الصفحة 249

الخلفاء الراشدون عند الشيعة


هم الأئمة الاثنا عشر من العترة النبويّة الطاهرة، أوَّلهم:

  أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجّلين، وسيّد المسلمين، ويعسوب الدين، أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، باب مدينة العلم الذي حيَّر العقول، وبهر النفوس، وأنار القلوب ولولاه ـ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ لما قام للدين عمود.

  والثاني هو الإمام هو أبو محمّد الحسن بن علي (عليه السلام)، سيّد شباب أهل الجنة، ريحانة النبيّ في هذه الأُمّة، العابد الزاهد، الناصح الأمين.

  والثالث هو الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام)، سيّد شباب أهل الجنة، وريحانة النبيّ في هذه الأُمّة، سيّد الشهداء وذبيح كربلاء الذي بذل مهجته لإصلاح أُمّة جدّه.

  والرابع هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وسيّد الساجدين.

  والخامس هو الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) الذي بقر علوم الأوّلين والآخرين.

  والسادس هو الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) الذي ما رأت عين، ولا سمعت أُذن، ولا خطر على قلب بشر أفقه منه علماً وعملا.

  والسابع هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) سليل النبوّة، ومعدن العلم.


الصفحة 250
  والثامن هو الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الذي أُوتي الحكمة في حال صباه.

  والتاسع هو الإمام محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) إمام الجود والكرم والأخلاق.

  والعاشر هو الإمام علي بن محمّد الهادي (عليه السلام) صاحب الفضل والهدى.

  والحادي عشر هو الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) إمام الزهد والتقوى.

  الثاني عشر هو الإمام محمّد بن الحسن المهدي (عليه السلام) الذي سيملأ الأرض عدلا وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، ويصلّي خلفه ابن مريم (عليه السلام)، ويتمّ الله به نوره، ويفرح به المؤمنون.

فهؤلاء هم أئمة الشيعة وعددهم اثنا عشر إماماً، فإذا قيل: الشيعة الإمامية، أو الاثنا عشرية، أو الجعفرية كانوا هم المقصودين دون سواهم، فلم يقل أحد من الفرق الإسلامية بإمامتهم غيرهم.

وإذا تتبعنا الآيات القرآنية النازلة بخصوصهم، والتي تبيّن فضلهم، وشرف منزلتهم، وطيب عنصرهم، وطهارة نفوسهم، وعظيم شأنهم، كآية المودة، وآية إذهاب الرِّجس والتطهير، وآية المباهلة، وآية الأبرار، وآية الصلاة والتسليم، وغيرها كثير.

وإذا تتبعنا الأحاديث النبويّة الشريفة الواردة في فضلهم وتقدّمهم على الأُمّة وأعلميتهم وعصمتهم، فإنّنا سنسلم قطعاً بإمامتهم، وأنّهم أمان الأُمّة من الضلالة، وسبيلها الوحيد إلى الهداية.


الصفحة 251
وسيتبين لنا جليّاً بأنّ الشيعة هم الفائزون; لأنّهم تمسّكوا بحبل الله المتين وهو ولاؤهم، واستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها وهي مودّتهم، وركبوا سفينة النجاة وآمنوا من الغرق والهلاك.

ولذلك نحكم ونجزم بمزيد اليقين والمعرفة بأنّ الشيعة الإماميّة هم أهل السنّة المحمّدية، {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(1).

صدق الله العلي العظيم         

____________

1- ق: 22.


الصفحة 252

الصفحة 253

الخلفاء الراشدون عند أهل السنّة والجماعة


هم الخلفاء الأربعة الذين اعتلوا منصّة الخلافة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأهل "السنّة والجماعة" يقولون فأفضليتهم على حسب ترتيب خلافتهم وعلى سائر الخلق بعد النبيّ، هذا ما نسمعه اليوم، وقد عرفنا في ما سبق من أبحاث بأنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكن معدوداً عندهم من الخلفاء العاديين فضلا عن الراشدين، وإنّما ألحقه في ركب الخلفاء الإمام أحمد بن حنبل في زمن متأخّر جداً، وكان قبلها يُلعن على منابرهم في كلّ البلاد الإسلامية والامبراطورية الأمويّة.

ولمزيد التحقيق، وليطمئن القارئ إلى هذه الحقيقة المؤسفة لابدّ من لفت نظره إلى ما يأتي:

قد قدّمنا أنّ عبد الله بن عمر هو من أكابر فقهاء أهل السنّة والجماعة، وقد اعتمده مالك في موطّأه، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، وباقي المحدّثين عن بكرة أبيهم.

فهذا الرجل كان من النواصب الكبار الذين عرفوا ببغضهم الصريح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويحدّثنا التاريخ أنّه رفض البيعة لولي المؤمنين، وأسرع يبايع الحجّاج اللعين عدوّ الله ورسوله(1).

____________

1- الحجّاج بن يوسف الثقفي المعروف بفسقه وكفره وجرائمه واستهتاره بالدّين، أخرج الحاكم في المستدرك 3: 556 وابن عساكر 12: 159 أنّ الحجّاج كان يقول: يزعم ابن مسعود أنّه يقرأ قرآناً من عند الله، والله ما هو إلاّ رجز من رجز الأعراب. وكان يقول: اتقوا الله ما استطعتم فليس فيها مثوبة، واسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين عبدالملك بن مروان فإنّها المثوبة.

كما أخرج ابن عقيل في كتاب النصائح الكافية: 106 أنّ الحجّاج خطب بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة قال: تبّاً لهم إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبدالملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله.


الصفحة 254
وقد كشف عبد الله بن عمر عن مكنون قلبه وأباح بخالص سرّه، عندما حدَّث بأنّه لا يعدّ لعلي (عليه السلام) فضلا ولا فضيلة، ولا منقبة واحدة تجعله على الأقل في المرتبة الرابعة بعد عثمان بن عفان.

وقد عرفنا بأنّه يفضّل أبا بكر وعمر وعثمان فقط، أمّا علي (عليه السلام) فهو بالنسبة إليه من سوقة الناس إن لم يكن أقّلهم عنده، وإليك حقيقة أُخرى أخرجها المحدِّثون والمؤرِّخون تعرب بصراحة عن نفسية ابن عمر الحاقدة والمبغضة لعلي، ولكلّ الأئمة (عليهم السلام) من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرة.

قال عبد الله بن عمر، وهو يفسّر حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: "الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش"، قال عبد الله بن عمر: يكون على هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة وهم:

أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة، والسفاح، وسلام، ومنصور، وجابر، والمهدي، والأمين، وأمير العصب، كلّهم من بني كعب بن لؤي، كلهم صالح لا يوجد مثله!(1).

إقرأ واعجب أيّها القارئ العزيز من هذا الفقيه المعظَّم عند "أهل السنّة

____________

1- تاريخ دمشق 6: 408 ـ 409، سير أعلام النبلاء للذهبي 4: 38.


الصفحة 255
والجماعة" كيف يحرّف الحقائق ويقلبها، فيجعل معاوية وابنه يزيد والسفاح من أفضل العباد، إذ يقول صراحة: كلّهم صالح ولا يوجد مثله!

وقد أعمى بصره الحقد والجهل، كما أعمى بصيرته الحسد والبغض(1)، فلم يَرَ لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) فضلا ولا فضيلة، فيقدّم عليه معاوية الطليق وابنه يزيد الزنديق والمجرم السفاح، وما عشت أراك الدهر عجباً!

فعبد الله بن عمر هو ابن أبيه حقاً، والشيء من مأتاه لا يستغرب، وكل إناء بالذي فيه ينضح، فأبوه عمل بكل جهوده لإبعاد عليّ (عليه السلام) عن الخلافة واحتقاره وانتقاصه في أعين الناس.

وهذا ابنه الحاقد البغيض، ورغم وصول علي (عليه السلام) إلى الخلافة بعد مقتل عثمان إذ بايعه المهاجرون والأنصار; نراه امتنع عن مبايعته، وعمل بكلّ جهوده على أطفاء نوره، وتأليب الناس عليه لإسقاطه، فجعل يحدِّث ويوهم المسلمين بأنّ عليّاً (عليه السلام) لا فضل له، وهو كسائر الناس العاديين.

وقد خدم عبد الله بن عمر الدولة الأموية، وتوّج معاوية وابنه يزيد بتاج الخلافة كذباً وافتراء على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واعترف بخلافة السفاح والمنصور، وكلّ فسّاق بني أُميّة، وقدَّمهم على سيّد المسلمين، وولي المؤمنين بنصّ القرآن والسنّة، ولم يعترف بخلافته رغم وقوعها، إنّ هذا لشيء عجيب!

ولنا مع ابن عمر لقاء آخر في بحث لاحق لنكشف الستار عنه أكثر، مع

____________

1- إقرأ ولا تنسَ قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أخرجه مسلم بأنّ حبّ علي بن أبي طالب إيمانٌ وبغضه نفاقٌ، وأنّ المنافقين كانوا لا يُعرفون زمن النبيّ إلاّ ببغضهم لعلي.


الصفحة 256
أنّ فيما قدّمناه كفاية لإسقاطه من الاعتبار، وتجريده من العدالة، وعدّه في زمرة النواصب الذين أسَّسوا مذهب "أهل السنّة والجماعة"، وأصبح عندهم من أكبر الفقهاء والمحدِّثين.

وأنت إذا جبتَ الأرض شرقاً وغرباً، وصلَّيت في مساجد "أهل السنّة والجماعة" قاطبة، وتحدّثت مع علمائهم، فسوف يملأ سمعك قول أئمتهم في كلّ مناسبة: "عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما"(1).

____________

1- هذا الكلام الذي ذكره المؤلّف حول عبد اللّه بن عمر، وانتقاده للرواية التي نقلت عنه في تفسير الخلفاء الاثني عشر بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كان في الرواية كلام، لكنّ المؤلّف يريد أن يبيّن هذا الشيء، وهو أنّ عبد اللّه بن عمر كان من المنحرفين عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولم يكن يرى له فضل ولا فضيلة، بغضاً وحنقاً منه على أمير المؤمنين (عليه السلام).


الصفحة 257

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يقبل تشريع « أهل السنّة والجماعة »


عرفنا ممّا سبق بأنّ الشيعة اقتداءً بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لم يعملوا بالرأي ولا بالقياس بل حرَّموهما، وذلك لأنّ النصوص النبويّة كانت هي القاضية والحاكمة عندهم، وقد توارثوها كابراً عن كابر، وقد جاء ذكر الصحيفة الجامعة وطولها سبعون ذراعاً، وفيها كلّ ما يحتاجه المسلمون إلى قيام الساعة.

كما عرفنا أيضاً بأنّ "أهل السنّة والجماعة" اضطروا للعمل بالرأي وبالقياس، وذلك لعدم وجود النصوص النبويّة عندهم وافتقارهم إليها; لأنّ كبراءهم وساداتهم رفضوها وأحرقوها، ومنعوا من تدوينها وكتابتها.

وقد عمد أنصار الاجتهاد والقول بالرأي إلى وضع حديث على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتأييد مذهبهم، وتلبيس الحقّ بالباطل، فقالوا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وسأله: "كيف تقضي إذا عرض لك القضاء"؟ فقال معاذ: أقضي بكتاب الله، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن لم تجد في كتاب الله"؟ قال: أقضي بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "إن لم تجد في سنّة رسوله"؟ فقال معاذ عند ذلك: إن لم أجد أجتهد برأيي.

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ذلك: الحمدُ لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله(1).

____________

1- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 13 ح59، مسند أحمد 5: 242.


الصفحة 258
وهذا الحديث باطل ولا يمكن أن يصدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يقول النبيّ لمعاذ: إن لم تجد في كتاب الله وسنّة رسوله؟ والله يقول لرسوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيء}(1)، ويقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيء}(2) وكذلك قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(3).

وقال أيضاً لرسوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}(4).

فكيف يقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هذا لمعاذ: إن لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله؟! وهل هذا إلاّ اعتراف بأن كتاب الله وسنّة رسوله ناقصان، ولم يبيِّنا كلّ الأحكام القضائية!

ولقائل أن يقول: ربما كان هذا الحديث لمعاذ بن جبل في بداية الدعوة، ولم يكمل بعد نزول القرآن.

قلنا: لا يصحُّ ذلك.

أولا: لقول معاذ: أحكم بكتاب الله، فدلّ على أنّ كتاب الله كاملٌ عندهم.

وإذا أضفنا إليه قوله: أقضي بسنّة رسوله، علمنا بما لا شكّ فيه بأنّ الحديث وضع في زمن متأخّر جدّاً عندما كثر القول بالاجتهاد مقابل النصوص; لأنّ مصطلح كتاب الله وسنّة رسوله كان يستعمل دائماً فيما بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

____________

1- النحل: 89.

2- الأنعام: 38.

3- الحشر: 7.

4- النساء: 105.


الصفحة 259
ولا يصح ثانياً: لأنّه يصبح حجّة لكلّ من جهل أحكام الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقضي برأيه بما شاء، ولا يكلّف نفسه معرفة النصوص.

ولا يصح ثالثاً: لقول الله سبحانه: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(1).

ولا يصح رابعاً: لأنّ الذي يجهل الأحكام لا يحقّ له القضاء ولا الافتاء حتى يعرف حكم الله ورسوله في ذلك.

وإذا كان النبيّ نفسه هو رسول الله، وقد أعطاه الله سبحانه حقّ التشريع للأُمة، فقال: {مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(2)، ومع ذلك فإنّه لم يعمل طيلة حياته، ولم يحكم في قضية واحدة برأي ولا بقياس ولا باجتهاد، بل كان دائماً يتبع النصوص الإلهية التي ينزل بها جبريل (عليه السلام) كلّما دعت الحاجة لذلك، والروايات التي تخالف هذا الواقع كلّها موضوعة.

ولمزيد الاطمئنان بما قدّمناه، إليك الدليل من صحاح "أهل السنّة"، أخرج البخاري في صحيحه قوله:

ما كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُسأل ممّا لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس، لقوله تعالى: {بِمَا

____________

1- المائدة: 44 ـ 45 ـ 47.

2- الأحزاب: 36.


الصفحة 260
أَرَاكَ اللّهُ}(1)(2).

نعمّ هذا هو ربّ العالمين وأحكم الحاكمين يقول لرسول الله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ...}(3).

نعم، هذا هو القرآن يقول لمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ...}(4).

وإذا كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعمل برأي ولا بقياس بشهادتهم في صحاحهم، فكيف تسنّى لهم أن يعملوا بذلك؟! وكيف يخالفون أحكام الله وسنّة رسوله ثمّ يقولون بأنّهم "أهل السنّة"، إنّه حقّاً أمر عجيب وغريب؟!

تنبيه لابدّ منه

إذا تكلّمنا في الفصول القادمة عن "أهل السنّة والجماعة"، فإنّنا لا نقصد بهم المسلمين المعاصرين، فقد لاحظنا في عديد الفقرات بأنّ هؤلاء أبرياء، وليس لهم في ما اقترفه السلف من ذنب ولا إثمّ، وقلنا بأنّهم ضحايا الدس والتَّعتيم التاريخي الذي صاغه الأمويون والعباسيون وأذنابهم لمحق السنّة النبويّة وإرجاع الأمر إلى الجاهلية.

ولقد كنّا منهم نسير في ركبهم ونهتدي بهديهم، فمن الله علينا وهدانا إلى

____________

1- النساء: 105.

2- صحيح البخاري 8: 148 من (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة).

3- المائدة: 48.

4- النساء: 105.


الصفحة 261
سفينة النجاة، وليس لنا إلاّ التضرّع والابتهال إليه سبحانه أن يهدي لذلك كلّ الأُمّة الإسلامية حتى لا يبقى إلاّ الحقّ.

ولقائل أن يقول: إنّ تناول الصحابة بهذا النقد والتجريح يخدش شعور الأغلبية من المسلمين الذين يعتقدون بعدالتهم جميعاً، ويعتبرونهم أفضل الخلق بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

فنقول: بأن المسلمين مُطالبون بالاعتقاد في الله وفي رسوله، والعمل بما افترضاه، والوقوف عند الحدود التي رسماها، ويتوقّف نجاة المسلمين بما فيهم الصحابة على ذلك، فمن خرج عن ذلك مصيره إلى النار، ولو كان عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ولده.

وإن تناول البعض من الصحابة بالنقد والتجريح فرضته الأحداث التاريخية التي تفاعلوا معها واختلفوا، وكانوا سبب اختلاف الأُمّة ورزيَّتها.


الصفحة 262

الصفحة 263

عداوة "أهل السنّة" لأهل البيت تكشف عن هويتهم


إنّ الباحث يقف مبهوتاً عندما تصدمه حقيقة "أهل السنّة والجماعة"، ويعرف بأنّهم كانوا أعداء العترة الطاهرة، يقتدون بمن حاربهم ولعنهم، وعمل على قتلهم ومحو آثارهم.

ولذلك تجد "أهل السنّة والجماعة" يوثّقون المحدّثين إذا كانوا من الخوارج أو من النواصب العثمانية، ويتهمون ويوهنون المحدّثين إذا كانوا من شيعة أهل البيت(1).

وإنّك تجد ذلك مذكوراً في كتبهم بصراحة عندما يحاولون تكذيب الأحاديث الصحيحة التي وردت في فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويوهّنون راويها بقولهم: وفي سنده فلان وهو رافضي(2).

ويصحِّحون الأحاديث المكذوبة التي وُضعت لتفضيل وتمجيد الخلفاء الآخرين وإن كان راويها من النواصب لأنّ النصب عندهم هو شدّة وصلابة في السنّة.

فهذا ابن حجر يقول عن عبد الله بن إدريس الأزدي المعروف بالنصب،

____________

1- قال ابن حجر العسقلاني في كتابه تهذيب التهذيب 8: 411: (وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعة مطلقاً، ولا سيّما أن عليّاً ورد في حقّه: لا يحبه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق..)!!.

2- رافضي بمعنى يتشيّع لعلي ويرفض خلافة الذين تقدّموه.


الصفحة 264
يقول: إنّه صاحب سنّة وجماعة، وكان صلباً في السنّة، وكان عثمانياً(1).

ويقول في عبد الله بن عون البصري: إنّه موثّق، وله عبادة وصلابة في السنّة، وشدّة على أهل البدع، قال ابن سعد: وكان عبد الله بن عون البصري عثمانياً(2).

كما يقول في إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني المعروف ببغضه لعلي (عليه السلام): إنّه كان حريزي المذهب (أي على مذهب حريز بن عثمان الدمشقي المعروف بالنصب) قال ابن حبّان: إنّه كان صلباً في السنّة حافظاً للحديث(3).

وتجدر الإشارة هنا بأنّ هذا الناصبي الذي يمدحونه بالصلابة في السنّة ويحفظ الحديث، كان يغتنم اجتماع المحدِّثين على بابه، فيبعث بجارية له ومعها دجاجة في يدها، فتطوف في المدينة، ثمّ تعود لتقول لسيّدها الجوزجاني بأنّها لم تجد من يذبح لها الدجاجة، فيصيح عند ذلك قائلا: سبحان الله!! فروجة لا يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوة من نهار نيفاً وعشرين ألف مسلم!!

____________

1- تهذيب التهذيب لابن حجر 5: 127.

2- المصدر نفسه 5: 305. المعروف أنّ العثمانيين هم النواصب الذين يكفّرون عليّاً ويتّهمونه بقتل عثمان، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان ابن عمّ عثمان، فهو رئيسهم وزعيمهم.

3- تهذيب التهذيب 1: 159، النواصب هم أعداء علي وأهل بيته من الخوارج والقاسطين والناكثين والذين ناصبوا له العداء وحاربوه، وبعد استشهاده عملوا على سبّه ولعنه.


الصفحة 265
وبمثل هذا المكر والدهاء يحاول النواصب أعداء أهل البيت تحريف الناس عن الحقّ، وإضلالهم بمثل هذه الأراجيف الكاذبة، حتى يملأوا قلوب المسلمين وخصوصاً المحدِّثين منهم حقداً وبغضاً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويستبيحوا بذلك سبّه وشتمه ولعنه.

وإنّك لتجد هذه الظاهرة موجودة إلى يوم الناس هذا، فرغم ادعاء "أهل السنّة والجماعة" في زماننا بأنّهم يحبون أهل البيت، ويترضّون عن سيّدنا علي (كرم الله وجهه) كما يقولون، إلاّ أنّك عندما تروي حديثاً فيه فضيلة لعلي (عليه السلام) تراهم يغمزون ويهزأون، ويرمونك بالتشيع وقول البدع والغلو في الدين.

وعندما تحدِّث عن الخلفاء أبي بكر وعمر وكلّ الصحابة بدون استثناء، وتقول في فضلهم ما شئت وتغالي في ذلك، فإنّهم يطمئنون إليك، ويستأنسون بحديثك، ويقدّموك على أنّك كثير العلم واسع الاطلاع.

إنّها بالضبط عقيدة سلفهم "الصالح"، فقد نقل المؤرّخون بأنّ الإمام أحمد بن حنبل كان يضعِّف من أهل الحديث كلّ من ينتقص أبا بكر أو عمر أو عثمان، بينما كان يكرم إبراهيم الجوزجاني الناصبي المتقدّم ذكره إكراماً شديداً، ويراسله ويقرأ كتبه على المنبر ويحتجّ بها(1).

وإذا كان هذا حال أحمد بن حنبل الذي فرض على معاصريه القول بخلافة علي (عليه السلام) وربّع بها، فلا تسأل عن الآخرين الذين لم يعترفوا له

____________

1- بل ذكر ابن عدي أنّ أحمد بن حنبل كان يكاتبه ويتقوّى بكتابه، وبقراءته على المنبر. بحر الدم، يوسف بن المبرد: 18.


الصفحة 266
بفضيلة واحدة، أو الذين سبّوه ولعنوه على المنابر في الجمعة والأعياد.

وهذا الدارقطني يقول: كان ابن قتيبة ـ متكلّم أهل السنّة ـ يميل إلى التشبيه، منحرف عن العترة(1).

وبهذا يتبيّن بأنّ أغلب "أهل السنّة والجماعة" كانوا منحرفين عن عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذا المتوكّل الذي لقَّبه أهل الحديث بـ "محيي السنّة"، والذي كان يكرم أحمد بن حنبل ويعظِّمه ويطيع أوامره في تنصيب القضاة، كان من أكبر النواصب لعلي ولأهل البيت (عليهم السلام)، حتى وصل به الحقد إلى نبش قبر الحسين بن علي ومنع من زيارته، وقتل من يتسمّى بعلي. وذكره الخوارزمي في رسائله وقال بأنّه كان لا يعطي مالا ولا يبذل نوالا إلاّ لمن شتم آل أبي طالب (عليهم السلام) ونصر مذهب النواصب(2).

وغنيّ عن التعريف بأنّ مذهب النواصب هو مذهب "أهل السنّة والجماعة"، فناصر مذهب النواصب المتوكّل هو نفسه "محيي السنّة"، فافهم.

وهذا الذهبي يحدّثنا في تذكرة الحفاظ بأنّ "أهل السنّة والجماعة" عندما سمعوا الأعمش يروي حديث الطير المشوي الذي فيه فضيلة علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، أخرجوه من المسجد وغسلوا مكانه(3).

____________

1- لسان الميزان للذّهبي 3: 357.

2- رسائل الخوارزمي: 166، في رسالته إلى جماعة الشيعة بنيسابور.

3- تذكرة الحفّاظ، الذهبي 3: 966، والسير أيضاً 16: 352 وتاريخ الإسلام 26:

543 وقال في ترجمته: ".. قال علي بن محمّد الطيب الجلابي في تاريخ واسط: ابن السقّا من أئمة الواسطيين الحفاظ المتقنين.. قال السلفي: سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقّاء فقال: هو من مزينة مضر، ولم يكن سقّاء، بل لقباً له، من وجوه الواسطيين وذو الثروة والحفظ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلى وابن زيدان البجلي.. وبارك اللّه في سنّه وعلمه، واتفق أنّه أملى حديث الطير فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به، وأقاموه وغسلوا موضعه، فمضى ولزم بيته فكان لا يحدّث أحداً من الواسطيين".

يا للغرابة فهل الذي يحدث بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) يهان بل يغسل موضعه!! إذ صار نجساً; لأنه تحدث بفضيلة ومنقبة تهدم ما أسسوه من أفضلية أبي بكر على غيره، وحديث الطير يثبت عكس ذلك، ويثبت أنّ الأفضلية لعلي بن أبي طالب عليه، وأنّه أحبّ الخلق إلى اللّه سبحانه وتعالى. وهذا الحديث ثابت بطرق كثيرة جداً، حتى إنّ الذهبي نفسه أفرد رسالة لهذا الحديث، لكثرة الطرق الواردة فيه!

فانظر إلى حركة النصب والبغض لأهل البيت (عليهم السلام) ثمّ بعد ذلك لا تستغرب ما فعلوه بهم من قتل وتشريد وطمس للفضائل، وللّه في خلقه شؤون.