الرحلة الموفقة
في مصر
لم تطل إقامتي في طرابلس ـ عاصمة ليبيا ـ إلاّ بقدر ما حصلت على تأشيرة من السفارة المصرية للدخول إلى أرض الكنانة. وقد التقيت بعض أصدقائي هناك فأعانوني شكر الله سعيهم، وفي طريقي إلى القاهرة ـ وهو طريق طويل يدوم ثلاثة أيّام بلياليها ـ كنت في سيارة أُجرة جمعتني بأربعة مصرييّن عاملين في ليبيا وعائدين إلى وطنهم، وخلال السّفر كنت أحدّثهم وأقرأ لهم القرآن، فأحبّوني ودعاني كُلّ منهم للنزول عنده، وتخيّرت من بينهم من ارتاحت نفسي إليه لورعه وتقواه اسمه أحمد، وأولاني من الضّيافة والقبول ما هو أهل له جزاه الله.
وأمضيت عشرين يوماً بالقاهرة زرت خلالها الموسيقار فريد الأطرش في عمارته على النّيل، فقد كنت معجباً به لما قرأته عن أخلاقه وتواضعه في مجلات مصرية تباع عندنا في تونس، ولم يكن حظّي منه سوى عشرين دقيقة، لأنّه كان خارجاً للمطار ليسافر إلى لبنان.
وزرت الشيخ عبد الباسط محمّد عبد الصمد المجوّد الشهير، وكنت معجباً به أشدّ الإعجاب، بقيت معه ثلاثة أيّام كان النقاش خلالها مع أقاربه وأصدقائه في مواضيع متعددة.
وكانوا يعجبون لحماسي وصراحتي وكثرة اطّلاعي، فإذا تحدّثوا عن الفن غنّيت، وإذا تحدّثوا عن الزهد والتصوّف ذكرت لهم بأنّي من الطريقة التيجانيّة والمدنيّة أيضاً، وإذا تحدّثوا عن الغرب حكيت لهم عن باريس ولندن وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا التي زرتها خلال العطل الصيفية، وإذا تحدثوا عن الحجّ فاجأتهم بأنّي حججت، وإنّي ذاهب إلى العمرة، وحكيت لهم عن أماكن لا يعرفها حتّى الذي حجّ سبع مرّات، كغار حراء، وغار ثور، ومذبح
إسماعيل، وإذا تحدّثوا عن العلوم والاختراعات أشفيت غليلهم بالأرقام والمصطلحات.
وإذا تحدّثوا عن السياسة أفحمتهم بما عندي من آراء قائلاً: "رحم الله الناصر صلاح الدّين الأيّوبي الذي حرم على نفسه التبسّم فضلا عن الضحك، وعندما لامه الناس المقرّبون إليه وقالوا له: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يرى إلاّ باسم الثغر، أجابهم: كيف تريدون منّي أن أتبسّم والمسجد الأقصى يحتلّه أعداء الله، لا والله لن أتبسّم حتّى أحرّره أو أهلك دون ذلك".
وكان شيوخ من الأزهر يحضرون تلك الجلسات، ويعجبون لما أحفظ من أحاديث وآيات، وما أملكه من حجج دامغة، فكانوا يسألونني عن الجامعة التي تخرجت فيها، فأفخر بأنّي من خريجي جامعة الزيتونة، وهي تأسّست قبل الأزهر الشريف، وأضيف بأنّ الفاطميين الذي أسّسوا الأزهر انطلقوا من مدينة المهدية بتونس.
كذلك تعرّفت في جامعة الأزهر الشريف على العديد من العلماء الأفاضل الذين أهدوني بعض الكتب، وكنت يوماً ما في مكتب أحد المسؤولين عن شؤون الأزهر، إذ أقبل أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة المصرية، ودعاه لحضور تجمّع المسلمين والأقباط في أكبر الشركات المصرية للسكك الحديدية بالقاهرة، على أثر أعمال تخريبيّة وقعت بعد حرب حزيران، فأبى أن يذهب إلاّ وأنا معه، وجلست في منصّة الشرف بين العالم الأزهري والأب شنودة، وطلبوا منّي إلقاء كلمة في الحاضرين، ففعلت بكُلّ سهولة لما تعودته من إلقاء المحاضرات في المساجد واللجان الثقافية في بلادي.
والمهمّ من كلّ ما حكيته في هذا الفصل هو أنّ شعوري بدأ يكبر، وركبني بعض الغرور، وظننت فعلاً بأنّني أصحبت عالماً، كيف لا وقد شهد لي بذلك علماء الأزهر الشريف، ومنهم من قال لي: يجب أن يكون مكانك هنا في الأزهر.
وممّا زادني فخراً واعتزازاً بالنفس أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أذن لي في الدخول لرؤية مخلّفاته، حسب ما ادّعاه المسؤول عن مسجد سيّدنا الحسين بالقاهرة، وقد أدخلني منفرداً إلى حجرة لا تفتح إلاّ إذا فتحها هو، وأغلق الباب خلفي، وفتح الخزانة، وأخرج لي قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقبلته وأراني بعض المخلّفات الأُخرى، وخرجت من عنده باكياً متأثراً على عناية الرسول بي شخصياً، وخصوصاً أنّ هذا المسؤول لم يطلب منّي نقوداً، بل امتنع وأخذ منّي شيئاً بسيطاً بعد إلحاحي، وهنّأني مبشراً بأنّني من المقبولين عند حضرة الرسول الأكرم.
وربما أثّر هذا الحادث في نفسي، وجعلني أفكّر مليّاً عدّة ليال فيما يقوله الوهابيون: من أنّ الرسول مات وانتهى أمره كغيره من الأموات، فلم أرتح لهذه الفكرة، بل وتيقّنت تفاهة هذا الاعتقاد.
فإذا كان الشهيد الذي يقتل في سبيل الله، ليس بميّت بل هو حي يرزق عند ربّه، فكيف بسيد الأوّلين والآخرين، وزاد هذا الشعور قوّة ووضوحاً ما تلقيته في سابق حياتي من تعاليم الصوفية الذين يعطون لأوليائهم وشيوخهم صلاحية التصرف والتأثير في مجريات الأُمور، ويعترفون بأنّ الله وحده هو الذي أعطاهم هذه الصلاحية، لأنّهم أطاعوه سبحانه ورغبوا فيما عنده، ألم يقل في حديث قدسي: "عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون"(1).
بدأ الصراع الداخلي يتجاذبني، وأنهيت إقامتي في مصر بعد أن قمتُ خلال الأيّام الأخيرة بزيارة المساجد المتعدّدة، وصليت في جميعها من مالك لأبي حنيفة إلى مسجد الشافعي وأحمد بن حنبل، ثُمّ إلى السيّدة زينب وسيّدنا الحسين، كما زرت زاوية التيجانية، ولي في ذلك حكايات طويلة يطول شرحها، وقد رمت الاختصار.
____________
1- جواهر الكلام 22: 85، الفوائد الرجالية لبحر العلوم 1: 39، الجواهر السنية للحر العاملي: 361، بألفاظ متقاربة.
لقاء في الباخرة
وسافرت إلى الإسكندريّة في اليوم المقرّر حسب حجز المكان في الباخرة المصريّة التي تسافر إلى بيروت، ووجدت نفسي مرهقاً متعباً جسديّاً وفكريّاً، وأنا ملقى على السرير المخصّص لي، فنمت قليلا وكانت الباخرة قد أبحرت منذ ساعتين أو ثلاثة، واستيقظت على صوت مجاوري وهو يقول: "يبدو أن الأخ متعبٌ"؟
قلت: نعم، أتعبني السفر من القاهرة إلى الإسكندريّة، وقد بكرت للوصول على الموعد، فلم أنم البارحة إلاّ قليلا.
وفهمت من لهجته أنّه غير مصري، ودفعني فضولي كعادتي إلى أن أتعرّف عليه، فعرّفته نفسي وعرفت أنّه عراقي، وهو أستاذ في جامعة بغداد اسمه (منعم)(1)، وقد جاء إلى القاهرة لتقديم أطروحة الدكتوراه في الأزهر.
وبدأنا الحديث عن مصر، وعن العالم العربي والإسلامي، وعن هزيمة العرب وانتصار اليهود، والحديث ذو شجون، قلت في معرض كلامي: إنّ سبب الهزيمة هو انقسام العرب والمسلمين إلى دويلات وإلى طوائف ومذاهب متعددة، ورغم كثرة عددهم فلا وزن لهم ولا اعتبار في نظر أعدائهم.
وتكلّمنا كثيراً عن مصر والمصريين، وكنّا متّفقين على أسباب الهزيمة، وأضفت بأنّني ضد هذه الانقسامات التي ركّزها الاستعمار فينا ليسهل عليه احتلالنا وإذلالنا، ونحن ما زلنا نفرّق بين المالكية والأحناف، ورويت له قصة مؤسفة وقعت لي عندما دخلت إلى مسجد أبي حنيفة في القاهرة، وصليت معهم صلاة العصر جماعة، فما راعني بعد الصلاة إلاّ والرجل الذي كان قائماً
____________
1- انظر بعض المعلومات عنه في الصفحة 41 من هذا الكتاب.
بجانبي يقول لي في غضب: "لماذا لا تكتف يديك في الصلاة"؟ فأجبته بأدب واحترام أنّ المالكية يقولون بالسدل وأنا مالكي، فقال لي: "إذهب إلى مسجد مالك وصلّ هناك"، فخرجت مستاءً ناقماً على هذا التصرف الذي زادني حيرة على حيرتي.
وإذا بالأستاذ العراقي يبتسم ويقول لي إنّه هو الآخر شيعي، فاضطربت لهذا النبأ وقلت غير مبال: لو كنت أعلم أنّك شيعي لما تكلّمت معك!
قال: ولماذا؟
قلت: لأنّكم غير مسلمين، فأنتم تعبدون عليّ بن أبي طالب، والمعتدلون منكم يعبدون الله(1)، ولكنّهم لا يؤمنون برسالة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله)، ويشتمون
____________
1- أحمد أمين: فجر الإسلام: 269، يذكر فيه تأليه الغلاة من الشيعة لعليّ (عليه السلام)، ويذكر أسباب ذلك . وقد حاول عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني: 48 المغالطة فذكر أن أحمد أمين ذكر الشيعة الاثني عشرية ولم ينسب لها القول بالوهية علي!! وهذا الكلام من عثمان الخميس فيه تلبيس وتمويه على القارئ; لأنّ أحمد أمين ذكر الشيعة عموماً، ثمّ قسمهم في كتابه إلى مغالين وغير مغالين، وذكر بأنّ المغالين يقولون بالوهية علي بن أبي طالب (عليه السلام). وبعد أن ذكر أحمد أمين مفهوم كلمة الشيعة وكيفية نشأتها بيّن فرق الشيعة وأن منهم الاثني عشرية. فذكره الاثني عشرية وعدم اتهامه لهم بعبادة علي بن أبي طالب لا ينافي ذكره لعموم الشيعة وأن منهم المغالي وغير المغالي، وهذه مغالطة من عثمان الخميس. ومنعم ذكر للتيجاني أنّه شيعي، ولم يقل له أنا شيعي واثني عشري، ومجرد أن سمع التيجاني لفظ الشيعي اتهمه بأن بعضهم يعبدون علياً، وأن أحمد أمين ذكر ذلك في كتابه واليك عبارة أحمد أمين قال: "ولم يكتفِ غلاة الشيعة بهذا القدر في علي، ولم يقتنعوا بأنّه أفضل الخلق بعد النبي، وأنّه معصوم، بل الهوه، فمنهم من قال..." فجر الإسلام: 269. فلا يوجد كذب في كلام المؤلف، وإنمّا التمويه والتلاعب بالالفاظ في كلام عثمان الخميس. مضافاً إلى أنّ عموم أهل السنة يجهلون الشيعة جهلاً مطلقاً، ويجهلون فرق الشيعة وطوائفهم وعقائدهم التي يعتقدوها ويدنون بها، وهذا بيّن في علماء أهل السنة فضلاً عن عوامهم أو مثقفيهم الذين لم يطلعوا على المذاهب والفرق وكيفية نشأتها وفرقها ومعتقدها، فهذا عثمان الخميس وهو يدعي أنّه متخصص في دراسة المذاهب الإسلامية وخصوصاً الشيعة من يطالع ابحاثه واشرطته يراه شديد الجهل بالشيعة ومذاهبهم وطوائفهم فضلاً عن عقائدهم، فهاهو في كتابه كشف الجاني ـ بغض النظر عن التدليس والكذب الذي حواه او استدعاه اسلوب الرد على اتباعه ـ تراه ينسب إلى الشيعة أشياء ما انزل الله بها من سلطان، ولم تقلها الشيعة ولم يعتقد بها، ومثالاً على جهله ما ذكره حول منع تسليم أبي بكر فدك لفاطمة سلام الله عليها فقال عثمان الخميس: بأنّ الشيعة ترى أنّ المرأة لا تورث فكيف تطالب فاطمة بارثها من أبيها!! وهذا من المضحكات، لأنّ الشيعة لا تقول بأنّ المرأة لا ترث من العقار وإنّما تقول بأنّ الزوجة لا ترث من العقار ـ على خلاف في ذلك ـ ، واما البنت فهي ترث من كلّ ما ترك أبيها، وفاطمة سلام الله عليها هي بنت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)فهي ترث من أبيها من كُلّ ما ترك، ومن تركته فدك!! فاذا كان هذا حال الباحث المتخصص فما بالك بعوامّ السنة ومثقفيهم الذين ليس لهم باع في ذلك؟! فإنّ جهلهم كبير وعدم اطلاعهم واضح، والتيجاني لم يكن يعرف عن الشيعة شيئاً وإنّما كان صاحب معلومات عامّة أخذها من أحمد أمين وغيره، فلذلك عندما سمع باسم الشيعة قال بأنّ الشيعة غلاة، وأنهم يؤمنون بعبادة علي (عليه السلام) وخيانة جبرئيل وغير ذلك، فما حاول عثمان الخميس ذكره أوقعه في متاهات ظلماء، وتخبطات عمياء نسأل الله السلامة منها!
جبرائيل، ويقولون بأنّه خان الأمانة، فبدلا من أداء الرسالة إلى عليّ أدّاها إلى محمّد(1)، واسترسلت في مثل هذه الأحاديث، بينما كان مرافقي يبتسم حينا ويحوقل(2) أحياناً.
____________
1- أحمد أمين ـ ضحى الإسلام 1: 335، يورد رواية عن العقد الفريد فيها كلام للشعبي في ذم الرافضة، قال فيها: "... اليهود تنتقص جبريل وتقول هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غلط جبريل في الوحي إلى محمّد بترك علي بن أبي طالب" وتجده أيضاً في أعيان الشيعة 1: 59. 2- حوقل، يحوقل: يكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم" (المؤلف).
ولمّا أنهيت كلامي سألني من جديد: أنت أستاذ تدرّس الطلاب؟
قلت: نعم.
قال: إذا كان تفكير الأساتذة بهذا الشكل، فلا لوم على عامّة الناس الذين لا ثقافة لهم !
قلت: ماذا تقصد؟
أجاب: عفواً ولكن من أين لك هذه الادعاءات الكاذبة؟
قلت: من كتب التاريخ، وممّا هو مشهور عند الناس كافّة.
قال: لنترك الناس كافّة، ولكن أيّ كتاب تاريخ قرأت؟ بدأت أعدّد بعض الكتب، مثل كتاب فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام لأحمد أمين وغيرها.
قال: ومتى كان أحمد أمين حجّة على الشيعة؟
وأضاف: إنّ مقتضى العدل والموضوعيّة أن تتبيّن الأمر من مصادرهم الأصلية المعروفة.
قلت: وكيف لي أن أتبيّن في أمر معروف لدى الخاصّ والعام!
قال: إنّ أحمد أمين نفسه زار العراق، وكنت من بين الأساتذة الذين التقوا به في النجف، وعندما عاتبناه على كتاباته عن الشيعة اعتذر قائلا: إنّي لا أعلم عنكم أيّ شيء، وأنّي لم أتّصل بالشيعة من قبل، وهذه أوّل مرة ألتقي فيها بالشيعة(1).
____________
1- زار أحمد أمين العراق عام 1931، ويذكر رحلته هذه في كتابه: "حياتي: 227"، ويذكر أنّه زار قبر أبي حنيفة والإمام الكاظم والإمام الجواد (عليهما السلام)، وزار النجف وكربلاء، والتقى بعلماء الشيعة منهم الشيخ كاشف الغطاء، حيث اعترض عليه الشيخ بأنّه عند حديثه عن الشيعة ينقل عن خصومهم، وقال أيضاً في ص230: "والحقّ أنّي لا أحمل تعصّباً لسنة ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة، واعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السنيون في الدرك الأسفل" وعلى كلّ حال اثرت هذه السفرة في أحمد أمين، ولذا لا نرى ذلك الهجوم على الشيعة في كتابه "ضحى الإسلام" بل حاول البحث عن الشيعة بموضوعية أكثر، وإن لم يكن موفّقاً في ذلك.
قلنا له: ربّ عذر أقبح من ذنب، فكيف لا تعرف عنّا أيّ شيء ومع ذلك تكتب عنّا كُلّ شيء قبيح؟!
ثُمّ أضاف قائلا: يا أخي، نحن إذا حكمنا بخطأ اليهود والنّصارى من خلال القرآن الكريم، وإن كان هو عندنا الحجّة البالغة بالنسبة لنا، فهم لا يعترفون به، وتكون الحجّة أقوى وأبلغ عندما نبيّن خطأهم من خلال كتبهم التي يعتقدونها، وذلك من باب: "وشهد شاهد من أهلها".
نزل كلامه هذا على قلبي نزول الماء الزلال على قلب العطشان، ورأيتني أتحوّل من ناقد حاقد إلى باحث فاقد، لأنّني أحسست بمنطق سليم وحجّة قويّة، وما عليّ لو تواضعت قليلا وأصغيت إليه!
قلت له: أنت إذاً ممّن يعتقدون برسالة نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله)؟
أجاب: وكُلّ الشيعة مثلي يعتقدون ذلك، وما عليك يا أخي إلاّ أن تتحقق من ذلك بنفسك حتّى تكون على بيّنة من الأمر، ولا تظنّ بإخوانك الشيعة الظنونا لأن {بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(1).
وأضاف قائلا: وإذا كنت فعلا تريد معرفة الحقيقة وتطلع عليها بعينيك ويستيقن بها قلبك، فأنا أدعوك لزيارة العراق والاتصال بعلماء الشيعة وعوامّهم، وستعرف عند ذلك أكاذيب المغرضين والحاقدين.
قلت: إنّها أمنيتي أن أزور العراق في يوم من الأيّام، وأتعرف على آثارها الإسلامية المشهورة التي خلّفها العبّاسيون وعلى رأسهم هارون الرشيد، ولكن.
____________
1- سورة الحجرات: 12.
أولا: إمكانياتي المادية محدودة وقد رتّبتها لأداء العمرة.
ثانياً: إنّ جواز السفر الذي أحمله لا يسمح لي بالدخول للعراق.
قال: أوّلا: عندما قلت لك أدعوك لزيارة العراق فذلك يعني أنّي أتكفّل بتغطية نفقات سفرك من بيروت إلى بغداد ذهاباً وإياباً، وإقامتك بالعراق ستكون معي في بيتي فأنت ضيفي.
وثانياً: بالنسبة للجواز الذي لا يسمح لك بالدخول للعراق، فلنترك ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا قدّر لك أن تزور فسوف يكون ذلك حتّى بدون جواز سفر، سوف نحاول الحصول على تأشيرة للدخول فور وصولنا إلى بيروت.
فرحت كثيراً بهذا العرض، ووعدت صاحبي بأن أرد عليه الجواب غداً إن شاء الله تعالى.
خرجت من غرقة النوم وصعدت إلى سطح الباخرة أتنفس الهواء الجديد، وأنا أفكّر تفكيراً جديداً، وعقلي شارد في البحر الذي ملأ الآفاق، وأسبّح بحمد ربّي الذي خلق الأكوان، وأحمده وأشكره على أن أوصلني إلى هذا المكان، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحميني من الشرّ وأهله، ويحفظني من الزلل والخطأ.
وسرح تفكيري وأنا أستعرض شريطاً أمام عينيّ للأحداث التي عشتها، والسعادة التي تذوقتها من طفولتي إلى ذلك اليوم، وأحلم بمستقبل أفضل، وأشعر كأنّ الله ورسوله يحيطانني بعناية خاصّة، فالتفتّ صوب مصر التي ما زالت بعض شواطئها تتراءى من حين لآخر، مودّعاً تلك الأرض التي فيها قبّلت قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي أعزّ ما بقي عندي من تلك الذكريات التي عشتها في مصر، وعدت أستعرض كلام الشيعي الجديد الذي أدخل عليّ فرحاً كبيراً لتحقيق حلم كان يراودني منذ صغري ألا وهو زيارة العراق، تلك البلاد التي رسمها في ذهني بلاط الرشيد والمأمون مؤسّس دار الحكمة التي كان
يقصدها طلاب العلوم المختلفة من الغرب أيّام ازدهار الحضارة الإسلامية.
أضف إلى ذلك فهي بلاد القطب الرباني والشيخ الصمداني سيدي عبد القادر الجيلاني، الذي ملأ صيته الأقطار كُلّها، ودخلت طريقته كلّ قرية، وعلت همّته كلّ همّة، فها هي عناية جديدة من الله لتحقيق هذا الحلم.. وبدأت أتخيّل وأسبح في بحر الخيال والآمال حتّى أيقظني مذياع الباخرة وهو ينادي المسافرين إلى التوجّه للمطعم لتناول العشاء.
ذهبت صوب المكان المذكور فإذا الناس يتزاحمون كعادتهم في كلّ تجمّع، وكلّ واحد يريد الدخول قبل غيره، وكثر الصياح والهرج، وإذا بالشيعي يمسك بثوبي ليسحبني بلطف إلى الخلف وهو يقول: تعال يا أخي لا تتعب نفسك، فسوف نأكل فيما بعد بدون زحمة، وقد فتشت عنك في كلّ مكان، ثمّ سألني: هل صليت؟
قلت: لم أصلّ بعد.
فقال: إذا تعال نصلي ثُمّ نأتي للأكل، وقد خلص هؤلاء من الزّحام والصياح.
استحسنت رأيه وصاحبته إلى مكان خال من الناس حيث توضّأت وقدّمته ليصلّي إماماً قصد اختباره كيف يصلّي على أن أعيد صلاتي فيما بعد، وما إن أقام الصلاة لأداء فريضة المغرب واسترسل في القراءة والدّعاء حتّى غيرت رأيي، وتخيّلت بأنّي مأمومٌ بأحد الصحابة الكرام الذين أقرأ عنهم وعن ورعهم وتقواهم، وبعد فراغه من الصلاة، أطال الدعاء ولم أسمع قبلا هذه الأدعية في بلادنا ولا في البلاد التي عرفتها، وكنت أطمئنّ وأرتاح كلّما سمعته يصلّي على محمّد وآله ويثني عليه بما هو أهله.
بعد الصلاة لاحظت في عينيه أثر البكاء كما سمعته يدعو الله أن يفتح بصيرتي ويهديني .
اتجهنا إلى المطعم وقد بدأ يخلو من الآكلين، ودخلنا فلم يجلس حتّى أجلسني وجيء لنا بصحنين من الأكل، فرأيته يغيّر صحنه بصحني لأنّ نصيبي من اللحم كان أقلّ من نصيبه، وأخذ يلحّ عليّ وكأنّي ضيفه، ويلاطفني ويروي لي روايات لم أسمعها من قبل تخصّ الأكل والشرب وآداب المائدة.
وأعجبت بأخلاقه، وصلّى بنا صلاة العشاء(1) وأطالها بالدّعاء حتّى
____________
1- ذكر عثمان الخميس في كشف الجاني: 50 أنّ الشيعة عندها أوقات الصلاة ثلاثة، وعليه فامّا أن يكون التيجاني كاذباً في كلامه، أو أن منعماً استخدم التقية مع التيجاني ففصل بين صلاة المغرب والعشاء!! وهذا الكلام ينم عن جهل عثمان الخميس بالمذهب الشيعي; لأنّ الشيعة تجوّز الجمع بين الصلاتين والفصل بينهما، ولا توجب الجمع بين الصلاتين، وعلى هذا فمنعم عندما فصل بين الصلاتين لم يستخدم التقية، وإنّما فعل فعلاً جائزاً، بل مستحباً; لأنّ الفصل بين الصلاتين مستحب في المذهب الشيعي، وإليك كلمات العلماء في ذلك: قال الشيخ النائيني في كتابه الصلاة 2: 23: "ثُمّ إنّ الجمع بين الصلاتين تارةً يكون أفضل من التفريق كما في يوم الجمعة وعرفة بالنسبة إلى الظهرين، والمزدلفة بالنسبة إلى العشائين، غايته أنّ في يوم الجمعة ويوم عرفة يستحب فعل الثانية في وقت الأولى، وفي المزدلفة يستحب فعل الأولى وهي المغرب في وقت الثانية. وأُخرى يكون التفريق أفضل كما في سائر الأيّام إذ يستحب تفريق الصلوات على أوقاتها..". وقال السيد شرف الدين في كتابه مسائل فقهية: 9: "الجمع بين الصلاتين: لا خلاف بين أهل القبلة من أهل المذاهب الاسلامية كلّها في جواز الجمع بعرفة وقت الظهرين الفريضتين الظهر والعصر. وهذا في اصطلاحهم جمع تقديم. كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة وقت العشاء بين الفريضتين المغرب والعشاء. ومحل النزاع هنا إنّما هو في جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معاً في وقت أحدهما تقديماً على نحو الجمع بعرفة، أو تأخير على نحو الجمع بالمزدلفة. وقد صدع الأئمة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) بجوازه مطلقاً، غير أنّ التفريق أفضل، وتبعهم في هذا شيعتهم في كُلّ عصر ومصر". وقال السيد الحكيم في المستمسك 5: 96: "في الذكرى: إنّه كما من مذهب الإمامية جواز الجمع بين الصلاتين مطلقاً، علم منه استحباب التفريق بينهما". وقال السيد الخوئي في كتاب الصلاة 1: 321: "والمتحصل إلى هنا أنّه لم يدلّنا أي دليل على المنع عن الجمع بين الصلاتين جمعاً تكويناً خارجياً، أعني مجرد الاتصال بينهما، وإن كان استحباب التفرقة بين الصلاتين هو المشهور عند الأصحاب". وقال السيد كاظم اليزدي في العروة 2: 261: "مسألة 7: يستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشائين..". وقال الشيخ كاشف الغطاء في كشف الغطاء 1: 223: "يستحب التفريق بين الظهرين والعشائين..". وقال الشيخ محمّد أمين زين الدين في كتابه كلمة التقوى 1: 295: "المسألة 21: يستحب التفريق بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء...". إلى غير ذلك من الكلمات المشهورة على ألسنة فقهاء الشيعة. ومن هذا وغيره تستغرب من عثمان الخميس وامثاله عندما يأتي ويناقش مذهباً من المذاهب ويشوّه صورته، ويلفّق عليه التهم والأباطيل، وهو لا يفهم شيئاً من ذلك المذهب ولم يعرفه حقّ المعرفه كما رأيته هنا، فلم يفرق بين جواز الجمع بين الصلاتين وبين وجوب الجمع بينهما; فالمذهب الشيعي قائل بالأول، وهو جواز الجمع لا وجوب الجمع، فلا موطن للتقية ليستخدمها منعم مع التيجاني.
أبكاني وسألت الله سبحانه أن يغيّر ظنّي فيه لأنّ بعض الظن إثمّ، ولكن من يدري؟ !
ونمت أحلم بالعراق وألف ليلة وليلة، واستيقظت على ندائه يوقظني لصلاة الفجر، وصلّينا وجلسنا نتحدث عن نعم الله.
ورجعنا للنوم ثانية، ولما أفقت وجدته جالساً على سريره وفي يده مسبحة وهو يذكر الله، فارتاحت له نفسي، واطمأن له قلبي، واستغفرت ربّي.
كنّا نتغذى في المطعم عندما سمعنا المذيع يعلن عن اقتراب الباخرة من الشواطئ اللبنانية، وسوف نكون في ميناء بيروت بحول الله بعد ساعتين، سألني
هل فكّرت مليّاً وماذا قرّرت؟
قلت: إذا سهّل الله سبحانه الحصول على تأشيرة الدخول فلا أرى مانعاً، وشكرته على دعوته.
نزلنا في بيروت حيث أمضينا تلك الليلة، ومن بيروت سافرنا إلى دمشق حيث اتجهنا فور وصولنا إليها إلى سفارة العراق، وحصلت على التأشيرة بسرعة مذهلة لم أتصوّرها، وخرجنا من هناك وهو يهنئني ويحمد الله على إعانته.
زيارة العراق لأوّل مرّة
زيارة العراق لأوّل مرّة
سافرنا من دمشق إلى بغداد في إحدى سيارات شركة النجف العالميّة الضخمة المكيّفة، وكانت الحرارة تبلغ أربعين درجة مئوية في بغداد، عندما وصلنا اتجهنا فوراً إلى بيته في حيّ جميلة بمنطقة العقال، دخلت البيت المكيّف واسترحت، ثُمّ جاءني بقميص فضفاض يسمّونه "دشداشة".
أحضر الفاكهة والأكل ودخل أهله يسلّمون عليّ في أدب واحترام، وكان والده يعانقني وكأنّه يعرفني من قبل، أما والدته فوقفت بالباب في عباءة سوداء تسلّم وترحب، واعتذر صديقي عن والدته بأنّ المصافحة عندهم محرّمة، وأعجبت أكثر وقلت في نفسي: هؤلاء الذين نتهمهم نحن بالخروج عن الدّين يحافظون عليه أكثر منّا.
وقد لمست خلال أيّام السفر التي قضيتها معه نبل أخلاق، وعزة نفس في كرامة وشهامة، وتواضع وورع لم أعهده من قبل، وشعرت بأنّي لست غريباً وكأنّي في بيتي.
صعدنا في الليل إلى سطح الدار حيث فرشت لنا أماكن للنوم، وبقيت حتّى ساعة متأخرة أهذي أفي حلم أنا أم في يقظة، أحقّاً أنني في بغداد بجوار سيدي عبد القادر الجيلاني.
ضحك صديقي متسائلا: ماذا يقول التونسيون عن عبد القادر الجيلاني؟ وبدأت أحكي له عن الكرامات التي تروى عندنا، وعن المقامات التي تشيّد في ربوعنا باسمه، وأنّه قطب الدّائرة، وكما أنّ محمّد رسول الله هو سيد الأنبياء، فعبد القادر هو سيّد الأولياء، وقدمه على رقبة كُلّ الأولياء، وهو القائل: "كُلّ الناس يطوف بالبيت سبعاً، وأنا البيت طائف بخيامي".
وحاولت إقناعه بأنّ الشيخ عبد القادر يأتي إلى بعض مريديه ومحبّيه جهرة، ويعالج أمراضهم، ويفرّج كربتهم، ونسيت أو تناسيت العقيدة الوهابية التي تأثّرت بها من أنّ ذلك كُلّه شرك بالله، ولما شعرت بعدم حماس صديقي حاولت أقناع نفسي بأنّ ما قلته لا يصح، وسألته عن رأيه.
قال صديقي وهو يضحك: نم الليلة واسترح من التعب الذي لقيته في السفر، وغداً إن شاء الله سنزور الشيخ عبد القادر، وطرت فرحاً لهذا الخبر ووددت لو طلع الفجر وقتئذ، ولكنّ التعب أخذ منّي مأخذه، فنمت نوماً عميقاً حتّى طلعت عليّ الشمس وفاتتني الصلاة، وأعلمني صديقي بأنّه حاول إيقاظي مرات عديدة دون جدوى، فتركني حتّى أرتاح.
عبد القادر الجيلاني(1) وموسى الكاظم(2)
____________
1- الشيخ عبد القادر الجيلاني: ترجمه غير واحد، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 30: 439: "الشيخ عبد القادر: الشيخ الامام العالم الزاهد العارف القدوة، شيخ الاسلام، علم الأولياء محيي الدين، أبو محمّد، عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي، شيخ بغداد. مولده بجيلان في سنة إحدى وسبعين واربعمائة. وقدم بغداد شاباً، فتفقه على أبي سعيد المخرمي، وسمع من: أبي غالب الباقلاني، وأحمد بن المظفر بن سوس، وأبي القاسم بن بيان، وجعفر بن أحمد السراج، وأبي سعد بن خشيش وأبي طالب اليوسفي، وطائفة. حدث عنه: السمعاني، وعمر بن علي القرشي، والحافظ عبد الغني، والشيخ موفق الدين بن قدامة. قال السمعاني: كان عبد القادر من أهل جيلان، إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح دين خير، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة، تفقه على المخرمي، وصحب الشيخ حماد الدباس، وكان يسكن بباب الازج في مدرسة بنيت له، مضينا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فالقى درساً ما فهمت منه شيئاً. وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس، فلعلهم فهموا لا لفهم بكلامه وعبارته. قال ابن الجوزي: كان أبو سعيد المخرمي قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوضت إلى عبد القادر، وكان له سمت وصمت، وضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستنداً إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمرت المدرسة، ووسعت، وتعصب في ذلك العوام، وأقام فيها يدرس ويعظ إلى أن توفي..". ثُمّ أخذ ينقل كرامات عبد القادر الجيلاني فقال: "... سمعت أبا البقاء النحوي قال: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر، فقرؤوا بين يديه بالالحان، فقلت في نفسي: ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا؟ فقال: يجيء واحد قد قرأ أبواباً من الفقه ينكر. فقلت في نفسي: لعل أنه قصد غيري! فقال: إياك نعني بالقول، فتبت في نفسي من اعتراضي. فقال: قد قبل الله توبتك! وسمعت الإمام أبا العبّاس أحمد بن عبد الحليم، سمعت الشيخ عز الدين الفاروثي، سمعت شيخنا شهاب الدين السهروردي يقول: عزمت على الاشتغال بأصُول الدين، فقلت في نفسي: استشير الشيخ عبد القادر، فأتيته، فقال قبل أن أنطق: يا عمر، ما هو من عدة القبر، يا عمر، ما هو من عدة القبر. قال شيخنا الحافظ أبو الحسين علي بن محمّد: سمعت الشيخ عبد العزيز بن عبد السّلام الفقيه الشافعي يقول: ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلاّ الشيخ عبد القادر. فقيل له: هذا مع اعتقاده، فكيف هذا؟ فقال: لازم المذهب ليس بمذهب. قال ابن النجار: كتب إليّ عبد الله بن أبي الحسن الجبائي قال: قال لي الشيخ عبد القادر: كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة، فقال لي قائل لم أرَ شخصه: اقترض ما تستعين به على طلب الفقه. فقلت: كيف اقترض وأنا فقير ولا وفاء لي؟ قال: اقترض وعلينا الوفاء. فأتيت بقالاً فقلت: تعاملني بشرط إذا سهل الله أعطيتك وإن مت تجعلني في حل، تعطيني كُلّ يوم رغيفاً ورشاداً. فبكى وقال: أنا بحكمك. فأخذت منه مدة، فضاق صدري، فأظن أنّه قال: فقيل لي: امض إلى موضع كذا، فأي شيء رأيت على الدكة فخذه وادفعه للبقال، فلمّا جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة، فأعطيتها البقلي. ولحقني الجنون مرة، وحملت إلى المارستان، فطرقتني الاحوال حتّى حسبوا أني ميت، وجاؤوا بالكفن، وجعلوني على المغتسل، ثُمّ سرى عني، وقمت، ثُمّ وقع في نفسي أن أخرج من بغداد لكثرة الفتن، فخرجت إلى باب الحلة، فقال لي قائل: إلى أين تمشي؟ ودفعني دفعة خررت منها. وقال: ارجع فانّ للناس فيك منفعة. قلت: أريد سلامة ديني. قال: لك ذاك ـ ولم أرَ شخصه ـ ثُمّ بعد ذلك طرقتني الأحوال فكنت أتمنى من يكشفها لي، فاجتزت بالظرفية، ففتح رجل داره، وقال: يا عبد القادر، أيش طلبت البارحة، فنسيت، فسكت فاغتاظ، ودفع الباب في وجهي دفعة عظيمة، فلما مشينا ذكرت، فرجعت أطلب الباب، فلم أجده، قال: وكان حماداً الدباس، ثُمّ عرفته بعد، وكشف لي جميع ما كان يشكل عليّ. ثُمّ بعد مدّة قدم رجل من همذان يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنّه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، فلم أره. وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلمّا رآني قام واجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحل لي المشكل علي..". وارجع إلى ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 3: 290. والملاحظ أنّ الحنابلة المتأخرين يتهمون غيرهم بالغلو في أوليائه وصالحية، بينما إذا رجعنا إليهم نجدهم أشدّ مغالاة في شيوخهم وصالحيهم من غيرهم، فهم يغالون في أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة، وكذلك يغالون في علمائهم كعبد القادر وابن تيمية وغيرهم لأنهم من الحنابلة، ويطرونهم أيما إطرأ، ويسمونهم بهالة عظيمة تعجب إذا رأيتها، لانّهم محسوبون على الحنابلة، ومع ذلك كُلّه ينكرون على غيرهم إذا ذكر مناقب أئمته أو صالحية ويتهموهم بالغلو والافراط.. وهذه سمتهم دائماً، يكيلون بمكيالين، ويزنون الأُمور بميزانين، ولا تعجب من مغالهم، فقد ذكر علماءهم أنّ الذي ليس بحنبلي فليس بمسلم ـ تذكرة الحفاظ 3: 1186، تاريخ الاسلام للذهبي 29: 304 وغيرها من المصادر ـ وعليه يجوز لهم الكلام على غيرهم لأنّهم خارجين عن ملّة الاسلام، فاذا فسقوهم ورموهم بالغلو فهذا نغمة كبرى; لأنهّم يكفرون غيرهم، فهم كفرة بنظرهم. 2- هو الإمام موسى بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام). أُمّه حميدة البربرية، ويقال لها حميدة المُصفّاة (إعلام الورى للطبرسي 2: 6)، كانت من خيار النِّساء، وقد مدحها الإمام الصادق (عليه السلام) بكلمات تكشف عن عظمتها وسمُوّ قدرها فقال: "حميدة مُصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب، مازالت الأملاك تحرسها حتّى أدّيَت إليّ كرامةً من الله لي والحُجّة من بعدي" أصول الكافي للكليني 1: 550. ولد (عليه السلام) بالأبواء (الأبواء: بلدة بين مكة والمدينة فيها توفيت ودفنت آمنة بنت وهب أمّ الرسول الكريم) لسبع خلوْن من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة (إعلام الورى للطبرسي 2: 6). كنيته أبو الحسن، وهو أبو الحسن الأوّل، وأبو إبراهيم، وأبو علي، ويعرف بالعبد الصالح والكاظم (عليه السلام) المصدر السابق. تسلّم إمامة المسلمين بعد وفاة أبيه الصادق (عليه السلام) في سنة 148 هـ وكان له من العمر عشرون سنة. عاصر في أيّام إمامته أربعةً من الخلفاء العباسيين وهم: أبو جعفر المنصور، ثُمّ ابنه محمّد المعروف بالمهدي، ثُمّ ابنه موسى المعروف بالهادي، ثُمّ أخوه هارون بن المهدي المُلقّب بالرشيد. عاش الإمام (عليه السلام) مدةً مديدةً من حياته في ظلمات السجون، فقد سجنه المهدي العبّاسي ثُمّ أطلقه، ولما آلت النوبة إلى حكم هارون الرشيد عاد معتقلاً الإمام، وآخذاً ينقله من سجن إلى سجن حتّى استشهد (عليه السلام) في سجن السندي بن شاهك في بغداد. كانت شهادته (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شهر رجب لسنة مائة وثلاث وثمانين للهجرة (183 هـ) (المصدر السابق). دفن (عليه السلام) في المقبرة المعروفة بمقابر قريش (المصدر السابق) والمعروفة اليوم بالكاظمية. الإمام في كلمات علماء وأعلام أهل السنّة: إليك قارئي الكريم جانباً من كلمات علماء وأعلام أهل السنة وهي تشيد بمقام الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): 1 ـ الإمام الشافعي (ت: 204 هـ): قال في تحفة العالم: "قبر موسى الكاظم الترياق المجرب" (أئمتنا لمحمد علي دخيل 2: 65). يريد إجابة الدعاء عنده. 2 ـ الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ): علّق الإمام أحمد بن حنبل على سند فيه الإمام علي الرضا عن أبيه موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمّد الباقر عن أبيه علي زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عن الرسول الأكرم صلوات الله عليهم أجمعين قائلاً: "لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته" (الصواعق المحرقة: 310). 3 ـ الحسن بن إبراهيم، أبو علي الخلال شيخ الحنابلة (من علماء القرن الثالث الهجري): قال: "ما همّني أمرٌ، فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلا سهّلَ الله تعالى لي ما أُحِبُّ" نقل قوله الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 1: 120،المنتظم 9: 89. 4 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت: 250 هـ): ذكر الإمام الكاظم (عليه السلام) في رسائله عند مدحه لعشرة من الأئمة في كلام واحد عند ذكره الرد على ما فخرت به بنو أمية على بني هاشم فقال: "ومنِ الذي يُعَدُّ مِنْ قريش ما يَعُدّه الطالبيون عَشَرة في نسق، كلّ واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكِ، فمنهم خلفاء، ومنهم مُرشّحون: ابن ابن... هكذا إلى عشرة، وهم الحسن ] العسكري[ بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام)، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بُيوت العجم" رسائل الجاحظ: 106. 5 ـ محمّد بن إدريس بن المنذر، أبو حاتم الرازي (ت: 277 هـ): قال في حق الإمام أنّه: "ثقةٌ صدوق، إمامٌ مِن أئمة المسلمين" الجرح والتعديل: 8: 138، سير أعلام النبلاء: 6: 280، تهذيب التهذيب: 8: 393. 6 ـ ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ): قال: "صدوقٌ إمام" ميزان الاعتدال: 4: 201 كما نقل الخطيب البغدادي نصّ قول أبيه المتقدم مقراً به الجرح والتعديل 8: 139. 7 ـ الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ): قال في تاريخ بغداد: "أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا الحسن بن محمّد بن يحيى العلوي، حدثني جدي قال: كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده، روى أصحابنا أنّه دخل مسجد رسول الله فسجد سجدة في أوّل الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة، فجعل يرددها حتّى أصبح، وكان سخياً كريماً، وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار، وكان يصرّر الصرر ثلاثمائة دينار، وأربعمائة دينار ومائتي دينار،ثُمّ يقسّمها بالمدينة، وكان مثل صرر موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرّة فقد استغنى" ثُمّ ذكر أخباراً في مدحه والثناء عليه. تاريخ بغداد: 13: 27. 8 ـ عبد الكريم بن محمّد السمعاني (ت: 562 هـ): قال في الأنساب: "وهو موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب... ومشهده ببغداد مشهور يزار... زرته غير مرّة مع ابنه محمّد ابن الرضا علي بن موسى" (أنساب السمعاني 5: 405). 9 ـ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ): قال في كتابه صفة الصفوة: "كان يُدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وكان كريماً حليماً إذا بلغه عن رجل يؤذيه بعث إليه بمال" ثُمّ إنّه ذكر ابن الجوزي منقبة ظاهرةً من مناقبه وفضيلة رائعة من جميل فضائله، وهو ما جرى مع شقيق البلخي في طريقه إلى الحج، وما شاهده من الإمام (عليه السلام)، حيث إنّ الإمام نطق بما في نفسه مرتين، كما أنه شاهد كيف أن البئر قد ارتفع ماؤها بدعاء الإمام، وارتفعت على إثر ذلك ركوته التي سقطت من يده في أعماق البئر، ثُمّ إنّ شقيقاً طلب من الإمام أن يطعمه فناوله الركوة فشرب منها وإذا سويق وسكر ما شرب قط ألذّ منه ولا أطيب ريحاً منه، فشبع ورَوي، وأقام أياماً لا يشتهي طعاماً ولا شراباً... والقصة مفصلة في الكتاب المذكور فَمَن شاء فليراجع. كما أنّ ابن الجوزي ترجم الإمام في كتابه المنتظم 9: 87 ومدحه بكلمات قريبة من النصّ المتقدم. 10 ـ الفخر الرازي (ت: 604 هـ): قال عند تفسيره لمعنى الكوثر: "والقول الثالث: الكوثر أولاده... فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت ثُم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أميه في الدنيا أحد يعبأ به، ثُمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام)..." تفسير الفخر الرازي: مجلد 16، ج32/125. 11 ـ ابن الأثير الجزري (ت: 630 هـ): قال في كتابه الكامل في التاريخ: 6: 14 "وكان يلقّب بالكاظم لأنه كان يحسن إلى من يُسيء إليه، كان هذا عادته أبداً". 12 ـ العارف الشيخ محيي الدين محمّد بن علي المعروف بابن عربي (ت: 638 هـ): قال في "المناقب" المطبوع بآخر "وسيلة الخادم إلى المخدوم" للشيخ فضل الله الأصبهاني: 296 "وعلى شجرة الطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والسر المستور، والرق المنشور، والبحر المسجور، وآية النور، كليم أيمن الإمامة، منشأ الشرف والكرامة، نور مصباح الأرواح، جلاء زجاجة الأشباح، ماء التخمير الأربعيني، غاية معارج اليقيني، اكسير فلزات العرفاء، معيار نقود الأصفياء، مركز الأئمة العلوية، محور فلك المصطفوية، الآمر للصور والأشكال بقبول الاصطبار والانتقال، النور الأنور أبي إبراهيم، موسى بن جعفر عليه صلوات الله الملك الأكبر" شرح إحقاق الحق 28: 570. 13 ـ محمّد بن طلحة الشافعي (ت: 652 هـ): قال في كتابه مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 2: 120 "هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود له بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي كاظماً، كان يُجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يُسمّى بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق باب الحوائج إلى الله لنجح مطالب المتوسلين إلى الله تعالى به، كرامته تحار منها العقول، وتقضي بأن له عند الله تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول... وأما مناقبه فكثيرة ولو لم يكن منها إلاّ العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة"، ثُمّ ذكر بعض مناقبه ومنها قصة شقيق البلخي المتقدمة الذكر. 14 ـ سبط ابن الجوزي (ت: 654 هـ): قال في كتابه تذكرة الخواص: 312 "وكان موسى جواداً حليماً وإنمّا سمّي الكاظم لأنّه كان إذا بلغه عن أحد شيء بعث إليه بمال"، وذكر بإسناده إلى شقيق البلخي القصة المشار إليها فيما سبق. 15 ـ ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 655 هـ): نقل ما تقدم من كلام الجاحظ في شرح نهج البلاغة 15: 278 مقرّاً له عليه بدلالة قوله في أوّل البحث "ونحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم ونضيف إليه من قبلنا أموراً لم يذكرها فنقول...". كما أنه قال عن الإمام في نفس الفصل: "ومن رجالنا موسى بن جعفر بن محمّد ـ وهو العبد الصالح ـ جمع من الفقه والدين والنسك والحلم والصبر". 16 ـ ابن الساعي (ت: 674 هـ): قال في مختصر الخلفاء: 39 "أما الإمام الكاظم فهو صاحب الشأن العظيم، والفخر الجسيم، كثير التهجد، الجاد في الاجتهاد، المشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادات، المواظب على الطاعات، يبيب الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه كان كاظماً، يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته يسمّى بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق بباب الحوائج إلى الله لنجح المتوسلين إلى الله تعالى به، كراماته تحار منها العقول، وتقضي بأن له قدم صدق عند الله لا تزول"،نقلاً عن حياة الإمام موسى بن جعفر لباقر شريف القرشي 1: 166. 17 ـ ابن خلّكان (ت: 681 هـ): قال في كتابه وفيات الأعيان 4: 43 ] هو[ "أحد الأئمة الاثني عشر، رضي الله عنهم أجمعين"نقل ما تقدم ذكره من قول الخطيب البغدادي من دون تعليق عليه. 18 ـ أبو الحجاج يوسف المزي (ت: 742 هـ): ذكر في كتابه تهذيب الكمال 29: 43 نصّ قول أبي حاتم المتقدم، كما أنّه اقتصر على ذكر أخبار عديدة في مدح الإمام والثناء عليه. 19 ـ شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت: 748): قال في سير أعلام النبلاء 6: 270 "الإمام القدوة، السيد أبو الحسن العلوي، والد الإمام علي بن موسى الرضا، مدني، نزل بغداد". وقد نقل قول أبي حاتم المتقدم في أنّ الإمام: "ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين" من دون أي تعليق عليه. وقد ترجم له أيضاً في تاريخ الإسلام حوادث ووفيات 181 ـ 190هـ : 417 وقال عنه: "وكان صالحاً، عالماً عابداً، متألهاً...". 20 ـ اليافعي اليمني المكّي (ت: 768 هـ): قال في كتابه مرآة الجنان: 1: 305 "وفيها ] أي سنة 183 هـ[ توفي السيد أبو الحسن موسى الكاظم ولد جعفر الصادق، كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر، وهو أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وكان يُدعى بالعبد الصالح من عبادته واجتهاده، وكان سخياً كريماً. كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصُرّة فيها ألف دينار...". 21 ـ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت: 774 هـ): قال في البداية والنهاية 10: 197 "وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنّه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتّحف... وأهدى له مرّة عبد عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه ووهب المزرعة له...". 22 ـ محمّد خواجة البخاري (ت: 822 هـ): قال في كتابه فصل الخطاب: "ومن أئمة أهل البيت أبو الحسن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ـ رضي الله عنهما ـ... وكان (رضي الله عنه) صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر كثير العلم كان يُدعى بالعبد الصالح، وفي كل يوم يسجد لله سجدة طويلة بعد ارتفاع الشمس إلى الزوال..." نقلاً عن ينابيع المودة: 459. 23 ـ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ): نقل في كتابه تهذيب التهذيب 8: 393 نصّ قول أبي حاتم المتقدّم، كما ذكر قول يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة: "كان موسى بن جعفر يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده". وبعد أن نقل تاريخ وفاته قال: "ومناقبه كثيرة". 24 ـ ابن الصبّاغ المالكي (ت: 855 هـ): نقل في كتابه الفصول المهمة: 221 قول بعض أهل العلم قائلاً: "قال بعض أهل العلم: الكاظم هو الإمام الكبير القدر، والأوحد الحجّة الحبر، الساهر ليله قائماً القاطع نهاره صائماً، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى الله وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين" وقال في موضع آخر: "وأما مناقبه وكراماته الظاهرة وفضائله وصفاته الباهرة فتشهد له بأنّه قبة الشرف وعلاها وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها وذللت له كواهل السيادة وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها فاصطفاها...". 25 ـ جمال الدين يوسف بن تغري بردي الأتابكي (ت: 874 هـ): قال في كتابه النجوم الزاهرة:2: 112 "وفيها ] سنة 183[ توفي موسى الكاظم ابن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن السيد الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم أجمعين). كان موسى المذكور يدعى بالعبد الصالح لعبادته وبالكاظم لعلمه. ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة وكان سيداً عالماً فاضلاً سَنِياً جواداً، ممدوحاً مجاب الدعوة". 26 ـ أحمد بن عبد الله الخزرجي (ت بعد 923 هـ): نقل في كتابه خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: 3:63 نصّ قول أبي حاتم المتقدّم من دون أي تعليق عليه مما يدل على قبوله وإمضائه له. 27 ـ عبد الوهاب الشعراني (ت: 973 هـ): قال في طبقاته: 1: 55 "أحد الأئمة الاثني عشر، وهو ابن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ... كان يكنّى بـ (العبد الصالح) لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وكان إذا بلغه عن أحد يؤذيه يبعث إليه بمال". 28 ـ ابن حجر الهيتمي (ت: 974 هـ): قال في الصواعق المحرقة: 307 "موسى الكاظم: وهو وارثه ] أي جعفر الصادق[ علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سُمّيَ الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم... ومن بديع كراماته: ما حكاه ابن الجوزي والرامهرمزي وغيرهما عن شقيق البلخي...". 29 ـ أحمد بن يوسف القرماني (ت: 1019 هـ): قال في كتابه أخبار الدول:1: 337 "هو الإمام الكبير القدر، الأوحد، الحجة، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المُسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج، لأنّه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط... وكان له كرامات ظاهرة ومناقب باهرة، اقترع قمّة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ عُلاها فمن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتابه "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن" عن شقيق البلخي قال: ..." وذكر قصة شقيق التي تقدمت الإشارة إليها. 30 ـ ابن العماد الحنبلي (ت: 1089 هـ): قال في شذرات الذهب:1:486 "وفيها ] سنة 183 هـ توفي[ السيّد الجليل أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ووالد علي بن موسى الرضا. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة. روى عن أبيه، قال أبو حاتم: ثقة إمام من أئمة المسلمين وقال غيره: كان صالحاً عابداً، جواداً حليماً، كبير القدر. بلغه عن رَجُل الأذى له فبعث إليه بألف دينار...". 31 ـ عبد الله الشبراوي (ت: 1171 هـ): قال في الإتحاف بحب الأشراف: 148 "كان من العظماء الأسخياء، وكان والده جعفر يحبه حباً شديداً..." ثُمّ تحدث عن الإمام ونقل بعض كلامه. 32 ـ الحسن بن عبد الله البخشي (ت: 1190 هـ): قال في كتابه النور الجلي في نسب النبي: "وهو الإمام الكبير القدر، والكثير الخير، كان (رضي الله عنه) يسهر ليله ويصوم نهاره، وسمي كاظماً لفرط تجاوزه عن المعتدين، وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج، لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط، وكانت له كرامات ظاهرة ومناقب باهرة، تسنم ذروة الشرف وعلاها وسما أوج المزايا فبلغ أعلاها..." نقلاً عن حياة الإمام موسى بن جعفر للشيخ القرشي 1: 167. 33 ـ الشيخ محمد بن علي الصبان (ت: 1206 هـ): قال في كتابه إسعاف الراغبين: "أما موسى الكاظم فكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله وكان من أعبد أهل زمانه ومن أكابر العلماء الأسخياء... ولقّب بالكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه" إسعاف الراغبين المطبوع بهامش "نور الأبصار": 246. 34 ـ محمد أمين السويدي (ت: 1246 هـ): قال في كتابه سبائك الذهب: 75 "موسى الكاظم هو الإمام الكبير القدر الكثير الخير، كان يقوم ليله ويصوم نهاره، وسمّي الكاظم لفرط تجاوزه عن المعتدين". 35 ـ الشيخ مؤمن الشبلنجي (ت: بعد 1308 هـ): قال في كتابه نور الأبصار: 164 تحت عنوان (فصل في ذكر مناقب سيدنا موسى الكاظم...): "قال بعض أهل العلم: الكاظم هو الإمام الكبير القدر، الأوحد، الحجّة، الحَبْر، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى الله; وذلك لنجح قضاء حوائج المتوسلين به. (ومناقبه) (رضي الله عنه)كثيرة شهيرة...". 36 ـ يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت: 1350 هـ): قال في كتابه جامع كرامات الأولياء:2:495 "موسى الكاظم أحد أعيان أكابر الأئمة من ساداتنا آل البيت الكرام هداة الإسلام رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا ببركاتهم، وأماتنا على حبهم وحبّ جدّهم الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)" (جامع كرامات الأولياء 2: 495). 37 ـ علي جلال الحسيني المصري (ت: 1351 هـ): قال: "جمع من الفقه والدين والنسك والحلم والصبر، ما لا مزيد عليه..." أئمتنا لمحمد علي دخيل 2: 69. 38 ـ الدكتور زكي مبارك (ت: 1371 هـ): قال في شرح زهر الآداب: "كان موسى بن جعفر سيداً من سادات بني هاشم وإماماً مقدّماً في العلم والدين" أئمتنا لمحمد علي دخيل 2: 69. 39 ـ خير الدين الزركلي (ت: 1396 هـ): قال في كتابه الأعلام:7:321 "كان من سادات بني هاشم، ومن أعبد أهل زمانه، وأحد كبار العلماء الأجواد". 40 ـ محمود بن وهيب القراغولي الحنفي: قال في جوهرة الكلام: "هو الوارث لأبيه رضي الله عنهما علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً سمّي بـ (الكاظم) لكظمه الغيظ، وكثرة تجاوزه وحلمه. وكان معروفاً عند أهل العراق بـ (باب قضاء الحوائج عند الله)، وكان أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم..." أئمتنا 2: 68.
ذهبنا بعد الفطور إلى باب الشيخ، ورأيت المقام الذي طالما تمنّيت زيارته، وهرولت كأنّي مشتاق لرؤيته، ودخلت أتلهف كأنّي سوف أرتمي في أحضانه، وصديقي يتبعني أينما رحت.
واختلطت بالزوّار الذين يتراكمون على المقام تراكم الحجّاج على بيت الله الحرام، ومنهم من يلقي قبضات من الحلوى والزوّار يتسابقون لالتقاطها، وأسرعت لأخذ منها أكلت إحداها على الفور للبركة، وخبأت الأخرى في جيبي للذكرى.
صلّيت هناك ودعوت بما تيسّر لي وشربت الماء وكأنّي أشرب من ماء زمزم، ورجوت صديقي أن ينتظرني ريثما أكتب إلى أصدقائي في تونس بعض البطاقات البريدية التي اشتريتها من هناك، وتمثّل كُلّها صورة مقام الشيخ عبد القادر بالقبة الخضراء، وأردت بذلك أن أبرهن لأصدقائي وأقاربي في تونس عن علوّ همّتي التي أوصلتني لذلك المقام الذي لم يصلوا إليه.
بعد ذلك تناولنا طعام الغداء في مطعم شعبي وسط العاصمة، ثمّ أخذني صديقي في سيارة أُجرة إلى الكاظمية، عرفت هذا الاسم من خلال ما ذكره صديقي لسائق السيارة، وصلنا إليها وما أن نزلنا من السيارة نتمشّى حتّى اختلطنا بمجموعات كبيرة من الناس، يمشون في نفس الإتجاه نساء ورجالا وأطفالا ويحملون بعض الأغراض، ذكّرني ذلك بموسم الحجّ، ولم أكن بعد أعرف وجهة المكان المقصود، حتّى تراءت لي قباب ومآذن ذهبية يأخذ إشعاعها بالأبصار، وفهمت أنّه مسجد من مساجد الشيعة لسابق علمي بأنّهم يزخرفون مساجدهم بالذهب والفضّة التي حرّمها الإسلام، وشعرت بحرج في