الصفحة 613

عَلِيمٌ}(1).

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّ علياً منّي وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي"(2).

____________

1- سورة البقرة: 247.

2- المصنف لابن أبي شيبة 7: 504، مسند أبي داود الطيالسي: 111، السنن الكبرى للنسائي 5: 45 ح8146 و8453، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 550 ح1187 وقال الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني محقق الكتاب: "اسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم، والحديث أخرجه الترمذي 2: 297، وابن حبان: 2203، والحاكم 3: 110 ـ 111، وأحمد 4: 437، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي، وأخرجه أحمد 5: 356، من طريق أجلح الكندي... واسناده جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أجلح... وهو شيعي صدوق"،

وقال الشيخ الالباني في الصحيحة 5: 261 ح 2223: "ما تريدون من علي إنّ عليّاً مني وأنا منه وهو ولي كُلّ مؤمن بعدي".

أخرجه الترمذي (3713)، والنسائي في الخصائص (ص 13 و16 ـ 17)، وابن حبّان (2203)، والحاكم (3/110)، والطيالسي في مسنده (829)، وأحمد (4/437 ـ 438)، وابن عدي في الكامل (2/568 ـ 569) من طريق جعفر بن سليمان الضبعي، عن يزيد الرشك، عن مطرف، عن عمران بن حصين (رضي الله عنه)قال: "بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جيشاً، واستعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية، فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن لقينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرناه بما صنع علي، وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر بدأوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فسلموا عليه، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم، فلمّا قدمت السرية سلّموا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم ترى إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ قام الثاني، فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثمّ قام إليه الثالث، فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والغضب يعرف في وجهه فقال.." فذكره.

وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث جعفر بن سليمان".

قلت: وهو ثقة من رجال مسلم، وكذلك سائر رجاله، ولذلك قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي.

وللحديث شاهد يرويه أجلح الكندي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثاً إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب.. فذكر القصّة بنحو ما تقدم، وفي آخره: "لا تقع في عليّ; فإنّه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي، وإنّه منّي وأنا منه، وهو وليكم بعدي".

أخرجه أحمد (5/356).

قلت: واسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الاجلح، وهو ابن عبد الله الكندي مختلف فيه، وفي التقريب: "صدوق، شيعي"...

على أن الحديث قد جاء مفرقاً من طرق أُخرى ليس فيها شيعي.

اما قوله: "إن علياً منّي وأنا منه" فهو ثابت في صحيح البخاري (2699) من حديث البراء بن عازب في قصة اختصام علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (رضي الله عنه): "أنت منّي وأنا منك".

وروي من حديث حبشي بن جنادة، وقد سبق تخريجه تحت الحديث (1980).

وأما قوله: "وهو ولي كلّ مؤمن بعدي" فقد جاء من حديث ابن عبّاس، فقال الطيالسي (752)

حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عنه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال لعلي: "أنت وليّ كُلّ مؤمن بعدي".

وأخرجه أحمد (1/330 ـ 331)، ومن طريقه الحاكم (3/132 ـ 133)، وقال: "صحيح وهو كما قالا".


الصفحة 614

وقال الزمخشري في أبيات له:

كثر الشك والخلاف وكل يدعي أنه الصراط السّوي

فتمسكت بلا إله إلاّ الله وحبي لأحمد وعلي

فاز كلب بحبّ أصحاب كهف كيف أشقى بحب آل النبيّ(1)

نعم، وجدت البديل بحمد الله، وصرت أقتدي - بعد رسول الله - بأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجّلين، أسد الله الغالب، الإمام علي ابن أبي طالب، وبسيدي شباب أهل الجنة، وريحانتي النبي من هذه الأمة الإمام أبي محمّد الحسن الزكي، والإمام أبي عبد الله الحسين، وببضعة المصطفى،

____________

1- الكنى والألقاب 2:299، شرح إحقاق الحق 2:157.


الصفحة 615

سلالة النبوّة، وأمّ الأئمة، معدن الرسالة، ومن يغضب لغضبها ربّ العزّة والجلالة سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام).

وأبدلت الإمام مالك بأستاذ الأئمة ومعلّم الأمة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

وتمسّكت بالأئمة التسعة المعصومين من ذرية الحسين، أئمة المسلمين وأولياء الله الصالحين.

وأبدلت الصحابة المنقلبين على أعقابهم أمثال معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو غادية الجهني، وغيرهم، بالصحابة الشاكرين الذين لم ينقضوا عهد النبي، أمثال عمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وأبي بن كعب، وغيرهم والحمد لله على هذا الاستبصار.

وأبدلت علماء قومي، الذين جمدوا عقولنا واتّبع كثيرٌ منهم السلاطين والحكام في كُلّ زمان بعلماء الشيعة الأبرار الذين ما أغلقوا يوماً باب الاجتهاد، ولا وهنوا ولا استكانوا للأمراء والسلاطين الظالمين.

نعم، أبدلت أفكاراً متحجّرة متعصّبة تؤمن بالتناقضات بأفكار نيّرة متحرّرة ومتفتّحة تؤمن بالدليل والحجّة والبرهان.

وكما يقال في عصرنا الحاضر: غسلت دماغي من أوساخ رانت عليها ـ طوال ثلاثين عاماً ـ أضاليل بني أميّة، وطهّرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً لما تبقى من حياتي.

اللّهم أحينا على ملّتهم، وأمتنا على سنّتهم، واحشرنا معهم، فقد قال نبيّك (صلى الله عليه وآله) "يُحشر المرء مع من أحب"(1).

وبذلك أكون قد رجعت إلى أصلي، فقد كان أبي وأعمامي يحدثوننا

____________

1- الثاقب في المناقب: 260، بحار الأنوار 66: 81، العهود المحمّدية: 42.


الصفحة 616

حسب الشجرة التي يعرفونها أنّهم من السّادة الذين هربوا من العراق تحت الضغط العبّاسي، ولجأوا إلى شمال أفريقيا حيث أقاموا في تونس، وبقيت آثارهم حتّى اليوم.

وهناك في شمال أفريقيا كثيرون مثلنا يسمّون الأشراف; لأنّهم من السلالة الطاهرة، ولكنهم تاهوا في ضلالات الأمويين والعبّاسيين، ولم يبق عندهم من الحقيقة شيء إلاّ ذلك الاحترام والتقدير الذي يكنّه لهم الناس، فالحمد لله على هدايته، والحمد لله على استبصاري وفتح بصري وبصيرتي على الحقيقة.


الصفحة 617

الصفحة 618

أسـباب الاستبــصار


الصفحة 619

الصفحة 620

أسباب الاستبصار

أما الأسباب التي دعتني للاستبصار فكثيرة جداً، ولا يمكن لي في هذه العجالة إلاّ ذكر بعض الأمثلة منها:

1 ـ النص على الخلافة:

لقد آليت على نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلاّ ما هو موثوق عند الفريقين، وأن أطرح ما انفردت به فرقة دون الأُخرى، وعلى ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب، وأنّ الخلافة إنّما كانت بالنصّ على علي كما يدّعي الشيعة، أو بالانتخاب والشورى كما يدَّعي أهل السنّة والجماعة.

والباحث في هذا الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنّه سيجد النصّ على علي بن أبي طالب واضحاً جلياً، كقوله (صلى الله عليه وآله): "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" قال ذلك بعدما انصرف من حجّة الوداع، فَعُقد لعليّ موكب للتهنئة، حتّى إنّ أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنّئين للإمام (عليه السلام) ويقولان: "بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة"(1).

وهذا النصّ مجمع عليه من الشيعة والسنّة، ولم أخرج أنا في البحث ـ هذا ـ إلاّ مصادر أهل السنّة والجماعة، ومع ذلك لم أذكر المصادر كلّها فهي أكثر بكثير ممّا ذكرت، وللاطلاع على مزيد من التفصيل أدعو القارئ إلى مطالعة

____________

1- راجع كلامهما في التهنئة لعليّ بالولاية: المصنف لابن أبي شيبة 7: 503 ح55، مسند أحمد 4: 281، شرح النهج لابن أبي الحديد 5: 8، نظم درر السمطين: 109، تاريخ دمشق 42: 221 ـ 222، سير أعلام النبلاء 19: 328، فيض القدير للمناوي 6: 282، كنز العمال 13: 133 ح36420، والبداية والنهاية لابن كثير 5: 229، وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 36 المناقب للخوارزمي: 156 ح183، ذخائر العقبى: 67، ينابيع المودة 2: 249 ح699، تفسير الفخر الرازي 12:50، تاريخ بغداد 8:284، أسد الغابة 4:28.


الصفحة 621

كتاب الغدير للعلامة الأميني، وقد طبع منه ثلاثة عشر مجلداً، يحصي فيها المصنف رواة هذا الحديث من طريق أهل السنّة والجماعة.

الإجماع على خلافة أبي بكر

أما الإجماع المدّعى على انتخاب أبي بكر يوم السقيفة، ثُمّ مبايعته بعد ذلك في المسجد فإنّه دعوى بدون دليل، إذ كيف يكون الإجماع وقد تخلّف عن البيعة علي والعبّاس وسائر بني هاشم، كما تخلّف أُسامة بن زيد، والزبير، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت، وأبو بريدة الأسلمي، والبراء بن عازب، وأُبيّ بن كعب، وسهل بن حنيف، وسعد بن عبادة، وقيس بن سعد، وأبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وخالد بن سعيد، وغير هؤلاء كثيرون(1)، فأين

____________

1- راجع تاريخ الطبري حوادث 2: 444 سنة 11 وذكر تخلف عليّ والزبير وطلحة وبني هاشم ورجال من المهاجرين، وقال ابن الأثير في الكامل 2: 325 في حوادث سنة 11 أيضاً: "والصحيح انّ أمير المؤمنين ما بايع إلاّ بعد ستة أشهر". "وقال أيضاً: قال الزهري: بقي عليّ وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتّى ماتت فاطمة فبايعوه"، وانظر تاريخ اليعقوبي 2: 84، "تخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والانصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم..."، وتاريخ أبي الفداء 1: 219، الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1:27، وفي الطبقات لابن سعد 3: 182 "فلما أبطأ الناس عن أبي بكر قال: من أحق بهذا الأمر منّي؟... فذكر خصالا فعلها مع النبي (صلى الله عليه وآله)"

إذاً لم يكن الأمر كما يتصور فهذا النصّ يدلّ على إبطاء الناس عنه، ويؤيّده ما في تاريخ الطبري 3: 222 "انّ أسلم أقبلت بجماعتها حتّى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلاّ أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر"؟! وفي الكامل 2: 331 "وجاءت أسلم فبايعت، فقوى أبو بكر بهم، وبايع الناس بعد".

وخير شاهد على أنّ بيعة أبي بكر لم تكن عن مشورة واجتماع من وجوه الصحابة فضلاً عن الغالبية العظمى مقولة عمر بن الخطاب التي قال فيها كما في صحيح البخاري 8:26 كتاب المحاربين: "كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألاّ وأنّها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرّها.. من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.." فاعترف بكون بيعة أبي بكر فلتة ـ بأي معنىً كانت الفلتة وإن كان معناها واضحاً ـ ممّا يعني أنّها لم تكن عن انتخاب واعتراف جمهور المسلمين، وإنّما هي أصبحت عن حين غفلة، فهي خلافة غيلة وليس فيها أي بيعة اللّهم إلاّ من حزب أبي بكر وهم عمر وأبي عبيدة ثُمّ إنّ عمر نفسه أقرّ في نفس الموضوع بكونها من غير بيعة وذلك بحكمه على من فعل مثلها بالقتل وذلك ليس له معنىً إلاّ كون خلافة أبي بكر انتزاء على السلطة غيلة من غير بيعة.


الصفحة 622

الاجماع المزعوم يا عباد الله؟!

على أنّه لو كان عليّ بن أبي طالب وحده تخلّف عن البيعة لكان ذلك كافياً للطعن في ذلك الإجماع، إذ إنّه المرشّح الوحيد للخلافة من قبل الرسول على فرض عدم وجود النصّ المباشر عليه.

وإنّما كانت بيعة أبي بكر عن غير مشورة، بل وقعت على حين غفلة من الناس، وخصوصاً أولي الحلّ والعقد منهم ـ كما يسمّيهم علماء المسلمين ـ إذ كانوا مشغولين بتجهيز الرسول ودفنه، وقد فوجئ سكّان المدينة المنكوبة بموت نبيّهم، وحمل الناس على البيعة بعد ذلك قهراً، كما يشعرنا بذلك تهديدهم بحرق بيت فاطمة (عليها السلام) إن لم يخرج المتخلفون عن البيعة(1)، فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نقول بأنّ البيعة كانت بالمشورة وبالإجماع؟!

وقد شهد عمر بن الخطاب نفسه بأنّ تلك البيعة كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها: فقال: "ثمّ إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ أمرء أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت إلاّ وإنّها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها.. من بايع رجلاً من غير مشورة من

____________

1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي 8 : 572 وسنده حسن، الاستيعاب لابن عبد البرّ 2: 255 وعبر عن كلام عمر بقوله: "لافعلنّ ولافعلنّ"، تاريخ الطبري 2: 233، الامامة والسياسة 1: 30، تاريخ أبي الفداء 1: 219، وغيرها من المصادر.


الصفحة 623

المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرّه أن يقتلا.."(1)، وقال: "فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"(2)، أو قال: "فمن دعا إلى مثلها فلا بيعة له ولا لمن بايعه"(3).

ويقول الإمام علي في حقها: "أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وأنّه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عنّي السّيل ولا يرقى إليّ الطير"(4).

ويقول سعد بن عبادة سيد الأنصار الذي هاجم أبا بكر وعمر يوم السقيفة، وحاول بكلّ جهوده أن يمنعهم ويبعدهم عن الخلافة، ولكنّه عجز عن مقاومتهم لأنّه كان مريضاً لا يقدر على الوقوف، وبعدما بايع الأنصار أبا بكر قال سعد:

"والله لا أبايعكم أبداً حتّى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي، ولا والله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتّى أعرض على ربيّ، فكان لا يصلّي بصلاتهم ولا يجتمع بجمعتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، ولو يجد عليهم أعواناً لطال بهم، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم، ولم يزل كذلك حتّى توفّي بالشام في خلافة عمر"(5).

____________

1- صحيح البخاري 8 : 27، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، مجمع الزوائد 6:5، المصنف لابن أبي شيبة 7:615، التمهيد 22:154.

2- تمهيد الأوائل: 495، المواقف 3:600، شرح المقاصد 2:293، الملل والنحل 1:24، الصواعق المحرقة: 21، شرح النهج لابن ابي الحديد 1: 123.

3- مسند أحمد 1:56، المصنف 8 : 572، وعنه في كنز العمال 5: 544 ح 14134، البداية والنهاية 5:267، السيرة النبويّة 4:489.

4- نهج البلاغة 1:31، الخطبة الشقشقية.

5- راجع بألفاظه المختلفة: الإمامة والسياسة 1: 27، تاريخ الطبري 2: 440 حوادث سنة 11 هـ، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 350 حوادث سنة 11هـ ، الطبقات لابن سعد 3: 616، المنتظم لابن الجوزي 3: 942، تاريخ الإسلام للذهبي 3: 148، سير اعلام النبلاء 1: 276، السيرة الحلبية 3: 387، تاريخ دمشق 20: 265.


الصفحة 624

فإذا كانت هذه البيعة فلتة وقى الله المسلمين شرّها، على حد تعبير عمر الذي شيّد أركانها، وعرفت ما آلت إليه أُمور المسلمين بسببها، وإذا كانت هذه الخلافة تقمصاً من قبل أبي بكر كما وصفها الإمام علي، إذ قال بأنّه هو صاحبها الشرعي، وإذا كانت هذه البيعة ظلماً، كما اعتبرها سعد بن عبادة سيد الأنصار الذي فارق الجماعة بسببها، وإذا كانت هذه البيعة غير شرعية; لتخلف أكابر الصحابة والعبّاس عمّ النبيّ عنها.. فما هي إذن الحجّة في صحة خلافة أبي بكر؟

والجواب: لا حجة هناك عند أهل السنة والجماعة.

فقول الشيعة إذن هو الصحيح في هذا الموضوع، لأنّه ثبت وجود النصّ على خلافة علي (عليه السلام) عند السنة أنفسهم، وقد تأوّلوه حفاظاً على كرامة الصحابة، فالمنصف العادل لا يجد مناصاً من قبول النصّ وبالأخص إذا عرف ملابسات القضية.

2 ـ خلاف فاطمة (عليها السلام) مع أبي بكر:

وهذا الموضوع ـ أيضاً ـ مجمع على صحّته من الفريقين، فلا يسع المنصف العاقل إلاّ أن يحكم بخطأ أبي بكر، إن لم يعترف بظلمه وحيفه على سيدة النساء، لأنّ من يتتبع هذه المأساة ويطّلع على جوانبها يعلم علم اليقين أنّ أبا بكر تعمّد إيذاء الزهراء وتكذيبها لئلا تحتج عليه بنصوص الغدير وغيرها على خلافة زوجها وابن عمّها علي (عليه السلام).

ونجد قرائن عديدة على ذلك، منها ما أخرجه المؤرخون من أنّها سلام الله عليها ـ خرجت تطوف على مجالس الأنصار، وتطلب منهم النصرة والبيعة


الصفحة 625

لابن عمّها، فكانوا يقولون: "يا ابنة رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به"، فيقول علي كرّم الله وجهه: "أفكنت أدع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه، فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم"(1).

ولو كان أبو بكر مخطئاً عن حسن نيّة أو على اشتباه لأقنعته فاطمة الزهراء، ولكنّها غضبت عليه ولم تكلّمه حتّى ماتت، لأنّه ردّ في كلّ مرة دعواها، ولم يقبل شهادتها، ولا شهادة زوجها، ولكُلّ هذا اشتدّ غضبها عليه، حتّى إنّها لم تأذن له بحضور جنازتها حسب وصيّتها لزوجها الذي دفنها في الليل سرّاً(2).

وعلى ذكر دفنها ـ سلام الله عليها ـ سرّاً في الليل، فقد سافرت خلال سنوات البحث إلى المدينة المنورة لأطلع بنفسي على بعض الحقائق، واكتشفت:

أولا: إنّ قبر الزهراء مجهول لا يعرفه أحد، فمن قائل بأنّه في الحجرة النبوية، ومن قائل بأنه في بيتها مقابل الحجرة النبوية، وثالث يقول: بإنّه في البقيع وسط قبور أهل البيت بدون تحديد.

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 13.

2- صحيح البخاري 5:83 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 5:154 كتاب اللقطة، باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، والسنن الكبرى للبيهقي 6:300، المصنف للصنعاني 5:472، صحيح ابن حبّان 11:153، نصب الراية 2:360، الثقات لابن حبّان 2:170، تاريخ الطبري 2:448 حوادث السنّة 11، تاريخ الإسلام 3:14، البداية والنهاية 5:307، السيرة النبويّة لابن كثير 4:568.


الصفحة 626

هذه الحقيقة الأولى التي استنتجت منها أنّها سلام الله عليها ـ أرادت بهذا أن يتسائل المسلمون عبر الأجيال عن السبب الذي دعاها أن تطلب من زوجها أن يدفنها في الليل سرّاً، ولا يحضر جنازتها منهم أحداً!! وبذلك يمكن لأيّ مسلم أن يصل إلى بعض الحقائق المثيرة من خلال مراجعة التاريخ.

ثانياً: اكتشفت أنّ الزائر الذي يريد زيارة قبر عثمان بن عفان يمشي مسافة طويلة حتّى يصل إلى آخر البقيع، فيجده تحت الحائط، بينما يجد أغلب الصحابة مدفونين في بداية البقيع قرب المدخل، وحتى مالك بن أنس صاحب المذهب، وهو من تابعي التابعين مدفون قرب زوجات الرسول.

وتحقّق لديّ ما قاله المؤرخون من أنّه دفن بحش كوكب، وهي أرض يهوديّة، لأنّ المسلمين منعوا دفنه في بقيع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولمّا استولى معاوية بن أبي سفيان على الخلافة اشترى تلك الأرض من اليهود وأدخلها في البقيع، ليدخل بذلك قبر ابن عمّه عثمان فيها، والذي يزور البقيع حتّى اليوم سيرى هذه الحقيقة بأجلى ما تكون(1).

وإنّ عجبي لكبير حين أعلم أن فاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ أوّل من لحق بأبيها، فبينها وبينه ستة أشهر على أكثر الاحتمالات، ثُمّ لا تدفن إلى جانب أبيها؟!

وإذا كانت فاطمة الزهراء هي التي أوصت بدفنها سرّاً فلم تدفن بالقرب من قبر أبيها ـ كما ذكرت ـ فما بال ما حصل مع جثمان ولدها الحسن لم يدفن قرب قبر جده؟! حيث منعت هذا (أم المؤمنين) عائشة، وقد فعلت ذلك عندما جاء الحسين بأخيه الحسن (عليه السلام) ليدفنه إلى جانب جدّه رسول الله، فركبت عائشة بغلة وخرجت تنادي وتقول: "لا تدفنوا في بيتي من لا أحب" واصطف بنو أمية وبنو هاشم للحرب، ولكن الإمام الحسين (عليه السلام) قال لها: بأنّه سيطوف

____________

1- راجع ما تقدم في بعض الحواشي في التفصيل حول هذا الموضوع.


الصفحة 627

بأخيه على قبر جدّه ثمّ يدفنه في البقيع; لأنّ الإمام الحسن (عليه السلام) أوصاه أن لا يهرقوا من أجله ولو محجمة من دم. وقال لها ابن عباس أبياتاً مشهورة:

تجمّلت(1) تبغلت(2) ولو عشت تفيلت

لك التسع من الثمن وبالكل تصرفتِ(3)

وهذه حقيقة أخرى من الحقائق المخيفة، فكيف ترث عائشة كلّ البيت من بين أزواج النبي المتعدّدات، وهنّ تسع نساء حسب ما قاله ابن عباس؟!

وإذا كان النبي لا يورّث ـ كما شهد بذلك أبو بكر نفسه، ومنع ذلك ميراث الزهراء ـ سلام الله عليها ـ من أبيها ـ فكيف ترث عائشة؟ فهل هناك في كتاب الله آية تعطي الزوجة حقّ الميراث وتمنع البنت؟ أم أنّ السياسة هي التي أبدلت كلّ شيء فحرمت البنت من كُلّ شيء، وأعطت الزوجة كلّ شيء؟

وبالمناسبة أذكر هنا قصة طريفة ذكرها بعض المؤرخين، ولها علاقة بموضوع الإرث:

جاءت عائشة وحفصة ودخلتا على عثمان أيّام خلافته، وطلبتا منه أن يقسم لهما إرثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان عثمان متكئا فاستوى جالساً وقال لعائشة: أنت وهذه الجالسة جئتما بأعرابي يتطهّر ببوله، وشهدتما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "نحن معشر الأنبياء لا نورّث"، فإذا كان الرسول حقيقةً لا يورّث فماذا تطلبان بعد هذا؟! وإذا كان الرسول يورّث لماذا منعتم فاطمة حقّها؟ فخرجت من عنده غاضبة وقالت: أقتلوا نعثلا فقد كفر(4).

____________

1- إشارة إلى ركوبها الجمل في حرب الجمل المشهورة (المؤلف).

2- إشارة إلى ركوبها البغلة يوم منعت دفن الحسن بجانب جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(المؤلف).

3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 3: 204، كشف الغمة 2:209، الأخبار الطوال:221، مقاتل الطالبين: 48، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16:50، تاريخ مدينة دمشق 13: 290.

4- الايضاح للفضل بن شاذان: 256، المسترشد للطبري الامامي: 507، باختلاف.


الصفحة 628

3 ـ علي أولى بالاتّباع:

ومن الأسباب التي دعتني للاستبصار وترك سنة الآباء والأجداد الموازنة العقلية والنقلية بين عليّ بن أبي طالب وأبي بكر.

وكما ذكرت في الأبواب السابقة من هذا البحث، أنّي أعتمد على الإجماع الذي يوافق عليه أهل السنّة والشيعة.

وقد فتشت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعاً إلاّ على علي بن أبي طالب، فقد أجمع على إمامته الشيعة والسنّة في ما ورد من نصوص ثبتتها مصادر الطرفين، بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلاّ فريق من المسلمين، وقد كنّا ذكرنا ما قاله عمر عن بيعته أبي بكر.

كما أنّ الكثير من الفضائل والمناقب التي يذكرها الشيعة في علي بن أبي طالب لها سند ووجود حقيقي ثابت في كتب أهل السنّة المعتمدة عندهم، ومن عدّة طرق لا يتطرّق إليها الشك، فقد روي الحديث في فضائل الإمام علي جمع غفير من الصحابة، حتى قال أحمد بن حنبل: "ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الفضائل كما جاء لعلي بن أبي طالب"، وقال القاضي إسماعيل والنسائي وأبو علي النيسابوري: "لم يرد في حقّ أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في عليّ"(1).

مع ملاحظة بأنّ الأمويين حملوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها على سبّه ولعنه وعدم ذكر فضيلة له حتّى منعوا أن يتسمّى أحد باسمه، ومع كلّ ذلك خرجت فضائله ومناقبه سلام الله عليه رغم الجحود، وفي ذلك يقول الشافعي:

____________

1- مستدرك الحاكم 3: 108، شواهد التنزيل للحسكاني 1: 27، الصواعق المحرقة 2: 353، تهذيب التهذيب 7: 339، فيض القدير للمناوي 4: 468، الرياض النضرة 2: 161 ذكر قول أحمد فقط، فتح الباري 7: 89 باب 9، تحفة الأحوذي 10: 144.


الصفحة 629

"عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسداً، وكتمها محبوه خوفاً، وخرج ما بين ذين ما طبق الخافقين"(1).

أمّا بالنسبة لأبي بكر فقد فتّشت ـ أيضاً ـ في كتب الفريقين فلم أجد له في كتب أهل السنّة والجماعة القائلين بتفضيله ما يوازي أو يعادل فضائل الإمام علي (عليه السلام)، على أنّ فضائل أبي بكر المذكورة في الكتب التاريخية مروية أمّا عن

____________

1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين: 19، وقال ابن حجر في الاصابة 4:464 في ترجمة الإمام علي: "ومناقبه كثيرة حتّى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي. وقال غيره: وكان سبب ذلك بغض بني اُميّة له فكان كلّ من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته، وكلّما أرادوا إخماده وهددوا من حدّث بمناقبه لا يزداد إلاّ انتشاراً..".

وليت ابن حجر أنصف في كلامه وتأمل في السبب الحقيقي لكثرة فضائله، ألم تكن الدولة الأموية تحارب علي بن أبي طالب وتطلب كتمان فضائله ورواية فضائل غيره ومع ذلك لم يظهر لغيره، من الفضائل عشر معشار فضائله، فلو كان لغيره وجود من الفضائل لذكرت وبانت، إلاّ أنّ غيره عار عن الفضائل وخال منها فلذلك لم يخلد له التاريخ أي فضيلة.

ثُمّ لماذا الناس تروي فضائله مع منع السلطة عنه؟! أليس ذلك دليل على أنّ فضائله حق وحقيقة وفضائل غيره زائلة ليس لها من الحقيقة شيء فلذلك لم يروها الناس ولم تحفظ.

وفي الاستيعاب لابن عبد البر 3:1119: "عن عبد الله بن الزبير أنّه سمع ابناً له ينتقص عليّاً،فقال: إيّاك والعودة إلى ذلك، فإنّ بني مروان شتموه ستين سنة فلم يزده الله بذلك إلاّ رفعة، وإنّ الدين لم يبنِ شيئاً فهدمته الدنيا، وإنّ الدنيا لم تبنِ شيئاً إلا وعادت على ما بنت فهدمته".

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 4:73 نقلاً عن شيخه أبي جعفر الاسكافي قوله:"فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة لا نقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة، وشدة العداوة.

ولولا أنّ لله تعالى في هذا الرجل سراً يعلمه من يعلمه لم يرو في فضائله حديث، ولا عرفت له منقبة..".


الصفحة 630

ابنته عائشة، وقد عرفنا موقفها من الإمام علي (عليه السلام)، فهي تحاول بكل جهدها دعم أبيها ولو بأحاديث موضوعة، أو عن عبد الله بن عمر، وهو ـ أيضاً ـ من البعيدين عن الإمام علي (عليه السلام)، وقد رفض مبايعته بعدما أجمع الناس على ذلك.

وكان يحدث أن أفضل الناس بعد النبي أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان، ثمّ لا تفاضل(1)، والناس بعد ذلك سواسية، يعني هذا الحديث أنّ عبد الله بن عمر جعل الإمام علي من سوقة الناس، كأيّ شخص عادي ليس له فضل ولا فضيلة(2).

فأين عبد الله بن عمر من الحقائق التي ذكرها أعلام الأمة وأئمتها بأنّه لم يرد في أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟! هل أن عبد الله بن عمر لم يسمع بفضيلة واحدة لعلي؟

بلى والله لقد سمع ووعى، ولكنّ السياسة ـ وما أدراك ما السياسة ـ فهي تقلّب الحقائق وتصنع الأعاجيب.

كذلك يروي فضائل أبي بكر، كلّ من عمرو بن العاص وأبو هريرة وعروة وعكرمة، وهؤلاء كلّهم يكشف التاريخ أنّهم كانوا متحاملين على الإمام علي، وحاربوه أمّا بالسلاح وأمّا بالدسّ واختلاق الفضائل لأعدائه وخصومه(3).

____________

1- صحيح البخاري 4: 203، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر وعثمان، وفيه: "ثمّ نترك أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) لا نفاضل بينهم"، سنن أبي داود 2: 397، كتاب السنة: 553، الاصابة لابن حجر 1: 24.

2- وكلام ابن عمر هذا صار سنداً لمن بعده في حذف عليّ حتّى انّ أحمد بن حنبل قال ـ قبل أن يظهر التربيع بعليّ (عليه السلام) ـ لابنه: "السنة عندنا في التفضيل ما قال ابن عمر..." السنة للخلال: 37 ح507 وفي لفظ: "نحن نقول: أبو بكر وعمر وعثمان ونسكت، على حديث ابن عمر" المصدر ح574.

3- قال ابن ابي الحديد في شرح النهج 4: 63: "وذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي ـ رحمه الله تعالى ـ.. أنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام)، تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه; منهم ابو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.

روى الزهري أنّ عروة بن الزبير حدثه قال: حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله اذ أقبل العبّاس وعلي فقال: "يا عائشة، إنّ هذين يموتان على غير ملتي أو قال ديني"، وروى عبد الرزاق عن معمّر قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي (عليه السلام)، فسألته عنهما يوماً، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما! الله أعلم بهما، إنّي لاتهمهما في بني هاشم..".


الصفحة 631

قال الإمام أحمد بن حنبل: "إنّ عليّاً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه عيباً فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيداً منهم لعلي(عليه السلام)"(1).

ولكن الله يقول: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}(2).

وأنه لمن معجزات الله سبحانه أن تخرج فضائل الإمام علي بعد ستة قرون من الحكم الجائر الظالم له ولأهل بيته، إذ لم يكن العبّاسيون أقلّ بغضاً وحسداً ونكاية وتقتيلا لأهل البيت النبوي من أسلافهم الأمويين، حتّى قال أبو فراس الحمداني في ذلك:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت تلك الجرائر إلاّ دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة وكم دم لرسول الله عندكم

أنتم له شيعة في ما ترون وفي أظفاركم من بنيه الطاهرين دمُ(3)

____________

1- فتح الباري في شرح البخاري 7: 81، الصواعق المحرقة 2: 374، تحفة الاحوذي 10: 231، فتح الملك العلي: 155، النصائح الكوفية: 199.

2- سورة الطارق: 15 ـ 17.

3- الغدير للشيخ الأميني 3: 400.

وقال البسامي عندما جرف المتوكل العبّاسي قبر الحسين (عليه السلام):

تالله إن كانت أمية قد اتت قتل ابن بنت نبيها مظلوماً

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمرك قبره مهدوماً

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميماً

سير أعلام النبلاء 12:35، وفيات الأعيان 3:365، تاريخ الإسلام 17:19، الوافي بالوفيات 11:102، فوات الوفيات 1:290، البداية والنهاية 11:143.

الصفحة 632

فإذا خلصت بعد كُلّ ذلك تلكم الأحاديث وخرجت من تلكم الظلمات، فلتكن لله الحجّة البالغة، ولئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد ذلك.

ورغم أنّ أبا بكر كان هو الخليفة الأوّل، وله من النفوذ ما قد عرفنا، ورغم أن الدولة الأموية كانت تجعل عطاءً خاصّاً ورشوة لكل من يروي في حق أبي بكر وعمر وعثمان، ورغم أنّها اختلقت لأبي بكر من الفضائل والمناقب الكثير ممّا سُوّدت بها صفحات الكتب، مع ذلك فلم يبلغ معشار عشر حقائق الإمام علي وفضائله.

أضف إلى ذلك أنّك إذا حلّلت الأحاديث المروية في فضائل أبي بكر وجدتَها لا تتماشى مع مَا سجّله له التاريخ من أعمال تناقض ما قيل فيه، ولا يقبلها عقل ولا شرع، وقد تقدم شرح ذلك في حديث "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أمتي لرجح إيمان أبي بكر".

ولو كان يعلم رسول الله بأنّ أبا بكر على هذه الدرجة من الإيمان ما كان ليؤمّر عليه أُسامة بن زيد، ولا أن يمتنع من الشهادة له، كما شهد على شهداء أحد وقال له: "إني لا أدري ماذا تحدث من بعدي" حتّى بكى أبو بكر(1)، ولا أن يرسل خلفه علي بن أبي طالب ليأخذ منه سورة براءة فيمنعه من تبليغها(2)، ولا

____________

1- الموطأ 2: 17 باب الشهداء في سبيل الله.

2- كتاب السنة لابن أبي عاصم: 595 ح1383، السنن الكبرى للنسائي 5: 139 ح8462، أنساب الأشراف للبلاذري: 106، مسند أحمد 1: 3 وقال محقق الكتاب الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح"، مسند أبي يعلى 1: 100 ح104، مجمع الزوائد 3:239 وقال: "قلت: في الصحيح بعضه رواه أحمد ورجاله ثقات"، خصائص أمير المؤمنين: 91، تخريج الأحاديث والآثار 2:51، المعجم الأوسط 3: 165، والكبير 12: 77، عمدة القارىء 18:260، الكامل في التاريخ 2:291.


الصفحة 633

أن يقول يوم إعطاء الراية في خيبر: "لأعطينّ رايتي غداً رجلا يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّاراً ليس فرّاراً امتحن الله قلبه بالإيمان" فأعطاها إلى علي ولم يعطها إليه(1).

ولو علم الله أنّ أبا بكر على هذه الدرجة من الإيمان، وأنّ إيمانه يفوق إيمان أمة محمّد بأسرها، فلم يكن الله سبحانه ليهدّده بإحباط عمله عندما رفع صوته فوق صوت النبي(2).

ولو علم علي بن أبي طالب (عليه السلام) والصحابة الذين اتّبعوه أنّ أبا بكر على هذه الدرجة من الإيمان ما جاز لهم أن يتخلّفوا عن بيعته.

ولو علمت فاطمة الزهراء سيدة النساء أنّ أبا بكر على هذه الدرجة من الإيمان ما كانت لتغضب عليه وتمتنع عن الكلام معه وعن رد السلام عليه، وتدعو الله عليه في كلّ صلاة(3)، ثمّ لا تأذن له ـ حسب ما ورد في وصيتها ـ حتّى

____________

1- انظر بألفاظه المختلفة: صحيح البخاري 4: 12، باب ما قيل في لواء النبي، صحيح مسلم 5: 195، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، مسند أحمد 1: 99، 185، 4: 52، 5: 358، سنن ابن ماجة 1: 44، سنن الترمذي 5:302، السنن الكبرى للبيهقي 6:362، مجمع الزوائد 6:150، المصنف لابن أبي شيبة 8:520، كتاب السنّة: 594، السنن الكبرى للنسائي 5:46، مسند أبي يعلى 1:291، الذرية الطاهرة: 114، صحيح ابن حبّان 15:377، المعجم الأوسط للطبراني 6:59، المعجم الكبير 6:152، مسند الشاميين 3:348، المستدرك للحاكم 3: 38، 109، 437، الاستيعاب 3:1099، التمهيد 2:218 الدرر: 198، درر السمط في خبر السبط: 87، الطبقات الكبرى 2:111، الثقات لابن حبّان 2:12، تاريخ بغداد 8:5، أسد الغابة 4:26، تهذيب الكمال 12:226، الاصابة لابن حجر 4:468، أنساب الأشراف: 93، تاريخ الإسلام 2:408، البداية والنهاية 4:211.

2- صحيح البخاري 6: 46، كتاب التفسير، باب سورة الحجرات.

3- الإمامة والسياسة 1: 31.


الصفحة 634

بحضور جنازتها.

ولو علم أبو بكر نفسه أنّه لم يكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب، وأنّه لم يكن أحرق الفجاءة السلمي، وأنّه يوم السقيفة كان قذف الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة(1).

فالذي هو على هذه الدرجة من الإيمان، ويرجح إيمانه على إيمان كلّ الأمة، لا يندم في آخر لحظات حياته على ما فعله مع فاطمة سلام الله عليها، وعلى حرقة الفجاءة السلمي، وعلى تولّيه الخلافة، كما لا يتمنّى أن لا يكون من البشر ويكون شعرة أو بعرة، أفيعادل إيمان مثل هذا الشخص إيمان الأمة بل يرجح عليها؟!

وإذا أخذنا حديث: "لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" فهو كسابقه، فأين كان أبو بكر يوم المؤاخاة الصغرى في مكة قبل الهجرة، ويوم المؤاخاة الكبرى في المدينة بعد الهجرة، وفي كلتيهما اتخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله)عليّاً أخاً له وقال له: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"(2) ولم يلتفت إلى أبي بكر فحرمه من مؤاخاة الآخرة كما حرمه من الخلّة؟!

وأنا لا أريد الإطالة في هذا الموضوع وأكتفي بهذين المثلين اللذين أوردتهما من كتب أهل السنة والجماعة، أما عند الشيعة فلا يعترفون بتلك

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 36، تاريخ الطبري 2: 619، تاريخ اليعقوبي 2: 137، تاريخ دمشق 3: 418، المعجم الكبير للطبراني 1: 62، شرح النهج لابن أبي الحديد 2: 46، كنز العمال 5: 631 ح14113.

2- سنن الترمذي 6: 84 ح3730 مناقب عليّ بن أبي طالب، المستدرك للحاكم 3: 14، عمدة القارىء 2:147، تاريخ دمشق 42: 51 ـ 52، أُسد الغابة 4: 16، 29، الاستيعاب 3:1099، الدرر: 90، رد اعتبار الجامع الصغير: 16، الاكمال في أسماء الرجال: 176، تهذيب الكمال 20:484، ميزان الاعتدال 1:421، البداية والنهاية 7:371.


الصفحة 635

الأحاديث مطلقاً، ولديهم الأدلة الواضحة على أنّها وضعت في زمن متأخر عن زمن أبي بكر.

هذا وإذا تركنا الفضائل وبحثنا في المساوئ فإنّنا لا نحصي لعلي بن أبي طالب سيئة واحدة من كتب الفريقين، بينما نجد لغيره مساوئ كثيرة في كتب أهل السنّة كالصحاح وكتب السِّيْرَ والتاريخ.

وبهذا يكون الإجماع من الفريقين يختص بعلي وحده، كما يؤكد التاريخ أنّ البيعة الصحيحة لم تكن إلاّ لعلي وحده، فقد امتنع هو وأصرّ عليها المهاجرون والأنصار، وقعد عن بيعته نفر فلم يجبرهم عليها، بينما كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ـ كما يقول عمر بن الخطاب ـ، وكانت خلافة عمر بعهد عهده إليه أبو بكر.

وكانت خلافة عثمان مهزلة تاريخية، ذلك أنّ عمر رشّح ستة للخلافة وألزمهم أن يختاروا من بينهم واحداً، وقال: إذا اتّفق أربعة وخالف اثنان فاقتلوهما، وإذا انقسم الستة إلى فريقين ثلاثة في كلّ جهة، فخذوا برأي الثلاثة الذين يقف معهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا مضى وقت ولم يتّفق الستة فاقتلوهم، والقصة طويلة وعجيبة(1).

والمهم أنّ عبد الرحمن بن عوف اختار عليّاً واشترط عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فرفض علي هذا الشرط، وقبله عثمان فكان هو الخليفة، وخرج علي (عليه السلام) من البيعة وهو يعلم مسبقاً النتيجة، وقد تحدَّث عن ذلك في خطبته المعروفة بالشقشقية.

وبعد علي (عليه السلام) استولى معاوية على الخلافة، فأبدلها قيصرية ملكية يتداولها بنو أمية، ومن بعدهم بنو العبّاس أباً عن جد، ولم يكن هناك خليفة إلاّ بنصّ السابق على اللاّحق، أو بقوّة السيف والسلاح والاستيلاء، فلم تكن هناك

____________

1- راجع: تاريخ الطبري 4: 229، الكامل لابن الأثير 3: 67.


الصفحة 636

بيعة صحيحة(1) في التاريخ الإسلامي من عهد الخلفاء وحتّى عهد كمال أتاتورك الذي قضى على الخلافة الإسلامية إلاّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

4 ـ الأحاديث الواردة في علي توجب اتباعه:

من الأحاديث التي أخذت بها ودفعتني للاقتداء بالإمام علي (عليه السلام) تلك التي أخرجتها صحاح أهل السنّة والجماعة، وأكّدت صحتها، والشيعة عندهم أضعافها، ولكن ـ وكالعادة ـ سوف لا أستدلّ ولا أعتمد إلاّ الأحاديث المتّفق عليها من الفريقين، ومن هذه الأحاديث:

أ ـ حديث "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"(2):

وهذا الحديث وحده كاف لتشخيص القدوة الذي ينبغي اتباعه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، لأن العالم أولى بالاتّباع، أولى أن يُقتدى به من الجاهل، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(3)، وقال ـ أيضاً ـ: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(4)، ومن المعلوم أنّ العالم هو الذي يهدي والجاهل يستحق الهداية، وهو أحوج إليها من أيِّ أحد.

____________

1- أي بإجماع المسلمين لم يفرضها عليهم أحد ولم تكن "فلتة" (المؤلف).

2- المستدرك للحاكم 3: 126 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، المعجم الكبير 11: 55، الجامع الصغير للسيوطي 1: 415، تاريخ بغداد 11: 50 وقال: "قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال: هو صحيح"، تاريخ دمشق 42: 380، الصواعق المحرقة 2: 358، وقال: "وصوّب بعض محققي المتأخرين المطلعين من المحدّثين انّه حديث حسن"، وتقدم الكلام عليه.

3- سورة الزمر: 9.

4- سورة يونس: 35.


الصفحة 637

وفي هذا الصدد سجّل لنا التاريخ أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام)هو أعلم الصحابة على الإطلاق، وكانوا يرجعون إليه في أمهات المسائل، ولم نعلم أنّه (عليه السلام) رجع إلى واحد منهم أبداً، فهذا عمر يقول: "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن"(1)، ويقول:

"لولا علي لهلك عمر"(2).

وهذا ابن عبّاس يقول: "ما علمي وعلم أصحاب محمّد في علم علي إلاّ كقطرة في سبعة أبحر"(3).

____________

1- أنساب الأشراف للبلاذري: 100، المناقب للخوارزمي: 97 ح98، ذخائر العقبى: 82، نظم درر السمطين: 132، فيض القدير للمناوي 4: 47، شرح النهج لابن أبي الحديد 12: 101، وقال سعيد بن المسيب: "كان عمر يتعوذّ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن" الطبقات لابن سعد 2: 339، تاريخ دمشق 42: 406، أُسد الغابة 4: 22، فتح الباري 13: 286.

2- المناقب للخوارزمي: 81 ح65، نظم درر السمطين: 132، فيض القدير للمناوي 4:470، ينابيع المودة 2: 172، ذخائر العقبى: 82، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152، شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 141.

3- المناقب لابن شهرآشوب 1: 311 عن تفسير النقاش. وقال ابن الأثير في النهاية 1:207 "ومنه حديث ابن عبّاس: فإذا علمي بالقرآن في علم عليّ كالقرارة في المتغنجر. القرارة: الغدير الصغير".

وقال المناوي في فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3: 60 بعد إيراده حديث "أنا مدينة العلم وعلي بابها.."

قال: ".. فإنّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلها، ولابد للمدينة من باب فأخبر أنّ بابها هو علي ـ كرم الله وجهه ـ، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى، وقد شهد له بالاعلمية الموافق والمخالف والمعادي والمحالف، أخرج الكلاباذي أنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سل علياً هو أعلم منّي! فقال: أُريد جوابك؟

قال: ويحك كرهت رجلاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغره بالعلم غراً، وقد كان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عمّا أشكل عليه، جاءه رجل فسأله فقال: هاهنا علي فاسأله! فقال: أريد اسمع منّك يا أمير المؤمنين؟

قال: قم لا أقام الله رجليك، ومحى اسمه من الديوان.

وصح عنه من طرق أنّه كان يتعوذ من قوم ليس هو فيهم حتّى أمسكه عنده ولم يوله شيئاً من البعوث لمشاورته في المشكل.

وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟ قال: لا والله.

قال الحراني: قد علم الأولون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتّى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء..".

وقال ملا علي القاري في المشكاة 11: 252 في شرحه لحديث "أنا دار الحكمة وعلي بابها" قال: ".. وممّا يدل على جزالة علمه ما في الرياض عن معقل بن يسار قال: وضأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: هل لك في فاطمة ] تعودها[؟

فقلت: نعم.

فقام متوكئاً علي فقال: إنّه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك.

قال: فكأنّه لم يكن عليّ شيء حتّى دخلنا على فاطمة فقلنا: كيف تجدينك؟

قالت: لقد اشتدّ حزني، واشتدت فاقتي، وطال سقمي.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: وجدت بخط أبي هذا الحديث قال: أوما ترضين أنّ زوجك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً؟! أخرجه أحمد.

وعن ابن عبّاس وقد سأله الناس فقالوا: أيّ رجل كان عليّاً؟

قال: كان قد مليء جوفه حكماً وعلماً وبأساً ونجدة مع قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). أخرجه أحمد في المناقب.

وعن سعيد بن المسيب قال: عمر كان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن. أخرجه أحمد".

وفي المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 125 بسنده قال: ".. عن أبي إسحاق قال: سألت قثم بن العبّاس: كيف ورث علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دونكم؟

قال: لأنّه كان أوّلنا به لحوقاً، وأشدنا به لزوقاً.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد. ووافقه الذهبي في التلخيص.

ثمّ ذكر الحاكم في الحديث اللاحق فقال: سمعت إسماعيل بن أبي إسحاق القاضي يقول وذكر له قول قثم هذا فقال: إنّما يرث الوارث بالنسب لا بالولاء، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العم لا يرث مع العم، فقد ظهر بهذا الاجماع أنّ عليّاً ورث العلم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)دونهم".

وقال ابن تيميه في مجموعة الفتاوى الكبرى 4: 302: "واما قوله ] يعني علي[: "اسألوني عن طرق السماء فاني أعرف بها من طرق الأرض" فانه قاله..".

وما ذكره المناوي خير دليل على كلام الدكتور الرحيلي الذي ذكره في كتابه الانتصار للصحب والآل 171 إذ إنّ الخلفاء الذين سبقوا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) واغتصبوا حقه من الخلافة التي كان أجدر بها وأقدر وأحقّ إلاّ أنّهم منعوه منها، لكنهم لم يستغنوا عنه في أمور السياسة والدين، فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي تعرض عليهم فلذلك حبسوه عندهم ولم يولوه شيئاً من البعوث أو المنصب، فمنعهم لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) من المناصب الحكومية لا ينافي رجوعهم إليه في أُمور الدولة والدين. كما صرح المناوي بذلك حينما قال: "حتّى أمسكه عنده ولم يوله شيئاً من البعوث لمشاورته في المشكل".


الصفحة 638

الصفحة 639

وهذا الإمام علي نفسه يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني، والله لا تسألونني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل"(1).

بينما يقول أبو بكر عندما سئل عن معنى الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} قال أبو بكر: أي سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم(2).

____________

1- راجع بألفاظه المختلفة: المستدرك للحاكم 2:353، المعيار والموازينة: 82، دستور معالم الحكم: 104، تخريج الأحاديث والآثار 3:365، كنز العمال 13:165 فتح الملك العلي: 76، أنساب الأشراف للبلاذري: 99، الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 338، تاريخ دمشق 42: 397، المناقب للخوارزمي: 94 ح92، نظم درر السمطين: 126، مجموعة الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4: 302 بلفظ: "أسألوني عن طرق السماء فإنّي أعرف بها من طرق الأرض"، الكشاف للزمخشري 4:13، جامع البيان 13:289، تفسير ابن كثير 1:182، تهذيب الكمال 5:79، تذكرة الحفاظ 1:166، سير أعلام النبلاء 6:257 تاريخ اليعقوبي 2:193 تاريخ الإسلام 9:89، الوافي بالوفيات 11:99.

2- المصنف لابن أبي شيبة 7: 180 ح9، تفسير القرطبي 19: 223، تفسير ابن كثير 4: 504 .


الصفحة 640

وهذا عمر بن الخطاب يقول: "كل الناس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال"(1). ويسأل عن آية من كتاب الله، فينتهر السائل ويضربه بالدرة حتّى يدميه ويقول: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(2) وقد سئل عن الكلالة فلم يعلمها.

أخرج الطبري في تفسيره عن عمر أنه قال: "لئن أكون أعلم الكلالة أحبّ إليَّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الشام"(3).

كما أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر بن الخطاب قال: "ثلاث لئن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيّنهنّ أحب إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والرّبا، والخلافة"(4).

سبحان الله! حاشى لرسول الله أن يكون سكت عن هذه الأشياء ولم يبيّنها.

ب ـ حديث: "يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"(5):

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 182، وبحذف ذيله في المجمع للنووي 16:327، المبسوط للسرخسي 10:153، سبل السلام 3:149 فقه السنة 2:158، تخريج الأحاديث والآثار 3:10، كنز العمال 16:537، كشف الخفاء 1:269، إرواء الغليل 6:348، فيض القدير في شرح الجامع الصغير 2:8، تفسير ابن كثير 1: 478، الدر المنثور 2: 133، فتح القدير للشوكاني 1: 443، وقال: "قال ابن كثير: إسناده جيد قوي"، روح المعاني 4:244.

2- سورة المائدة: 101.

3- تفسير الطبري 6: 58، وفيه: "مثل قصور الروم". الدر المنثور 2: 251، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2:141، كنز العمال 11:80.

4- سنن ابن ماجة 2: 911 ح2727، وقال محققه: "رجال إسناده ثقات" السنن الكبرى للبيهقي 6: 225، تفسير القرطبي 6:29.

5- صحيح البخاري 5: 129، كتاب المغازي باب غزوة تبوك، صحيح مسلم 5: 23، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب، سنن الترمذي 5: 638 و640 و641 ح3724 و3730 و3731 وقال في بعضها: "حديث حسن"، وفي بعضها: "حديث صحيح"، سنن ابن ماجه 1: 42 و45 ح115 و121، المستدرك للحاكم 3: 109 و133 وقال الحاكم فيهما: "حديث صحيح" ووافقه الذهبي، السنن الكبرى للبيهقي 9: 40، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 109 وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير فاطمة بنت علي وهي ثقة"، مسند أحمد بن حنبل 1: 170 و173 و175 و177 و179 و182 و184 و185 و330، حلية الأولياء 7: 194 و196 وقال: "صحيح مشهور"، خصائص النسائي: 11 و12 و24 و44 و64 و126، فضائل الصحابة ح954 و956 و957 و960 و1005 و1006 و1041 و1045 و1079 و1091 و1143 و1153، مسند أبي داود الطيالسي: 29 ح209 و213، صحيح ابن حبّان 15: 15 و370 ح6643 و6926 و6927، كتاب السنة: 560 ح1188، وقال محقق الكتاب الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني: "إسناده حسن" وح1331 و1332 و1333 و1334 و1335 و1336 و1337 و1338 و1339 و1340 و1341 و1342 و1345 و1346 و1347 و1348 و1349 و1350، المصنف للصنعاني 5:406، مسند الحميدي 1:38، مسند ابن الجعد: 301، المصنف لابن أبي شيبة 7:496، مسند ابن راهوية 5:37، الآحاد والمثاني 5:172، السنن الكبرى للنسائي 5:44، مسند أبي يعلي الموصلي 1:286 و2:87، أمالي المحاملي: 210،المعجم الأوسط 2:126 و3:139 و4:296 و5:287 و6:77، المعجم الصغير 2:22، المعجم الكبير 2:247 و4:17 و5:203 و11:61 و12:15، موارد الضمآن للهيثمي 7:132، النظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: 195، وهو حديث متواتر غني عن التخريج.