الصفحة 473

الصــحابة
في سرية أُسامة


الصفحة 474

الصفحة 475

3 ـ الصحابة في سرية أُسامة:

مجمل هذه القصّة: أنّه (صلى الله عليه وآله) جهّز جيشاً لغزو الروم قبل وفاته بيومين، وأمّر على هذه السرية أسامة بن زيد بن حارثة، وعمره ثمانية عشر عاماً، وقد عبأ (صلى الله عليه وآله) في هذه السّرية وجوه المهاجرين والأنصار، كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين(1).

____________

1- قال ابن سعد في الطبقات 2: 149، 4: 66: "انّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية فيهم أبو بكر وعمر فاستعمل عليهم أُسامة".

وقال ابن الأثير في الكامل 2: 317 في حوادث سنة أحدى عشر: "وأوعب مع أُسامة المهاجرون الأوّلون، منهم: أبو بكر وعمر".

وقال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 8: 46 رقم 596 في ترجمة أُسامة: "استعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جيش فيه أبو بكر وعمر".

وقال ابن حجر في فتح الباري 8: 192 باب 87 "وكان من ندب مع أُسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة ابن النعمان وسلمة بن أسلم"، ثمّ ردّ على ابن تيمية في انكار كون أبي بكر من الجيش، وأكّد تواجده فيه نقلا من السيرة لابن اسحاق والمنتظم لابن الجوزي وفي تهذيب الكمال للمزي 2: 34، وتهذيب التهذيب لابن حجر 1: 182. وفي السيرة الحلبية 3: 291 قال: "فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلاّ اشتد لذلك، منهم أبو بكر وعمر..." هذا ولكنّه ذهب في الصفحة الثانية إلى أنّ الرسول استثنى أبا بكر من الجيش للصلاة، لكن هذا لا يصح فإنّ الرسول (صلى الله عليه وآله)لم يأمر أبا بكر بالصلاة، فكيف وقد أنفذه مع سائر الصحابة.

وفي تاريخ الإسلام للذهبي 8: 714: "فلم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة".

وفي أنساب الأشراف للبلاذرى 2:115: "خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى جلس على المنبر، وكان الناس قد تكلموا في أمره حين أراد توجيههم إلى مؤته، فكان أشدّهم قولاً في ذلك عبّاس بن أبي ربيعة.

فقال: أيّها الناس، انفذوا بعث أُسامة، فلعمري لئن قلتم في إمرته لقد قلتم في إمرة أبيه من قبله، ولقد كان ابوه للإمارة خليقاً، وإنّه لخليق بها.

وكان في جيش أُسامة: أبو بكر وعمر ووجوه من المهاجرين والأنصار".

وقال ابن الأثير في أُسد الغابة 1:197: "فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) استعمله على جيش وأمره أن يسير إلى الشام أيضاً، وفيهم عمر بن الخطاب".


الصفحة 476

فطعن قوم منهم في تأمير أُسامة، وقالوا: كيف يؤمّر علينا شاب لا نبات بعارضيه، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النّقد، حتّى غضب (صلى الله عليه وآله) غضباً شديداً ممّا سمع من طعنهم وانتقادهم، فخرج (صلى الله عليه وآله)معصّب الرأس محموماً، يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطّان في الأرض ـ بأبي هو وأمّي ـ من شدّة ما به من لغوب، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

"أيّها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أُسامة، ولئن طعنتم في تأميري أُسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله، وأيم الله أنّه كان خليقاً بالإمارة، وأنّ ابنه من بعده لخليق بها..."(1).

ثُمّ جعل (صلى الله عليه وآله) يحضّهم على التعجيل، وجعل يقول: "جهّزوا جيش أُسامة، أنفذوا جيش أُسامة أرسلوا بعث أُسامة"، يكرّر ذلك على مسامعهم وهم متثاقلون، وعسكروا بالجرف وما كادوا يفعلون.

إنّ مثل ذلك يدفعني إلى أن أتساءل: ما هذه الجرأة على الله ورسوله؟!

وما هذا العقوق في حقّ الرسول الأكرم الذي هو حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم؟

لم أكن أتصوّر ـ كما لا يمكن لأحد أن يتصوّر ـ تفسيراً مقبولا لهذا العصيان، وهذه الجرأة؟!

وكالعادة، عند قراءة مثل هذه الأحداث التي تمسّ كرامة الصحابة من قريب أو بعيد، أحاول تكذيب مثل هذه القضايا وتجاهلها، ولكن لا يمكن

____________

1- ورد بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أحمد 2:20، صحيح البخاري كتاب المغازي باب 89، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة في فضائل زيد وأسامة، تاريخ دمشق لابن عساكر 8: 59 ـ 62، السنن الكبرى للبيهقي 8: 154، السنن الكبرى للنسائي 5: 53، وغيرها من المصادر.


الصفحة 477

تكذيب وتجاهل ما أجمع عليه المؤرخون والمحدثون من علماء السنّة والشيعة.

وقد عاهدت ربّي أن أكون منصفاً، فلا أتعصّب لمذهبي ولا أقيم وزناً لغير الحقّ، والحقّ هنا مرّ كما يقال، وقد قال عليه الصلاة والسّلام: "قل الحقّ ولو كان على نفسك وقل الحقّ ولو كان مرّاً...".

والحقّ في هذه القضية: هو أنّ هؤلاء الصحابة الذين طعنوا في تأمير أُسامة قد خالفوا أمر ربّهم وخالفوا الصريح من النصوص التي لا تقبل الشكّ ولا تقبل التأويل، وليس لهم عذر في ذلك، إلاّ ما يلتمسه البعض من أعذار باردة حفاظاً على كرامة الصحابة و"السلف الصالح" والعاقل الحرّ لا يقبل بحال من الأحوال هذه المتمحّلات.

اللّهم إلاّ إذا كان من الذين لا يفقهون حديثاً، ولا يعقلون، أو من الذين أعمت العصبية أعينهم، فلم يعودوا يفرّقون بين الفرض الواجب طاعته، والنهي الواجب تركه.

ولقد فكّرت مليّاً عساني أجد عذراً لهؤلاء مقبولا، فلم يسعفني تفكيري بطائل، وقرأت اعتذار أهل السنّة على هؤلاء: بأنّهم كانوا مشايخ قريش وكبرائها، ولهم الأسبقيّة في الإسلام، بينما أُسامة كان حدثاً ولم يشارك في المعارك المصيريّة لعزّة الإسلام، كمعركة بدر وأحد وحنين، ولم تكن له سابقة، بل كان صغير السنّ عندما ولاّه رسول الله إمارة السرية، وطبيعة النفوس البشرية تأبى بجبلّتها إذا كانت بين كهول وشيوخ أن تنقاد إلى الأحداث، وتنفر بطبعها من النزول على حكم الشبّان، ولذلك طعنوا في تأميره، وأرادوا منه (صلى الله عليه وآله) أن يستبدله بأحد من وجوه الصحابة وكبرائهم.

إنّه اعتذار لا يستند إلى دليل عقلي ولا شرعي، ولا يمكن لأي مسلم قرأ القرآن وعرف أحكامه إلاّ أن يرفض مثل هذا، لأنّ الله عزّ وجلّ يقول:


الصفحة 478

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً}(2).

فأيّ عذر بعد هذه النصوص الصريحة يقبله العاقلون، وماذا عساني أن أقول في قوم أغضبوا رسول الله وهم يعلمون أنّ غضب الله في غضبه، وذلك بعد أن رموه بالهجر وقالوا بحضرته ما قالوا، وأكثروا اللّغط والاختلاف، وهو مريض بأبي هو وأمي، حتّى أخرجهم من حجرته.

أو لم يكفهم كلّ هذا؟! وبدلا من أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى الله ويستغفروه ممّا فعلوا، ويطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم كما علّمهم القرآن، عوضاً عن ذلك فقد زادوا في الطّين بلّة ـ كما يقول المثل الشعبي عندنا ـ وتاهوا وتطاولوا على من كان بهم رؤوف رحيم، ولم يراعوا له حقّاً، ولم يعرفوا له احتراماً.

فطعنوا في تأميره أُسامة بعد يومين من رميه بالهجر، والجرح لمّا يندمل، حتّى أجبروه أن يخرج (صلى الله عليه وآله) بتلك الحالة التي وصفها المؤرخون، لا يقدر على المشي من شدّة المرض، وهو يتهادى بين رجلين، ثمّ يقسم بالله بأنّ أُسامة خليق بالإمارة.

ويزيدنا الرسول بأنّهم هم أنفسهم الذين طعنوا في تأميره زيد بن حارثة من قبل، ليعلمنا أنّ هؤلاء لهم معه مواقف سابقة متعدّدة، وسوابق شاهدة على أنهم لم يكونوا من الذين لا يجدون في أنفسهم حرجاً ممّا قضى ويسلّموا تسليماً، بل كانوا من المعاندين المجادلين الذين جعلوا لأنفسهم حقّ النقد والمعارضة، حتّى ولو خالفوا بذلك أحكام الله ورسوله.

____________

1- سورة الحشر: 7.

2- سورة الأحزاب: 36.


الصفحة 479

وممّا يدلّنا على المعارضة الصريحة، أنّهم رغم ما شاهدوه من غضب رسول الله، ومن عقد اللواء له بيده الشريفة، والأمر لهم بالإسراع والتعجيل، تثاقلوا وتباطأوا، ولم يذهبوا حتّى توفّي بأبي هو وأمّي، وفي قلبه حسرة على أمّته المنكوبة التي سوف تنقلب على أعقابها، وتهوى في النار، ولا ينجو منها إلاّ القليل الذي شبّهه رسول الله بهمل النّعم(1).

وإذا أردنا أن نتمعّن في هذه القضية، فإنّنا سنجد الخليفة الثاني من أبرز عناصرها وأشهر أقطابها، إذ إنّه هو الذي جاء بعد وفاة رسول الله إلى الخليفة أبي بكر، وطلب منه أن يعزل أُسامة ويبدله بغيره، فقال له أبو بكر: ثكلتك أمك يا بن الخطاب! أتأمرني أن أعزله وقد ولاّه رسول الله(2).

فأين هو عمر من هذه الحقيقة التي أدركها أبو بكر، أم أن في الأمر سرّاً آخر خفي عن المؤرخين، أم أنّهم هم الذين أسرّوه حفاظاً على كرامته، كما هي عادتهم، وكما أبدلوا عبارة: "يهجر" بلفظ: "غلبه الوجع"؟!

عجبي من هؤلاء الصحابة الذين أغضبوه يوم الخميس، واتهموه بالهجر والهذيان، وقالوا: "حسبنا كتاب الله"، وكتاب الله يقول لهم في محكم آياته: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(3)!

وكأنّهم هم أعلم بكتاب الله وأحكامه من الذي أنزل عليه، وها هم بعد يومين فقط من تلك الرزية المؤلمة، وقبل يومين فقط من لحوقه بالرفيق الأعلى، يغضبونه أكثر فيطعنون في تأميره ولا يطيعون أمره.

____________

1- صحيح البخاري 7: 209، كتاب الرقاق، النهاية في غريب الحديث 5: 274، كنز العمال 11: 133.

2- تاريخ الطبري 3: 226، كنز العمال 10: 579 ح30268، تاريخ دمشق لابن عساكر 2: 50.

3- سورة آل عمران: 31.


الصفحة 480

وإذا كان في الرزية الأولى مريضاً طريح الفراش، فقد اضطرّ في الثانية أن يخرج معصّب الرأس، مدثّراً بقطيفة، يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض، وخطب فيهم خطبة كاملة من فوق المنبر، بدأها بتوحيد الله والثناء عليه، ليشعرهم بذلك بأنه بعيد عن الهجر، ثمّ أعلمهم بما عرفه من طعنهم، ثمّ ذكّرهم بقضية أُخرى طعنوا فيها من قبل أربع سنوات خلت، أفهل يعتقدون بعد ذلك بأنّه يهجر، أو أنّه غلبه الوجع، فلم يعد يعي ما يقول؟!

سبحانك اللّهم وبحمدك! كيف يجرؤ هؤلاء على رسولك، فلا يرضون بالعقد الذي أبرمه، ويعارضونه بشدّة حتّى يأمرهم بالنحر والحلق ثلاث مرّات، فلا يستجيب منهم أحد، ومرّة أخرى يجذبونه من قميصه، ويمنعونه من الصلاة على عبد الله بن أبيّ ويقولون له: "إنّ الله قد نهاك أن تصلّي على المنافقين"(1)! وكأنهم يعلّمونه ما نزل إليه، في حين أنّك قلت في قرآنك: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(2).

وقلت أيضاً: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}(3).

وقلت وقولك الحقّ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(4).

فعجباً لهؤلاء القوم الذين ينزلون أنفسهم فوق منزلته; فمرّة لا يمتثلون لأمره، ومرّة يتهمونه بالهجر، ويكثرون اللّغط بحضرته في غير احترام ولا أدب،

____________

1- أنظر صحيح البخاري باب الجنائز 2:6، مسند أحمد 2:18، سنن الترمذي 4:343، سنن النسائي 4:37، السنن الكبرى للبيهقي 8:199، صحيح ابن حبّان 7:447، الاستيعاب 3:941.

2- سورة النحل: 44.

3- سورة النساء: 105.

4- سورة البقرة: 151.


الصفحة 481

وأُخرى يطعنون في تأميره زيد بن حارثة، ومن بعده في تأمير ابنه أُسامة بن زيد فكيف يبقى بعد كلّ هذا شك للباحثين من أنّ الشيعة على حق عندما يحيطون مواقف بعض الصحابة بعلامات الاستفهام، ويمتعضون منها احتراماً وحبّاً ومودةً لصاحب الرسالة وأهل بيته؟!

على أنّي لم أذكر من المخالفات غير أربع أو خمس، وذلك للاختصار، ولتكون أمثلة فقط، ولكنّ علماء الشيعة قد أحصوا مئات الموارد التي خالف فيها الصحابة النصوص الصريحة، ولم يستدلوا إلاّ بما أخرجه علماء السنّة في صحاحهم ومسانيدهم.

وإنّي عندما أستعرض بعض المواقف التي وقفها بعض الصحابة من رسول الله، أبقى حائراً مدهوشاً، لا من تصرّفات هؤلاء الصحابة فحسب، ولكن من موقف علماء السنّة والجماعة الذين يصوّرون لنا الصحابة دوماً على حق لا يمكن التعرض لهم بأيّ نقد، وبذلك يمنعون الباحث من الوصول إلى الحقيقة، ويبقى يتخبّط في التناقضات الفكرية.

وزيادة على ما سبق أسوق بعض الأمثلة التي تعطينا صورة حقيقية على هؤلاء الصحابة، ونفهم بذلك موقف الشيعة منهم:

أخرج البخاري في صحيحه 4: 47 في باب الصبر على الأذى، وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم} من كتاب الأدب، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت شقيقاً يقول: قال عبد الله: قسّم النبي (صلى الله عليه وآله) قسمة كبعض ما كان يقسّم، فقال رجل من الأنصار والله إنّها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت: أما أنا لأقولنّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأتيته وهو في أصحابه فساررته، فشق ذلك على النبيّ، وتغيّر وجهه وغضب، حتّى وددت أنّي لم أكن أخبرته، ثمّ قال: "قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر"(1).

____________

1- وهو أيضاً في: صحيح مسلم 3:109، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، سنن الترمذي 5:369، السنن الكبرى ي للبيهقي 8:167، الأدب المفرد: 90، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2:225.


الصفحة 482

كما أخرج البخاري في نفس الكتاب، أعني كتاب الأدب في باب التبسّم والضحك، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: كنت أمشي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجذبه بردائه جذبة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي (صلى الله عليه وآله) وقد أثّرت بها حاشية الرداء من شدّة جذبته، ثمّ قال: يا محمّد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثمّ أمر له بعطاء(1).

كما أخرج البخاري في كتاب الأدب في باب من لم يواجه الناس بالعتاب، قال: قالت عائشة: صنع النبي (صلى الله عليه وآله) شيئاً فرخّص فيه، فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله)، فخطب فحمد الله ثمّ قال: "ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه، فوالله إنّي لأعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية"(2).

ومن أمعن النظر في مثل هذه الرواية، فسيجدهم ينزلون أنفسهم فوق منزلته، ويعتقدون بأنّه يخطئ ويصيبون، بل إنّ هذا يستتبع تصحيح بعض المؤرخين لأفعال الصحابة حتّى لو خالفت فعل النبي، أو إظهار بعض الصحابة بمنزلة من العلم والتقوى أكثر من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما حصل ذلك عندما حكموا بأنّ النبي أخطأ في قضية أسرى بدر، وأصاب عمر بن الخطاب، ويروون في ذلك روايات مكذوبة بأنه (صلى الله عليه وآله) قال: "لو أصابنا الله بمصيبة لم يكن ينج منها إلاّ ابن الخطّاب"(3).

____________

1- وهو أيضاً في: صحيح مسلم 3:103، باب إعطاء من سأل، البداية والنهاية 4:413، السيرة النبوية لابن كثير 3:682.

2- وفيه أيضاً في: الأدب المفرد: 98، كشف الخفاء 1:200، تفسير البغوي 3:570، إمتاع الاسماع 3:149.

3- تجد قريب منه في المصادر التالية: صحيح مسلم 5: 157، الكامل في التاريخ 2: 136، تاريخ الطبري 1: 169، فتح القدير للشوكاني 1: 398، تفسير القرطبي 8 : 47، الدر المنثور للسيوطي 3: 203، المستصفى للغزالي: 247.


الصفحة 483

وكأنّ لسان حالهم يقول: لولا عمر لهلك النبي! والعياذ بالله من هذا الاعتقاد الفاسد المشين الذي لا قبح بعده.

ولعمري إنّ الذي يعتقد هذا الاعتقاد هو بعيد عن الإسلام بعد المشرقين، ويجب عليه أن يراجع عقله، أو يطرد الشيطان من قلبه. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(1) صدق الله العلي العظيم.

ولعمري إنّ الذين يعتقدون بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يميل به الهوى، ويحيد به عن طريق الحقّ، فيقسم قِسمة لا يريد بها وجه الله، وإنّما تبعاً لهواه وعاطفته، والذين يتنزّهون عن أشياء يصنعها رسول الله اعتقاداً منهم بأنّهم أتقى لله وأعلم به من رسوله، فهؤلاء ليسوا جديرين بأيّ احترام ولا تقدير من المسلمين، فضلا على أن ينزلونهم منزلة الملائكة، فيحكمون بأنّهم أفضل الخلق بعد رسول الله، وأنّ المسلمين مدعوّون لاتّباعهم والاقتداء بهم، والسير على سنّتهم، لا لشيء إلاّ لأنّهم صحابة رسول الله.

وهذا يتناقض مع أهل السنّة والجماعة الذين لا يصلّون على محمّد وآله إلاّ ويضيفون إليهم الصحابة أجمعين، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد عرف قدرهم وأنزلهم منزلتهم، فأمرهم بأن يصلّوا على رسوله وأهل بيته الطاهرين، ليّاً لأعناقهم ليخضعوا ويعرفوا مكانة هؤلاء عند الله، فلماذا نجعلهم نحن في منزلة فوق منزلتهم، ونسوّيهم بمن رفع الله قدرهم وفضّلهم على العالمين.

ودعني أستنتج بأنّ الأمويين والعبّاسيين الذين نصبوا العداء لأهل البيت النبوي، وأبعدوهم وشرّدوهم وقتلوهم هم وأتباعهم وشيعتهم، تفطّنوا لما في هذه المزيّة من الفضل العميم والخطر الجسيم، فإذا كان الله سبحانه لا يقبل

____________

1- سورة الجاثية: 23.


الصفحة 484

صلاة مسلم إلاّ إذا صلّى عليهم، فبماذا يبرّرون عداءهم وانحرافهم عن أهل البيت؟!

ولذلك تراهم ألحقوا الصّحابة بأهل البيت ليموّهوا على الناس بأنّ أهل البيت والصحابة في الفضل سواء.

وخصوصاً إذا عرفنا بأنّ ساداتهم وكبراءهم هم بعض الصّحابة الذين استأجروا ضعفاء العقول ممّن صحبوا رسول الله أو من التابعين ليرووا الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة، وبالأخصّ في من اعتلوا منصّة الخلافة، وكانوا سبباً مباشراً في وصولهم ـ أي الأمويين والعباسيين ـ إلى الحكم والتحكّم في رقاب المسلمين.

والتاريخ خير شاهد على ما أقول إذ إنّ عمر بن الخطّاب الذي اشتهر بمحاسبة ولاته وعزلهم لمجرّد شبهة، نراه يلين مع معاوية بن أبي سفيان ولا يحاسبه أبداً، وقد ولاّه أبو بكر وأقرّه عمر طيلة حياته، ولم يعترض عليه حتّى بالعتاب واللّوم، رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية ويقولون له: بأنّ معاوية يلبس الذهب والحرير اللذين حرمهما رسول الله على الرجال، فكان عمر يجيبهم: "دعوه فإنه كسرى العرب"(1).

____________

1- راجع بألفاظه المختلفة: تاريخ دمشق لابن عساكر 59: 114، أُسد الغابة لابن الأثير 4: 386، سير أعلام النبلاء للذهبي 3: 135، الاصابة لابن حجر 6: 121، الاعلام للزركلي 7: 262، البداية والنهاية لابن كثير 8 : 134، غريب الحديث لابن سلام 4: 293.

فكان عمر بن الخطاب هو الذي وطد الملك لمعاوية بن أبي سفيان، مع علمه بأنّه من الطلقاء، ولم يول بدرياً أو انصارياً أو صحابياً له تاريخ مشرف على منطقة مثل الشام، بل اختار معاوية، ولم يحاسبه في حياته على فعل من أفعاله، مع أنّه كان تصل اليه الأخبار بتصرفات معاوية المخالفة للدين والعقل، لكن مع ذلك لم يحرك ساكناً وأبقاه على مملكة الشام حتّى إذا جاء عثمان وسعها له فضم إليه فلسطين ومن حولها، لتصبح بذلك مملكة مكتملة الأطراف والأوصاف والتي أدّت الى حرب صفين وازهاق لأرواح الآف من الصحابة الكرام.


الصفحة 485

واستمر معاوية في الولاية أكثر من عشرين عاماً لم يتعرّض له أحد بالنقد ولا بالعزل، ولمّا ولي عثمان خلافة المسلمين أضاف إليه ولايات أُخرى مكّنته من الاستيلاء على الثروة الإسلامية، وتعبئة الجيوش وأوباش العرب للقيام بالثورة على إمام الأمّة، والاستيلاء على الحكم بالقوّة والغصب، والتحكّم في رقاب المسلمين، وإرغامهم بالقوّة والقهر على بيعة ابنه الفاسق شارب الخمر يزيد.

وهذه قصّة أُخرى طويلة لست بصدد تفصيلها في هذا الكتاب، والمهم هو أن أعرف نفسيات هؤلاء الصحابة الذين اعتلوا منصّة الخلافة، ومهّدوا لقيام الدولة الأموية بصفة مباشرة نزولا على حكم قريش التي تأبى أن تكون النبوّة والخلافة في بني هاشم(1).

وللدولة الأموية الحقّ ـ بل من واجبها ـ أن تشكر أولئك الذين مهّدوا لها، وأقلّ الشكر أن تستأجر رواة مأجورين يروون في فضائل أسيادهم ما تسير به الركبان، وفي نفس الوقت يرفعون هؤلاء فوق منزلة خصومهم أهل البيت، باختلاق الفضائل والمزايا التي يشهد الله أنّها إذا ما بحثت تحت ضوء الأدلّة الشرعية والعقلية والمنطقية فسوف لن يبقى منها شيء يذكر، اللّهم إلاّ إذا أصاب عقولنا مسّ وآمنّا بالتناقضات.

وعلى سبيل المثال لا الحصر: فإنّنا نسمع الكثير من عدل عمر الذي سارت به الركبان، حتّى قيل: "عدلت فنمت"، وقيل: "دفن عمر واقفاً لئلاّ يموت العدل معه"، وفي عدل عمر حدّث ولا حرج.

ولكن التاريخ الصحيح يحدّثنا بأنّ عمر حين فرض العطاء في سنة

____________

1- للتفصيل إقرأ: الخلافة والملك، أبو الأعلى المودودي: 93، الباب الرابع، يوم الإسلام، أحمد أمين: 66، وكتب التاريخ المتعرضة لتلك الحقبة الزمنية.


الصفحة 486

عشرين للهجرة لم يتوخّ سنّة رسول الله ولم يتقيّد بها، فقد ساوى النبي (صلى الله عليه وآله)بين جميع المسلمين في العطاء، فلم يفضّل أحداً على أحد، واتّبعه في ذلك أبو بكر مدة خلافته، ولكنّ عمر بن الخطاب اخترع طريقة جديدة، وفضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضّل المهاجرين كافة على الأنصار كافّة، وفضل العرب على سائر العجم، وفضل الصريح على المولى(1)، وفضّل مضر على ربيعة، ففرض لمضر ثلاثمائة ولربيعة مائتين(2)، وفضّل الأوس على الخزرج(3)، فأين هذا التفضيل من العدل يا أولي الألباب(4)؟!

ونسمع عن علم عمر بن الخطّاب الكثير الذي لا حصر له، حتّى قيل: إنّه أعلم الصحابة، وقيل: إنّه وافق ربّه في كثير من آرائه التي ينزل القرآن بتأييدها في العديد من الآيات التي يختلف فيها عمر والنبي، ولكنّ الصحيح من التاريخ يدلّنا على أنّ عمر لم يوافق القرآن حتّى بعد نزوله، عندما سأله أحد الصحابة أيّام خلافته فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أجنبت فلم أجد الماء، فقال له عمر: لا تصلّ، واضطر عمار بن ياسر أن يذكّره بالتيمّم، ولكنّ عمر لم يقنع بذلك وقال لعمّار: إنّا نحمّلك ما تحمّلت(5).

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 111.

2- تاريخ اليعقوبي 2: 106.

3- فتوح البلدان: 437.

4- قال ابن سعد في الطبقات 3:300 وهو يحكي عن عمر: "فدّون الديوان وفرض للمهاجرين الأوّلين في خمسة آلاف خمسة آلاف، وللأنصار في أربعة آلاف أربعة آلاف، ولأزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) في اثني عشر الفاً" السنن الكبرى 6:350، وفتوح البلدان 3:555، وتاريخ مدينة دمشق 44:347.

5- الرواية منقولة بالمعنى وهي موجودة في مسند أحمد 4:265، صحيح البخاري 1:87، كتاب التميم، صحيح مسلم 1:193 باب التيمم، سنن ابن ماجة 1:188، سنن النسائي 1:166، السنن الكبرى 1:209، قال ابن حجر في فتح الباري 1:376: "وهذا مذهب مشهور عن عمر".


الصفحة 487

فأين عمر من آية التيمّم المنزلة في كتاب الله؟! وأين علمه من سنّة النبي الذي علّمهم كيفية التيمّم كما علمهم الوضوء؟! وعمر نفسه يعترف في العديد من القضايا بأنه ليس بعالم، بل بأنّ كلّ الناس أفقه منه حتّى ربّات الحجال وبقوله عدة مرّات: "لولا علي لهلك عمر"(1)، ولقد أدركه الأجل ومات ولم يعرف حكم الكلالة التي حكم فيها بأحكام متعددة ومختلفة، كما يشهد بذلك التاريخ(2)، فأين هذا العلم يا أولي الأبصار؟

كذلك نسمع عن بطولة عمر وشجاعته وقوّته الشيء الكثير، حتّى قيل: إنّ قريش خافت عندما أسلم عمر، وقويت شوكة المسلمين بإسلامه!

وقيل: إنّ الله أعزّ الإسلام بعمر بن الخطّاب!

وقيل: بأنّ رسول الله لم يجهر بدعوته إلاّ بعد إسلام عمر!

ولكن التاريخ الثابت الصحيح لا يوقفنا على شيء من هذه البطولة والشجاعة، ولا يعرف التاريخ رجلا واحداً من المشاهير أو حتّى من العاديين الذين قتلهم عمر بن الخطّاب في مبارزة أو في معركة كبدر وأحد والخندق وغيرها، بل العكس هو الصحيح، فالتاريخ يحدّثنا أنّه هرب مع الهاربين في معركة أحد، وكذلك هرب يوم حنين، وبعثه رسول الله لفتح مدينة خيبر فرجع مهزوماً، وحتّى السّرايا التي شارك فيها كان تابعاً غير متبوع، وآخرها سرية

____________

1- الاستيعاب 3: 1103، كفاية الطالب للكنجي: 219 وفيه: "كاد يهلك ابن الخطاب لولا عليّ" وقال: "هذا ثابت عند أهل النقل ذكره غير واحد من أهل السير"، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152، فيض القدير للمناوي 4: 470، نظم درر السمطين: 130، أمالي المحاملي: 247.

2- يراجع لمعرفة هذا الامر إلى المصادر التالية: صحيح مسلم 5: 60 كتاب الفرائض، باب الكلالة، مسند أحمد بن حنبل 1: 48، سنن ابن ماجه 2: 163، سنن البيهقي 6: 224 و8 : 150، المستدرك على الصحيحين 2: 303، تفسير القرطبي 6: 29، تفسير الطبري 6: 30، تفسير الدر المنثور 2: 251، تفسير ابن كثير 1: 595.


الصفحة 488

أُسامة التي كان فيها مأموراً تحت قيادة الشاب أُسامة بن زيد، فأين دعوى البطولات والشجاعة من هذه الحقائق يا أولي العقول؟

ونسمع عن تقوى عمر بن الخطاب ومخافته وبكائه من خشية الله الشيء الكثير، حتّى قيل: إنّه كان يخاف أن يحاسبه الله لو عثرت بغلة في العراق لأنّه لم يعبّد لها الطريق، ولكنّ التاريخ الثابت الصحيح يحدّثنا بأنّه كان فظّاً غليظاً لا يتورّع ولا يخاف، فيضرب من يسأله عن آية من كتاب الله حتّى يدميه بدون ذنب اقترفه، بل وتسقط المرأة حملها لمجرّد رؤيته هيبة ومخافة منه، ولماذا لم يتورّع مخافة من الله عندما سلّ سيفه، وهدّد كلّ من يقول بأن محمّداً قد مات، وأقسم بالله أنّه لم يمت، وإنّما ذهب يناجي ربّه كما فعل موسى بن عمران، وتوعّد من يقول بموته بقتله (1).

ولماذا لم يتورّع ولم يخش الله سبحانه في تهديد حرق بيت فاطمة الزهراء بالنار إن لم يخرج المتخلّفون فيه للبيعة(2)، وقيل له: إنّ فيها فاطمة،

____________

1- صحيح البخاري 4:194، كتاب المناقب، باب مناقب المهاجرين، السنن الكبرى للبيهقي 8:142، المصنف لابن أبي شيبة 8:568، صحيح ابن حبّان 14:588، الدرر لابن عبد البر: 272، الطبقات الكبرى 2:266، تاريخ الطبري 2:442، أحداث سنة 11هـ ، الكامل في التاريخ 2:323، تاريخ الاسلام 3:5.

2- تاريخ الطبري 3: 199، الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 30، المصنف لابن ابي شيبة 8: 572 وسنده حسن وقال الباحث السلفي حسن فرحان المالكي في كتابه (قراءة في كتب العقائد المذهب الحنبلي نموذجاً) ص 52: "كنت أظنّ المداهمة مكذوبه لا تصح حتّى وجدت لها أسانيد قوية، منها ما اخرجه ابن ابي شيبة في المصنف".

وقال ابن عبد ربه القرطبي في العقد الفريد 2: 25: "الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر: علي والعبّاس والزبير وسعد بن عبادة، فأما علي والعبّاس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة، وقال له: إن أبو فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة، فقالت: يا بن الخطاب اجئتنا لتحرق دارنا؟

قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأُمة"

وقال أبو الفداء: "ثمّ إنّ أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجَه من بيت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ، وقال: إنّ أبو عليك فقاتلهم، فاقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ وقالت: إلى أين يا بن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟

قال: نعم، أو يدخلوا فيما دخل فيه الأُمة. فخرج علي حتّى أتى أبا بكر فبايعه.." المختصر في أخبار البشر 1: 156.

وقال ابن تيمية في منهاج السنة 8:291: "كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه، وأن يعطيه لمستحقه، ثُمّ رأى أنّه لو تركه لهم لجاز...".

وابن تيمية اعترف بالهجوم على الدار لكنه جاء بشيء عجيب، بعيد كُلّ البعد عن الحقيقة، لأنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يكن يضع أموال بيت المال في بيت علي (عليه السلام)، بل كان له مكانه الخاص المعدّ لوضعه، فلا ندري من أين جاء بهذا الكلام!!

وقال المتقي الهندي: "عن أسلم أنّه حين بويع لابي بكر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كان علي والزبير يدخلون على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاورونها ويرجعون في أمرهم، فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله ما من الخلق احدٌ أحبّ اليّ من أبيك، وما من أحد أحبّ الينا بعد أبيك منك، وأيم الله ماذاك بما نعي ان اجتمع هؤلاء النفر عندك ان أمرتهم أن يحرق عليهم الباب" كنز العمال 5: 449، وغير ذلك من المصادر الكثيرة.


الصفحة 489

فقال : وإن ; وتجرأ على كتاب الله وسنّة رسوله، فحكم في خلافته بأحكام تخالف النصوص القرآنية والسنّة النبوية الشريفة(1).

فأين هذا الورع والتقوى من هذه الحقائق المرة المؤلمة يا عباد الله الصالحين؟

وإنّما أخذت هذا الصحابي الكبير الشهير كمثل، واختصرت كثيراً لعدم

____________

1- راجع: النص والإجتهاد، عبدالحسين شرف الدين. فقد أحصى كثيراً من الموارد التي اجتهد فيها عمر مقابل النصوص مع ذكر المصادر المقبولة لدى الفرق الإسلامية كافّة (المؤلّف).

وراجع الغدير للشيخ الأميني 6:190 فقد ذكر شذراً من محدثات عمر بن الخطاب ومبتدعاته في الدين الاسلامي، والتي أصبحت بعد ذلك من السنن التي تتبع.


الصفحة 490

الإطالة، ولو شئت الدخول في التفاصيل لملأت كتباً عديدة، ولكن كما قلت: إنّما أذكر هذه الموارد على سبيل المثال لا الحصر.

والذي ذكرته هو نزر يسير يعطينا دلالة واضحة على نفسيات الصحابة، وموقف العلماء من أهل السنّة المتناقض، فبينما يمنعون على الناس نقدهم والشك فيهم، يروون في كتبهم ما يبعث على الشكّ والطعن فيهم، وليت علماء السنّة والجماعة لم يذكروا مثل هذه الأشياء الصريحة التي تمسّ كرامة الصحابة وتخدش في عدالتهم، إذن لأراحونا من عناء الارتباك.

وإنّي أتذكّر لقائي مع أحد علماء النجف الأشرف ـ وهو أسد حيدر مؤلف كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ـ وكنّا نتحدث عن السنّة والشيعة، فروى لي قصّة والده الذي التقى في الحجّ عالماً تونسياً من علماء الزيتونة، وذلك منذ خمسين عاماً، ودار بينهما نقاش في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

فكان العالم التونسي يستمع إلى والدي، وهو يعدّد الأدلّة على إمامته (عليه السلام) وأحقّيته في الخلافة، فأحصى أربعة أو خمسة أدلة، ولمّا انتهى سأله العالم الزيتوني هل لديك غير هذا؟

قال: لا.

فقال التونسي: أخرج مسبحتك وابدأ في العدّ، وأخذ يذكر الأدلّة حتّى عدّد له مائة دليل لا يعرفها والدي، وأضاف الشيخ أسد حيدر: لو يقرأ أهل السنّة والجماعة ما في كتبهم، لقالوا مثل مقالتنا، ولانتهى الخلاف بيننا من زمان بعيد.

ولعمري إنّه الحقّ الذي لا مفرّ منه، لو يتحرّر الإنسان من تعصّبه الأعمى وكبريائه، وينصاع للدّليل الواضح.


الصفحة 491

أولاً
رأي القــرآن
فــي الصــحابة


الصفحة 492

الصفحة 493

1 ـ رأي القرآن في الصحابة:

قبل كلّ شيء لا بدّ لي أن أذكر بأنّ الله سبحانه وتعالى قد مدح في كتابه العزيز في العديد من المواقع صحابة رسول الله الذين أحبوا الرسول واتبعوه، وأطاعوه في غير مطمع وفي غير معارضة ولا استعلاء ولا استكبار، بل ابتغاء مرضاة الله ورسوله، أولئك رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربّه.

وهذا القسم من الصحابة الذين عرف المسلمون قدرهم من خلال مواقفهم وأفعالهم معه (صلى الله عليه وآله)، فأحبّوهم وأجلّوهم وعظّموا قدرهم، وترضّوا عنهم كلّما ذكروهم.

وبحثي لا يتعلّق بهذا القسم من الصحابة الذين هم محط الاحترام والتقدير من السنّة والشيعة.

كما لا يتعلق بالقسم الذي اشتهر بالنّفاق، والذين هم معرّضون للعن المسلمين جميعاً من السنّة والشيعة.

ولكن بحثي يتعلّق بهذا القسم من الصحابة الذين اختلف فيهم المسلمون، ونزل القرآن بتوبيخهم وتهديدهم في بعض المواقع، والذين حذّرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العديد من المناسبات، أو حذّر منهم.

نعم، الخلاف القائم بين الشيعة والسنّة هو في هذا القسم من الصحابة، إذ إنّ الشيعة ينتقدون أقوالهم وأفعالهم ويشكّون في عدالتهم، بينما يحترمهم أهل السنة والجماعة رغم كلّ ما ثبت عنهم من مخالفات.

وبحثي إنّما يتعلّق بهؤلاء ـ هذا القسم من الصحابة ـ حتّى أتمكّن من خلاله للوصول إلى الحقيقة أو بعض الحقيقة.

أقول هذا حتّى لا يتوهّم أحد أنّي أغفلت الآيات التي تمدح أصحاب رسول الله، وأبرزت الآيات القادحة فقط، بل إنّي خلال البحث اكتشفت أنّ هناك آيات مادحة تتضمّن في طيها قدحاً أو بالعكس.


الصفحة 494

وسوف لن أكلّف نفسي جهداً كبيراً كما فعلت ذلك خلال السنوات الثلاث للبحث، بل سأكتفي بذكر بعض الآيات كأمثلة، كما جرت العادة وذلك للاختصار، وعلى الذين يريدون التوسّع أن يتكبّدوا عناء البحث والتنقيب والمقارنة كما فعلت، لتكون هدايتهم بعرق الجبين وعصارة الفكر، كما يطلبه الله من كُلّ واحد، وما يتطلّبه الوجدان لقناعة راسخة لا تزحزحها الرّياح والعواصف، ومن المعلوم بالضرورة أنّ الهداية التي تكون عن قناعة نفسية أفضل بكثير من التي تكون بمؤثرات خارجية، قال تعالى يمدح نبيّه: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}(1)، أي: وجدك تبحث عن الحقّ فهداك إليه، وقال ـ أيضاً ـ : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(2).

1 ـ آية الانقلاب:

قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}(3) صدق الله العظيم.

فهذه الآية الكريمة صريحة وجليّة في أنّ الصحابة سينقلبون على أعقابهم بعد وفاة الرسول مباشرة، ولا يثبت منهم إلاّ القليل، كما دلّت على ذلك الآية في تعبير الله عنهم أيّ: عن الثابتين الذين لا ينقلبون بالشاكرين، فالشّاكرون لا يكونون إلاّ قلة قليلة، كما دلّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(4)، وكما دلّت عليه ـ أيضاً ـ الأحاديث النبويّة الشريفة التي فسّرت هذا الانقلاب، والتي سوف نذكر البعض منها.

____________

1- سورة الضحى: 7.

2- سورة العنكبوت: 69.

3- سورة آل عمران: 144.

4- سورة سبأ: 13.


الصفحة 495

والله سبحانه لم يبيّن عقاب المنقلبين على أعقابهم في هذه الآية، واكتفى بتمجيد الشاكرين الذين استحقّوا جزاءه سبحانه وتعالى، غير أنّه من المعلوم بالضرورة أنّ المنقلبين على الأعقاب لا يستحقّون ثواب الله وغفرانه، كما أكّد ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحاديث متعددة سوف نبحث في البعض منها إن شاء الله في هذا الكتاب.

ولا يمكن تفسير الآية الكريمة صحيحة على مسيلمة، والأسود العنسي، وذلك حفاظاً على كرامة الصحابة، فهؤلاء قد انقلبوا وارتدوا عن الإسلام، وادّعوا النبوّة في حياته (صلى الله عليه وآله)، وقد حاربهم رسول الله وانتصر عليهم.

كما لا يمكن تطبيق الآية الكريمة على مالك بن نويرة وأتباعه الذين منعوا الزكاة في زمن أبي بكر لعدّة أسباب:

منها: إنّهم إنّما منعوها ولم يعطوها إلى أبي بكر تريّثاً منهم حتّى يعرفوا حقيقة الأمر، إذ إنّهم حجّوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع، وقد بايعوا الإمام عليّ بن أبي طالب في غدير خم بعد ما نصّبه رسول الله للخلافة كما بايعه أبو بكر نفسه، ففوجئوا عند قدوم رسول الخليفة بنعي رسول الله وطلبه الزكاة باسم الخليفة الجديد أبي بكر، وهي قضية لا يريد التاريخ الغوص في أعماقها حفاظاً على كرامة الصحابة أيضاً.

ومنها: إنّ مالكاً وأتباعه مسلمون، شهد بذلك عمر وأبو بكر نفسه، وعدة من الصحابة الذين أنكروا على خالد بن الوليد قتله مالك بن نويرة، والتاريخ يشهد أنّ أبا بكر أدّى ديّة مالك لأخيه متمم من بيت مال المسلمين، واعتذر له عن قتله، ومن المعلوم أنّ المرتدّ عن الإسلام يجب قتله، ولا تؤدّى ديّته من بيت المال، ولا يعتذر عن قتله(1).

____________

1- راجع للاطلاع على قصة مالك بن نويرة الاصابة في تمييز الصحابة 5: 560، ت 7712 سير أعلام النبلاء 1: 376، تاريخ خليفة بن الخياط: ص68، شرح نهج البلاغة 1: 179، تاريخ مدينة دمشق 16: 256، البداية والنهاية لابن كثير 6: 355.

قال الزمخشري في الفائق في غريب الحديث 3:65، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 4:15: "إن مالك بن نويرة (رضي الله عنه) قال لامرأته يوم قتله خالد بن الوليد: قتلتني. أي عرضتني بحسن وجهك للقتل لوجوب الدفع عنك، والمحاماة عليك، وكانت جميلة حسناء تزوجها خالد بعد قتله، فانكر ذلك عبد الله بن عمر. وقيل فيه:


أفي الحقّ أنا لم تجف دماؤنا وهذا عروساً باليمامة خالد"

وفي تاريخ أبي الفداء 1:221، ووفيات الأعيان 6:14، وتاريخ الإسلام 3:34: "... فقال خالد: لا اقالني الله ان لم اقتلك، وتقدم إلى ضرار بن الازور بضرب عنقه، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني، وكانت في غاية الجمال، فقال خالد: بل والله قتلك برجوعك عن الإسلام.

فقال مالك: انا على الإسلام!

فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه! فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية القدر، وكان من أكثر الناس شعراً، وقبض خالد امرأته...

ولمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لابي بكر: إنّ خالداً قد زنى فارجمه!

قال: ما كنت ارجمه فانه تأوّل فاخطأ،

قال: فإنّه قتل مسلماً فاقتله!

قال: ما كنت اقتله فإنّه تأوّل فاخطأ.."

والملفت للنظر أن حتّى لو قبلنا بأن خالداً تأوّل فأخطأ، لكن أبا بكر كيف عرف أنّ خالداً متأوّل مع أنّه لم يسمع حجّة خالد وكلامه في سبب قتل مالك بن نويرة؟! وحكم عليه بأنّه متأوّل لسماع قتله لمالك دون سماع السبب!

وفي تاريخ الخميس 2: 233: "اشتدّ في ذلك عمر وقال لأبي بكر: ارجم خالداً فإنّه قد استحل ذلك!

فقال أبو بكر: والله لا أفعل، ان كان خالد تأوّل أمراً فأخطأ".

وقال الواقدي في كتاب الردة 163: "وكان أبو قتادة قد عاهد الله إلاّ يشهد مع خالداً مشهداً أبداً بعد ذلك اليوم.

ثمّ قدم خالد مالك بن نويرة ليضرب عنقه، فقال مالك: أتقتلني وأنا مسلم أصلي القبلة؟

فقال خالد: لو كنت مسلماً لما منعت الزكاة، ولا أمرت قومك بمنعها، والله لما قمت من مقامك حتّى أقتلك.

قال: فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثمّ قال: يا خالد، بهذه تقتلني!

فقال خالد: بل لله اقتلك برجوعك عن دين الإسلام ..

قال: ثُمّ قدمه خالد فضرب عنقه صبراً.

فيقال: إنّ خالد بن الوليد تزوج بامرأة مالك، ودخل بها، على ذلك أجمع أهل العلم، وقد ذكر ذلك حوى بن سعيد بن زهرة السعدي حيث يقول:

إلاّ قل لحي اوطئوا بالسنابلِ تطاول هذا الليل من بعد مالكِ

عدا خالداً بغياً عليه لعرسه وكان له فيها هوىً قبل ذلكِ

وأمضى هواه خالدٌ غير عاطف عناده الهوى عنها ولا متمالكِ...".

وفي تاريخ الطبري 2: 503: ".. وكان ممّن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها.

وكان يحدث أنّهم لمّا غشوا القوم رعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح، قال: فقلنا: إنّا المسلمون.

فقالوا: ونحن المسلمون.

قلنا: فما بال السلاح معكم؟

قالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟

قلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح.

قال: فوضعوها ثمّ صلّينا وصلّوا،

وكان خالد يعتذر في قتله أنّه قال وهو يراجعه: ما أخال صاحبكم إلاّ وقد كان يقول: كذا وكذا!

قال: أوما تعده لك صاحباً! ثمّ قدمه فضرب عنقه وأعناق اصحابه، فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله، ثمّ نزى على امرأته..".

وهذه الحجّة التي طرحها خالد بن الوليد اوضعت على لسانه خاوية وباردة لاتصلح للاحتجاج، لأنّه لا يصح قتل المسلم لمجرد مخاطبته لشخص آخر وهو يتحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) بأنّه صاحبك، لأنّها لا تدل صراحة ولا التزاماً على الارتداد فإنّ إثبات صحبة النبيّ لشخص مسلم لا تنفي صحبته عمّن سواه.

مع أنّ المصطنع للعبارة لم يكملها، فلم نرى رد مالك بن نويرة على خالد بن الوليد حينما خاطبه بقوله أوما تعدّه لك صاحباً؟! فهذا يكشف عن أنّ العبارة مصطنعة لا واقع لها.

وارجع ايضاً إلى كنز العمال 5: 619، أُسد الغابة 4: 295، تاريخ ابن خلدون: ق2، ج2:74، الاستغاثة 1: 6، السيرة النبوية لابن كثير 3: 595، الكامل في التاريخ 2: 359، فتوح البلدان 1: 107، وفيات الاعيان 6: 15.


الصفحة 496

الصفحة 497

الصفحة 498

والمهم أنّ آية الانقلاب تقصد الصحابة مباشرة، الذين يعيشون معه (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة، وترمي إلى الانقلاب مباشرة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)بدون فصل، والأحاديث النبوية توضّح ذلك بما لا يدع مجالا للشك، وسوف نطلّع عليها قريباً إن شاء الله.

والتاريخ ـ أيضاً ـ خير شاهد على الانقلاب الذي وقع بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن يستعرض الأحداث التي وقعت بين الصحابة في صفوفهم ولم ينج منهم إلاّ القليل.

2 ـ آية الجهاد:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْ قَدِيرٌ}(1) صدق الله العظيم.

هذه الآية صريحة أيضا في أنّ الصحابة تثاقلوا عن الجهاد، واختاروا الركون إلى الحياة الدنيا، رغم علمهم بأنّها متاع قليل، حتّى استوجبوا توبيخ الله سبحانه وتهديده إياهم بالعذاب الأليم، وباستبدالهم بغيرهم من المؤمنين الصادقين.

وقد جاء هذا التهديد باستبدالهم غيرهم في العديد من الآيات مما يدلّ دلالة واضحة على أنّهم تثاقلوا عن الجهاد في مرّات عديدة، فقد جاء في قوله

____________

1- سورة التوبة: 38 ـ 39.


الصفحة 499

تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}(1)، وكقوله تعالى ـ أيضاً ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(2).

ولو أردنا استقصاء ما هنالك من الآيات الكريمة التي تؤكّد هذا المعنى، وتكشف بوضوح عن حقيقة هذا التقسيم الذي يقول به الشيعة بخصوص هذا القسم من الصحابة; لاستوجب ذلك كتاباً خاصّاً، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بأوجز العبارات وأبلغها حين قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(3) صدق الله العظيم.

وهذه الآيات كما لا يخفى على كلّ باحث مطّلع تخاطب الصحابة، وتحذّرهم من التفرقة والاختلاف من بعد ما جاءهم البينات، وتتوعدهم بالعذاب العظيم، وتقسّمهم إلى قسمين: قسم يبعث يوم القيامة بيض الوجوه، وهم الشاكرون الذين استحقوا رحمة الله، وقسم يبعث مسود الوجوه، وهم الذين ارتدوا بعد الإيمان، وقد توعّدهم الله سبحانه بالعذاب العظيم.

ومن البديهي المعلوم أن الصحابة تفرّقوا بعد النبي، واختلفوا وأوقدوا نار الفتنة، حتّى وصل بهم الأمر إلى القتال والحروب الدامية التي سبّبت انتكاس

____________

1- سورة محمّد: 38.

2- سورة المائدة: 54.

3- سورة آل عمران: 104 ـ 107.


الصفحة 500

المسلمين وتخلّفهم، وأطمعت فيهم أعداءهم، والآية المذكورة لا يمكن تأويلها وصرفها عن مفهومها المتبادر للأذهان.

3 ـ آية الخشوع:

قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(1) صدق الله العظيم.

وفي الدرّ المنثور لجلال الدين السيوطي قال: لما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد، فكأنّهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فعوتبوا فنزلت: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا}(2).

وفي رواية أُخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إنّ الله سبحانه استبطأ قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا}"(3).

وإذا كان هؤلاء الصحابة، وهم خيرة الناس على ما يقوله أهل السنّة والجماعة، لم تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ، طيلة سبعة عشر عاماً، حتّى استبطأهم الله وعاتبهم وحذّرهم من قسوة القلوب التي تجرّهم إلى الفسوق، فلا لوم على المتأخرين من سراة قريش الذين أسلموا في السنة

____________

1- سورة الحديد: 16.

2- الدر المنثور للسيوطي 6: 254 سورة الحديد، لباب النقول للسيوطي: 188، تفسير القرآن للصنعاني 3: 276، روح المعاني للآلوسي 27:179.

3- تفسير ابن أبي حاتم 10:3338، تفسير العز بن عبد السّلام 3:286، الدر المنثور للسيوطي 6: 253 سورة الحديد، فتح القدير للشوكاني 5: 174، روح المعاني للآلوسي 27:179.