد الأسباب للشئ الواحد شائع، قال ابن هشام في معاني لو : الثالث: إنها تفيد الامتناع خاصة، ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته، ولكنه إن كان مساويا للشرط في العموم - كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا - لزم انتفاؤه، لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوي انتفاء مسببه، وإن كان أعم - كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا - فلا يلزم انتفاؤه، وإنما يلزم انتفاء القدر المساوي منه للشرط. وهذا قول المحققين... (1). والعجب من التفتازاني، يتشبث بالشبهة المذكورة، مع أنه يحكي عن ابن الحاجب نفس القول المتقدم في معنى لو ويرتضيه... في شرحيه (المطول) و(المختصر) على (التلخيص) حيث يقول: ولو للشرط. أي لتعليق حصول مضمون الجزاء لحصول مضمون الشرط فرضا على الماضي، مع القطع بانتفاء الشرط، فيلزم انتفاء الجزاء، كما تقول: لو جئتني لأكرمتك. معلقا للإكرام بالمجئ مع القطع بانتفائه، فيلزم انتفاء الإكرام، فهي لامتناع الثاني - أعني الجزاء - لامتناع الأول - أعني الشرط. يعني: إن الجزاء منتف بسبب انتفاء الشرط. هذا هو المشهور بين الجمهور.

(هامش)

(1) مغني اللبيب 1 / 340. (*)

ص 123

واعترض عليه ابن الحاجب: بأن الأول سبب والثاني مسبب، وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب، لجواز أن يكون للشئ أسباب متعددة، بل الأمر بالعكس، لأن انتفاء المسبب يدل على انتفاء جميع أسبابه، فهي لامتناع الأول لامتناع الثاني. ألا ترى أن قوله تعالى *(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)* إنما سيق ليستدل بامتناع الفساد على امتناع تعدد آلهة، دون العكس. واستحسن المتأخرون رأي ابن الحاجب، حتى كادوا يجمعون على أنها لامتناع الأول لامتناع الثاني، إما لما ذكروه، وإما لأن الأول ملزوم والثاني لازم، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم من غير عكس، لجواز أن يكون اللازم أعم. وأنا أقول: منشأ هذا الاعتراض قلة التأمل، لأنه ليس معنى قولهم: لو لامتناع الثاني لامتناع الأول، أنه يستدل بامتناع الأول على امتناع الثاني، حتى يرد عليه أن انتفاء السبب أو الملزوم يوجب انتفاء المسبب أو اللازم، بل معناه إنها للدلالة على أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول، فمعنى: *(لو شاء الله لهداكم)* أن انتفاء الهداية إنما هو بسبب انتفاء المشية، يعني إنها تستعمل للدلالة على أن علة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي انتفاء مضمون الشرط، من غير التفات إلى أن علة العلم بانتفاء الجزاء ما هي... (1). كلام المرتضى في جواب الشبهة ثم إن القوم لقصر باعهم في علم الكلام، لم يقفوا على كلام السيد المرتضى علم الهدى رضي الله عنه في جواب هذه الشبهة... فإنه رحمه الله قال

(هامش)

(1) المختصر في شرح التلخيص: 94. وانظر المطول: 166 - 167. (*)

ص 124

بعد إثبات عموم المنزلة: ويمكن مع ثبوت هذه الجملة أن ترتب الدليل في الأصل على وجه يجب معه كون هارون مفترض الطاعة على أمة موسى لو بقي إلى بعد وفاته، وثبوت مثل هذه المنزلة لأمير المؤمنين عليه السلام، وإن لم يرجع إلى كونه خليفة له في حال حياته، ووجوب استمرار ذلك إلى بعد الوفاة، فإن في المخالفين من يحمل نفسه على دفع خلافة هارون لموسى عليهما السلام في حياته، وإنكار كونه منزلة تنفصل عن نبوته، وإن كان فيما حمل عليه نفسه ظاهر المكابرة. ونقول: قد ثبت أن هارون عليه السلام كان مفترض الطاعة على أمة موسى عليه السلام، لمكان شركته له في النبوة التي لا يتمكن من دفعها، وثبت أنه لو بقي بعده لكان ما يجب من طاعته على جميع أمة موسى عليه السلام يجب له، لأنه لا يجوز خروجه عن النبوة وهو حي، وإذا وجب ما ذكرناه - وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجب بالخبر لأمير المؤمنين جميع منازل هارون من موسى ونفى أن يكون نبيا، وكان من جملة منازله أنه لو بقي بعده لكان طاعته المفترضة على أمته، وإن كانت تجب لمكان نبوته - وجب أن يكون أمير المؤمنين المفترض الطاعة على سائر الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يكن نبيا، لأن نفي النبوة لا يقتضي نفي ما يجب لمكانها، على ما بيناه. وإنما كان يجب لنفي النبوة نفي فرض الطاعة، لو لم يصح حصول فرض الطاعة إلا للنبي، وإذا جاز أن يحصل لغير النبي كالإمام والأمير، علم انفصاله من النبوة، وأنه ليس من شرائطها وحقائقها التي تثبت بثبوتها وتنتفي بانتفائها. والمثال الذي تقدم يكشف عن صحة قولنا، وأن النبي صلى الله عليه وآله

ص 125

وسلم لو صرح أيضا بما ذكرناه، حتى يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى في فرض الطاعة على أمتي وإن لم تكن شريكي في النبوة وتبليغ الرسالة، لكان كلامه مستقيما بعيدا عن التنافي (1). إيراد الرازي الشبهة على وجه الترديد نعم، قد وقف الفخر الرازي على ما ذكره السيد المرتضى، ولعله لذلك ذكر تلك الشبهة بطريق التشكيك لا على وجه الجزم. قال: قوله: إن هارون لو عاش بعد موسى عليهما السلام، لقام مقامه في كونه مفترض الطاعة. قلنا: يجب على الناس طاعته فيما يؤديه من الله، أو فيما يؤديه عن موسى، أو في تصرفه في إقامة الحدود؟ الأول مسلم، ولكن ذلك نفس كونه نبيا، فلا يمكن ثبوته في حق علي رضي الله عنه. أما الثاني والثالث فممنوع. وتقريره: إن من الجائر أن يكون النبي مؤديا للأحكام عن الله تعالى، ويكون المتولي لتنفيذ تلك الأحكام غيره. ألا ترى أن من مذهب الإمامية أن موسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام على قومه، ولو كان هارون متمكنا من تنفيذ الأحكام قبل ذلك الاستخلاف لم يكن للاستخلاف فائدة. فثبت أن هارون عليه السلام قبل الاستخلاف كان مؤديا للأحكام عن الله تعالى، وإن لم يكن منفذا لها (2).

(هامش)

(1) الشافي في الإمامة 3 / 10 - 11. (2) نهاية العقول - مخطوط. (*)

ص 126

أقول: لم يجب الرازي عن الاحتمال الثاني، وإن أوهم بقوله وتقريره... أن ما ذكره تقرير لمنع كلا الاحتمالين، لكن هذا التقرير لمنع الثالث. ومن الواضح أن لا إشكال في افتراض طاعة هارون فيما يؤديه عن موسى، وهو الاحتمال الثاني، لأن هارون - وإن كان شريكا لموسى في النبوة - فقد كان تابعا لموسى، وكان موسى هو الأصل في النبوة، كما صرح به الرازي نفسه (1) والنيسابوري (2) فأي مانع عن بقائه مؤديا للأحكام عن موسى لو بقي حيا بعده؟ وأما ما ذكره في تقرير منع الاحتمال الثالث، ففي غاية الركة والسخافة، لأنه مع كون هارون أفضل الناس بعد موسى عليهما السلام، فمع فرض وجوده من بعده لا يجوز تولي غيره تنفيذ الأحكام، لعدم جواز رئاسة المفضول مع وجود الأفضل، بخلاف حال حياة موسى، فإن موسى كان أفضل من هارون، فلا قبح في عدم استقلال هارون وانفراده في تنفيذ الأحكام. فبطل احتمال عدم افتراض طاعة هارون في تنفيذ الأحكام لو بقي حيا بعد موسى عليه السلام، وأما في حياة موسى، فإن وجود الأفضل منه - وهو موسى - منع من انفراده في تنفيذ الأحكام. وأما أمير المؤمنين عليه السلام المفترض الطاعة بعد النبي، فلم يكن أفضل منه في الأمة، فلا مانع من انفراده في تنفيذ الأحكام، فكان حاله بعد النبي حال هارون بعد موسى عليهم الصلاة والسلام.

(هامش)

(1) تفسير الرازي 22 / 107. (2) تفسير النيسابوري 4 / 567. (*)

ص 127

حال هارون في حياة موسى حال النبي قبل البعثة

 وتحقيق المقام على وجه يزيل جميع الأوهام هو: أنه لا تنافي بين وجوب الانقياد والإطاعة لهارون، وعدم حصول مرتبة تنفيذ الأحكام على سبيل الإنفراد والاستقلال... لأن حال هارون عليه السلام في تلك الصورة حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان موصوفا بالنبوة ووجوب الطاعة قبل البعثة بل قبل الخلقة، لكن حصول وصف تنفيذ الأحكام له كان موقوفا على خلقه في هذا العالم وحصول بعثته: قال الحافظ السيوطي: قال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه (التعظيم والمنة في *(لتؤمنن به ولتنصرنه)*): في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: بعثت إلى الناس كافة، لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا. ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد... فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية، وإنما يتأخر البعث والتبليغ وكل ما له جهة الله، ومن تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخير فيه، وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله، إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل الكرامة...

ص 128

فعرفنا بالخبر الصحيح، حصول ذلك الكمال من قبل خلق آدم لنبينا صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه، وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت... فالنبي هو نبي الأنبياء. ولهذا أظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم... فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك... فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم، ومتفقة مع شرائعهم في الأصول، لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته فيما يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص وإما على سبيل النسخ... وإنما يختلف الحال بين ما بعد وجود جده صلى الله عليه وسلم وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك، بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه، لا بالنسبة إليه ولا إليهم لو تأهلوا قبل ذلك... (1). وقال الشيخ عبد القادر العيدروس: إعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره الصمدية في حضرته الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على ما اقتضاه كمال خلقته وسبق في إرادته وعلمه، ثم أعلمه تعالى بكماله ونبوته، وبشره بعموم دعوته ورسالته، وبأنه نبي الأنبياء وواسطة جميع الأصفياء وأبوه آدم بين الروح والجسد. ثم انبجست منه عيون الأرواح، فظهر ممدا لها في عوالمها المتقدمة على عالم الأشباح، وكان هو الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس. فهو - وإن تأخر وجود جسمه - متميز على العوالم كلها برفعته وتقدمه، إذ هو خزانة السر الصمداني ومحتد تفرد الإمداد الرحماني. وصح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء،

(هامش)

(1) الخصائص الكبرى 1 / 4 /. (*)

ص 129

ومن جملة ما كتب في الذكر - وهو أم الكتاب - أن محمدا خاتم النبيين. وصح أيضا: إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينه. أي: لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه. وصح أيضا: إنه قيل له: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. ويروى: كتبت. من الكتابة. وخبر: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين. قال بعض الحفاظ: لم نقف عليه بهذا اللفظ. وحسن الترمذي خبر: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. ومعنى وجوب النبوة وكتابتها: ثبوتها وظهورها في الخارج، نحو: *(كتب الله لأغلبن)* *(كتب عليكم الصيام)* والمراد ظهورها للملائكة وروحه صلى الله عليه وسلم في عالم الأرواح، إعلاما بعظيم شرفه وتميزه على بقية الأنبياء. وخص الإظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد، لأنه أوان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد، والتمايز حينئذ أتم وأظهر. فاختص صلى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه حينئذ، ليتميز على غيره تميزا أعظم وأتم. وأجاب الغزالي عن وصفه نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته، وعن خبر: أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا: بأن المراد بالخلق هنا التقدير لا الإيجاد، فإنه قبل أن تحمل به أمه لم يكن مخلوقا موجودا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود، فقوله: كنت نبيا، أي على التقدير قبل تمام خلقة آدم، إذ لم ينشأ إلا لينتزع من ذريته محمد، وتحقيقه أن للدار في ذهن المهندس وجودا ذهنيا سببا للوجود الخارجي وسابقا عليه، فالله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق تقدير بانيها. إنتهى ملخصا. وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين، وهو: إنه جاء: أن الأرواح

ص 130

خلقت قبل الأجساد، فالإشارة بكنت نبيا إلى روحه الشريفة أو حقيقة من حقائقها، ولا يعلمها إلا الله ومن حباه بالاطلاع عليها... (1). وقد ذكر ابن حجر المكي في (الفتاوي الحديثية) كلام السبكي في أدلة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملائكة كذلك. وقال محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي: ويستدل بخبر الشعبي وغيره مما تقدم في الباب السابق: على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نبيا، فإن نبوته وجبت له حين أخذ منه الميثاق، حيث استخرج من صلب آدم، فكان نبيا من حينئذ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك، وذلك لا يمنع كونه نبيا، كمن يولى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل، فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته، وإن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجئ الوقت، والأحاديث السابقة في باب تقدم نبوته صريحة في ذلك (2). أقول: حديث الشعبي هو: ما أخرجه ابن سعد عنه مرسلا: قال رجل: يا رسول الله متى استنبئت؟ قال صلى الله عليه وسلم: وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق (3). وقال نور الدين الحلبي: وفي الوفاء عن ميسرة قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وخلق العرش، كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق

(هامش)

(1) النور السافر عن أخبار القرن العاشر - أول الكتاب. (2) سبل الهدى والرشاد 1 / 83. (3) طبقات ابن سعد 1 / 148. (*)

ص 131

الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي، أي موصوفا بالنبوة أو بما خص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور على الأبواب والأرواق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد، أي قبل أن تدخل الروح جسده، فلما أحياه الله نظر إلى العرش، فرأى اسمي، فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه. أي: فقد وصف صلى الله عليه وسلم بالنبوة قبل وجود آدم... (1). والحاصل: إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان متصفا بالنبوة قبل مجيئه إلى هذا العالم، فحال هارون قبل وفاة موسى - عليهما السلام - كذلك، وكذا حال أمير المؤمنين في حياة رسول الله، صلى الله عليهما وآلهما وسلم. والمراد من الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المختصة بأمير المؤمنين عليه السلام هو تنفيذ الأحكام الشرعية، والتصرف في شئون المسلمين وغيرهم، ومن الواضح أن لا وجه لثبوتها له بهذا المعنى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما إمامته في حياته فهو وجوب انقياد الناس له واتباعه في أوامره ونواهيه، ونفوذ تصرفه نيابة عن النبي، وهذه الإمامة بهذا المعنى ثابتة له في حياته، بل في الزمان السابق عليها، كما يدل عليه (حديث النور) وغيره من الأحاديث الدالة على كونه إماما منذ كون محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا. وبالجملة، لا إشكال في كونه عليه السلام إماما في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن تأخر تصرفه الكلي المستقل عن حياته الكريمة، كما ذكر محمد بن يوسف الصالحي في نفس نبوة نبينا... وعلى ما ذكرنا في معنى الإمامة الثابتة له عليه السلام في حياة النبي، لا

(هامش)

(1) السيرة الحلبية 1 / 298. (*)

ص 132

يرد إشكال امتناع اجتماع النبوة للنبي والإمامة للإمام عليه السلام في زمن واحد. فمن الغرائب قول (الدهلوي) في الباب الحادي عشر من كتابه: النوع التاسع أخذ القوة مكان الفعل، كقولهم: إن الأمير كان إماما في حضور النبي، لقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فلو لم يكن بعده إماما لزم عزله، وعزل الإمام غير جائز. والحال أنه في حضور النبي لم يكن إماما بالفعل بل بالقوة، وعزل الإمام بالقوة، بمعنى عدم نصب جائز، لوجود الأرجح منه (1). وهو كلام واضح البطلان جدا، لأن ثبوت الإمامة بالقوة من حديث المنزلة لأمير المؤمنين عليه السلام يكفي لثبوت مرام الإمامية، لأنه حينئذ يكون نصا على إمامته، فيتعين عليه السلام لها، وتكون الخلافة حقه، ولا حق لمن لا نص عليه أصلا... وهذه الإمامة نظير نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قبل وجوده الظاهري وبعثته إلى الناس... وكما لا يجوز تقدم أحد عليه في النبوة بعد وجوده في هذا العالم، كذلك لا يجوز تقدم أحد على الإمام عليه السلام في الإمامة... ثم إن في كلامه المذكور تجويز عزل الوصي بالحق، وهو يناقض ما نص عليه - في بحث حديث المنزلة وقد تقدم كلامه - من أن العزل يوجب الإهانة حيث قال: وانقطاع هذا الاستخلاف ليس بعزل حتى يكون إهانة . وأيضا، يرده قول ابن القيم - المذكور سابقا - بأن العزل يدل على النقص. وما زعمه من وجود الأرجح من أمير المؤمنين عليه السلام، مندفع بالأدلة الكثيرة، وباعتراف (الدهلوي) نفسه وغيره بعدم النص على الخلفاء الثلاثة... والمفروض دلالة حديث المنزلة على النص عليه باعترافه كذلك.

(هامش)

(1) التحفة الإثنا عشرية: 350. (*)

ص 133

من تناقضات الرازي

 وما ذكره الرازي: أن من مذهب الإمامية أن موسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام على قومه، ولو كان هارون متمكنا من تنفيذ الأحكام قبل ذلك الاستخلاف لم يكن للاستخلاف فائدة، فثبت أن هارون عليه السلام قبل الاستخلاف كان مؤديا للأحكام عن الله تعالى وإن لم يكن منفذا لها فيرده: أولا: إن استخلاف هارون لم يكن من مذهب الإمامية فحسب، بل هو مذهب أساطين أهل السنة كما عرفت، وبه قال الرازي نفسه في تفسيره، فنسبة ذلك إلى الإمامية هنا تناقض ظاهر. وثانيا: إن هذا الكلام مبطل لكلامه السابق حيث قال إن سلمنا دلالة الحديث على العموم، ولكن لا نسلم أن من منازل هارون كونه قائما مقام موسى عليه السلام لو عاش بعد وفاته. قوله: إنه كان خليفة له حال حياته فوجب بقاء تلك الحالة بعد موته. قلنا: لا نسلم كونه خليفة له. أما قوله تعالى: *(اخلفني في قومي)* قلنا: لم لا يجوز أن يقال إن ذلك كان على طريق الاستظهار كما قال *(وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)* لأن هارون كان شريك موسى في النبوة، فلو لم يستخلفه موسى كان هو لا محالة يقوم بأمر الأمة، وهذا لا يكون استخلافا على التحقيق، لأن قيامه بذلك إنما كان لكونه نبيا . لأنه صريح في عدم ترتب فائدة على الاستخلاف، وكلامه هنا يفيد لزوم ترتب فائدة عليه، وأنه لا يكفي النبوة لنفوذ الأحكام والأوامر، بل لا بد من الاستخلاف. لكنك عرفت أن إنكار الاستخلاف - مع الاعتراف بحصول افتراض الطاعة لهارون بغير الاستخلاف - لا يضر باستدلال الإمامية، فإن مقصودهم

ص 134

حاصل في هذه الصورة أيضا. وأيضا، قال الرازي بعد عبارته السابقة: وأيضا: من مذهبهم أن يوشع بن نون كان نبيا بعد موسى عليه السلام، مؤديا عن الله تعالى، ولم يكن خليفة لموسى عليه السلام في معنى الإمامة، لأن الخلافة في ولد هارون عليه السلام. وأيضا: فداود كان مبينا للأحكام والمتولي لتنفيذها طالوت. فإذا جاز ذلك لم يلزم من تقدير بقاء هارون عليه السلام بعد موسى عليه السلام كونه متوليا لتنفيذ الأحكام، وإذا لم يجب ذلك لم يجب كون علي - رضي الله عنه - أيضا كذلك . ولا يخفى ما فيه... فإن نفي الإمامية خلافة يوشع عن موسى غير ثابت، بل الأحاديث الواردة من طرق الشيعة والسنة تدل على وصايته. نعم ظاهر كلام الشهرستاني أن وصايته كانت مستودعة حتى يبلغها إلى شبر وشبير - ولدي هارون عليه السلام - وهذا لا ينفي الخلافة عنه، بل يثبتها لكن بطريق الاستيداع، ولا شائبة فيه... وأما أن داود كان مبينا للأحكام والمتولي لتنفيذها طالوت فالجواب عنه: أن تولي طالوت ذلك كان باستخلاف من شموئيل عليه السلام، ولا ضير في استخلاف النبي غير النبي في تنفيذ الأحكام، قال ولي الله الدهلوي في (إزالة الخفا): لو أقام معصوم مفترض الطاعة ملكا بأمر السلطنة صحت سلطنته، وكان هو الإمام والملك خليفة له، كما فعل شموئيل حيث استخلف طالوت، فكان النبي وطالوت الملك . فاندفعت شبهات الرازي. وتلخص: إنه لو بقي هارون بعد موسى كان هو المنفذ للأحكام، وأنه لم

ص 135

يقم بذلك غيره إلا على وجه النيابة عنه، ولا ضير فيه. فكذلك أمير المؤمنين عليه السلام النازل منزلة هارون... وليتأمل العاقل اليلمعي في تهافتات الرازي وتناقضاته... كيف ينكر تارة ترتب الفائدة على استخلاف هارون، وأخرى يوجب ترتبها وإلا فلا استخلاف؟ لكن مقصود الإمامية هو دلالة استخلاف هارون عليه السلام على ثبوت ثمرة الخلافة له، وسواء كانت هذه الثمرة حاصلة له قبل الاستخلاف، وكان الاستخلاف مؤكدا، أو كانت حاصلة من حين الاستخلاف.. فإن استدلال الإمامية تام بلا كلام... بل إن ثبوتها له من قبل أنفع وأبلغ للاستدلال، فلا ترد شبهة انقطاع الخلافة أبدا. وأيضا، قد عرفت المشابهة بين حال هارون قبل استخلاف موسى إياه، وبين حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته بالرسالة، فالفائدة المترتبة على بعثته بعد الأربعين - مع ثبوت نبوته قبل خلقه - مترتبة على استخلاف هارون، مع ثبوت افتراض طاعته قبله. وأيضا، فإن نفس الاستخلاف شرف عظيم وفضل جليل... كما عرفت سابقا... ثم قال الرازي: ثم إن سلمنا أن هارون لو عاش بعد موسى عليهما السلام، لكان منفذا للأحكام. ولكن لا شك في أنه ما باشر تنفيذ الأحكام... إلى آخر ما سبق. وحاصل هذا الكلام: دلالة وفاة هارون قبل موسى على سلب الخلافة عن أمير المؤمنين عليه السلام... وقد عرفت جوابه بوجوه عديدة وطرق سديدة. فدعوى الرازي التعارض والتساقط ساقطة عن الاعتبار.

ص 136

وأما قوله: وعندهم عن ذلك أن هارون عليه السلام إنما لم يباشر عمل الإمامة لأنه مات قبل موسى عليه السلام، وأما علي - رضي الله عنه - فإنه لم يمت قبل النبي عليه السلام، فظهر الفرق. فجوابنا عنه: أن نقول... إلى آخر ما سبق. فالغرض منه الرد على كلام السيد المرتضى علم الهدى في (الشافي)، والحال أن كلامه في غاية القوة والمتانة، وإيراده بالاختصار والإجمال ليتيسر نقضه، بعيد عن دأب أهل العلم والفضل... هذا مضافا إلى الوجه الآخر الذي ذكره السيد بقوله: لأن هارون وإن لم يكن خليفة.. فإن السيد رحمه الله عارض القاضي عبد الجبار بقوله: ولو كان ما ذكره صحيحا لوجب... وكان على الرازي أن يجيب عن هذا الوجه الجواب الشاف لو أمكنه لا أن يورده ملخصا على وجه غير مرضي، فيجيب عنه بزعمه جوابا لا يغني... ونقول للرازي: إنه إنما يلزم انتفاء المسبب من انتفاء السبب، لو كان السبب واحدا لا متعددا، ومع تعدده فإنه غير لازم كما بينا آنفا... ومن هنا لم يدع الرازي - جازما - انتفاء المسبب بانتفاء السبب، وإنما قال مرددا: إما أن يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب أو لا يلزم... فعبارته تدل بوضوح على عدم جزمه بالانتفاء، لكن المقلدين له تجاسروا على الدعوى، وزعموا أن انتفاء النبوة يستلزم انتفاء فرض الطاعة. وأما قوله في فرض عدم لزوم انتفاء المسبب من انتفاء السبب: عدم إمامة هارون عليه السلام إنما كان لموته قبل موسى عليه السلام، فوجب أن لا يلزم من عدم موت علي - رضي الله عنه - قبل رسول الله عليه السلام أن لا يحصل له المسبب وهو نفي الخلافة فغريب جدا.

ص 137

وذلك للبون الشاسع بين تمسك الإمامية بقضية عدم انتفاء المسبب بانتفاء السبب، وبين تمسك الرازي بها، ولا أظن خفاء ذلك الفرق على أدنى المحصلين، فضلا عن إمام المناظرين في العلوم العقلية والنقلية؟! لكن التعصب واللجاج يغلب على الفهم ويعمي العين... وبالجملة، إن تمسك الإمامية بتلك القضية هو في مقام رد استدلال أهل السنة، ومن الواضح كفاية الاحتمال لإبطال الاستدلال، وتمسك الرازي بها هو في مقام الاستدلال، ولا يكفي للمستدل مجرد الاحتمال. وبيان كيفية استدلال الإمامية هو: أنهم يستدلون بحديث المنزلة - بعد إثبات عموم المنزلة - قائلين بأن من منازل هارون كونه مفترض الطاعة، فيجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة كذلك... فهذا منهم استدلال وهم في مقام الإدعاء. من قواعد فن المناظرة فإن قال قائل من أهل السنة في الجواب: بأن افتراض الطاعة كان مسببا عن النبوة، وحيث هي منتفية عن أمير المؤمنين عليه السلام، فافتراض الطاعة منتف كذلك، لانتفاء المسبب بانتفاء سببه فقد خالف الأدلة المتفق عليها، ثم إنه يكون المدعي وعليه إثبات أنه إذا انتفت النبوة انتفى وجوب الطاعة، وهذا أول الكلام، وللإمامية منعه مع قولهم بافتراض الطاعة، وحينئذ يكفي للمنع مجرد إبداء احتمال عدم الانتفاء، وعلى أهل السنة إثبات الملازمة، حتى تقع المعارضة ويكون التساقط. هذا واقع المطلب، وهو ما يقتضيه قواعد المناظرة... وإن كنت في شك مما ذكرناه، فلنورد كلام بعض المحققين في فن المناظرة:

ص 138

قال الشيخ عبد الرشيد الجونفوري في (شرح الرسالة الرشيدية): فإذا أقام المدعي الدليل ويسمى حينئذ معللا تمنع مقدمة معينة منه مع السند، كما إذا منع الحكيم كبرى دليل المتكلم بأن يقول لا نسلم أن كل متغير حادث، مستندا بأنه لم لا يجوز أن يكون بعض المتغير قديما، أو مجردا عنه، أي عاريا عن السند، فيجاب بإبطال السند إذا مع مع السند بعد إثبات التساوي، أي بعد بيان كون السند مساويا لعدم المقدمة الممنوعة، بأن يكون كلما صدق السند صدق عدم المقدمة الممنوعة وبالعكس، ليفيد إبطاله بطلان المنع، كأن يثبت المتكلم كون قوله يجوز أن يكون بعض المتغير قديما مساويا لعدم كون كل متغير حادثا، ثم يبطل بالدليل ذلك الجواز أو يجاب بإثبات المقدمة الممنوعة، أعم من أن لم يكن المانع مستندا بشيء، أو يكون مستندا بالسند المساوي أو غيره، مع التعرض بما تمسك به، إن كان متمسكا بشيء، والتعرض مستحسن وليس بواجب... وينقض الدليل إذا كان قابلا للنقض بأحد الوجهين المذكورين من التخلف ولزوم المحال... ويعارض إن كان قابلا للمعارضة بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة، من المعارضة بالقلب أو المعارضة بالمثل أو المعارضة بالغير كما مر. فيجاب في صورتي النقض والمعارضة بالمنع إذا كان قابلا له، أو النقض إن كان صالحا له، أو المعارضة إن كان قابلا لها، لأن المعلل الأول بعد النقض والمعارضة يصير سائلا، فيكون له ثلاث مناصب كما كانت للسائل الأول، وقد يورد الأسؤلة الثلاثة على كل واحد منهما، فكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع . قال: والمعارضة إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم، والمراد بالخلاف ما ينافي مدعى الخصم، سواء كان نقيضه أو مساوي نقيضه أو أخص منه، لا ما يغايره مطلقا، كما يشعر به لفظ الخصم، لأنه إنما يتحقق

ص 139

المخاصمة لو كان مدلول دليل أحدهما ينافي مدلول دليل الآخر، فإن اتحد دليلاهما بأن اتحدا في المادة والصورة جميعا، كما في المغالطات العامة الورود أو صورتهما فقط، بأن اتحدا في الصورة فقط، بأن يكونا على الضرب الأول من الشكل الأول مثلا مع اختلافهما في المادة، فمعارضة بالقلب، إن اتحد دليلاهما، ومعارضة بالمثل إن اتحد صورتهما، وإلا أي وإن لم يتحدا لا صورة ولا مادة فمعارضة بالغير . وبالجملة، فإن المعارضة إقامة الدليل، فالمعارض مستدل على خلاف ما أقام الخصم الدليل عليه، فيكفي لدفع المعارضة مجرد إبداء الاحتمال، لأنه إذا جاز الاحتمال بطل الاستدلال. لكن الرازي - بتمسكه بعدم مباشرة هارون عليه السلام تنفيذ الأحكام، بسبب موته قبل موسى عليه السلام - يستدل على عدم إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، والاستدلال دليل الدعوى، فالرازي مدع، ومن هنا يجعل دليله معارضا لدليل الإمامية ويقول إذا تعارضا تساقطا . فهذه دعواه، وذاك دليله. فإن قال الإمامية بأنه لا يلزم من عدم إمامة هارون - بسبب موته قبل موسى - عدم إمامة أمير المؤمنين، لعدم حصول سبب النفي وهو موته في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان الإمامية في مقام المنع لا الاستدلال، وللمانع يكفي مجرد الاحتمال. أما أهل السنة، فلكونهم في مقام الاستدلال، فلا يكفي لهم احتمال أن يقوم سبب آخر - لنفي إمامة الأمير - مقام الموت في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى أساس ما ذكرناه نقول بأن مجرد عدم موت أمير المؤمنين عليه

ص 140

السلام كاف لعدم انتفاء الخلافة عنه، ومن الواضح عدم تحقق سبب آخر موجب لانتفائها، فالخلافة ثابتة لسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، فالتقرير المذكور من الرازي لا يفي بغرضه، حتى لو لم يكن في مقام الاستدلال، لأن تقرير إثبات افتراض الطاعة هو بعد إثبات عموم المنازل الثابت بحديث المنزلة، فيكون افتراض طاعته في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثابتا، كافتراض طاعة هارون في حياة موسى عليهما السلام، أما عدم حصول افتراض الطاعة لهارون بعد موسى فهو لأجل موته قبله، وهذا السبب في حق الأمير منتف، واحتمال سنوح سبب آخر يمنع افتراض طاعته بعد النبي باطل، لأنه بعد ثبوت فرض طاعته في حياة النبي يثبت فرضها بعده بالإجماع المركب، وهذا الإجماع دليل قاطع على عدم حصول سبب آخر يوجب نفي خلافته ويقوم مقام الموت في السببية لنفيها. وأيضا، إفتراض طاعة هارون كان على جميع أمة موسى على العموم والشمول، فكذلك افتراض طاعة أمير المؤمنين، فهو على جميع أمة نبينا على العموم والشمول، فيكون أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن تجب عليهم طاعته في حياة النبي، ولا يجوز عقل عاقل زوال هذا الفرض بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فضلا عن انقلابه، بأن تكون طاعة كل واحد منهم على الترتيب واجبة على أمير المؤمنين عليه السلام... وهذا وجه آخر لعدم حصول سبب آخر - غير الموت - لنفي خلافة الأمير عليه السلام. وأيضا، لما ثبت فرض طاعته، كان هذا الحكم مستصحبا حتى مجئ الرافع اليقيني، وليس في البين رافع يقيني بل ولا ظني، ومن ادعاه فهو مكابر. وفي (عماد الإسلام) في جواب هذا القول: ويرد عليه: أنا لا نمنع هذا التجويز في نفسه، نظرا إلى إمكان أن يكون

ص 141

لعدم الخلافة أسباب أخر غير الموت، لكنا نمنع نظرا إلى أن من قال السلطان في حقه أنه ابني بمنزلة زيد ابني، وأنه أميري ومن أركان دولتي بمنزلة زيد أميري، وأنه ولي عهدي كما كان الرضا عليه السلام ولي عهد المأمون، وهارون ولي عهد موسى عليه السلام، ونحو ذلك، وفرضنا في كل من تلك الصور أن المشبه به والمنزل عليه فات وحله الموت، وبقي الذي أثبت له تلك المناصب، لم يخطر ببال أحد من العقلاء وأهل الديانة أن يجوز فوت تلك المناصب المنصوص عليها لشخص مخصوص مع كونه حيا موجودا، بسبب حلول الموت في من شبهه السلطان بهم، وفوت المناصب عنهم، ألا ترى أن من يكون له مال في يد أحد من وكلائه وكتب ذلك المالك إليه أن أعط زيدا الصديق لي ألف دينار من مالي، وأحسن إلى عمرو بتلك المنزلة، فإنه أيضا صديق لي بمنزلة زيد، وفرضنا أنه قبل أن يصل كتابه إلى وكيله مات زيد، لم يحكم أحد من العلماء والعقلاء أن فوت ذلك الإعطاء بالنسبة إلى زيد بسبب موته، أوجب فوت الإعطاء بالنسبة إلى عمرو الذي هو موجود حي، وهذا كله ظاهر لا يخفى . وأما قول الرازي - لإثبات دخول نفي الخلافة في عموم المنزلة -: لأنا نقول: أما الأول فجوابه: أن معنى قوله: أنت مني... . فنقول: أولا: لا يخفى أن هذا الكلام مبطل لكل ما ذكره الرازي من قبل في رد عموم المنازل، لأنه إذا كان معنى الحديث - كما قال -: إن حالك معي أو عندي كحال هارون من موسى، وهذا القول يدخل تحته أحوال هارون نفيا وإثباتا كان الحديث دالا على عموم يزيد على العموم المطلوب للإمامية، لأنهم يقولون بعموم الأحوال إثباتا، والرازي يثبت العموم بالنسبة إلى أحواله نفيا أيضا. وثانيا: قد عرفت سابقا - حسب كلمات المحققين من علماء الحديث -

ص 142

أن لفظ المنزلة لا يتناول نفي الخلافة التي معناها - كما نصوا - مراتب القرب والاتصال، فلا يدخل نفي الفضل والكمال تحت الحديث أبدا. وثالثا: إنه يبطل إدخال الأحوال المنفية بما ذكره الرازي نفسه من حمل الحديث على السبب، ولزوم التوقف فيما عدا ذلك. ورابعا: إنه باطل بكلمات (الدهلوي) ووالده، وبتحقيقات تلميذه الرشيد والكابلي... وغيرهم... وقد تقدمت نصوص تلك الكلمات. وخامسا: إن مدلول لفظ المنزلة لا يدخل فيه النفي كما عرفت من نصوص كبار علماء اللغة. وسادسا: لو سلمنا شمول مدلول لفظ المنزلة للأحوال المنفية، لكن المتبادر من الحديث إثبات الفضائل والمناقب، فلا يتناول نفي الخلافة، ويشهد بما ذكرنا: أن علماء أهل السنة - قديما وحديثا - يصرحون بأن هذا الحديث إنما صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تسلية لأمير المؤمنين عليه السلام، ودفعا لطعن المنافقين والمرجفين، فلو كان مدلوله نفي الخلافة والإمامة لم يكن لإيراده في مقام التسلية وجه، بل يكون حينئذ تأييدا لإرجاف المرجفين وطعن المنافقين! هذا، وكأن الرازي إلتفت إلى سخافة ما ذكره وما يترتب عليه من الفساد فقال: إن إفادة الكلام لهذا النفي لا يمنع من دلالته على الفضل ثم قرر ذلك بكلام ظاهر الاختلال غير مرتبط بالبحث... لأن عدم استقباح الكلام الذي ذكره عن الإمام الثاني إنما هو لطلب الإنسان الآخر منه تولية بلدة أخرى. وليس فيما نحن فيه عن أمير المؤمنين عليه السلام طلب ولاية، حتى يقاس أحدهما على الآخر، وكل ما فيه - كما يظهر من روايات أئمة أهل السنة - أن المنافقين زعموا أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما خلفه عليه السلام استثقالا

ص 143

وتخففا منه، فخرج عليه السلام حتى لحق به فأخبره بما قالوا، فقال: كذبوا... فهل يعقل أن يخبره في هذه الحالة بنفي الخلافة التي هي أعظم المنازل وأجل الفضائل؟! وبالجملة، في المثال الذي ذكره يوجد طلب واقتراح من الإنسان الآخر، ولا يوجد طعن عليه من أحد، فلم يقبح من الإمام الثاني عدم توليته البلدة الأخرى... فالمثال لا علاقة له بما نحن فيه. ولو فرضنا أن الإنسان الآخر لم يطلب من الإمام الثاني تولية بلدة أخرى، بل طعن أعداؤه فيه بسبب توليته البلدة المعينة فقط، وقالوا: بأن الإمام الثاني إنما ولاه أمارة تلك البلدة لأجل إبعاده وطرده عن مركز الخلافة والإمامة، لشدة كراهيته له... فتألم هذا الإنسان مما قالوا في حقه وانكسر خاطره، حتى حضر عند الإمام الثاني فأبلغه مقالتهم... ففي هذه الحالة لو قال الإمام الثاني: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة من تولى هذه البلدة في حال حياة الإمام الأول ولم يكن خليفة عنه من بعده، فلا تنال ولاية هذه البلدة وغيرها من البلاد من بعدي؟! كان هذا الكلام مستقبحا مستنكرا جدا، لا يسليه ولا يطيب خاطره أصلا، بل كان بالعكس مؤيدا ومؤكدا لما قاله الأعداء فيه... لا سيما وأنه إذا كان هذا الإنسان الآخر من أخص خواص هذا الإمام الثاني، وكان متصفا من أول يوم بعوالي الفضائل السامية، وجلائل المناقب الراقية، باذلا في امتثال أوامره ونواهيه من مهجته، مدافعا عنه في جميع المواقف أعدائه... وكان الإمام الثاني مشيدا دائما بخدمات هذا الإنسان الآخر - وهو صهره وابن عمه أيضا - معلنا مكارمه ومناقبه حتى نزله منزلة نفسه،...

ص 144

*(2)* إمامة هارون ووصايته

 1 - من التواريخ

 لقد فوض موسى إلى هارون - عليهما السلام - الإمامة والخلافة المطلقة الدائمة من بعده، وكذا جميع الأعمال الموقوفة على الإمامة، وفرض على بني إسرائيل جميعهم طاعته، وحرم عليهم مخالفته ومخالفة أولاده... وهذا ما رواه وأكد عليه المؤرخون وأرباب السير: قال المؤرخ ميرخواند شاه: ... إن موسى فوض الإمامة والخلافة إلى هارون، وقرر بقاء ذلك بحسب الوصاية في نسله وذريته بطنا بعد بطن، وأشهد على ذلك جميع بني إسرائيل، وحرم عليهم مخالفته ومخالفة أولاده، وأباح قتل المخالفين لهم (1). كتاب روضة الصفا واعتباره وذكر كاشف الظنون كتاب (روضة الصفا) بقوله: روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفا. فارسي، لميرخواند المؤرخ محمد بن خاوند شاه بن محمود، المتوفى سنة 903. ذكر في ديباجته: إن جمعا من إخوانه التمسوا تأليف كتاب منقح محتو على معظم وقائع الأنبياء والملوك والخلفاء، ثم دخل صحبة الوزير مير علي شير وأشار إليه أيضا، فباشره مشتملا على مقدمة وسبعة

(هامش)

(1) روضة الصفا - في أخبار موسى وهارون -. (*)

ص 145

أقسام وخاتمة... (1). واعتمد العلماء والمؤلفون على كتاب (روضة الصفا) ومنهم (الدهلوي) نفسه وأضاف بأن وصفه بكونه من التواريخ المعتبرة (2) فيكون النص الذي ذكرناه حجة معتبرة على (الدهلوي) وغيره. وقال بدر الدين العيني: إعلم أن التوراة أنزلت على اليهود على يد موسى بن عمران عليه السلام، لقوله تعالى: *(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى)* الآية. وهو أول كتاب نزل من السماء، لأن الذي نزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء - عليهم السلام - ما كان يسمى كتابا، بل صحفا... قالوا: وكان موسى عليه السلام قد أفضى أسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون وصيه من بعده، ليفضي إلى أولاد هارون، لأن الأمر كان مشتركا بينه وبين أخيه هارون عليه السلام، إذ قال: *(وأشركه في أمري)* وهو كان الوصي، فلما مات هارون في حال حياة موسى عليه السلام انتقلت الوصاية إلى يوشع بن نون، وكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان (3). العيني وتاريخه والعيني من أعيان علماء القوم، كما في كلماتهم في حقه: قال شمس الدين السخاوي: محمود بن أحمد، القاضي الحنفي، أحد الأعيان، ويعرف بابن العيني. اشتغل بالعلوم من سائر الفنون على العلماء والكبار، وكان إماما عالما علامة عارفا بالتصريف والعربية وغيرهما، حافظا للتاريخ واللغة، كثير

(هامش)

(1) كشف الظنون 1 / 926. (2) التحفة الاثنا عشرية: 264. (3) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، فصل في تحريف أهل الكتاب - مخطوط. (*)

ص 146

الاستعمال لها، مشاركا في الفنون، لا يمل من المطالعة والكتابة، كتب بخطه جملة وصنف الكثير، وكان نادرة بحيث لا أعلم بعد شيخنا أكثر تصانيف منه، وقلمه أجود من تقريره، وكتابته طريفة حسنة مع السرعة. وحدث وأفتى ودرس، مع لطف العشرة والتواضع، واشتهر اسمه وبعد صيته، وأخذ عنه الفضلاء من كل مذهب، وممن وسمع عليه من القدماء الكمال الشمني، وعلق شيخنا من فوائده بل سمع عليه. وذكره العلاء ابن خطيب الناصرية في تاريخه فقال: وهو إمام عالم فاضل مشارك في علوم، وعنده حشمة ومروة وعصبية وديانة. وقد قرأت عليه الأربعين التي انتقاها شيخي رحمه الله تعالى من صحيح مسلم، في خامس صفر سنة 51، وعرضت عليه قبل ذلك محافيظي، وسمعت عدة من دروسه (1). وقال السيوطي: العيني، قاضي القضاة بدر الدين، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود. ولد في رمضان سنة 762 وتفقه واشتغل بالفنون، وبرع ومهر، ودخل القاهرة، وولي الحسبة مرارا، وقضاء الحنفية. وله تصانيف... مات في ذي الحجة سنة 855 (2). قال: وكان إماما عالما علامة (3). وقال الأزنيقي: ومن التواريخ: تاريخ قاضي القضاة العيني... وكان إماما عالما علامة بالعربية والتصريف وغيرهما... (4). وقال أبو الفتح الشهرستاني: اليهود خاصة هاد الرجل إذا رجع وتاب،

(هامش)

(1) الذيل الطاهر. وانظر: الضوء اللامع 10 / 131. (2) حسن المحاضرة 1 / 473. (3) بغية الوعاة 2 / 275. (4) مدينة العلوم.. في ذكر علم التواريخ (*)

ص 147

وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليه السلام *(إنا هدنا إليك)* أي: رجعنا وتضرعنا، وهم أمة موسى عليه السلام، وكتابهم التوراة، وهو أول كتاب نزل من السماء، أعني أن ما كان ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء - عليهم السلام - ما كان يسمى كتابا بل صحفا، وقد ورد في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده. فأثبت لها اختصاصا آخر سوى سائر الكتب. وقد اشتمل ذلك على أسفار... وأنزل على الألواح... قالوا: وكان موسى - عليه السلام - قد أفضى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون وصيه من بعده، ليفضي إلى أولاد هارون، لأن الأمر كان مشتركا بينه وبين أخيه هارون - عليهما السلام - إذ قال: *(وأشركه في أمري)* وكان هو الوصي، فلما مات هارون في حياته انتقلت الوصاية إلى يوشع بن نون وديعة ليوصلها إلى شبر وشبير ابني هارون قرارا، وذلك أن الوصية والإمامة بعضها مستقر وبعضها مستودع، واليهود تدعي أن الشريعة لا تكون إلا واحدة، وهي ابتدأت بموسى عليه السلام وتمت به، فلم يكن قبله شريعة إلا حدود عقلية وأحكام مصلحية، ولم يجيزوا النسخ أصلا (1). الثناء على الشهرستاني والثناء على أبي الفتح الشهرستاني في كلمات المترجمين له كثير، لا بأس بذكر طرف منه في هذا المقام: قال ابن خلكان: أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم بن أبي بكر

(هامش)

(1) الملل والنحل 1 / 210 - 211. (*)

ص 148

أحمد الشهرستاني، المتكلم على مذهب الأشعري. كان إماما مبرزا فقيها متكلما، تفقه على أحمد الخوافي - المقدم ذكره - وعلى أبي نصر القشيري، وغيرهما. وبرع في الفقه، وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري، وتفرد فيه، وصنف كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام، والملل والنحل، والمناهج، وكتاب المصارعة... توفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وقيل سنة تسع وأربعين. والأول أصح (1). وقال اليافعي: كان إماما مبرزا، فقيها، متكلما (2). وقال الأسنوي: قال ابن خلكان: كان إماما مبرزا فقيها متكلما، واعظا، تفقه على الخوافي تلميذ إمام الحرمين، وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما، وبرع في الفقه، فقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري، وتفرد فيه في عصره، صنف كتبا كثيرة مشهورة... (3). وقال أبو الفداء: كان إماما في علم الكلام والفقه، وله عدة مصنفات... (4). وقال الأزنيقي: وممن أورد فرق المذاهب في العالم كلها محمد الشهرستاني في كتاب الملل والنحل... كان إماما مبرزا فقيها متكلما... (5). وقال كاشف الظنون بعد ذكر الملل والنحل لابن حزم: قال التاج السبكي في الطبقات: كتابه هذا من أشهر الكتب، وما برح المحققون ينهون عن النظر فيه، لما فيه من الإزراء بأهل السنة، وقد أفرط فيه في التعصب على أبي الحسن الأشعري، حتى صرح بنسبته إلى البدعة. وأما أبو الفتح الإمام محمد بن

(هامش)

(1) وفيات الأعيان 4 / 273. (2) مرآة الجنان 3 / 289. (3) طبقات الشافعية 2 / 106. (4) المختصر في أحوال البشر 3 / 27. (5) مدينة العلوم - في كتب الفرق. (*)

ص 149

عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 فقد قال فيه: هو عندي خير كتاب صنف في هذا الباب، ومصنف ابن حزم - وإن كان أبسط منه إلا أنه مبدد ليس له نظام (1). فوائد في كلام الشهرستاني كانت العبارات المنقولة عن الكتب المذكورة صريحة في إمامة هارون ووصايته عن موسى، وأنه قد أفضى موسى علم التوراة والألواح وأسرارها إلى هارون، فكذلك أمير المؤمنين عليه السلام المنزل منزلة هارون يكون هو الإمام والوصي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعارف بأسرار الكتاب الإلهي دون غيره، وأن هذه المنازل مختصة به وبأولاده. لكن في عبارة الشهرستاني فوائد: 1 - إن موسى عليه السلام أفضى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع ليفضي إلى أولاد هارون، فيظهر أن إفضاء الأسرار كان أمرا مقصودا لموسى، وأن هارون هو الذي كان يختص بتلك الأسرار، ولأجل ذلك اختص أولاده بها. 2 - وأن السبب في الاختصاص المذكور اشتراك هارون مع موسى في أمر الرسالة والهداية كما قال: *(وأشركه في أمري)*. 3 - وأن هارون كان هو الوصي لموسى، ومن الواضح لدى كل مسلم أن وصاية النبي المعصوم لا تقبل الزوال والانقطاع. 4 - لكنه لما مات في حياة موسى انتقلت الوصاية إلى يوشع وديعة، وأما الوصاية الأصلية فكانت لهارون.

(هامش)

(1) كشف الظنون: 57، 291. (*)

ص 150

5 - وأن وصاية يوشع إنما كانت لأجل إيصالها إلى ابني هارون، فهذا وجه آخر لكون الوصاية الأصلية لهارون. 6 - وأن الوصاية والإمامة تنقسم إلى مستودع ومستقر، وكانت وصاية أولاد هارون وإمامتهم مستقرة. وعلى ضوء هذه الأمور نقول: إن الوصاية والإمامة العامة ثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام، بمقتضى عموم المنزلة، ولا أقل من حمل التشبيه على الأوصاف الظاهرة المشهورة، كما ظهر من إفادة ولي الله الدهلوي... أما (الدهلوي) نفسه فيرى ضرورة الحمل على المشابهة الكاملة. وأيضا، إن ثبوت افتراض طاعة شبر وشبير، وثبوت إمامتهما ووصايتهما، يقتضي أن يكون الحسنان - عليهما السلام - مثلهما في جميع ذلك، وهو مقتضي تسميتهما باسم ابني هارون، كما في الحديث وستعرفه... وإذا ثبت ذلك لهما ثبت لوالدهما الإمامة العامة بلا فصل، بالإجماع المركب. ولا يتوهم: أن المراد من قالوا في عبارة الشهرستاني وغيره هم اليهود، فلا يتم الاستدلال. لأن المراد قطعا علماء الإسلام، لوجود الاستدلال في الكلام بالقرآن الكريم، وأيضا قوله بعد ذلك: واليهود تدعي... يشهد بأن فاعل قالوا ليس اليهود. وأيضا سكوت الشهرستاني وغيره عن مقول قالوا وعدم ردهم عليه دليل على قبولهم له، فلو فرض كون القائل هم اليهود لم يسقط الاستدلال بالمقول. وكما سكت الشهرستاني والعيني عما قالوا وسكوتهم دليل القبول، فإن بعض علماء أهل السنة نقلوا الكلام من دون نسبة إلى قائل، مما يدل على القبول

ص 151

له والإذعان به أيضا... ومنهم عبد الوهاب الروداوري في (نقاوة الملل وطراوة النحل) ومصطفى بن خالقداد الهاشمي العباسي في (توضيح الملل).

 2 - من التوراة

 وإمامة هارون وأولاده صريح التوراة في مقامات كثيرة: ففي الفصل الأول من السفر الرابع: فكلم الله موسى قائلا: قدم لسبط ليوي، فقفهم بين يدي هارون الإمام، فيخدموه ويحفظوا محفظه ومحفظ الجماعة بين يدي خباء المحضر، ويخدموا خدمة المسكن، ويحفظوا جميع آنية خباء المحضر، ومحفظ بني إسرائيل، ويخدموا خدمة المسكن، وادفع الليوانيين إلى هارون وبنيه مسلمون معطون هم له من بني إسرائيل، ووكل هارون وبنيه على أن يحفظوا إمامتهم، وأي أجنبي تقدم إليها فليقتل . أقول: وكذلك أمير المؤمنين وأولاده - عليهم السلام - بحكم حديث المنزلة، وأن أي أجنبي عن الإمامة تقدم إليها فليقتل... وفي السفر الرابع: الفصل الثامن عشر: فقال الله لهارون: أنت وابناك وآل أبيك معك تحملون وزر المقدس، وأنت وابناك معك يحملان وزر إمامتكم، وأيضا إخوتك سبط ليوي سبط أبيك، قدمه إلينا فينضافوا إليك ويخدموك، وأنت وابناك معك فقط بين يدي خباء الشهادة، ويحفظوا محفظك ومحفظ كل المضرب، لكن لا يتقدموا إلى آلة القدس والمذبح لئلا يموتوا هم وأنتم والمنضافون إليك يحفظون

ص 152

حفظ خباء المحضر وجميع خدمته، وأجنبي لا يتقدم إليكم، وليحفظوا حفظ المقدس وحفظ المذبح، ولا يكون زيادة سخط على بني إسرائيل، فإني إنما أخذت إخوتكم الليوانيين من بين بني إسرائيل، وجعلتهم هبة لكم لله، ليخدموا خدمة خباء المحضر، وأنت وبنوك معك تحفظون إمامتكم لجميع أمور المذبح وداخل السجف فتخدمونه، فقد جعلت إمامتكم خدمة موهونة، وأي أجنبي تقدم إليها فليقتل، ثم وكل الله هارون فقال: إني قد أعطيتك حفظ رفائعي من جميع أقداس بني إسرائيل، أعطيتك إياها مسحا وبنيك رسم الدهر، هذا يكون لك من خواص الأقداس من بعد المحرق، من جميع قرابينهم وبرهم وذكاتهم وقربان الإثم الذي يأتوني به، فهو من خواص الأقداس لك ولبنيك . وفي السفر الرابع: الفصل السادس عشر: وتقدم قورح بين يصهار بن قهاث بن ليوي، وداثان وأبيرام ابنا الياب واون بن فالث بنورا وبين، فقاموا أمام موسى وأناس من بني إسرائيل خمسون ومائتان أشراف الجماعة دعاة محضر وذوو أسماء، فتجوقوا على موسى وهارون وقالوا لهما: ما حسبكما رياسة، إذ الجماعة كلهم مقدسون، وفيما بينهم نور الله، فما بالكما تتشرفان على جوق الله؟ فسمع ذلك موسى ووقع على وجهه، فكلم قورح، وكل جموعه وقال لهم: غدا يعرف الله من هوله ومن المقدس فيقربه إليه، ومن يختاره يقربه إليه، إصنعوا خلة خذوا مجامر ياقورج وكل جموعه، واجعلوا عليها نارا وألقوا فيها بين يدي الله غدافاي رجل اختاره الله، فهو المقدس، حسبكم ذلك يا بني ليوي، ثم قال لهم موسى: اسمعوا يا بني ليوي، أقليل عندكم أن أفرزكم إله إسرائيل من جماعتكم، فقربكم إليه لتخدموا خدمة مسكنة، وتقفوا بين يدي الجماعة تخدمونهم، فكذاك قربك وسائر إخوتك بني ليوي معك، حتى طلبتم الإمامة أيضا...

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الثامن عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب