النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 441 : -

[ خطاب عائشة في أهل البصرة ]

ثم أقبلت عائشة على جملها عسكر ، فنادت بصوت مرتفع ( 1 ) : أيها الناس أقلوا الكلام واسكتوا ، فسكت الناس لها فقالت : أيها الناس ان أمير المؤمنين عثمان كان قد غير وبدل ، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا ، وانما نقموا عليه ضربه بالسوط ، وتأميره الشبان ، وحمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل ، ألا وان قريشا رمت غرضها بنبالها ، وأدمت أفواهها بأيديها ، وما نالت بقتلها اياه شيئا ، ولا سلكت به سبيلا قاصدا ، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه القائم ، وتقيم الجالس ، وليسلطن الله عليهم قوما لا يرحمونهم ، يسومونهم سوء العذاب .

أيها الناس انه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه ، ماصوه كما يماص الثوب الرحيض ، ثم عدوا عليه فقتلوه بعد توبته ، وخروجه من ذنبه ، وبايعوا ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا ، أترونني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ! ألا ان عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته ، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان .

  ( 1 ) كما في ص 499 من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى ( منه قدس ) ( * ) .  
 

- ص 442 -

قال أهل السير والأخبار : فماج الناس واختلفوا . فمن قائل : القول ما قالت أم المؤمنين . ومن قائل يقول : ما هي وهذا الأمر انما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها . وارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط ، حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى ، ثم تمايزوا فريقين ، فريقا مع عثمان بن حنيف ، وفريقا مع عائشة وأصحابها ( 668 ) .

[ وقوف الفريقين للقتال ]

ثم أصبح الفريقان من غد ، فصفا للحرب ، وخرج عثمان بن حنيف ( 1 ) فناشد عائشة الله والإسلام ، وأذكر طلحة والزبير بيعتهما عليا . فقالا : نطلب بدم عثمان فقال لهما : وما أنتما وذاك ، أين بنوه ؟ أين بنو أعمامه الذين هم أحق به منكم ؟ كلا ولكنكما حسدتما عليا حيث اجتمع الناس عليه ، وكنتما ترجوان هذا الأمر ، وتعملان له ، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما ؟ ! فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه ، فقال للزبير : لولا صفية ومكانها من رسول الله ، فانها أدنتك إلى الظل ، وان الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة . ثم قال : اللهم اني قد أعذرت .

ثم حمل فاقتتل الناس قتالا شديدا ، ثم تحاجزوا واصطلحوا على كيفية خاصة ، فصلها المؤرخون ، أرجأوا فيها الأمر إلى ما بعد وصول أمير المؤمنين إلى البصرة ، وأعطى الفريقان على ما كتبوه

  ( 668 ) وقريب منه في : الكامل لابن الأثير ج 3 / 109 .
( 1 ) كما في ص 500 من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدى ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 443 -

من الصلح عهد الله وميثاقه ، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة وميثاق ، وختم الكتاب من الفريقين ( 669 ) .

لكن عائشة وطلحة والزبير أجمعوا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ووجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف ، من حيث لا يشعر الأمير ابن حنيف وأصحابه ، فلما استوثق لأصحاب الجمل أمرهم ، خرجوا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ، وقد لبسوا الدروع وظاهروا فوقها بالثياب ، فانتهوا ، إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي ، فأخره أصحاب طلحة والزبير وقدموا الزبير ، فجاءت الشرطة وحرس بيت المال فأخرجوا الزبير وقدموا عثمان ، ثم غلبهم أصحاب الزبير وقدموه ، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع ، فصاح بهم أهل المسجد : ألا تتقون بالله يا أصحاب محمد ؟ وقد طلعت الشمس ، فغلب الزبير وصلى بالناس .

فلما فرغ من صلاته صاح بأصحابه المسلحين : أن خذوا عثمان بن حنيف فلما أسر ضرب ضرب الموت ونتفت لحيته وشارباه وحاجباه وأشفار عينيه ، وكل شعرة في رأسه ووجهه ، وأخذوا الشرطة وحراس بيت المال وهم سبعون رجلا من المؤمنين من شيعة علي فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لابان بن عثمان : اخرج إليه فاضرب عنقه فان الأنصار قتلوا أباك .

فنادى عثمان بن حنيف : يا عائشة ويا طلحة ويا زبير ان أخي سهلا خليفة علي على المدينة ، وأقسم بالله ان لو قتلت ليضعن السيف في نبي أبيكم ورهطكم فلا يبقي ولا يذر . فكفوا عنه .

وأمرت عائشة الزبير أن يقتل الشرطة وحراس بيت المال وقالت له : قد بلغني الذي صنعوا بك ، فذبحهم والله الزبير كما

  ( 669 ) راجع : الكامل ج 3 / 110 ، مروج الذهب ج 2 / 358 ط بيروت . ( * )   
 

- ص 444 -

يذبح الغنم ، ولي ذلك منهم ابنه عبدالله وهم سبعون رجلا ، وبقيت منهم طائفة مستمسكين بيت المال قالوا : لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين . فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا .

فكان هذا الغدر بعثمان بن حنيف ، أول غدر كان في الإسلام ، وكان قتل الشرطة وحراس بيت المال أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا ، وكانوا مائة وعشرين رجلا ، وقيل كانوا ( كما في 501 من المجلد الثاني من شرح النهج الحميدي ) أربعمأة رجل ( 670 ) .

ثم طردوا عثمان بن حنيف فلحق بعلي ، فلما رآه بكى وقال له : فارقتك شيخا وجئتك أمرد . فقال علي : انا لله وانا إليه راجعون . يقولها ثلاثا ( 671 )

وقد مني عليه السلام في هذه المأساة بغصة لا تساغ ، كان يشكو بثه فيها وحزنه إلى الله فيقول على المنبر : " اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم ، فانهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا : ألا ان في الحق ان تأخذه ، وفي الحق أن تتركه " ( 672 ) ( ثم ذكر أصحاب الجمل فقال ) : " فخرجوا يجرون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كما تجر الأمة عند شرائها متوجهين بها إلى البصرة ، فحبسا نساءهما في بيوتهما ، وأبرزا حبيس رسول الله لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عامل بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها ، فقتلوا طائفة صبرا وطائفة غدرا . . " الخطبة وهي في نهج البلاغة ( 673 ) .

  ( 670 ) مروج الذهب ج 2 / 358 .
( 671 ) تاريخ الطبري ج 5 / 186 .
( 672 ) نهج البلاغة الخطبة - 217 -  .
( 673 ) نهج البلاغة الخطبة - 172 -
( * ) .
 
 

- ص 445 -

[ موقف حكيم بن جبلة ( 1 ) ]

لما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم خرج في ثلثمائة من عبدالقيس وكان سيدهم . فخرج القوم إليه وحملوا عائشة على جمل ، فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر ، ويومها مع علي يوم الجمل الأكبر .

وتجالد الفريقان بالسيوف وأبلى حكيم وأصحابه بلاء حسنا ، لكن شد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم فضرب رجل فقطعها ، ووقع الأزدي عن فرسه ، فجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي فصرعه ثم دب إليه فقتله خنقا متكئا عليه حتى زهقت نفسه ، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه فقال له : من فعل بك هذا ؟ قال : وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته .

وكان حكيم من أبطال العرب وشجعان المسلمين المستبصرين في شأن أهل البيت ، وقد قتل معه ابنه الأشرف وإخوة له ثلاثة ، وقتل معه أصحابه كلهم وهم ثلثمائة من عبدالقيس وكلهم من الاخيار ، وربما كان بعض المقتولين يومئذ من بكر بن وائل . فلما صفت البصرة لعائشة وطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه ، وطردا ابن حنيف عنها .

اختلف طلحة والزبير في الصلاة ، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس ، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له ، ورضي بتقدمه ،

  ( 1 ) فصله أهل السير والأخبار فراجعه في ص 501 من المجلد الثاني من شرح النهج ( منه قدس ) ( * ) .  
 

- ص 446 -

فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت الإمامة يوما لعبد الله بن الزبير ، ويوما لمحمد ابن طلحة ولما دخلوا بيت المال في البصرة ورأوا ما فيه من الأموال . قرأ الزبير - وقد استفزه الفرح - : ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) فنحن أحق بها من أهل البصرة ( 674 ) .

هذا مجمل ما كان في البصرة من الأحداث قبل وصول أمير المؤمنين إليها .

  ( 674 ) اختلاف طلحة والزبير في الإمارة : مروج الذهب ج 2 / 357 ، تاريخ الطبري ج 5 / 182 .  
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب