النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 446 : -

[ وصول علي إلى البصرة والتقاء الجمعين ]

ثم جاء علي بعدها إلى البصرة بمن معه فنهدت إليه عائشة بمن معها تذوده عنها ، وكانت رابطة الجأش ، مشيعة القلب فكف يده عنها وعنهم باذلا وسعه في إصلاح ذا البين على ما يرضي الله تعالى ورسوله ، وبلغ في ذلك كل مبلغ من قول أو فعل .

حتى روى ابن جرير الطبري ( 1 ) وغيره من اثبات أهل السير والأخبار : ان عليا دعا إليه الزبير يومئذ فذكره بكلمة قالها النبي له بمسمع منه وهي قوله صلى الله عليه وآله : " ليقاتلنك ابن عمتك هذا وهو لك ظالم " ( 675 ) فانصرف عنه الزبير

  ( 1 ) في خبر وقعة الجمل أواخر ص 519 من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك ( منه قدس ) .
( 675 ) يوجد هذا الحديث بهذا اللفظ وقريب منه في كل من : المستدرك للحاكم ج 3 / 366 وصححه هو والذهبي ، الأغاني لأبي الفرج ج 16 / 131 و 132 ، العقد الفريد ج 2 / 279 ، مروج الذهب ج 2 / 363 ، الكامل لابن الأثير ج 2 / 122 ، مطالب السئول ص 41 ، الرياض النضرة ج 2 / 273 ، مجمع الزوائد ج 7 / 235 ،
=>
 
 

- ص 447 -

وقال : فاني لا أقاتلك ورجع إلى ابنه عبدالله فقال : مالي في هذا الحرب بصيرة ، فقال له ابنه : انك قد خرجت على بحيرة ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت ان تحتها الموت فجبنت . فأحفظه ولده حتى أرعد وغصب وقال ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله ، فقال ابنه : كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس . فأعتقه وقام في الصف معهم ( 676 ) .

وقال الطبري : وكان علي قال للزبير : أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره ( 1 ) ، ودعا علي طلحة فقال : يا طلحة جئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وآله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت ، أما بايعتني ؟ . قال : بايعتك وعلى عنقي اللج ، وأصر طلحة على الحرب .

وحينئذ رجع علي إلى أصحابه فقال لهم ( فيما حكاه الطبري وغيره ) : أيكم يعرض عليهم هذا المصحف ( 2 ) وما فيه ، فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى فان قطعت أيضا أخذه بأسنانه . قال فتى شاب : أنا . فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم ، فلم يقبله إلا ذلك الشاب . فقال له علي : أعرض عليهم هذا

  => فتح الباري لابن حجر ج 13 / 46 ، المواهب اللدنية للقسطلاني ج 2 / 195 ، شرح المواهب للزرقاني ج 3 / 318 وج 7 / 217 ، الخصائص الكبرى للسيوطي ج 2 / 137 ، السيرة الحلبية ج 3 / 315 ، شرح الشفا للخفاجي ج 3 / 165 ، الغدير للأميني ج 3 / 191 وج 9 / 101 ، تاريخ الطبري ج 5 / 200 و 204 ، تذكرة الخواص ص 70 .

( 676 ) تاريخ الطبري ج 5 / 200 ، الكامل في التاريخ ج 3 / 123 ، مروج الذهب ج 2 / 363 ، تذكرة الخواص ص 70 .
( 1 ) راجع ص 520 من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك ، وقد استجاب الله دعاء على فسلط الله على الزبير عمرو بن جرموز فقتله في ذلك اليوم ( منه قدس ) .
( 2 ) تنبغي الإشارة إلى ان ابن العاص أخذ حيلة المصاحف في صفين من هذه الواقعة
وأساء استخدامها كما لا يخفى ( منه قد
س ).

 
 

- ص 448 -

وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره ، والله الله في دمائنا ودمائكم . فلما جاءهم الفتى حملوا عليه وفي يده المصحف فقطعوا يديه ، فأخذه بأسنانه حتى قتل ، وعندئذ قال علي لأصحابه : قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم .

ورثت أم الغلام المرسل بالمصحف بقولها فيما رواه الطبري ( 1 ) :

لاهم ان مسلما دعاهم * يتلو كتاب الله لا يخشاهم
وأمهم قائمة تراهم * يأتمرون الغي لا تناهم
قد خضبت من علق لحاهم
( 677 )

وبرزت ربه الجمل والهودج إلى المعركة ، وقد عصفت في رأسها النخوة ونزت فيه سورة الانفة ، فأدركتها حمية منكرة ، وكانت أجرأ من ذي لبدة ، قد جمعت ثيابها على أسد ، تلهب حماسها في جيشها ، فتدفعهم به إلى الموت دون جملها ، وقد نظرت عن يسارها فقالت : من القوم عن يساري ؟ .

فأجابها صبرة بن شيمان ( كما في الكامل لابن الأثير وغيره ) : نحن بنوك الأزد .
فقالت : يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به في قول القائل :

وجالد من غسان أهل حفاظها * وكعب وأوس جالدت وشبيب

فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك ، وقالت لمن يمينها : من القوم عن يمينى ؟ . قالوا : بكر بن وائل . قالت : لكم يقول القائل :

وجاءوا إلينا في الحديد كأنهم * من العزة القعساء بكر بن وائل

  ( 1 ) راجع ص 522 من الجزء الثالث من تاريخ الأمم والملوك ( منه قدس ) .
( 677 ) تاريخ الطبري ج 5 / 204 و 206 ، تذكرة الخواص ص 71 ، مروج الذهب ج 2 /
361 ( * ) .
 
 

- ص 449 -

انما بازائكم عبدالقيس . وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت : من القوم ؟ قالوا : بنو ناجية . قالت : بخ بخ سيوف أبطحية قرشية ، فجالدوا جلادا يتفادى منه ، فكأنما أشعلت فيهم من الحماسة نارا تلظى . وتتابع حملة اللواء على خطام جملها مستميتين يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي * يا زوجة المبارك المهدي
نحن بنو ضبة لا نفر * حتى نرى جما جما تخر
يخر منها العلق المحمر

وما زالت تستفز حميتهم حتى عقر الجمل ، بعد ان قتل على خطامه أربعون رجلا وكانت الهزيمة بأذن الله . ولو عناية أمير المؤمنين ساعتئذ في حفظها ، ووقوفه بنفسه على صونها ، لكان ما كان مما أعاذها الله منه في هذه الفتنة العمياء التي شقت عصا المسلمين إلى يوم الدين ، وعلى أسسها كانت صفين والنهروان ومأساة كربلا وما بعدها . حتى نكبة فلسطين ، في عصرنا هذا .

لكن أخا النبي وأبا سبطيه ، وقف على الجمل بنفسه ، حين أطفئت الفتنة بعقره ، وما ان هوى بالهودج حتى آواه - وفيه عائشة - إلى وارف من ظله منيع ، وجعل معها أخاها محمدا ليقوم بمهامها في نسوة من الصالحات ، ومن على محاربيه وتفضل عليهم ، وأطلق الأسرى من أعدائه الألداء ، واختص عائشة من الكرامة بكل ما يناسب خلقه الكريم . وفضله العميم ، وحكمته البالغة وهذا كله معلوم بحكم الضرورة من كتب السير والأخبار .

وتسمى هذه الوقعة وقعة الجمل الأكبر . وكانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين ، وتفصيل الوقعتين في كتب السير والتواريخ فلتراجع

 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب