الصفحة 316

السجود على التربة

سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمّونها "بالتربة الحسينية" أجاب قائلا:

يجب أن نعرف قبل كُلّ شيء أنّنا نسجد على التراب ولا نسجد للتراب، كما

يتوهّم البعض الذين يشهّرون بالشيعة، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده.


الصفحة 317

والثابت عندنا وعند أهل السنّة أيضاً أنّ أفضل السجود على الأرض(1)،

____________

1- الأصل في السجود أنّ يضع الانسان وجهه على الأرض، على ترابها ورملها وحصاها وحجرها ومدرها ونباتها غير مأكول ولا ملبوس إلاّ عند الضرورة، قال ابن حجر في فتح الباري 1: 414 في شرح قوله (صلى الله عليه وآله): "كنّا إذا صلّينا مع النبي (صلى الله عليه وآله) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود" قال: وفيه اشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هو الأصل لأنّه علق بعدم الاستطاعة. ومثله الشوكاني في نيل الأوطار 2: 289.

ويدل على ذلك أمور:

1 ـ قوله (صلى الله عليه وآله): "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (البخاري: كتاب الصلاة، مسلم كتاب المساجد) قال ابن حجر في الفتح 1: 370: "أي موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره".

2 ـ حديث تبريد الحصى حيث كان الصحابة يقبضون الحصى بأيديهم لتبرد ثمّ يسجدوا عليها، قال البيهقي في سننه 2: 105 معلّقاً على الحديث: "قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متصل به لكان ذلك اسهل من تبريد الحصى في الكف ووضعها للسجود عليها".

3 ـ حديث التتريب حيث أمر (صلى الله عليه وآله) بتتريب الوجه لله تعالى، فهو إن لم يدل على الوجوب دلّ على أفضلية التتريب كما أخرج ذلك الحاكم في المستدرك 1: 271 وغيره أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) يقول لعبد أسود لنا: "أي رباح ترب وجهك".

4 ـ احاديث حسر كور العمامة: روي عن عليّ (عليه السلام) انّه قال: "إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه (السنن الكبرى للبيهقي 2: 105) وروي انّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (المصدر نفسه).

وهذا أيضاً يدلّ على أفضلية السجود على الأرض إن لم يدل على الوجوب.

5 ـ سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السجود على الأرض حتّى عند المطر (انظر: صحيح البخاري1: 198 كتاب الأذان باب السجود على الأنف والسجود على الطين).

ويمكن الرجوع إلى السنة النبوية الشريفة لملاحظة الأدلة الواردة في شرعية السجود علي التربة، بل ولابديه السجود عليها، وهنا ننقل بعض الروايات النبوية المصّرحة بذلك الأمر:

1 ـ عن ابن عبّاس قال: "إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم سجد علي الحجر" المستدرك 1: 473 وصححه هو والذهبي، البداية والنهاية 5: 173.

وعن وقائل قال: "رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده" مسند أحمد 4: 317، المصنف لابن أبي شيبة 1: 293.

وعن عاصم قال: "كان ابن سيرين إذا سجد على مكان لا يمسّ أنفه الأرض تحول إلى مكان آخر" المصنف لابن شيبة 1: 293.

وعن أبي حميد قال: "رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحسن الوضوء، ثُمّ دخل الصلاة، فذكر بعض الحديث وقال: ثُمّ إذا سجد فأمكن جبهته وأنفه من الأرض، ونحى يديه عن جبينه" صحيح ابن خزيمة 1: 321.

وعن معاذ بن جبل يصف صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول في ضمنها: "ويخر ساجداً، وكان يمكن جبهته وأنفه من الأرض.." المعجم الكبير للطبراني 20: 74.

وعن عبادة بن الصامت قال: "إنّه ـ أي النبي ـ إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته" المصنف لابن أبي شيبة 1: 300.

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "عن علي قال: إذا صلّى أحدكم فليحسر العمامة عن جبهته" المصنف لابن أبي شيبة 1: 300.

وعن محمّد قال: "أصابتني شجة، فعصبت عليها عصابة، فسألت أبا عبيدة أسجد عليها؟ قال: لا" المصنف لابن أبي شيبة 1: 300.

وعن عياض بن عبد اللّه القرشي قال: "رأى النبي (صلى الله عليه وآله) رجلاً يسجد على كور العمامة، فأوما بيده أن أرفع عمامتك فأومأ إلى جبهته" المصنف لابن أبي شيبة 1: 300.

وعن حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه في المعتم قال: "يمكن جبهته من الأرض" المصنف لابن ابي شيبة 1: 301.

وعن صالح بن خيوان السبائي وغيره: "أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) رأى رجلاً يسجد على عمامته، فحسر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عن جبهته" معرفة السنن والآثار 2: 10، أسد الغابة 3: 9، الاصابة لابن حجر 3: 375.

وأن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال لرجل: "إذا سجدت فأمكن جبهتك حتّى تجد حجم الأرض" معرفة السنن والآثار 2: 7.

وعن أبي سعيد الخدري قال: "أبصرت عيناي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) انصرف علينا صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين" السنن والآثار 2: 7.

وفي حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعلم أصحابه الصلاة جاء فيه: "ثُمّ يكبر ويسجد فيمكن جبهته من الأرض" المستدرك 1: 242، السنن الكبرى 2: 102.

وعن سلمان قال: "عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: تمسحوا بالأرض فإنّها بكم برة" مجمع الزوائد 8: 61، المعجم الصغير 1: 148، مسند الشهاب 1: 409.

وروى عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): "أنّه كان يصلّي على الخمرة" صحيح البخاري 1: 100، مسند أحمد 2: 92.

أما فتاوى فقهاء الصحابة والتابعين في لزوم السجود على التراب فهي غفيرة جمة ننقل ما وقع لنا:

1 ـ كان عطاء لا يجوز السجود الاّ على التراب والبطحاء. المحلّى 4: 83.

2 ـ أبو بكر فقد كان يسجد أويصلّي على الأرض مفيضاً إليها. المصنف للصنعاني 1: 397.

3 ـ عبد اللّه بن مسعود كان يقول: لا يصلّي إلاّ على الأرض. المصنف للصنعاني 1: 397.

4 ـ وعن إبراهيم انّه كان يترك السجود على الحصير ويسجد على الأرض. المصنف للصنعاني 1: 397.

5 ـ مرة بن شراحيل الهمداني: كان يسجد على التراب حتّى اُكل جبهته، فلّما مات رئي في المنام وقد صار مكان السجود نوراً. تذكرة الحفاظ 1: 67، سير أعلام النبلاء 4: 75، البداية والنهاية 8: 76.

6 ـ عروة بن الزبير: كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض. فتح الباري 1: 410، فيض القدير في شرح الجامع الصغير 5: 284.

7 ـ علي بن أبي طالب (عليه السلام): أرسل إلى عبد اللّه بن عبّاس أن أرسل إلي بلوح من المروة أسجد عليه. المصنف للصنعاني 1: 308.

بعض كلمات الفقهاء:

1 ـ قال الشوكاني في نيل الأوطار: "وإلى كراهته ـ يعني السجود على غير الأرض ـ ذهب الهادي" نيل الأوطار 2: 128.

2 ـ قال في شرح الأزهار: "مسألة: الهادي: ولا يجب الكشف عن السبعة إذا لم يفصل الخبر والمرتضى إلا الجبهة لقوله (صلى الله عليه وآله): فيمكن جبهته من الأرض. فلا يجزي على كور العمامة" 1: 238.

3 ـ وقال ابن الحجاج المالكي: "ومن ذلك ـ أي الواجب في السجود ـ إلاّ لا يسجد على حائل بينه وبين الأرض، فإنّه السنة.

ولمّا أدت الضرورة إلى الحصر المفروشة هناك فعلت.

وقد كان عمر بن عبد العزيز يباشر الأرض بوجهه ويديّه في سجوده، لا يحول بينه وبين الأرض شيء، وكذلك حال آخر السلف، فمن قدر على ذلك فهو الأولى والأفضل في حقه.

اللهم إلاّ أن تدعو ضرورة إلى ذلك، فأرباب الضرورات لهم أحكام أخر" المدخل 2: 21.

4 ـ وفي غنية المتملي في شرح منية المصلّي: 289: "سئل عمّن يضع جبهته على حجر صغير هل يجوز؟

قال: إن وضع أكثر الجبهة على الأرض يجوز والاّ فلا.

وحكاه عنه الحلبي في غنية المتملي في شرح منية المصلّي..".

5 ـ قال ابن تيمية: "ولم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأصحابه يصلّون على سجادة، ولكن صلّى على خمرة.. وكان يصلي على الحصير والتراب". مختصر الفتاوى المصرية: 63.

وقال أيضاً: "وينقل عن مالك أنّه لمّا قدم بعض العلماء وفرش في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) شيئاً من ذلك، أمر بحبسه وقال: أما علمت أنّ هذا في مسجدنا بدعة". مجموع الفتاوى 22: 192.

6 ـ وقال الشافعي: "ولو سجد على رأسه ولم يمسّ شيئاً من جبهته الأرض لم يجزه السجود، وإن سجد على رأسه فماس شيئاً من جبهته الأرض أجزأه السجود إن شاء اللّه تعالى.

ولو سجد على جبهته ودونها ثوب أو غيره لم يجزه السجود إلاّ أن يكون جريحاً، فيكون ذلك عذراً.

ولو سجد عليها وعليها ثوب متخرق فماس شيئاً من جبهته على الأرض أجزأه، لأنّه ساجد وشيء من جبهته على الأرض" كتاب الأم 1: 136.

وأخيراً نختم الكلام بعبد اللّه بن مسروق التابعي الكبير كان إذا سافر أخذ معه تربة، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن سيرين قال: "نبئت أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها". المصنف لابن أبي شيبة 2: 172.

وفي نفس المصدر أن محمّد: "كره أن يسجد على الخشبتين المقرونتين في السفينة، وكان يأخذ لبنة يسجد عليها".

فالسجود على التربة ليس بدعاً جاءت به الشيعة من عندها أو أُدخل عليها من أقوام آخرين، وإنّما هو من صلب العقيدة الاسلامية السليمة، وكانت سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وصحبه على ذلك.

وبعد الذي تقدم يظهر علينا كاتب في القرن العشرين ليس له أى باع أو اطلاع على التراث الاسلامى ليدعي أنّ السجود على التربة من ابداعات عمر بن الخطاب.

راجع الشيعة والدولة القومية في العراق ـ حسن علوي.


الصفحة 318

الصفحة 319

الصفحة 320

الصفحة 321

أو ما أنبتت الأرض من غير المأكول، ولا يصحّ السجود على غير ذلك.

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفترش التراب، وقد اتّخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها، وعلّم أصحابه رضوان الله عليهم فكانوا يسجدون على الأرض، وعلى الحصى، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا.

وقد اتخذ الإمام زين العابدين، وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليهما السلام)تربة من قبر أبيه أبي عبد الله باعتبارها تربة زكية طاهرة سالت عليها دماء سيد الشهداء(1)، واستمرّ على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا، فنحن لا نقول بأنّ

____________

1- المناقب لابن شهر آشوب 3: 29، عنه البحار 46: 79، وكان للإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً خريطة ديباج صفراء فيها تربة الحسين (عليه السلام) يسجد عليها ] مصباح المتهجد للطوسي: 733، عنه البحار 101: 135[،

ثمّ لا يخفى أنّ الاهتمّام بتربة الحسين (عليه السلام) كان منذ زمن النبي (صلى الله عليه وآله)فقد اخرج ابن سعد عن عليّ (عليه السلام) أنّ جبرئيل جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) واخبره بمقتل الحسين وأعطاه قبضة من تربته فشمّها (انظر تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 225، والصواعق المحرقة 2: 566، مجمع الزوائد 9: 187 وقال: رجاله ثقات)، وفي مسند أحمد 6: 294: "إنّ ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها. قال: فأخرج تربة حمراء"، وهو في المستدرك 4: 398، مجمع الزوائد 9: 187 وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".

وفي مسند أحمد أيضاً 3: 242: "إنّ أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، فضرب بيده، فجاء بطينة حمراء، فأخذتها أمّ سلمة فصرتها في خمارها.

قال: قال ثابت: بلغنا أنّها كربلاء"، وهو في مجمع الزوائد 9: 187 وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني بأسانيد وفيها عمارة بن زاذان وثقه جماعة وفيه ضعف".

وفي صحيح بن حبان 15: 142 وصحيحه محققه الشيخ الأرنؤوط: "إنّ أمتك ستقتله، إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه.

قال: نعم. فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه، فأراه إيّاها، فجاءه بسهلة أو تراب أحمر"، وهو في المجمع الكبير 3: 106، مسند أبي يعلى 1: 298، مسند البزار 3: 101.

إلى غير ذلك من الأحاديث التي تكشف عن اهتمام اللّه سبحانه وتعالى بهذه التربه المقدّسة التي سيفاض عليها دم صفي من أصفياء اللّه، وهو الحسين بن علي(عليه السلام).


الصفحة 322

السجود لا يصحّ إلاّ عليها، بل نقول بأنّ السجود يصح على أيّ تربة أو حجرة طاهرة، كما يصح على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك.


الصفحة 323

المأتم الحسيني

قلت ـ على ذكر سيّدنا الحسين (رضي الله عنه) ـ : لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتّى تسيل الدّماء وهذا محرّم في الإسلام، فقد قال (صلى الله عليه وآله): "ليس منّا من لطم الخدود، وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"؟(1)

أجاب السيّد قائلا: الحديث صحيح لا شكّ فيه، ولكنّه لا ينطبق على مأتم أبي عبد الله، فالذي ينادي بثأر الحسين ويمشي على درب الحسين دعوته ليست دعوى جاهلية.

ثُمّ إنّ الشيعة بشر فيهم العالم وفيهم الجاهل ولديهم عواطف، فإذا كانت عواطفهم تطغى عليهم في ذكرى استشهاد أبي عبد الله، وما جرى عليه وعلى أهله وأصحابه من قتل وهتك وسبي فهم مأجورون; لأنّ نواياهم كُلّها في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى يعطي العباد على قدر نواياهم.

وقد قرأت منذ أسبوع التقارير الرّسمية للحكومة المصرية بمناسبة موت جمال عبد الناصر، تقول هذه التقارير الرّسميّة بأنّه سجّل أكثر من ثماني حالات انتحارية قتل أصحابها أنفسهم عند سماع النّبأ، فمنهم من رمى نفسه من أعلى العمارة، ومنهم من ألقى بنفسه تحت القطار وغير ذلك، وأما المجروحون والمصابون فكثيرون.

وهذه أمثلة أذكرها للعواطف التي تطغى على أصحابها.

وإذا كان الناس ـ وهم مسلمون بلا شك ـ يقتلون أنفسهم من أجل موت جمال عبد الناصر وقد مات موتاً طبيعياً، فليس من حقّنا ـ بناء على مثل هذا ـ أن نحكم على أهل السنّة بأنّهم مخطئون، وليس لإخواننا من أهل السنّة أن

____________

1- صحيح البخاري 2: 82، كتاب الكسوف، باب الجنائز، سنن ابن ماجة 1: 504، سنن النسائي 4: 19، السنن الكبرى للبيهقي 4: 64.


الصفحة 324

يحكموا على إخوانهم من الشيعة بأنّهم مخطئون في بكائهم على سيّد الشهداء، وقد عاشوا محنة الحسين وما زالوا يعيشونها حتّى اليوم، وقد بكى رسول الله نفسه على ابنه الحسين وبكى جبريل لبكائه(1).

____________

1- إنّ مقام الحسين (عليه السلام) ومنزلته تأتي من منزلة ومقام جدّه النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد ورد في حقه على لسان جده المصطفى (صلى الله عليه وآله): "حسين منّي وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط" مسند أحمد 4: 172، سنن ابن ماجة 1: 51، وحكم المحقق بوثاقة رجاله، سنن الترمذي 5: 324 وحسنه، المستدرك للحاكم وصححه 3: 177، مجمع الزوائد 9: 181، المصنف لابن أبي شيبة 7: 515، صحيح ابن حبان 15: 428.

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله): "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة" مسند أحمد 3: 3، سنن ابن ماجة 1: 44، سنن الترمذي 5: 321.

وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): "هما ريحانتاي من الدنيا" يعني الحسن والحسين صحيح البخاري 4: 217، كتاب الفضائل، سنن الترمذي 5: 322 وحكم بحسنه، مسند أبي داود الطيالسي: 261، مسند أبي يعلى 10: 106.

وعن عطاء أنّ رجلاً أخبره: "أنّه رأى النبيّ(صلى الله عليه وآله) يضم حسناً حسيناً ويقول: اللهم إنّي أحبهما فأحبّهما" مسند أحمد 5: 369، مجمع الزوائد 9: 179 وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".

والحسين (عليه السلام) صاحب مقام عال لا يضاهيه أحد من الصحابة والمسلمين لما قدّمه من نصرة للدين، وإحياء لشرع الله تبارك وتعالى، فالحزن عليه ليس بدعاً أو أحدوثة، وإنّما هي أمر قبل أن يكون مشروعاً عقلائياً للمأساة التي وقعت عليه، مضافاً إلى أنّ الأنبياء (عليهم السلام)حزنوا على أبنائهم لما أصابهم في حياتهم فهذا نبي الله يعقوب (عليه السلام) يحزن على يوسف (عليه السلام)حتّى قال تعالى في وصفه: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) يوسف: 84، مع أن يوسف (عليه السلام) لم يقع إلاّ في مصائب أقل بكثير مما وقع فيه الحسين (عليه السلام)، فهو لم يذبح، ولم تسبى نساؤه، ولم يطاف به في البلدان ومع ذلك حزن عليه يعقوب (عليه السلام) إلى أن أبيضت عيناه وأصبح أعمى.

وكذلك النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) بكى وحزن، فقد بكى على جعفر وزيد في مؤته، وبكى عند موت إحدى بناته، وقوله لما سمع النساء يبكين قتلاهنّ في معركة أحد: "ولكن حمزة لا بواكي له".

فالبكاء والحزن أمر مشروع يجوز للانسان أن يقوم به تأسياً بالأنبياء (عليهم السلام).

أضف إلى ذلك إلى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أقام مآتم عديدة للبكاء على الحسين (عليه السلام)من يوم ولادته ففي مجمع الزوائد 9: 187: "عن أنس بن مالك أن ملك القطر أستأذن أن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله)، فأذن له، فقال لأُمّ سلمة: أملكي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد.

قال: وجاء الحسين بن علي ليدخل، فمنعته، فوثب فدخل، فجعل يقعد على ظهر النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى منكبه وعلى عاتقه.

قال: فقال الملك للنبي (صلى الله عليه وآله): أتحبه؟

قال: نعم.

قال: إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فضرب بيده، فجاء بطينة حمراء فأخذتها أُمّ سلمة فصرتها في خمارها.

قال ثابت: بلغنا أنّها كربلاء".

وفي المجمع أيضاً 9: 187: "وعن نجي الحضرمي: أنّه سار مع علي (رضي الله عنه)، وكان صاحب مطهرته، فلمّا حاذى نينوى، وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي: اصبر أبا عبدالله، أصبر أبا عبدالله، بشط الفرات.

قلت: وما ذاك؟

قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم، وإذا عيناه تذرفان.

قلت: يا نبي الله، أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

قال: بل قام من عندي جبريل (عليه السلام) فحدثني أنّ الحسين يقتل بشط الفرات.

قال: فقال: هل لك أن أُشمك من تربته؟

قلت: نعم.

قال: فمّد يده، فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا".

وفي مصنف ابن أبي شيبة 8: 632: "قالت أُم سلمة: دخل الحسين على النبي (صلى الله عليه وآله) وأنا جالسة على الباب، فتطلعت فرأيت في كف النبي (صلى الله عليه وآله) شيئاً يقبله وهو نائم على بطنه، فقلت: يا رسول الله، تطلعت فرأيتك تقلّب شيئاً في كفك والصبي نائم على بطنك ودموعك تسيل؟

فقال: إنّ جبرئيل أتاني بالتربة التي يقتل عليها، وأخبرني أن أُمتي يقتلونه".

وفي المعجم الكبير للطبراني 3: 108 بسنده عن عائشة قالت: "قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا عائشة الا أعجبك لقد دخل عليّ ملك آنفاً ما دخل عليّ قط.

فقال: إنّ ابني هذا مقتول، وقال: إن شئت أريتك تربة يقتل فيها، فتناول الملك بيده فأراني تربة حمراء".

وفي مجمع الزوائد 9: 189 عن أُم سلمة قالت: "كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيتي، فنزل جبريل فقال: يا محمّد، إن أُمتك تقتل ابنك هذا من بعدك، وأوما بيده إلى الحسين، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضمه إلى صدره،ثُمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أُم سلمة، وديعة عندك هذه التربة، فشمها رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقال: ويح كرب وبلاء.

قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أُم سلمة إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أنّ ابني هذا قد قتل.

قال: فجعلتها أُم سلمة في قارورة، ثُمّ جعلت تنظر إليها كُلّ يوم وتقول: إنّ يوماً تحولين دماً ليوم عظيم".

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تشير إلى نزول ملك خاصّ من السماء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجل هذه القضية، أو نزول جبرئيل (عليه السلام) وحزن النبي (صلى الله عليه وآله) وبكائه على ابنه وهو في المهد صبياً، والمجيء بترابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وايداعه أُم سلمة ـ رضي الله عنها ـ ، وانقلاب التراب دماً عبيطاً إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي تبين أن البكاء على الحسين (عليه السلام) والحزن لأجله من الأمور المشروعة التي قام بها صاحب الشرع جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، واقتدت الشيعة به.

ولأجل ذلك قال ابن كثير في البداية والنهاية 8: 221: "فكُلّ مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله (رضي الله عنه)، فإنّه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً..".

وللمزيد من الاطلاع على مشروعية الماتم الحسيني ارجع إلى كتاب سيرتنا وسنتنا للعلامة الاميني (رحمه الله).


الصفحة 325

الصفحة 326

قلت: ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضّة وهو محرّم في الإسلام؟

أجاب السيّد الصدر: ليس ذلك منحصراً بالشيعة، ولا هو حرام، فها هي مساجد إخواننا من أهل السنّة سواء في العراق، أو في مصر، أو في تركيا أو غيرها من البلاد الإسلامية مزخرفة بالذهب والفضّة، وكذلك مسجد رسول الله في المدينة المنورة، وبيت الله الحرام في مكّة المكرّمة الذي يُكسى في كلّ عام بحلّة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين، فليس ذلك منحصراً بالشيعة(1).

____________

1- أول من قام بزخرفة المساجد هم حكام أهل السنة، وبموافقة علمائهم قال العيني في عمّدة القارىء 4: 207: "أوّل من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة ـ رضي اللّه تعالى عنهم ـ ، وسكت كثيرٌ من أهل العلم عن انكار ذلك خوفاً من الفتنة، ورخص في ذلك بعضهم، وهو قول أبي حنيفة، إذا ما وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال.

وقال أبن المنير: لمّا شيّد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد، صوناً لها عن الاستهانة..".

وقال ابن حجر في فتح الباري 3: 364: "وقع في أيّام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي.

قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز، ولا أزاله في خلافته".

وقال: الشوكاني في نيل الأوطار 6: 141 وهو في معرض كلامه عن تحلية الكعبة بالذهب: "ثُمّ تمسك للجواز بما وقع في أيّام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد الحرام.

قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته. ثُمّ استدل للجواز بأنّ تحريم استعمال الذهب والفضة إنّما هو فيما يتعلق بالأواني المعدّة للأكُلّ والشرب ونحوهما، قال: وليس في تحلية المساجد بقناديل الذهب شيء من ذلك".

فأهل السنّة هم أول من بدأ بزخرفة المساجد وتزينها بالذهب والفضة، فهم المخالفون للسنة النبويّة الشريفة.


الصفحة 327

قلت: إنّ علماء السعودية يقولون: إنّ التمسّح بالقبور، ودعوة الصالحين، والتبرّك بهم، شرك بالله، فما هو رأيكم؟

أجاب السيّد محمّد باقر الصدر:

إذا كان التمسّح بالقبور ودعوة أصحابها بنيّة أنّهم يضرّون وينفعون فهذا شرك لا شك فيه، وإنّما المسلمون موحّدون، ويعلمون أنّ الله وحده هو الضارّ والنافع، وإنّما يدعون الأولياء والأئمة (عليهم السلام) ليكونوا وسيلتهم إليه سبحانه، وهذا ليس بشرك.

والمسلمون سنّة وشيعة متّفقون على ذلك من زمن الرّسول إلى هذا اليوم، عدا الوهابيّة وهم علماء السعودية الذين ذكرت، والذين خالفوا إجماع


الصفحة 328

المسلمين بمذهبهم الجديد الذي ظهر في هذا القرن، وقد فتنوا المسلمين بهذا الاعتقاد وكفّروهم وأباحوا دماءهم(1).

فهم يضربون الشيوخ من حجّاج بيت الله الحرام لمجرّد قول أحدهم: السّلام عليك يا رسول الله(2)، ولا يتركون أحداً يتمسّح على ضريحه الطاهر،

____________

1- للحركة السلفية طابعان: طابع نظري وطابع عملي، أما الطابع النظري فتولّى نشره ابن تيمية وابن القيّم وابن كثير ومحمّد بن عبدالوهاب حيث كفّروا فيها المسلمين بحجة التوسل بالأموات، وقد قام أمامهم جهابذة من العلماء وردّوا أدلّتهم أمثال السبكي في شفاء السقام، وسليمان بن عبدالوهاب شقيق محمّد ابن عبدالوهاب وغيرهما.

أما الطابع العملي فقد ظهر بعدما تمّ التنظير بتكفير المسلمين وإباحة دمائهم، وتحقق بعد التحالف الذي انعقد بين الوهابيين وبين آل سعود بدوافع لا تخفى على الخبير، فبدأت غاراتهم على بعض البلدان الإسلامية وقتلوا فيها الأبرياء وأراقوا الدماء، وهدموا المزارات والمشاهدة المشرّفة.

ولمزيد الاطلاع راجع: "كشف الارتياب في اتباع محمّد بن عبدالوهاب" لمؤلفه المغفور له السيد محسن الامين.

2- قال السيد أحمد بن زيني دحلان مفتي مكة (ت 1304) في كتابه: (فتنة الوهابية) ص20 ما لفظه: "وكانوا يمنعون من قراءة دلائل الخيرات المشتملة على الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى ذكرها كثير من أوصافه الكاملة، ويقولون إنّ ذلك شرك، ويمنعون من الصلاة عليه على المنابر بعد الأذان حتّى انّ رجلا صالحاً كان أعمى، وكان مؤذناً وصلّى على النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاذان بعد أنّ كان المنع منهم، فأتوا إلى ابن عبدالوهاب فأمر به أن يقتل فقتل، ولو تتبعت لك ما كانوا يفعلونه من أمثال ذلك لملأت الدفاتر والأوراق".

وقال في الدرر السنية: 52: "..ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات، ومن الرواتب والاّذكار، ومن قراءة مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في المنائر بعد الأذان، وقتل من فعل ذلك".

وقال الشيخ عبد الله الهروي في المقالات السنية: 48: "ويشهد لما ذكر، من تكفيرهم من يصلي على النبي أي جهراً على المآذن عقب الأذان ما حصل في دمشق من أنّ مؤذن جامع الدقاق قال عقب الأذان كعادة البلد: الصلاة والسّلام عليك يا رسول الله جهراً. فكان وهابي في صحن المسجد فقال بصوت عال: هذا حرام! هذا مثل الذي ينكح أمه..".

وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: 366: "ورخصّ بعضهم في السّلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها، وأما قصده دائماً للصلاة والسّلام فما علمت أحداً رخص فيه".

وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد 1: 224: "وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسّلام عليه هناك، أو الصلاة والدعاء فلم يشرعه ] أي النبيّ لهم، بل نهاهم عنه[".

وقال سليمان بن عبد الله بن محمّد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز المجيد 1: 311: ".. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسّلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم، بل نهاهم..".


الصفحة 329

وقد كان لهم مع علمائنا مناظرات، ولكنّهم أصرّوا على العناد واستكبروا استكباراً.

فإن السيّد شرف الدين من علماء الشيعة لمّا حجّ بيت الله الحرام في زمن عبد العزيز آل سعود، كان من جملة العلماء المدعويين إلى قصر الملك لتهنئته بعيد الأضحى كما جرت العادة هناك، ولمّا وصل الدور إليه وصافح الملك، قدّم إليه هديّة وكانت مصحفاً ملفوفاً في جلد، فأخذه الملك وقبّله ووضعه على جبهته تعظيماً له وتشريفاً.

فقال له السيّد شرف الدين عندئذ: أيّها الملك لماذا تقبّل الجلد وتعظّمه وهو جلد ماعز؟

أجاب الملك، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد!

فقال السيّد شرف الدين عند ذلك: أحسنت أيّها الملك، فكذلك نفعل نحن عندما نقبّل شبّاك الحجرة النبوّية أو بابها، فنحن نعلم أنّه حديد لا يضرّ ولا ينفع، ولكنّنا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الأخشاب، نحن نقصد بذلك تعظيم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلّفه.


الصفحة 330

فكبّر الحاضرون اعجاباً له وقالوا: صدقت، واضطر الملك وقتها إلى السّماح للحجّاج أن يتبركوا بآثار الرسول حتّى جاء الذي بعده فعاد إلى القرار الأوّل(1).

____________

1- حاول بعض السلفية الاجابة على هذه الشبهة فقال: "ثُمّ لو قلنا بجواز تقبيل المصحف فإنّه قياس مع الفارق لأنّ تعظيم المصحف الذي يحوي كلام الله ـ الذي هو صفة من صفاته ـ لا يؤدي بالتالي إلاّ إلى تعظيم الله فلا يخاف على صاحبه من ذريعة الشرك، بخلاف تعظيم قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعطائه بعض صفات الرب.." كشف الجاني: 68.

وفي هذا الكلام مفارقات واضحة حيث ذكر فيه أنّ المصحف هو كلام الله تعالى، مع أنّ المصحف ليس كلام الله تعالى وإنمّا مكتوب فيه كلام الله تعالى، فحاول طي المسألة. والمغالطة فيها إما لسوء فهم أو عن نّية، فإنّ الفرق بين الأمرين واضح حيث إن المصحف دوّن فيه الكلام الذي أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما أنه كلام الله فاطلاق مجازي.

مضافاً إلى أن تقبيل المصحف هو تقبيل للجلد وليس للصفحات التي كتب فيها كلام الله تعالى، فيعود الإشكال جذعاً، وهو كيف جاز لك تقبيل جلد المصحف ولم تجعله ذريعة إلى الشرك، أو من الأمور المنهي عنها ولا تجوز تقبيل القبر وتجعله ذريعة إلى الشرك، لأنّ الأمر الذي ذكره للتفريق بينهما غير فارق، فما دام هذا جماد وهذا جماد فلا يجوز تقبيلهما لأنّهما ذريعة إلى الشرك.

وإن كان الأمر بالتفريق الذي ذكره فهو غير صحيح، لأنّ تقبيل قبّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ليس علّة منحصرة أو ذريعة واضحة إلى الشرك وإنّما هو تكريم واحترام للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يجب على كلّ حال سواء أكان حياً أم ميتاً.

والتقدير والاحترام غير إشراكه في صفة من صفات الله تعالى، ولذلك تجد العلماء لم يفرقوا بين الأمرين قال ابن حجر في فتح الباري 3: 38: "استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كلّ من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فآتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنّه سئل عن تقبيل منبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقبيل قبره؟ فلم ير به بأساً.

واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك.

ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني ـ أحد علماء مكة من الشافعية ـ جواز تقبيل المصحف واجزاء الحديث وقبور الصالحين..".

وقال العيني في عمدة القارئ 9: 241: "وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنّية، وقد سأل أبو هريرة الحسن ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنّ يكشف له المكان الذي قبله فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو سرته، فقبله تبركاً بآثاره وذريته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كان ثابت البناني لا يدع يدّ أنساً ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتّى يقبلها ويقول: يد مست يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال أيضاً: وأخبرني الحافظ أبو سعيد العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ أنّ الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقبيل منبره؟

فقال: لا بأس بذلك.

قال: فأريناه للشيخ تقي الدين ابن تيمة، فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت أحمد عندي جليل يقوله؟ هذا كلامه أو معنى كلامه.

وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسل به.

وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة؟

وكيف بآثار الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ؟ ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول:

أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا

وقال المحب الطبري: ويمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى، فإنّه إن لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة.

قال: وقد رأيت في بعض تعاليق جدي محمّد بن أبي بكر، عن الامام أبي عبد الله محمّد بن أبي الصيف: إنّ بعضهم إذا رأى المصاحف قبلها، وإذا رأى أجزاء الحديث قبلها، وإذا رأى قبور الصالحين قبلها.

قال: ولا يبعد هذا..".

وقال الزركلي في البرهان 1: 478: "ويستحب تقبيل المصحف; لأنّ عكرمة بن أبي جهل كان يقبله وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود; ولأنه هدية لعباده فشرع تقبيله..".

فقاس جواز تقبيل المصحف على جواز تقبيل الحجر الأسود، ومن الواضح ـ بناء على كلام الخميس ـ تقبيل الحجر ذريعة إلى الشرك، ولكن الله أمر بها والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلها، فيبقى الاشكال على تجويز الله تعالى لذرائع الشرك بناءً على قياس الخميس وغيره.

هذا مضافاً إلى أنّ الادلة الشرعية جوزت تقبيل قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزيارته، ففي مسند أحمد 5: 422: "قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فاذا هو أبو أيوب.

فقال: نعم، جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم آت الحجر، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله"، وأخرجه الحاكم في المستدرك 4: 515 وصححه، والهيثمي في مجمع الزوائد 5: 245.

وفي تنوير الحوالك للسيوطي: 13: "عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قدم علينا إعرابي بعد ما دفنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أيّام، فرمى بنفسه على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله تعالى، فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله تعالى عليك (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً) (النساء: 64) وقد ظلمت نفسي، وجئتك لتستغفر لي فنودي من القبر: إنه قد غفر لك". وارجع إلى كنز العمال 2: 386 و4: 259، تفسير الثعلبي 3: 339، تفسير القرطبي 5: 266، تفسير البحر المحيط 3: 296، دفع الشبهة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): 142.

وفي المعجم الكبير للطبراني 12: 310 عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي".

وغير ذلك من الروايات الكثيرة، ومن شاء المزيد فعليه بمراجعة كتاب شفاء السقام للسبكي وغيره.

وأما كلمات العلماء فاليك بعض منها:

قال النووي في الأذكار: 204: "إعلم أنه ينبغي لكُلّ من حجّ أن يتوجه إلى زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن، فإنّ زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهّم القربات، وأربح المساعي، وأفضل الطلبات.

فإذا توجه للزيارة أكثر من الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقه، فإذا وقع بصره على أشجار المدينة وحرمتها وما يعرف بها زاد من الصلاة والتسليم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسأل الله أن ينفعه بزيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يسعده بها في الدارين.

وليقل: اللّهم افتح عليّ أبواب رحمتك، وارزقني في زيارة قبر نبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رزقت أولياءك وأهل طاعتك..

فاذا صلى تحية المسجد أتى القبر الكريم فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربع أذرع من جدار القبر وسلم مقتصداً لا يرفع صوته فيقول: السّلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه..".

وقال ابن قدامة في المغني 3: 588: "ويستحب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما روى الدارقطني باسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من حج فزار قبري بعد وفاتي فكانّما زارني في حياتي.

وفي رواية: من زار قبري وجبت له شفاعتي..".

وقال الشوكاني في نيل الأوطار 5: 178: "لم يذكر المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه هذا زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان الموطن الذي يحسن ذكرها فيه كتاب الجنائز، ولكنّها لمّا كانت تفعل في سفر الحج في الغالب ذكرها جماعة من أهل العلم في كتاب الحج، فأحببنا ذكرها هنا تكميلاً للفائدة.

وقد اختلفت فيها أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنّها واجبة.

وقالت الحنفية: إنّها قريبة من الواجبات.

وذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنف، المعروف بشيخ الإسلام إلى أنّها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعض الحنابلة، وروي ذلك عن مالك والجويني والقاضي عياض كما سيأتي.

احتج القائلون بأنّها مندوبة بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) سورة النساء: 64.

ووجه الاستدلال بها: أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حي في قبره بعد موته كما في حديث: "الأنبياء أحياء في قبورهم" وقد صححه البيهقي، وألف في ذلك جزءاً.

قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إنّ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)حي بعد وفاته، انتهى.

ويؤيد ذلك ما ثبت أنّ الشهداء أحياء يرزقون في قبورهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)منهم، وإذا ثبت أنه حي في قبره كان المجيء إليه بعد الموت كالمجيء إليه قبله، ثلاث..

وقال في الاقناع 1: 192: "ويندب زيارة القبور التي فيها المسلمون للرجال بالاجماع، وكانت زيارتها منهياً عنها، ثُمّ نسخت بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ويكره زيارتها للنساء، لأنّها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن.

نعم، يندب لهن زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّها من أعظم القربات، وينبغي أن يلحق بذلك بقية الأنبياء والصالحين والشهداء".

وقال في مغني المحتاج 1: 365: "اما زيارته فمن أعظم القربات للرجال والنساء.

والحق الدمنهوري به قبور بقيّة الأنّبياء والصالحين والشهداء".

وقال ابن كثير في البداية والنهاية 14: 143: "فان جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع وإنما فيه ذكر قولين في شدّ الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شدّ رحل إليها مسألة، وشدّ الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك...".

وقال في تطهير الفؤاد: 55: "فصل: ويستحب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وذكر حديث ابن عمر من طريق الدارقطني، ومن طريق سعيد بن منصور عن حفص وحديث أبي هريرة من طريق أحمد: ما من أحد يسلم عليَّ عند قبري. وكذلك نصّ عليه المالكية، وقد تقدم حكاية القاضي عياض بالإجماع.

وفي كتاب تهذيب الطالب لعبد الحق الصقلي عن الشيخ أبي عمران المالكي أنّ زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واجبة.

قال عبد الحقّ: يعني من السنن الواجبة..".


الصفحة 331

الصفحة 332

الصفحة 333

الصفحة 334

فالقضية ليست خوفهم أن يشرك الناس بالله بقدر ما هي قضية سياسية قامت على مخالفة المسلمين وقتلهم، لتدعيم ملكهم وسلطتهم على المسلمين، والتاريخ أكبر شاهد على ما فعلوه في أمّة محمّد.

وسألته عن الطرق الصوفية؟

فأجابني بإيجاز: بأنّ فيها ما هو إيجابي وفيها ما هو سلبي، فالإيجابي منها تربية النفس وحملها على شظف العيش، والزهد في ملذّات الدنيا الفانية، والسموّ بها إلى عالم الأرواح الزكية.

أمّا السلبي منها: فهو الانزواء والهروب من واقع الحياة، وحصر ذكر الله في الأعداد اللفظية وغير ذلك، والإسلام ـ كما هو معلوم ـ يقرّ الإيجابيات


الصفحة 335

ويطرح السلبيات، ويحقّ لنا أن نقول بأنّ مبادئ الإسلام وتعاليمه كلّها إيجابية.


الصفحة 336

الشك والحيرة

كانت أجوبة السيّد محمّد باقر الصدر واضحة ومقنعة، ولكن أنّى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسةً وعشرين عاماً من عمره على مبدأ تقديس الصحابة واحترامهم، وخصوصاً الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسّك بسنّتهم والسير على هديهم، وعلى رأس هؤلاء سيّدنا أبو بكر الصدّيق، وسيّدنا عمر الفاروق؟!

وإنّي لم أسمع لهما ذكراً منذ قدمت العراق، وإنّما سمعت أسماء أُخرى غريبة عنّي أجهلها تماماً، وأئمة بعدد اثني عشر إماماً، وادّعاء بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نصّ على الإمام علي بالخلافة قبل وفاته.

كيف لي أن أصدّق ذلك، أي أن يتّفق المسلمون، وهم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول الله، ويتصافقوا ضد الإمام علي كرم الله وجهه؟!

وقد علّمونا منذ نعومة أظافرنا بأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الإمام علياً، ويعرفون حقّه، فهو زوج فاطمة الزهراء، وأبو الحسن والحسين، وباب مدينة العلم.

كما يعرف سيّدنا علي حقّ أبي بكر الصدّيق الذي أسلم قبل الناس جميعاً، وصاحب رسول الله في الغار، ذكره الله تعالى في القرآن، وقد ولاه رسول الله إمامة الصّلاة في مرضه، وقد قال (صلى الله عليه وآله): "لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا"(1)، ولكُلّ ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم.

____________

1- صحيح البخاري 1: 120 كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، صحيح مسلم 2: 68 كتاب الصلاة، باب فضل بناء المسجد والحث عليها، و7: 108 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابي بكر الصديق، مجمع الزوائد 9: 43.


الصفحة 337

كما يعرف الإمام علي حقّ سيدنا عمر الذي أعزّ الله به الإسلام، وسمّاه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحقّ والباطل(1).

كما يعرف حقّ سيّدنا عثمان الذي استحت منه ملائكة الرحمن، والذي جهّز جيش العسرة، وسمّاه رسول الله بذي النورين(2).

____________

1- لا يوجد أي دليل على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) سمّى عمر بالفاروق، بل هي أغلوطة سنيّة زورقتها السياسية وطعمها الوله بابن الخطاب، صاحب الغلظة الشديدة، والأخلاق الهمجية، حتّى وصفه ابن أبي الحديد بقوله: "شديد الغلظة، وعر الجانب، خشن الملمس، دائم العبوس.." شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 227.

وقال المغيرة واصفاً عمر: "كان ممّا تميز به عمر.. عنه الرعب، إنّ النساء كانوا يفرقونه" تاريخ المدينة لابن شيبة 2: 680.

وفي مصنف ابن شيبة 7: 485: "لمّا حضرت أبا بكر الوفاة أرسل إلى عمر ليستخلفه قال: فقال الناس: أتستخلف علينا فظاً غليظاً، فلو ملكنا كان أفظ وأغلظ، ماذا تقول لربّك وقد استخلفته علينا"؟!

وفي تاريخ الطبري 3: 286 وغيره يتحدث عمر عن نفسه فيقول: "لا إله إلاّ الله العظيم العلي، المعطي ما شاء من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظاً يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت..".

فمن هذه، صفاته وأخلاقه، وهذا حاله في حله وترحاله، وقبل خلافته وبعدها، كيف يكون فاروقاً، بل الأولى أنّ يسمّى بغير تلك الأسماء المصطنعة.

والأسى كُلّ الأسى على ضعاف المسلمين وعامتهم كيف يتلاعب بهم من قبل خطباء المساجد وغيرهم بذكر هذه الأوصاف المصطنعة لمن بعد عن أنّ يتسم بجزء منها.

2- لم ترد هذه التسمية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما جاءت في كلماتهم لأنه تزوج بنتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهما ليسا نورين كما يعبر عنهما، إذ لم يرد شيء في حقهما من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في كونهما نورين.

أضف إلى ذلك فإنّ علماء السنة يصّرحون بأفضلية فاطمة الزهراء على عموم بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك لم يسموها بالنور أو غير ذلك، بل حاولوا الطعن في الروايات الواردة بحقّها.

ولم يكن عثمان بن عفان باراً ببنات النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ففي مسند أحمد 3: 229 عن أنس قال: "إنّ رقية ـ رضي الله عنها ـ لمّاماتت قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: لا يدخل القبر رجل قارف أهله، فلم يدخل عثمان"، المستدرك على الصحيحين 4: 47 وصححه، مجمع الزوائد 3: 43 وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".

قال ابن بطال في الروض الانف 2: 107 نقلاً عن الغدير 3: 24: "أراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّ يحرم عثمان النزول في قبرها، وقد كان أحقّ الناس بذلك; لأنّه كان بعلها، وفقد منها علقاً لا عوض منه; لاُنّه حين قال عليه السلام: أيكم لم يقارف الليلة؟! سكت عثمان ولم يقل: أنا; لأنّه قد قارف ليلة مات بعض نسائه، ولم يشغله الهمّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن المقارفة، فحرم بذلك ما كان حقاً له، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره.

وهذا بيّن في معنى الحديث، ولعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقلّ له شيئاً، لأنّه فعل فعلاً حلالاً، غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح".

وقال ابن حبيب: "إنّ السرّ في إيثار أبي طلحة على عثمان أنّ عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة، فتلطف(صلى الله عليه وآله) في منعه النزول في قبر زوجته بغير تصريح" فتح الباري 3: 127.

قال العلاّمة الأ ميني في الغدير 8: 232: "لا شكّ في أنّه أمر استحق من جرائه عثمان الحرمان من النزول في قبر زوجته ابنة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان أولى الناس بها، والمسلمون كلهم كانوا يعلمون ذلك، لكن رسول الله(صلى الله عليه وآله) الداعي إلى الستر على المؤمنين والاغضاء عن العيوب، الناهي عن إشاعة الفحشاء في الكتاب الكريم، والمانع عن التجسس عمّا يقع في الخلوات، المبعوث لاعزاز أهل الدين، حاشاه وما ينطق عن الهوى إنّ هو الاّ وحي يوحى أنّ يستثني مورداً واحداً تلوح بأمر عظيم حرم لأجله عثمان من الحظوة بالنزول في قبر حليلته أو معقد شرفه بصهر رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وواسطة مفخره بها بتلك الصلة، فوق المسلمون ذلك المقتضي بالطبع الأوّل. وهذا المانع من المقارفة المختلف في تفسيرها، فإن كان ذنباً أثر في رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّ حط برتبته بما قلناه ولو كانت صغيرة وهي غير ظاهرة تسترها، لكنها ولا كرامة لمقترفها، فان كانت سيئة هذا شأنها فلا خير فيمن يجترح السيئات.

وإنّ أريد مقارفة النساء على الوجه المحلل فهي من منافيات المروءة، ومن لوازم الفظاظة والغلظة، فاي إنسان تحيد له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرم مسجده، وانقطاع فخره، وانفصام عرى شرفه، فكيف هان ذلك على الخليفة، فلم يراع حرمة رسول الله(صلى الله عليه وآله) واستهان تلك المصيبة العظيمة فتلذذ بالرفث إلى جارية..".

فلا نور لعثمان بن عفان على فرض وجوده لرقية سلام الله عليها; لأنّه لم يحترمها ولم يحترم أبيها حتّى ذهب وجامع جارية وزوجته مسجاة أمامه، جسد ملقى، بعد سويعات تنزل في قبرها، وتلحد في ملحودتها، فلوكان تماماً هو الصحيح فذهب وضاجع واستأنس بجارية، مع مصيّبة رسول الله (صلى الله عليه وآله)بابنته.


الصفحة 338

الصفحة 339

فكيف يجهل إخواننا الشيعة كلّ هذا أو يتجاهلونه، ويجعلون من هؤلاء أشخاصاً عاديين، تميل بهم الأهواء والأطماع الدنيوية عن اتّباع الحقّ، فيعصون أوامر الرسول بعد وفاته، وهم الذين كانوا يتسابقون لتنفيذ أوامره، فيقتلون أولادهم وآباءهم وعشيرتهم في سبيل عزة الإسلام ونصرته، والذي يقتل أباه وولده طاعةً لله ورسوله لا يمكن أن تغّره أطماع دنيوية زائلة، هي اعتلاء منصة الخلافة، فيتجاهل أمر رسول الله ويتركه ظهرياً!!

نعم، من أجل كُلّ هذا ما كنت لأصدّق الشيعة في كُلّ ما يقولون، رغم أنّي اقتنعت بأُمور كثيرة، وبقيت بين الشك والحيّرة، الشكّ الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي، لأنّ كلامهم معقول ومنطقي، والحيّرة التي غمرتني فلم أصدّق أنّ الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينزلون إلى هذا المستوى الأخلاقي، فيصبحون بشراً عاديين مثلنا، لا تصقلهم أنوار الرسالة، ولم يهذّبهم الهدى المحمّدي؟

يا إلهي كيف يكون ذلك؟ أيمكن أن يكون الصحابة على هذا المستوى الذي يقول به الشيعة؟

والمهّم هو أنّ هذا الشكّ وهذه الحيّرة هما بداية الوهن، وبداية الاعتراف

بأنّ هناك أموراً مستورة لا بدّ من كشفها للوصول إلى الحقيقة.

الذهاب إلى كربلاء


الصفحة 340

جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء، وهناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته، وعلمت وقتئذ بأنّ سيدنا الحسين لم يمت، فالنّاس يتزاحمون ويتراصّون حول ضريحه كالفراشات، ويبكون بحرقّة ولهفة لم أشهد لهما مثيلا، فكأنَّ الحسين استشهد الآن.

وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب، ولا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتّى ينهار، فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها، وكأنّها كانت مكبوتة، وأحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم، وكأنّي كنت في صفوف أعداء الحسين، وانقلبت فجأة إلى أصحابه واتباعه الذين يفدونه بأرواحهم.

وكان الخطيب يستعرض قصّة الحرّ(1)، وهو أحد القادة المكلّفين بقتال الحسين، ولكنّه وقف في المعركة يرتعش كالسّعفة، ولمّا سأله بعض أصحابه: أخائف أنت من الموت؟

أجابه الحرّ: لا والله، ولكنّني أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، ثمّ همز جواده وانطلق إلى الحسين قائلا: هل من توبة يا بن رسول الله(2).

____________

1- الحر بن يزيد التميمي اليربوعي: ترجمه الزركلي في الأعلام 2: 172 فقال: "قائد، من اشراف تميم، أرسله الحصين بن نمير التميمي في ألف فارس من القادسية لاعتراض الحسين ـ رضي الله عنه ـ في قصده الكوفة، فالتقى به.

ولمّا أقبلت خيل الكوفة تريد قتل الحسين وأصحابه أبى الحرّ أنّ يكون فيهم، فانصرف إلى الحسين، فقاتل بين يديه قتالاً عجيباً حتّى قتل".

وفي الأعيان 4: 612: "وفي أبصار العين: كان الحرّ شريفاً في قومه، جاهلياً وإسلامياً، فإنّ جدّه عتاب كان رديف النعمان، وولد عتاب قيساً وقنبعاً ومات، فردف قيس للنعمان ونازعه الشيابانيون، فقامت بذلك حرب يوم الطحفة.

قال: الحر هو ابن عمّ الأخوص الصحابي الشاعر، وهو يزيد بن عمرو بن قيس ابن عتاب".

2- راجع تاريخ الطبري 5: 427، الكامل لابن الأثير 4: 64، البداية والنهاية لابن كثير 8: 125، الأخبار الطوال: 256، لواعج الأشجان: 135، وغيرها من المصادر.


الصفحة 341

ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطّت على الأرض باكياً، وكأنّي أمثّل دور الحر وأطلب من الحسين: هل من توبة يا بن رسول الله، سامحني يا بن رسول الله؟!

وكان صوت الخطيب مؤثراً، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء والنّحيب، عند ذلك سمع صديقي صياحي، وانكبّ علي معانقاً باكياً، وضمّني إلى صدره كما تضمّ الأُم ولدها وهو يردّد يا حسين، يا حسين.

كانت دقائق ولحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي، وأحسست وكأنّ دموعي غسلت قلبي، وكُلّ جسدي من الداخل، وفهمت وقتها حديث الرسول: "لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً"(1).

بقيت كامل اليوم مقبوض النفس، وقد حاول صديقي تسليتي وتعزيتي، وقدّم إليّ بعض المرطّبات، ولكن شهيتي انقطعت تماماً، وبقيت أسأله أن يعيد عليّ قصّة مقتل سيدنا الحسين، لأنّي ما كنت أعرف منها قليلا أو كثيراً، غاية ما هناك أنّ شيوخنا إذا حدّثونا عن ذلك يقولون: إنّ المنافقين أعداء الإسلام الذين قتلوا سيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، هم الذين قتلوا سيدنا الحسين!!(2) ولا نعرف غير هذا الاقتضاب، بل إنّنا نحتفل بيوم عاشوراء على أنّه

____________

1- مسند أحمد 5: 173، تفسير ابن كثير 4: 474، تفسير السلمي 2: 196،البداية والنهاية لابن كثير 1: 44، تاج العروس 13: 92 مادة (خلق).

2- من قاصمات الظهر، ونوائب الدهر، ورزايا العصر المخزية أنّ يساوى بين قاتل علي(عليه السلام) وهو عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الملعون، قال عنه الذهبي في لسان الميزان 2: 592: "ذاك المعثر الخارجي ليس بأهل أنّ يروى عنه، وما أظن له رواية، ختمّ بشر، فقتل أمير المؤمنين عليّاً متقرّباً إلى الله بدمه بزعمه"، وقال ابن حجر في الاصابة 5: 85: "من كبار الخوارج، وهو أشقى هذه الأمة بالنصّ الثابت عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) بقتل علي بن أبي طالب.."، وبين قاتل الحسين(عليه السلام) وهو عمر بن سعد، ريحانة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قال العجلي في ترجمته 2: 166: "مدني ثقة، كان يروي عن أبيه أحاديث، وروى الناس عنه، وهو قاتل الحسين.."، وقال الذهبي في الكاشف 2: 61 "حط عليه ابن معين لقتاله الحسين"، كيف يساوى بين هؤلاء وبين الصحابة الأخيار الذين ثاروا ضد بني أمية وبني معيط، لسحقهم التعاليم النبوية، والأخذ بالجاهلية، والتنصل عن المفاهيم القرآنية، فثارت ثورتهم المباركة، التي هي أوّل ثورة إسلامية داخل المحيط الاسلامى، لتكشف ذلك الزيغ، وتقيم الاعوجاج وترجع الحق إلى أهله، لكن عثمان بن عفان وقف في وجههم ورفض ذلك، وأخذ يدافع عن بني قومه دفاعاً أبعد ما يكون عن روح الاسلام، بل وعن السنة البكرية والعمرية، فامتشقته سيوف الصحابة الكرام من أمثال: عبد الرحمن بن عديس البلوي الصحابي الذي بايع بيعة الرضوان قال ابن حجر في الاصابة 4: 281: "صحب النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وسمع منه، وشهد فتح مصر، وكان فيمن سار إلى عثمان"، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب 2: 840: "عبد الرحمن بن عديس البلوي: مصري شهد الحديبية.. كان ممّن بايع تحت الشجرة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال أبو عمر: هو كان الأمير على جيش القادمين من مصر إلى المدينة الذين حصروا عثمان وقتلوه" وبين عمرو بن الحمق الخزاعي ذلك الصحابي الجليل قاتل عثمان قال ابن عبد البر في الاستيعاب 3: 1173: "هاجر إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)بعد الحديبية.. صحب النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وحفظ عنه أحاديث، وسكن الشام ثُمّ انتقل إلى الكوفة فسكنها.. وكان ممّن سار إلى عثمان، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا عليه الدار.. ثُمّ صار من شيعة علي ـ رضي الله عنه ـ، وشهد معه مشاهده كُلّها: الجمل والنهروان وصفين..".

وقال الذهبي في تاريخ الاسلام 3: 456: "ووثب عليه عمرو بن الحمق، وبه رمق، وطعنه تسع طعنات وقال: ثلاث لله، وست لمّافي نفسي عليه"، وهو في الطبقات 3: 74، والبداية والنهاية 7: 207.

وبين كنانة بن بشر الصحابي قال عنه ابن حجر في الاصابة 5: 486: "شهد فتح مصر، وقتل بفلسطين سنة ست وثلاثين، وكان ممّن قتل عثمان، وإنّما ذكرته لأنّ الذهبي ذكر عبد الرحمن بن ملجم لأنّ له إدراكاً، وينبغي أنّ ينزه عنهما كتاب الصحابة".

وقال العيني في عمدة القاري 5: 231: "وقال ابن الجوزي: وقد صلّى كنانة ابن بشر أحد رؤوس الخوارج بالناس أيضاً..".

وبين جهجاه بن قيس الغفاري الرضواني قال ابن الأثير في أسد الغابة 1: 309: "شهد مع النبيّ(صلى الله عليه وآله) بيعة الرضوان وشهد غزوة المريسع، وهو الذي تناول العصا من يد عثمان.. وهو يخطب فكسرها، فأخذته الآكلة في ركبته..".

وقال ابن شبة في تاريخ المدينة 3: 1112، والبلاذري في أنساب الأشراف 6: 161: "أنّ جهجاه الغفاري دخل على عثمان فأخذ منه عصا النبيّ(صلى الله عليه وآله) التي كان يتخصر بها، فكسرها على ركبته، فأخذته الأكلة في ركبته، وكان جهجاه ممّن بايع تحت الشجرة ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ ".

وبين زيد بن صوحان العبدي الصحابي الجليل الذي قال في حقّه النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله): "يسبقه بعض جسده إلى الجنّة، ثُمّ يتبعه سائر جسده إلى الجنّة" الاستيعاب 2: 556، تعجيل المنفعة: 143.

وقال في الاستيعاب 2: 555: "وكان فاضلاً ديناً سيداً في قومه هو وأخوته".

قال الطبري في تاريخه 3: 386 وهو يتكلم عن الرايات الخارجة على عثمان: "وعلى الرقاق زيد بن صوحان العبدي" .

وغير هؤلاء الكثير من فضلاء الصحابة والتابعين كمالك الأشتر وصعصعة بن صوحان وغيرهم ممّن انتفضوا لأجل الحق وثاروا ضد الباطل، لاقامة نصاب الأمور على مكانتها الأولى على عهد وسول الله(صلى الله عليه وآله) والتي انتهت بقتل عثمان ودفنه في مقابر اليهود بعد منعهم من غسله ودفنه لمدّة ثلاث أيّام ومن ثُمّ منع من دفنه في البقيع.

فلا مقايسة أصلاً بين قتلة علي(عليه السلام) من الخوارج المارقين وقتله الحسين(عليه السلام)من الأدعياء وأبناء الطلقاء المستهترين وبين قتلة عثمان من الصحابة الأجلاء المحترمين الذين صرّح النبيّ(صلى الله عليه وآله) بأنّ بعضهم في الجنّة.


الصفحة 342

الصفحة 343

من الأعياد الإسلامية، وتخرج فيه زكاة الأموال، وتطبخ فيه شتّى المأكولات وأنواع الأطعمة الشهيّة، ويطوف الصبيان على الكبار ليعطوهم بعض النقود لشراء الحلويات والألعاب!!(1)

صحيح أنّ هناك بعض التقاليد والعادات في بعض القرى منها أنّهم يشعلون النار، ولا يعملون في ذلك اليوم، ولا يتزوجون، ولا يفرحون، ولكن نسمّيها عادات وتقاليد بدون ذكر أيّ تفسير لها، ويروي علماؤنا في ذلك

____________

1- لم يقصد المؤلف من ذلك أنّه عيد من الأعياد الإسلامية، وإنّما يريد أن يبين أنّه عيد شعبي للناس تحتفل به، وتظهر الزينة فيه، وإطعام الطعام وغير ذلك.