الصفحة 501

السابعة للهجرة بعد فتح مكّة!

فهذه بعض الأمثلة التي استعرضتها من كتاب الله العزيز، كافية للدلالة على أنّ الصحابة ليسوا كُلّهم عدول، كما يقوله أهل السنّة والجماعة(1).

وإذا فتّشنا في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فسنجد أضعاف الأضعاف من الأمثلة الأخرى، ولكن توخّياً للاختصار أسوق بعض الأمثلة، وعلى الباحث أن يتوسّع إذا أراد ذلك.

____________

1- فالغرض إذاً نقض نظرية (عدالة جميع الصحابة) لا الطعن في جميعهم وتفسيقهم ـ والعياذ بالله ـ، وإلاّ فهم كغيرهم من المسلمين إن احسنوا مُدحوا وإن اساؤوا عوقبوا، بل الأمر عليهم أشدّ والذنب منهم أشنع من غيرهم وعقابه أكثر، كيف وقد قال تعالى لأُمهات المؤمنين: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً) (الأحزاب: 30 ـ 31) فكيف بغيرهنّ، فكما كانت الحجة أتمّ كان العقاب أو الثواب أكثر.


الصفحة 502

الصفحة 503

ثـانياً
رأي الرسول
فــي الصــحابة


الصفحة 504

الصفحة 505

2 ـ رأي الرسول في الصحابة

1 ـ حديث الحوض:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "بينما أنا قائم فإذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ.

فقلت إلى أين؟

فقال: إلى النار والله.

قلت: ما شأنهم؟

قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أرى يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم"(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): "إنّي فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثمّ يحال بيني وبينهم، فأقول: أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي"(2).

فالمتمعّن في هذه الأحاديث العديدة التي أخرجها علماء أهل السنّة في صحاحهم ومسانيدهم لا يتطرّق إليه الشكّ في أنّ أكثر الصحابة قد بدّلوا وغيروا، بل ارتدّوا على أدبارهم بعده (صلى الله عليه وآله) إلاّ القليل الذي عبّر عنه بهمل النعم،

____________

1- صحيح البخاري 7:209، كتاب الرقاق باب في الحوض، وبألفاظ قريبة منه في مسند أحمد 3:18، تاريخ دمشق لابن عساكر 8: 109، النهاية في غريب الحديث 5:274.

2- صحيح البخاري 8:87، كتاب الفتن، صحيح مسلم 7:67، كتاب الفضائل باب اثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وآله)، ونحوه في مسند أحمد 2: 300، 408، 3: 28، 5: 333، 339، السنن الكبرى للبيهقي 4: 78، المعجم الأوسط للطبراني 8: 307، المعجم الكبير 23: 414، الاستيعاب 1:163، التمهيد 2:301، تفسير القرطبي 4: 168.


الصفحة 506

ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال حمل هذه الأحاديث على القسم الثالث وهم المنافقون; لأنّ النصّ يقول: "فأقول أصحابي".

كما أنّ هذه الأحاديث هي مصداق وتفسير ما سجّلناه مسبقاً من الآيات الكريمة التي تحدثت عن انقلابهم وارتدادهم وتوعدهم بالعذاب العظيم.

2 ـ حديث التنافس على الدنيا:

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإنّي والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإنّي أعطيت مفاتيح خزائن الأرض (أو مفاتيح الأرض)، وإنّي والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"(1).

صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد تنافسوا على الدنيا حتّى سُلّت سيوفهم وتحاربوا وكفّر بعضهم بعضاً، وقد كان بعض هؤلاء الصحابة المشهورين يكنز الذهب والفضّة، ويحدثنا المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب والطبري وغيرهم: أن ثروة الزبير وحده بلغت خمسين ألف دينار، وألف فرس، وألف عبد، وضياعاً كثيرة في البصرة، وفي الكوفة، وفي مصر وغيرها(2).

____________

1- مسند أحمد 4:149، صحيح البخاري 2:94، باب الجنائز و4:176، كتاب بدء الخلق، باب علامات النبوّة في الاسلام و5:40، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع و7:173، كتاب الرقاق باب 53 في الحوض، صحيح مسلم 7:68، كتاب الفضائل باب إثبات الحوض،السنن الكبرى للبيهقي 4:14، صحيح ابن حبّان 11: 472، المعجم الكبير للطبراني 17: 278، تركة النبيّ (صلى الله عليه وآله)للبغدادي: 55، ما روي في الحوض للقرطبي:7، الاستذكار 5:105، التمهيد 21:229، رياض الصالحين للنووي:719، الطبقات الكبرى 2:205، سير أعلام النبلاء 6:23، البداية والنهاية 6:210، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1:169، سبل الهدى والرشاد 12:234.

2- ففي سير أعلام النبلاء 1:65: "أنّ الزبير ترك من العروض بخمسين ألف ألف درهم، ومن العين خمسين ألف ألف درهم.. واقتسم مال الزبير على أربعين ألف ألف".

وفي الطبقات الكبرى لابن سعد 3:110: "اقتسم ميراث الزبير على اربعين ألف ألف..

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت قيمة ما ترك الزبير أحداً وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف".

وفي الطبقات الكبرى 3:110: "عن عروة قال: كان للزبير بمصر خطط، وبالاسكندرية خطط، وبالكوفة خطط، وبالبصرة دور، وكانت له غلاة تقدم عليه من أعراض المدينة".

وفي صحيح البخاري 4:52، باب دعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن الزبير كان له: "إحد عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر.

وكان للزبير أربع نسوة ورفع الثلث فأصاب كُلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف".

وقال المسعودي في مروج الذهب 2:350: "خلف ألف فرس، وألف عبد، وألف أمة وخططاً".


الصفحة 507

كما بلغت غلّة طلحة من العراق وحده كلّ يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك(1).

وكان لعبد الرحمن بن عوف مائة فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة، وبلغ ربع ثمن ماله الذي قسم على زوجاته بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً(2).

____________

1- في سير أعلام النبلاء 1:40: "وقد خلف طلحة ثلاثمائة حمل من الذهب".

وفي طبقات ابن سعد 3:222: "قال عمرو بن العاص: حدثت أنّ طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار في كُلّ بهار ثلاث قناطر ذهب. وسمعت أنّ البهار جلد ثور".

وفي مستدرك الحاكم 3:369 والطبقات الكبرى 3:333 وسير أعلام النبلاء 1:40 واللفظ للأوّل: "قتل طلحة بن عبيد الله وفي يد خازنه ألف ألف درهم ومئتا ألف درهم وقومت اصوله وعقاره بثلاثين الف الف درهم".

وفي الطبقات الكبرى لابن سعد 3:222: "كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد من العقار والأموال، وما ترك من الناضح ثلاثين ألف ألف درهم، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض".

2- قال الحاكم في المستدرك 3:309: "عن عثمان بن الشريد قال: ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير، وثلاثة ألف شاة بالنقيع، ومائة فرس ترعى بالنقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً..".

وفي الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2:181 والطبقات الكبرى لابن سعد 3:136 وأُسد الغابة 3:317 والبداية والنهاية 7:184: "أنّ عبد الرحمن بن عوف توفي وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة، فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين الفاً".

وفي تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي 2:89: "فبلغ ثمن ماله مائة وستين ألف درهم".


الصفحة 508

وترك عثمان بن عفّان يوم مات مائة وخمسين ألف دينار عدا المواشي والأراضي والضياع مما لا يحصى(1).

وترك زيد بن ثابت من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الناس، ما عدا الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار(2).

____________

1- قال الحلبي في السيرة الحلبية 2:272: "وكان من جملة ما نقم به على عثمان رضي الله تعالى عنه أنّه أعطى ابن عمّه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية، وأعطى الحارث عشر ما يباع في السوق، أي سوق المدينة، وأنّه جاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته، وأنّه أنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره، وأنّه حمى لنفسه دون إبل الصدقة..".

وفي تاريخ الإسلام 3:461، والبداية والنهاية 7:214: "كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم، وخمسون ومائة ألف دينار، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات بقيمة مائتي ألف دينار".

وقال الذهبي في دول الإسلام 1:23: "وكان قد صار له أموال عظيمة.. وله ألف مملوك .

وقال المسعودي في مروج الذهب 1:433: "بنى في المدينة وشيدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والعرعر، وأقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة.

وذكر عبد الله بن عتبة: إنّ عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار، وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلاً كثيرة وابلاً".

2- قال المسعودي في مروج الذهب 1:434: "خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار".

ومن أصحاب الأموال سعد بن أبي وقاص ففي طبقات ابن سعد 3:149: "وترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم".

وقال المسعودي في مروج الذهب 1:434: "بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسع فضائها، وجعل أعلاها شرفاً".


الصفحة 509

هذه بعض الأمثلة البسيطة، وفي التاريخ شواهد كثيرة لا نريد الدخول في بحثها الآن، ونكتفي بهذا القدر للدلالة على صدق الحديث، وأنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.


الصفحة 510

الصفحة 511

ثـالـثاً
رأي الصــحابة
بعضـهم فـي بعـض


الصفحة 512

الصفحة 513

3 ـ رأي الصحابة بعضهم في بعض

1 ـ شهادتهم على أنفسهم بتغيير سنّة النبي:

عن أبي سعيد الخُدري قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى، فأوّل شيء يبدأ به الصلاة، ثمّ ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثمّ ينصرف.

قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتّى خرجت مع مروان ـ وهو أمير المدينة ـ في أضحى أو فطر، فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي، فجذبت بثوبه، فجذبني، فارتفع، فخطب قبل أن يصلّي، فقلت له: غيّرتم والله؟!

فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم.

فقلت: ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم.

فقال: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة(1).

____________

1- صحيح البخاري 2:4، كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلّى بغير منبر، المصنف للصنعاني 3:284، الاستذكار 2:383، إرواء الغليل 3:98، الاصابة في تمييز الصحابة 6: 203، وكذلك ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمته، وأثبتا له الرؤية والصحبة.

قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر الحديث: "واما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنّهم كانوا في زمن مروان يتعمّدون ترك سماع خطبته لمّا فيها من سبِّ من لا يستحق السبّ ] يعني علي بن ابي طالب[، والافراط في مدح بعض الناس ] وهو عثمان[ فعلى هذا إنّما راعى مصلحة نفسه.." فتح الباري 2: 376.

وقد ذكر العلامة الحفظي في ارجوزته هذا الحديث فقال:

"وفي البخاري عند أبي سعيد خطبة مروان بيوم العيدِ

قبل الصلاة حين كان الناس بعد الصلاة ينفر الجلاس

لأنّه كما حكاه المنذري يذكر فيها المرتضى ويجتري

سحقاً له من وزغ ملعون وكُلّ من في صلبه يكون"

النصائح الكافيه لمن يتولى معاوية: 101.

وقال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وغيرهم أنّ صلاة العيدين قبل الخطبة، ويقال: إنّ أوّل من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم" سنن الترمذي 2: 22.

وهناك خلاف بين المحدّثين في تحديد من سنّ هذه البدعة، فبعضهم يذكر عثمان وبعضهم يذكر مروان، قال الحافظ ابن حجر: "اختلف في أوّل من غير ذلك، فرواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد عند مسلم بلفظ أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل.. الحديث صريح في أنّه مروان. وقيل: بل سبقه إلى ذلك عثمان. وروى ابن المنذر باسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان; صلى بالناس ثُمّ خطبهم، يعني على العادة، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك، أي صار يخطب قبل الصلاة.." فتح الباري 2: 376.

قال الصنعاني في سبل السلام 2: 66 بعد إيراد هذا الخلاف: "وعلى كُلّ تقدير فإنّه بدعة مخالف لهديه (صلى الله عليه وآله) .

وقد اعتذر لعثمان بانّه كثر الناس في المدينة وتنادت البيوت فكان يقدم الخطبة ليدرك من بعد منزله الصلاة!

وهو رأي مخالف لهديه (صلى الله عليه وآله)".

ولأجل إكمال البحث نذكر نقاط وجيزة عن رأي الصحابة في بعضهم البعض:

1 ـ عن علي بن أبي طالب قال: "كذب المغيرة بن شعبة" جامع بيان العلم وفضله: 466.

2 ـ عن الحسن بن علي أنّه سئل عن قول الله عزّ وجلّ: (وشاهد ومشهود)، فأجاب فيه، فقيل له: إنّ ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا، خلاف قوله؟ فقال: كذبا" المصدر السابق.

3 ـ عن عبادة بن الصامت أنّه قال: "كذب أبو محمّد ـ يعني في وجوب الوتر، وأبو محمّد هذا اسمه مسعود بن أوس الأنصاري، بدري، قد ذكرناه في الصحابة ونسبناه ـ.

وتكذيب عبادة له من رواية مالك وغيره في قصة الوتر، واستشهد عبادة بقول رسول الله: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده" المصدر السابق.

4 ـ أُسامة بن قتادة أبو سعدة، ذكره الحافظ ابن حجر في الصحابة وقال: "أبو سعدة العبسي له إدراك، وهو الذي شهد على سعد بن أبي وقاص لما عزله عمر عن إمرة الكوفة، والقصة مشهورة" الاصابة 1: 338.

والقصة في صحيح البخاري 1: 184: "عن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر (رضي الله عنه)، فعزله واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتّى ذكروا أنّه لا يحسن أن يصلّي، فارسل إليه فقال: يا ابا إسحاق، إنّ هؤلاء يزعمون أنّك لا تحسن تصلي؟

قال أبو إسحاق اما أنا والله فأنّي كنت أُصلي بهم صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخرم عنها..

قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فارسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجداً إلاّ سأل عنه، ويثنون عليه معروفاً، حتّى دخل مسجد بني عبس، فقام رجل منهم يقال له أُسامة بن قتادة، يكنى ابا سعدة فقال: أما إذا نشدتنا فإنّ سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضّية".

5 ـ عن ابن عبّاس قال: "يقول أحدهم: أبي صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولنقل خلق خير من أبيه" مجمع الزوائد 1: 113 وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح".

6 ـ أخرج البلاذري في الأنساب 5: 36 قال: "حدثني عبّاس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف وعوانه في اسنادهما: إنّ عبد الله بن مسعود حين القى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال: من غيّر غيّر الله ما به، ومن بدّل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدل أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولي الوليد؟ وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو; إنّ أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكُلّ محدث بدعة، وكُلّ بدعة ضلالة، وكُلّ ضلالة في النار.

فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال: إنّه يعيبك ويطعن عليك! فكتب إليه عثمان يأمره باشخاصه، فاجتمع الناس فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه؟

فقال: إنّ له علي حق الطاعة، ولا أحب أن أكون أوّل من فتح باب الفتن!

وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه قال: إلاّ إنّه قد قدمت عليكم دويبة سوء، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح!

فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكنّي صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر ويوم بيعة الرضوان.

ونادت عائشة: أيّ عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ثُمّ امر عثمان به فاخرج من المسجد اخراجاً عنيفاً".

7 ـ في السير 1: 425، والمجمع 9: 298، والتاريخ الصغير 1: 189 وغيرها عن أبي الغادية (وهو يسار بن سبع، صحابي، قاتل عمار) قال: "سمعت عماراً يقع في عثمان، يشتمه، فتوعدته بالقتل، فلمّا كان يوم صفين جعل عمار يحمل على الناس، فقيل: هذا عمار، فطعنته في ركبته، فوقع فقتلته، فقيل: قتل عمار، وأخبر عمرو بن العاص فقال: سمعت رسول الله يقول: إن قاتله وسالبه في النار".

8 ـ أخرج الحاكم في المستدرك 3: 372، وسكت عنه وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك والذهبي في السير 1: 34 عن علقمة بن وقاص قال: ".. رأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زوره، فقلت: يا ابا محمّد، إنّي أراك وأحب المجالس إليك أخلاها إن كنت تكره هذا الأمر فدعه؟

فقال: يا علقمة، لا تلمني، كنا أمس يداً واحدة على من سوانا، فاصبحنا اليوم جبلين من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كان منّي في أمر عثمان ممّا لا أرى كفارته إلاّ سفك دمي وطلب دمه".

وقد علق الذهبي على الرواية بقوله: "قلت: الذي كان منه في حق عثمان تمغفل وتأليب"!

9 ـ في حادثة السقيفة قال عمر بن الخطاب: "فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعداً; فإنّه صاحب فتنة وشرّ" صحيح ابن حبان 2: 157، البداية والنهاية 4: 13، فتح الباري 7: 25.

10 ـ ما فعله الصحابة بعثمان بن عفان، من قيامهم عليه، وتأليب الناس عليه إلى أن قتلوه، وهذا عثمان نفسه يشهد عليهم ويدعوا عليهم بالشرّ، قال الذهبي في السير في ترجمة الخلفاء، ترجمة عثمان بن عفان: 184 قال: "لما نزل أهل مصر الجحفة، وأتوا يعاتبون عثمان، صعد عثمان المنبر فقال: جزاكم الله يا أصحاب محمّد عنّي شراً! أذعتم السيئة وكتمتم الحسنة، وأغريتم بي سفهاء الناس...".

وهذا عبد الرحمن بن عوف الصحابي المشهور، واحد الستة الذين اختارهم عمر للشورى، وهو الذي عقد الخلافة لعثمان بن عفان، ينقم على عثمان ويكون المحرض ألاوّل عليه، قال الذهبي في المصدر السابق: 186: "وعن أبي وائل إنّ عبد الرحمن بن عوف كان بينه وبين عثمان كلام، فأرسل إليه لِمَ فررت يوم أحد، وتخلفت عن بدر، وخالفت سنة عمر؟

فأرسل إليه: تخلفت عن بدر لأنّ بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شغلتني بمرضها، وأما يوم أحد فقد عفا الله عنّي، وأما سنة عمر فوالله ما استطعتها أنا ولا أنت".

وقال الطبري في تاريخه 4: 365: "... قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأرسل إلى المسوّر بن مخرمة، وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فأخذها، فقسمّها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار".

وكذلك كان بين عثمان وعلي بن أبي طالب كلام وجفوة، يظهر منه أنّ عثمان أراد حمله على مخالفة كتاب الله تعالى قال الذهبي في المصدر السابق: 16: "وقد كان بين عليّ وعثمان شيء، فمشى بينهما العبّاس، فقال علي: والله لو أمرني أنّ أخرج من داري لفعلت، فاما اداهن أن لا يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل".

وكذلك كان بين عثمان بن عفان وعمار بن ياسر كلام وجفوة، قال الذهبي في المصدر السابق: 188: "وقد روي أنّه كان بين عمّار بن ياسر وبين عبّاس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عثمان.. وعن محمّد بن سعد بن أبي وقاص قال: قدم عمّار بن ياسر من مصر وأبي شاك، فبلغه، فبعثني إليه أدعوه، فقام معي وعليه عمامة وسخة وجُبّة فراء، فلمّا دخل على سعد قال له: ويحك يا أبا اليقظان، إن كنت فينا لمن أهل الخير، فالذي بلغني عنك من سعيك في فساد بين المسلمين والتأليب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟ فأهوى عمّار إلى عمامته وغضب فنزعها، وقال: خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه!

فقال سعد: "إنا لله وإنّا إليه راجعون"، ويحك! حين كثرت شيبتك، ورق عظمك، ونفد عمرك خلعت ربقة الإسلام من عنقك، وخرجت من الدين عرياناً!

فقام عمّار مغضباً مولياً وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد.

فقال سعد: ألاّ في الفتنة سقطوا، اللّهم زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات.

حتّى خرج عمار من الباب، فأقبل عليّ سعد يبكي حتّى اخضلت لحيته وقال: من يأمن الفتنة يا بنيّ لا يخرجن منك ما سمعت منه، فإنّه من الأمانة، وإنّي أكره أن يتعلق به الناس عليه يتأولونه، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الحقّ مع عمار ما لم تغلب عليه دَلهة الكبر"، فقد دله وخرف"

والرواية في غاية البيان لمعان كثيرة ولا تحتاج إلى تعليق.

وقال ابن كثير الدمشقي في كتابه البداية والنهاية 7: 122، بعد أن قدم المصريون: "أمر عثمان علي بن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة، ويقال: ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الأشراف، وأمره أن يأخذ معه عمّار بن ياسر. فقال عليّ لعمّار، فأبى عمار أن يخرج معه، فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمّار ليحرضه على الخروج مع علي اليهم، فأبى عمار كُلّ الإباء، وامتنع أشدّ الامتناع، وكان متعصباً على عثمان لسبب تأديبه له فيما تقدم على أمر وضربه إيّاه في ذلك، وذلك بسبب شتمه عبّاس بن عتبة بن أبي لهب، فأدبهما عثمان، فتآمر عمّار عليه لذلك، وجعل يحرّض الناس عليه..".

وهذا الصحابي جبلة بن عمرو الساعدي يجترأ على عثمان ويفتح الباب عليه يقول الطبري 4: 365: ".. كان أوّل من اجترأ على عثمان بالمنطق السيء جبلة ابن عمرو الساعدي، مرّ به عثمان وهو جالس في ندى قومه، وفي يدي جبلة ابن عمرو جامعة، فلمّا مرّ عثمان سلم، فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا!

قال: ثمّ أقبل على عثمان فقال: والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك او لتتركنّ بطانتك هذه!

قال عثمان: أيّ بطانة! فوالله إنّي لا تخير الناس؟!

فقال: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته! وعبد الله بن سعد تخيرته! منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه"؟!

وهذا الصحابي عمرو بن العاص يشهد على عثمان بالمخالفة، وينصحه بالتوبة فيقول: "يا أمير المؤمنين، إنّك قد ركبت نهابير، وركبنا معك، فتب نتب.." تاريخ الطبري 4: 366.


الصفحة 514

الصفحة 515

الصفحة 516

الصفحة 517

الصفحة 518

وقد بحثت كثيراً عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيّرون سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واكتشفت أنّ الأمويين هم الذين فعلوا ذلك، وكان أغلبهم من صحابة النبي، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان (كاتب الوحي) كما يسمّونه،


الصفحة 519

كان يحمل الناس ويجبرهم على سبّ علي بن أبي طالب ولعنه من فوق منابر المساجد، كما ذكر ذلك المؤرخون، وقد أخرج مسلم في صحيحه في باب "فضائل علي بن أبي طالب" مثل ذلك(1); وأمر عمّاله ـ يعني معاوية ـ في كلّ

____________

1- أسس الأمويون دولتهم على أساس محاربة أهل البيت (عليهم السلام) والنيل منهم، وتنقيص منزلتهم بين المسلمين، وسبهم ولعنهم على رؤوس الاشهاد، وقد بداوا هذا الأمر من حين انتزاء معاوية على كرسي الخلافة، فقد أخرج ابن ماجه في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: "قدم معاوية في بعض حجاته، فدخل عليه سعد، فذكروا عليّاً، فنال منه، فغضب سعداً وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وسمعته يقول: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"، وسمعته يقول: "لاعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله".

وقد علق الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني في كتابه صحيح ابن ماجه 1: 76 ح 120 بقوله: "صحيح: الصحيحة 4: 335 (فنال منه)، أي: نال معاوية من علي وتكلم فيه".

وقال العلاّمة الشيخ محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقته على الحديث: "قوله: (فنال منه) أيّ: نال معاوية من علي ووقع فيه وسبه" سنن ابن ماجه، تحقيق عبد الباقي 1: 82 ح 121.

وفي صحيح مسلم 7: 120: "أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟

فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبه، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له: .." فذكر حديث المنزلة والراية والمباهلة.

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر 42: 119 قال: "لمّا حج معاوية أخذ بيد سعد ابن أبي وقاص فقال: يا ابا إسحاق، انا قوم قد اجفانا هذا الغزو عن الحجّ حتّى كدنا أن ننسى بعض سننه، فطف نطف بطوافك.

قال: فلمّا فرغ أدخله في دار الندوة فأجلسه معه على سريره ثُمّ ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه!

قال: أدخلتني دارك، واقعدتني على سريرك، ثمّ وقعت فيه تشتمه؟ والله لئن أكون في احدى خلاله الثلاث أحبّ اليّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس.. لا أدخل عليك داراً بعد اليوم، ثُمّ نفض رداءه، ثُمّ خرج".

وفي سنن أبي داود 2: 401 عن عبد الله بن ظالم المازني قال: "سمعت سعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل قال: لمّا قدم فلان الكوفة أقام فلان خطيباً، فأخذ بيدي سعيد بن زيد، فقال: ألاّ ترى إلى هذا الظالم..".

قال العظيم آبادي في عون المعبود 12: 261: "قال في فتح الودود: ولقد أحسن أبو داود في الكناية عن اسم معاوية والمغيرة بفلان، ستراً عليهما في مثل هذا المحل، لكونهما صاحبين فيه، (فاخذ بيدي سعيد بن زيد) هذا مقول عبد الله بن ظالم، (فقال) أي سعيد، (إلى هذا الظالم) يعني الخطيب.

قال بعض العلماء: كان في الخطبة تعريضاً بسب علي (رضي الله عنه)".

وقال الامام الذهبي في ترجمة عمر بن عبد العزيز: "..كان الولاة من بني أُمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضى الله عنه!، فلمّا ولي هو أمسك عن ذلك فقال كثيِّر عَزَّة الخزاعي:

وليت فلم تشتم عليّاً ولم تخفِ برياً ولم تتبع مقالة مجرمِ"

سير أعلام النبلاء 5: 147

وقال ابن تيمية الحراني: "واما عليّ فأبغضه وسبّه أو كفره الخوارج وكثير من بني أُمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه..

وأما شيعة علي الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم; فكان بينهما من التقابل وتلاعن بعضهم ما كان.

وكذلك تفضيل عليّ عليه لم يكن مشهوراً فيها، بخلاف سبِّه علي فإنّه كان شائعاً في اتباع معاوية" مجموعة الفتاوى 4: 267.

أما الامام الاوزاعي صاحب المذهب المنتشر في الشام إلى سنة 340 هـ والذي ولي القضاء ليزيد بن الوليد الأموي، يصف الحال الذي كانت عليه الشام وولاتها فيقول: "يقول عيسى بن يونس: سمعت الأوزاعي يقول ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على عليّ بالنفاق!! وتبرأنا منه!! وأخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وإيمان البيعة".

سير أعلام النبلاء، ترجمة الامام الاوزاعي 7: 130

وقال ابن الأثير في أحداث سنة 51 هـ: "وفي هذه السنّة قتل حجر بن عدي وأصحابه.

وسبب ذلك: إنّ معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة احدى واربعين، فلمّا أمره عليها دعاه وقال له: أمّا بعد; فإنّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، وقد يجتري عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولست تاركاً ايصاءك بخصلة: لا تترك شتم عليّ وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب عليّ والاقصاء لهم" الكامل في التاريخ 3: 472، تاريخ الطبري 3: 218،

وقال ابن كثير الدمشقي في حوادث سنة 106: "وحجّ بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه، ويكتب له مناسك الحجّ، ففعل، فتلقاه الناس من المدينة إلى اثناء الطريق، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أُمر به، وتلقاه فيمن تلقاه سعيد بن عبدالله ابن الوليد بن عثمان بن عفان، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ أهل بيتك في مثل هذه المواطن الصالحة! لم يزالوا يلعنون أبا تراب، فالعنه أنت أيضاً.."

البداية والنهاية 9: 171، الكامل في التاريخ 5: 130، تاريخ الطبري 4: 118

فكانت سياسة معاوية هي النيل من سيد أهل البيت والحط من منزلته، وتنقيصه بين عموم المسلمين.

ولم يقف أمره عند هذا الحدّ، بل أخذ يتبع شيعة علي بن أبي طالب ومحبيه والنيل منهم سجناً وتعذيباً وقتلاً.

قال ابن عساكر في تاريخه 8 : 25 بعد القاء القبض على حجر بن عدي ومن معه وارسالهم إلى معاوية: "فقال لهم رسول معاوية: إنا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي، إن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم; إنّ أمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلت له بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنّه قد عفى عن ذلك، فابرأوا من هذا الرجل نخل سبيلكم".

وفي الكامل لابن الأثير 3: 485 حوادث سنة 51: "قالوا لهم قبل القتل: إنا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإنّ فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم".

وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 6: 466 قال: "لما أتي معاوية بحجر قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: أوامير المؤمنين أنا! اضربوا عنقه.

وقيل: إنّ رسول معاوية عرض عليهم البراءة من رجل والتوبة"

وقد ذكر الذهبي اسم ذلك الرجل في تاريخ الإسلام 4: 194، وهو علي بن أبي طالب.

وقال الذهبي ـ ايضاً ـ في السير 3: 137: "ورجع معاوية بالالفة والاجتماع وبايعه أهل الشام بالخلافة.. فكان يبعث الغارات فيقتلون من كان في طاعة علي".

وفي الاصابة 1: 422 في ترجمة بسر بن ارطاة قال: "وكان من شيعة معاوية، وكان معاوية وجهه إلى اليمن والحجاز.. وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم، ففعل ذلك".

وفي أسد الغابة 1: 180: "وكان معاوية سيره إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة علي".

وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 203 كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتاباً قال فيه: "أولست قاتل الحضرمي الذي كتب اليك فيه زياد أنّه على دين علي".

وقال الجاحظ في البيان والتبيين 1: 266: "وجلس معاوية رضي الله تعالى عنه بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، فجاءه رجل من بني تميم، فأراده على ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم، ولا نبرأ من موتاكم..".


الصفحة 520

الصفحة 521

الصفحة 522

الأمصار باتخاذ ذلك اللعن سنّة يقولها الخطباء على المنابر.

ولما استاء لذلك بعض الصحابة، واستنكر هذا الفعل أمر معاوية بقتلهم وحرقهم، وقد قتل من مشاهير الصحابة حجر بن عدي الكندي وأصحابه، ودفن بعضهم أحياء لأنّهم امتنعوا عن لعن علي واستنكروه.

وقد أخرج أبو الأعلى المودودي في كتابه "الخلافة والملك" نقلا عن الحسن البصري قال: أربع خصال كنّ في معاوية لو لم تكن فيه إلاّ واحدة لكانت موبقة له:

(1 ) أخذه الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة ذوو الفضيلة.

(2 ) استخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير.

(3 ) ادّعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر".

(4 ) قتله حجراً وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر، ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر(1).

وكان بعض المؤمنين من الصحابة يفرّون من المسجد بعد الفراغ من الصلاة حتّى لا يحضروا الخطبة التي تختم بلعن علي وأهل بيته، ومن أجل

____________

1- أبو الأعلى المودودي كتاب الخلافة والملك: 106، وانظر تاريخ الطبري 4: 208، شرح النهج لابن أبي الحديد 2: 262، والغدير 10: 225.


الصفحة 523

ذلك غيّر بنو أميّة سنّة رسول الله، وقدّموا الخطبة على الصّلاة حتّى يحضرها الناس ويرغموا بذلك أنوفهم.

مرحباً لهؤلاء الصحابة الذين لا يتورّعون عن تغيير سنة الرسول وحتّى أحكام الله للوصول إلى أغراضهم الدنيئة، وأحقادهم الدفينة، ومطامعهم الخسيسة، ويلعنون رجلا أذهب الله عنه الرِّجس وطهّره تطهيراً وأوجب الصلاة عليه كالصلاة على رسوله، وأوجب الله ورسوله مودّته وحبّه حتّى قال النبي: "حب علي إيمان وبغضه نفاق"(1).

ولكن هؤلاء الصحابة بدّلوا وغيّروا، وقالوا: سمعنا وعصينا، وبدلا من أن يصلّوا عليه ويحبوه ويطيعوه، شتموه ولعنوه طيلة ستين عاماً، كما جاء في كتب التاريخ(2).

____________

1- صحيح مسلم كتاب الايمان ح131، ونص الحديث: "قال عليّ: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انّه لعهد النبي الأميّ إليّ أن لا يحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق"، وانظر: سنن النسائي 8: 117، المصنف لابن أبي شيبة 7: 494 ح1، السنة لابن أبي عاصم: 584 ح1325، صحيح ابن حبان 15: 367 وغيرها من المصادر.

2- قد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً بأنّ هنالك الكثير من الصحابة يحملون في صدورهم الغل عليه، فعن علي بن ابي طالب قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة إذ أتينا حديقة، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة!

فقال: إنّ لك في الجنّة أحسن منها.

ثُمّ مررنا بأُخرى فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة!

قال: لك في الجنّة أحسن منها! حتّى مررنا بسبع حدائق كُلّ ذلك أقول ما أحسنها، ويقول: لك في الجنّة أحسن منها. فلمّا خلا لي الطريق اعتنقني ثمّ أجهش باكياً!

قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟!

قال: ضغائن في صدور اقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي!

قلت: يا رسول الله في سلامة من ديني؟

قال: في سلامة من دينك" مجمع الزوائد للهيثمي 9: 118، مسند أبي يعلى 1: 427، المعجم الكبير للطبراني 11: 61، كنز العمال للمتقي الهندي 13: 176، الكامل لابن عدي 7: 173، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 12: 394، تاريخ مدينة دمشق 42: 322.

ويكفينا ما اعترف به ابن تيمية في عدّة مواضع من كتابه منهاج السنة حيث قال في 6:201 "وقد كان من شيعة عثمان من سبّ عليّاً ويجهر بذلك على المنابر وغيرها لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه"،

وفي 7: 137 قال: "انّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبّونه ويقاتلونه...".

وقال في 7: 147 "وقد علم قدح كثير من الصحابة في عليّ".

وقال في 4: 336: "فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعليّ أعظم ممّا ظهر من الملام لعثمان".

وقال الذهبي في ترجمة معاوية بن أبي سفيان في السير 3: 128: "وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبّه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب، نعوذ بالله من الهوى".


الصفحة 524

فإذا كان أصحاب موسى قد تآمروا على هارون وكادوا يقتلونه، فإنّ بعض أصحاب محمّد قتلوا هارونه، وتتبّعوا أولاده وشيعته تحت كلّ حجر ومدر، ومحوا أسماءهم من الديوان، ومنعوا أن يتسمى أحد باسمه، ولم يكتفوا بكُلّ ذلك بل لعنوه وحملوا الصحابة المخلصين على ذلك قهراً وظلماً.

وإنّي والله لأقف حائراً مبهوتاً عندما أقرأ صحاحنا، وما سجّل فيها من حبّ الرسول لأخيه وابن عمّه علي، وتقديمه على كُلّ الصحابة حتّى قال فيه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي"(1).

____________

1- صحيح البخاري كتاب الفضائل، فضائل أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) 4: 208، 5: 129، صحيح مسلم 7: 120 ـ 121، فضائل الصحابة 7: 120 ـ 121، سنن الترمذي 5: 302، وقال في بعضها: "حديث حسن"، وفي بعضها: "حديث صحيح"، المستدرك للحاكم 3: 109 و133 وقال: "حديث صحيح"، ووافقه الذهبي في التلخيص، سنن ابن ماجه 1: 42، 45، مسند أحمد بن حنبل 1: 170 و173 و175 و177 و179 و182 و184 و185، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 109 و111 ووثق رجال بعض طرقه، حلية الأولياء 7: 194 ـ 196 وقال: "صحيح مشهور"، خصائص النسائي: ح11 و12 و24 و44 و64 و126، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ح 954 و956 و957 و1005 و1006 و1041 و1045 و1079 و1091 و1143 و1153، مسند أبي داود الطيالسي: 29، ح 209 و213، البداية والنهاية لابن كثير 7: 347 و351 و354.


الصفحة 525

وقال له: "أنت مني وأنا منك"(1).

وقال: "حب علي إيمان وبغضه نفاق"(2).

وقال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"(3).

____________

1- السنن الكبرى للنسائي 5: 127 ح8455، والخصائص للنسائي: 88، وورد بألفاظ متقاربة في مسند أحمد 5: 356، المستدرك للحاكم 3: 111 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، صحيح ابن حبان 15: 374، سنن الترمذي 5:300 باب مناقب عليّ بن أبي طالب، المصنف لابن أبي شيبة 7: 504 ح58، السنة لابن أبي عاصم 550 ح1187، مسند أبي يعلى 1: 293 ح355.

2- ورد هذا الحديث بهذا اللفظ في بشارة المصطفى للطبراني الشيعي: 271، وكشف اليقين للعلامة الحلي: 321، ورد في صحيح مسلم 1:61 كتاب الايمان عن عليّ (عليه السلام): "انّه لعهد النبي الأمي أن لا يحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق"، وكذلك في صحيح ابن حبّان 15: 367، سنن النسائي 5: 47، 137، المصنف لابن أبي شيبة 7: 494، وفي كتاب حجّة الله البالغة لشاه وليّ الله الدهلوي 1: 304 "حب عليّ آية الإيمان وبغض عليّ آية النفاق".

3- المستدرك للحاكم 3: 126 وقال: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، المعجم الكبير للطبراني 11: 55، الجامع الصغير للسيوطي 1: 415، وتاريخ الخطيب 11: 50 وقال: "قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث؟ فقال: هو صحيح"، ونحوه تاريخ دمشق 42: 380.

وقال السيد حسن السقاف في تحقيقه على كتابه تناقضات الالباني الواضحات 3: 82 : "صح عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، صححه الحافظ يحيى بن معين كما في تاريخ بغداد (تاريخ بغداد 11/49)، والامام الحافظ ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار مسند سيدنا علي (ص 104 حديث 8)، والحافظ العلائي في النقد الصحيح، والحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي كما في اللآلي المصنوعة 1/334، والحافظ السخاوي كما في المقاصد الحسنة".


الصفحة 526

وقال: "علي ولي كلّ مؤمن بعدي"(1).

____________

1- المصنف لابن أبي شيبة 7: 504 ح58، السنن الكبرى للنسائي 5: 132، السنة لابن أبي عاصم: 559 ح1187 وقال محقق الكتاب محمّد ناصر الدين الألباني: "اسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط مسلم، والحديث أخرجه الترمذي 2: 297، وابن حبان: 2203، والحاكم 3: 110 ـ 111، وأحمد 4: 437 وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقرّه الذهبي...".

وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الالباني 5: 261 ح 2223 قال: "ما تريدون من علي؟ إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي".

أخرجه الترمذي (3713)، والنسائي في الخصائص (ص 13 و16 و17)، وابن حبّان (2203)، والحاكم (3/110)، والطيالسي في مسنده (829)، واحمد (4/437 ـ 438)، وابن عدي في الكامل (2/568 ـ 569) من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن يزيد الرشد عن مطرف عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: "بعث رسول الله جيشاً، واستعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية فاصاب جارية، فانكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن لقينا رسول الله أخبرناه بما صنع علي، وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر بدأوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلموا عليه، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم، فلمّا قدمت السرية سلّموا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، الم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثُمّ قام الثاني، فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثمّ قام الثالث، فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والغضب يعرف في وجهه فقال..." فذكره.

وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث جعفر بن سليمان".

قلت: وهو ثقة من رجال مسلم، وكذلك سائر رجاله، ولذلك قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" واقرّه الذهبي.

وللحديث شاهد يرويه اجلح الكندي عن عبدالله بن بريدة عن ابيه بريدة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثتين إلى اليمن، على أحدهما علي بن ابي طالب.. فذكر القصة بنحو ما تقدم وفي آخره: "لا تقع فيّ علي فانه منِّي وانا منه، وهو وليكم بعدي، وإنّه منّي وانا منه، وهو وليكم بعدي"، أخرجه أحمد (5/356).

قلت: وإسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الأجلح، وهو ابن عبد الله الكندي مختلف فيه، وفي التقريب: "صدوق شيعي".

فان قال قائل: راوي هذا الشاهد الشيعي، وكذلك في سند المشهور له شيعي آخر، وهو جعفر بن سليمان، أفلا يعتبر ذلك طعناً في الحديث وعلة فيه؟!

فاقول: كلا; لأنّ العبرة في رواية الحديث إنّما هو الصدق والحفظ، أما المذهب فهو بينه وبين ربّه، فهو حسبه، ولذلك نجد صاحبي الصحيحين وغيرهما قد أخرجوا لكثير من الثقات المخالفين كالخوارج والشيعة وغيرهم، وهذا هو المثال بين أيدينا; فقد صحح الحديث ابن حبّان كما رأيت، مع أنّه قال في رواية جعفر في كتابه مشاهير علماء الامصار (159/1263): "كان يتشيع ويغلو فيه"، بل إنّه قال في ثقاته (6/140): "كان يبغض الشيخين".

وهذا وإن كنت في شكّ من ثبوته عنه، فإنّ ممّا لا ريب فيه أنّه شيعي، لاجماعهم على ذلك، ولا يلزم من التشيع بغض الشيخين ـ رضي الله عنهما ـ، وإنّما مجرد التفضيل.

والاسناد الذي ذكره ابن حبان برواية تصريحه ببغضهما فيه جرير بن يزيد بن هارون، ولم أجد له ترجمة ولا وقفت على اسناد آخر بذلك إليه ومع ذلك فقد قال ابن حبان عقب ذاك التصريح: "وكان جعفر بن سليمان من الثقات المتقنين في الروايات، غير أنّه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت، ولم يكن بداعية إلى مذهبه، وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أنّ الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها، أن الاحتجاج بأخباره جائز".

على أنّ الحديث قد جاء مفرقاً من طرق أُخرى ليس فيها شيعي.

أما قوله: "إنّ عليّاً مني وأنا منه".

فهو ثابت في "صحيح البخاري" (2699) من حديث البراء بن عازب في قصة اختصام علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (رضي الله عنه):

"أنت مني وأنا منك".

وروي من حديث حبشي بن جنادة، وقد سبق تخريجه تحت الحديث (1980).

وأما قوله: "وهو ولي كلّ مؤمن بعدي".

فقد جاء من حديث ابن عباس، فقال الطيالسي (2752): حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عنه، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: "أنت ولي كلّ مؤمن بعدي".

وأخرجه أحمد (1/330 ـ 331)، ومن طريقه الحاكم (3/132 ـ 133)، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

وهو بمعنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنت مولاه فعلي مولاه.."، وقد صح من طرق كما تقدم بيانه في المجلد الرابع برقم (1750).

فمن العجيب حقاً أن يتجرأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في "منهاج السنة" (4/104)، كما فعل بالحديث المتقدم هناك..".


الصفحة 527

الصفحة 528

وقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه"(1).

____________

1- هذا الحديث من الأحاديث المتواترة كما صرّح بذلك جمع من علماء أهل السنة، وللحديث زيادات في الالفاظ كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، أو قوله: "اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأنصر من نصره واخذل من خذله"، وغير ذلك.. ونحن هنا نورد طرق الأحاديث لاثبات صحته مع الزيادات التي ذكرت فيها:

اخرج النسائي في الخصائص: 71 ـ 72 بسنده إلى زيد بن أرقم قال: "لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، ثمّ قال: "كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض"، ثمّ قال: "إنّ الله مولاي وأنا ولي كُلّ مؤمن"، ثمّ أخذ بيد علي فقال: "من كنت وليه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه".

فقلت لزيد: سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

فقال: ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينيه وسمعه بأذنيه"

وأخرجه الحاكم في المستدرك 3:109. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله".

واخرجه ابن كثير في البداية والنهاية 5: 288 وقال: "قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي: وهذا حديث صحيح".

وعن أبي الطفيل (عامر بن واثلة) قال: "جمع علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ الناس في الرحبة ثُمّ قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام؟

فقام ثلاثون من الناس ـ وفي رواية: فقام ناس كثير ـ، فشهدوا حين أخذ بيده، فقال للناس: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: نعم يا رسول الله.قال: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه.

قال: ] يعني ابو الطفيل[ فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن ارقم فقلت له: إنّي سمعت عليّاً (رضي الله عنه) يقول: كذا وكذا؟

قال: فما تنكر، قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك"

وقد أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده 4: 370، وابن حبّان في صحيحه 15:376، والهيثمي في موارد الضمآن: 544.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 104: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة".

وقال الشيخ الالباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 331 ح 1750: "واسناده صحيح على شرط البخاري".

وقال الشيخ ال زهوي محقق الخصائص ص 82 : "إسناده صحيح".

وعن رباح بن الحارث قال: "جاء رهط إلى علي بالرحبة، فقالوا السلام عليك يا مولانا!

قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرباً؟!

قالوا: سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فإنّ هذا مولاه.

قال رباح: فلمّا مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء؟

قالوا: نفر من الأنصار، فيهم أبو أيوب الأنصاري".

أخرجه أحمد في مسنده 5: 419، والطبراني في الكبير 4: 174، والهيثمي في المجمع 9: 104 وقال: "رواه أحمد والطبراني.. ورجال أحمد ثقات".

وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 340 ح: "وهذا إسناد جيد رجاله ثقات".

ولهذا الحديث تكملة ذكرها الحافظ الثقة إبراهيم بن ديزيل في كتابه وقعة صفين فقال: "حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا الحسن بن الحكم النخعي، عن رباح بن الحارث النخعي، قال: كنت جالساً عند علي (عليه السلام) إذ قدم عليه قوم متلثمون، فقالوا: السلام عليك يا مولانا؟

فقال لهم: أولستم قوماً عرباً؟

قالوا: بلى، ولكنا سمعنا رسول الله صلى الله وسلم يقول يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله".

قال: فلقد رأيت علياً (عليه السلام) ضحك حتّى بدت نواجذه، ثمّ قال: اشهدوا.

ثمّ إنّ القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم، فقلت لرجل منهم: من القوم؟

قالوا: نحن رهط الانصار، وذاك ـ يعنون رجلاً منهم ـ أبو أيوب، صاحب منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فأتيته فصافحته" نقل هذا الحديث عن كتاب إبراهيم ابن ديزيل ابن أبي الحديد في شرح النهج 3: 208.

وسند هذا الحديث صحيح وإليك تفصيل الكلام في رواته:

1 ـ إبراهيم بن ديزيل: قال عنه الذهبي في السير 13: 184 ـ 188: "الإمام الحافظ الثقة العابد"، و"قال صالح بن أحمد الحافظ: سمعت أبي، سمعت علي بن عيسى يقول: إنّ الاسناد الذي يأتي به إبراهيم لو كان فيه ان لا يؤكل الخبز لوجب ان لا يؤكل لصحة إسناده".

2 ـ يحيى بن سليمان الجعفي: قال عنه الذهبي في الكاشف 3: 244: "صويلح".

وقد وثقه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4: 194 باعتباره من رجال البخاري الذي أخرج لهم.

3 ـ محمّد بن فضيل: وثقه الذهبي في الكاشف 1: 175، وقال عنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2: 89 : "هو ثقة من رجال الشيخين".

4 ـ الحسن بن الحكم النخعي ورباح بن الحارث النخعي: قال عنه أبو حاتم: "صالح الحديث" الكاشف 1: 175، ووثقه الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 246.

فالحديث صحيح.

فحديث الغدير له طرق عديدة، وبعض فقراته متواتره كما صرّح بذلك جمع من أعلام السنة.

قال الذهبي في السير 8 : 335 معقباً على أحد طرقه: "هذا حديث حسن عال جداً، ومتنه متواتر".

وقال شمس الدين الجزري في كتابه أسنى المطالب في مناقب سيدنا علي بن أبي طالب: 48 عقيب أحد طرقه: "هذا حديث حسن من هذا الوجه، صحيح من وجوه كثيرة، تواتر عن أمير المؤمنين علي، وهو متواتر ـ أيضاً ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممّن لا اطلاع له في هذا العلم..".

وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 343 ـ 344 ح 1750 عقيب ذكر الحديث: "وجملة القول: إنّ حديث الترجمة حديث صحيح بشطريه، بل الأوّل منه متواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يظهر لمن تتبع أسانيده وطرقه، وما ذكرت منها كفاية.

اذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته أننّي رأيت شيخ الإسلام ابن تيميه قد ضعف الشطر الأوّل من الحديث، وأما الشطر الآخر فزعم أنّه كذب.

وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها".

وقال الداني بن منير آل زهوي في تحقيقه لخصائص أمير المؤمنين: 78: "فحديث الموالاة حديث صحيح ثابت، بل هو متواتر كما قال الألباني في الصحيحه 4/343.

أمّا قول ابن تيميه في المنهاج 4/104: "إنّه كذب مخالف للقواعد الحديثية" فهو مردود عليه".

ولابأس بالاشارة إلى النقص في التحقيق الذي وقع فيه الشيخ الألباني في هذا الحديث، فهو بعد أن صحح الحديث ورد على ابن تيميه تكذيبه له قال: "قوله: "وانصر من نصره وأخذل من خذله" ففي ثبوته عندي وقفة لعدم ورود ما يجبر ضعفه، وكأنّه رواية بالمعنى للشطر الآخر من الحديث: "اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه"

ومثله قول عمر لعلي" أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة" لا يصح ـ أيضاً ـ لتفرد علي بن زيد به كما تقدم" سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 344.

فهذا الكلام ناشيء من قلة الاطلاع وعدم تتبع المصادر التي ذكرت هذا الحديث، وإلاّ فقد وردت هذه الزيادة في كتاب صفين لابن ديزيل، ونقله عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج كما تقدم.

ووردت هذه الزيادة في طرق أُخرى منها ما نقله الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 105 بسنده إلى عمرو بن ذي مرّ وسعيد بن وهب وزيد بن بثيع قالوا: "سمعنا عليّاً يقول: نشدت الله رجلاً سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم لما قام؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من يبغضه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله".

وعقب الهيثمي عليه بقوله: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة".

وأما مقولة عمر لعلي (عليه السلام) فلم يتفرد بها علي بن زيد كما ذكر الشيخ الألباني، بل رواها غيره ـ أيضاً ـ، قال ابن كثير في البداية والنهاية 5: 229: "قال الحافظ أبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان، ثنا هديه، ثنا حماد بن سلمة، عن علي ابن زيد وأبي هارون عن عدي بن ثابت عن البراء. وذكر الحديث والذي فيه: "فلقيه عمر بن الخطاب فقال: هنيئاً لك أصبحت وأمسيت مولى كُلّ مؤمن ومؤمنة".

وأخرجه الخطيب في تاريخه 8 : 284 بسنده إلى أبي هريرة قال: "فقال عمر ابن الخطاب: بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم".

وقد صحح العلامة سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 36 مقولة عمر بن الخطاب.

وقال الغزالي في كتابه سرّ العالمين: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وهذا تسليم ورضاً وتحكيم، ثُمّ بعد هذا غلب الهوى حباً للرئاسة، وعقد البنود، وخفقان الرايات، وازدحام الخيول في فتح الأمصار، وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون" تذكرة الخواص: 61.

والاعتراض على الحديث من قبل أهل السنة معروف ومشهور، إذ يقولون: إن الحديث يدلّ على النصرة لا على الموالاة التي تدعيها الشيعة، وهي بمعنى التصرف في شؤون الأُمة.

والجواب على ذلك: إنّ الحديث يدلّ على ما تذهب إليه الشيعة من أنّ المراد بالولاية هي الأولوية في شؤون التصرف لا النصرة فقط، والدليل على ذلك:

1 ـ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرن حديث الغدير بحديث الثقلين، وحديث الثقلين واضح الدلالة على وجوب التمسك بالعترة، فقرن حديث الغدير به قرينة على لزوم التمسك بسيد العترة واولها علي بن ابي طالب (عليه السلام).

2 ـ تأكيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاولويته على المؤمنين قبل الحكم بالولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ قال: "أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وهذا يشكل دليلاً على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اعطى الولاية لعلي بالمستوى الذي كانت عنده، وبنفس الدرجة.

3 ـ تقدم في بعض الروايات أنّ الصحابي ابا الطفيل (عامر بن واثلة) عندما سمع شهادة الصحابي لعلي بالولاية استنكر الأمر في نفسه واستعظمه، فذهب واستفهم من زيد بن أرقم، واخبره زيد بصحة ما سمع!

وهذا الاستنكار ينسجم مع فهم الولاية بمعنى الأولوية كما تقول به الشيعة، ولهذا استغرب الصحابي، ولا وجه له لو فسرت الولاية بمعنى النصرة.

ففهم الصحابي أبي الطفيل للولاية بمعنى الأولوية فلذلك استنكر الحديث وأستفهم عنه!

4 ـ في بعض الأخبار المتقدمة سلام الصحابة على أمير المؤمنين بقولهم: "السلام عليك يا مولانا"، وأجابهم أمير المؤمنين بشكل ملفت لانتباه الناس، وذكرهم بأنّه الولي والخليفة فقال: "كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟"، أو "أولستم قوماً عرباً".

والمعنى هو: إنّكم قوم عرب احرار ولستم عبيد فكيف أكون وليّاً عليكم، وسيداً ومتولياً لأموركم؟

فقالوا: سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم.. وذكروا الحديث.

ولا معنى لان يشهدهم أمير المؤمنين على أنّه ناصر المؤمنين طيلة هذه السنين من جهاده (عليه السلام) ومعرفته كلّ الناس أنّ المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولم يشكل أحدٌ في أن عليّاً ناصر المؤمنين، فمن سلامهم عليه، وجوابه لهم بتلك الطريقة الملفتة للنظر، ثُمّ اشهادهم على ذلك يظهر أنّ المراد من الولاية والمفهوم منها عند الصحابة هي الأولوية في التصرف بالنفس، وهي تعني الإمامه الإسلامية العامّة.


الصفحة 529

الصفحة 530

الصفحة 531

الصفحة 532

الصفحة 533

ولو أردنا استقصاء الفضائل التي ذكرها النبي في عليّ، والتي أخرجها علماؤنا معترفين بصحتها; لاستوجب كتاباً خاصّاً، فكيف يا ترى يتجاهل الصحابة هذه النصوص ويسبّون عليّاً وينصبون له العداء ويلعنونه فوق المنابر، وكيف يقاتلونه ويقتلونه؟!

وإنّي أحاول عبثاً أن أجد مبرراً لهؤلاء، فلا أجد غير حبّ الدنيا والتنافس فيها، أو النفاق أو الارتداد والانقلاب على الأعقاب، وأحاول ـ أيضاً ـ إلصاق