فجلست.
ثمّ التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، تعرف هذا؟
قال: «نعم. هذا أبو حنيفة».
ثمّ أتبعها: «قد أتانا».
ثمّ قال: يا أبا حنيفة، هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله.
فابتدأت أسأله.
فكان يقول في المسألة: «أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا».
فربّما تابعنا، وربّما تابع أهل المدينة، وربّما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة.
ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(1)؟!
ونقل أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء عن عبد الله بن شبرمة، قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد.
فقال لابن أبي ليلى: «من هذا معك»؟
قال: هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين.
قال: «لعلّه يقيس أمر الدين برأيه»؟
قال: نعم.
قال: فقال جعفر لأبي حنيفة: «ما اسمك»؟
قال: نعمان.
____________
1- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٥٧ - ٢٥٨، تهذيب الكمال ٥: ٧٩، الكامل ٢: ١٣٢.
قال: «يا نعمان هل قست رأسك بعد»؟
قال: كيف أقيس رأسي؟!
قال: «ما أراك تحسن شيئاً، هل علمت ما الملوحة في العينين، والمرارة في الأذنين، والحرارة في المنخرين، والعذوبة في الشفتين»؟
قال: لا!
قال: «ما أراك تحسن شيئاً»؟
قال: «فهل علمت كلمة أوّلها كفر وأخرها إيمان»؟
فقال ابن أبي ليلى: يا ابن رسول الله أخبرنا بهذه الأشياء التي سألته عنها.
فقال: «أخبرني أبي، عن جدّي أنّ رسول الله قال»: «إنّ الله تعالى بمنّه وفضله جعل لابن آدم الملوحة في العينين ; لأنّهما شحمتان، ولولا ذلك لذابتا.
وإنّ الله تعالى بمنّه وفضله ورحمته على ابن آدم جعل المرارة في الأذنين حجاباً من الدواب ; فإن دخلت الرأس دابّة والتمست إلى الدماغ، فإذا ذاقت المرارة التمست الخروج.
وإنّ الله تعالى بمنّه وفضله ورحمته على ابن آدم جعل الحرارة في المنخرين يستنشق بهما الريح، ولولا ذلك لأنتن الدماغ.
وإنّ الله تعالى بمنّه وكرمه ورحمته لابن آدم جعل العذوبة في الشفتين يجد بهما استطعام كلّ شيء ويسمع الناس بها حلاوة منطقه».
قال: فأخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وأخرها إيمان؟
فقال: «إذا قال العبد لا إله فقد كفر، فإذا قال: إلاّ الله فهو إيمان».
ثمّ أقبل على أبي حنيفة فقال: «يا نعمان حدّثني أبي عن جدي أنّ رسول الله قال»: «أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال: الله تعالى له اسجد لآدم فقال:
﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين﴾(1).
فمن قاس الدين برأيه، قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس ; لأنّه اتّبعه بالقياس».
زاد ابن شبرمة في حديثه: ثمّ قال جعفر: «أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا»؟
قال: قتل النفس.
قال: «فإنّ الله عزّ وجلّ قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة»؟!
ثمّ قال: «أيّهما أعظم الصلاة، أم الصوم»؟
قال: الصلاة.
قال: «فما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة. فكيف؟ ويحك يقوم لك قياسك، اتق الله، ولا تقس الدين برأيك»(2).
وعن أبأنّ بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟
قال: «عشرة من الإبل».
قلت: قطع اثنين؟
قال: «عشرون».
قلت: قطع ثلاثاً؟
قال: «ثلاثون».
قلت: قطع أربعاً؟
____________
1- الأعراف -٧- : ١٢.
2- حيلة الأولياء ٣: ٢٢٩ - ٢٣٠، ح٣٧٩٧.
قال: «عشرون».
قلت: سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً ويكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا - ونحن بالعراق - فنبرأ ممّن قال ونقول: الذي جاء به شيطان.
فقال: «مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبأنّ إنك أخذتني بالقياس، وإنّ السنّة إذا قيست محق الدين»(1).
وروي أنّه جاء أبو حنيفة من أهل العراق يوماً إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد(عليه السلام)ليستمع منه، وخرج أبو عبد الله(عليه السلام) يتوكأ على عصا.
فقال له أبو حنيفة: يا بن رسول الله ما بلغت من السن ما تحتاج منه إلى العصا.
قال: «هو كذلك، ولكنها عصا رسول الله صلّى الله عليه وآله أردت التبرك بها».
فوثب أبو حنيفة إليه، وقال: اقبلها يابن رسول الله.
فحسر أبو عبد الله جعفر بن محمّد(عليه السلام) عن ذراعيه، وقال له: «والله لقد علمت أن هذا من بشرة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأن هذا من شعره فما قبلته وتقبل عصا»(2).
صفته في لبسه(عليه السلام):
عن سفيان قال: دخلت على جعفر بن محمّد وعليه جبّة خزّ دكناء، وكساء
____________
1- الكافي ٧: ٢٩٩ - ٣٠٠، ح٦.
2- شرح الأخبار ٣: ٢٩٩ ح١٢٠٢، مناقب آل أبي طالب ٣: ٣٧٢.
خزّ، أيدجاني فجعلت أنظر إليه متعجّباً؟
فقال: «مالك يا ثوري»؟
قلت: يا ابن رسول الله، ليس هذا من لباسك، ولا لباس آبائك.
فقال: «كان ذاك زماناً مقتراً، وكانوا يعملون على قدر إقتاره وإفقاره، وهذا زمان قد أسبل كلّ شيء فيه عزاليه».
ثمّ حسر عن ردن جبته، فإذا فيها جبّة صوف بيضاء، يقصر الذيل عن الذيل.
وقال: «لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه»(1).
روى يحيى بن أبي بكير عن هياج بن بسطام قال: «كان جعفر بن محمّد يطعم حتّى لا يبقى لعياله شيء»(2).
من حِكَمه(عليه السلام):
سئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن الربا: لِمَ حرم الله الربا؟ قال: «لئلا يتمانع الناس المعروف»(3).
وعن هشام بن عباد، سمعت جعفر بن محمّد(عليه السلام) يقول: «الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتّهموهم»(4).
وعن الأصمعي قال: قال جعفر بن محمّد(عليه السلام): «الصلاة قربان كلّ تقيّ، والحجّ جهاد كلّ ضعيف، وزكاة البدن الصيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرزق بالصدقة، وحصّنوا أموالكم بالزكاة. وما عال من اقتصد، والتقدير
____________
1- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦١ - ٢٦٢، تهذيب الكمال ٥: ٨٦، كشف الغمّة ٢: ٣٦٩.
2- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٢، تهذيب الكمال ٥: ٨٦.
3- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٢، تهذيب الكمال ٥: ٨٨ .
4- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٢، تهذيب الكمال ٥: ٨٨ .
نصف العيش، وقلة العيال أحد اليسارين، ومن أحزن والديه فقد عقّهما، ومن ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقد حبط أجره، والصنيعة لا تكون صنيعة إلاّ عند ذي حسب أو دين، والله ينزل الصبر على قدر المصيبة وينزل الرزق على قدر المؤونة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذر معيشته حرمه الله»(1).
ومن وصاياه لابنه موسى بن جعفر(عليه السلام): «يا بنيّ من قنع بما قسم له، استغنى، ومن مدّ عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرض بما قسم له اتّهم الله في قضائه، ومن استصغر زلّة غيره استعظم زلّة نفسه، ومن كشف حجاب غيره انكشفت عورته، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن احتفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه، ومن داخل السفهاء حقّر، ومن خالط العلماء وقّر، ومن دخل مداخل السوء اتّهم.
يا بنيّ إيّاك أن تزري بالرجال فيزرى بك، وإيّاك والدخول فيما لا يعنيك فتذلّ لذلك، يا بنيّ قل الحقّ لك وعليك، وتستشار من بين أقربائك: كن للقرآن تالياً، وللسلام فاشياً، وللمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، ولمن قطعك واصلاً، ولمن سكت عنك مبتدئاً، ولمن سألك معطياً، وإياك والنميمة ; فإنّها تزرع الشحناء في القلوب، وإياك والتعرض لعيوب الناس، فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف.
إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه ; فإنّ للجود معادن، وللمعادن أصولاً وللأصول فروعاً، وللفروع ثمراً.
ولا يطيب ثمر إلاّ بفرع، ولا فرع إلاّ بأصل، ولا أصل إلاّ بمعدن طيب.
زر الأخيار، ولا تزر الفجّار ; فإنّهم صخرة لا يتفجّر ماؤها، وشجرة لا
____________
1- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٢ - ٢٦٣، تهذيب الكمال ٥: ٨٩ .
يخضرّ ورقها، وأرض لا يظهر عشبها»(1).
عن عائذ بن حبيب قال: قال جعفر بن محمّد: «لا زاد أفضل من التقوى، ولا شيء أحسن من الصمت، ولا عدو أضرّ من الجهل، ولا داء أدوأ من الكذب»(2).
وعن يحيى بن الفرات قال: أنّ جعفر الصادق(عليه السلام) قال: «لا يتمّ المعروف إلاّ بثلاثة: بتعجيله، وتصغيره، وستره»(3).
وعن عنبسة الخثعمي قال سمعت جعفر بن محمّد(عليه السلام) يقول: «إياكم والخصومة في الدين ; فإنّها تشغل القلب، وتورث النفاق»(4).
أخباره مع سلطان زمانه:
عن الفضل بن الربيع، عن أبيه قال: دعاني المنصور فقال: إنّ جعفر بن محمّد يلحد في سلطاني، قتلني الله إن لم أقتله.
فأتيته فقلت: أجب أمير المؤمنين. فتطهّر ولبس ثياباً. أحسبه قال: جدداً، فأقبلت به، فاستأذنت له.
فقال: أدخله، قتلني الله إن لم أقتله.
فلمّا نظر إليه مقبلاً قام من مجلسه، فتلقاه وقال: مرحباً بالنقيّ الساحة، البريء من الدغل والخيانة، أخي وابن عمّي.
فأقعده معه على سريره، وأقبل عليه بوجهه، وسأله عن حاله، ثمّ قال: سلني عن حاجتك.
____________
1- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٣، وقريب منه في تهذيب الكمال ٥: ٨٩ - ٩٠.
2- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٣، تهذيب الكمال ٥: ٩٠ - ٩١.
3- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٣، تهذيب الكمال ٥: ٩١.
4- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٤، تهذيب الكمال ٥: ٩٢.
فقال: «أهل مكّة والمدينة قد تأخر عطاؤهم فتأمر لهم به».
قال: أفعل.
ثمّ قال: يا جارية ائتني بالتحفة. فأتته بمدهن زجاج فيه غالية فغلفه بيده وانصرف.
فاتبعته، فقلت: يا ابن رسول الله ; أتيت بك ولا أشكّ أنّه قاتلك، فكان منه ما رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك بشيء عند الدخول فما هو؟
قال: قلت: «اللّهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفي بركنك الذي لا يرام، واحفظني بقدرتك عليّ، ولا تهلكني وأنت رجائي. ربّ كم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قلّ لها عندك صبري؟! فيا من قلّ عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قلّ عند بليته صبري فلم يخذلني. ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني، وياذا النعم التي لا تحصى أبداً، وياذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، أعني على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما خطرت. يا من لا تضرّه الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي مالا يضرك، وأعطني مالا ينقصك، يا وهّاب أسألك فرجاً قريباً.وصبراً جميلاً، والعافية من جميع البلايا، وشكر العافية»(1).
الاهتداء إلى نور الهداية:
يقول الأخ «فودي» وممّا أثار تعجبّي أنّه «ذكر ضمن الدرس أنّه توجد مسألة في موطأ مالك بجواز أكل لحم الكلب، فتعجّبت من كلامه، فرجعت إلى البيت لإطالع الموطأ، فوجدت كما ذكره الأستاذ صحيحاً.
____________
1- سير أعلام النبلاء ٦: ٢٦٦ - ٢٦٧، تهذيب الكمال ٥: ٩٥.
فذهبت في الليل إلى بيت الأستاذ وطلبت الدراسة عنده، فرحّب بذلك، وشرع لي درساً في الفقه المقارن حيث كان يعرض أقوال المذاهب الإسلاميّة، ويطلب منّا التحقيق في المسألة، واختيار المذهب الصحيح.
بعد ذلك افتتح ذلك الشيخ مدرسة ودعاني إليها وقال: إنّها مدرسة على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ولم أكن أعرف مذهباً بهذا الاسم، ولم يطرق سمعي من قبل مذهب الشيعة أو الإماميّة.
ومن ثمّ دخلنا في مبحث حول الصحابة وما فعلوه بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وما جرى من أحداث في السقيفة وما بعدها، فسألت الاُستاذ كيف يفعل الصحابة ذلك وهم المؤمنون الأوائل بالرسول، وعنهم وصلنا الدين؟
فقال: انظر إلى تاريخ الطبري(1) فإنّه ذكر ذلك، فرجعت إليه فوجدت كما قال، وهكذا كان الأمر في المسائل الأخرى كشورى الخلافة وحديث أصحابي كالنجوم، فلمّا بحثناها واعترضنا على أستاذنا أجابنا بمراجعة المصادر والتثبّت بأنفسنا من الأمور.
وعرضت كلام أستاذي على أبي وكان إمام جامع ومن الخطباء المشهورين فقال: إنّ التحدّث بمثل هذه الأمور حرام.
فعدت إلى أستاذي ونقلت له ما قاله أبي فقال: إنّ هذا الكلام روّجه الظلمة لستر عيوب الصحابة.
وهكذا في كلّ مرّة أرى قوّة استدلال الشيعة وأنّهم يستندون إلى كتب السنّة في ذلك ممّا تأثّرت به وأدّى إلى استبصاري وإعلان تشيّعي وتمسّكي بولاء أهل البيت(عليهم السلام)».
____________
1- تاريخ الطبري ٢: ٤٥٤.
(٧٢) كرفالا بنجوى (مالكي / غينيا - كوناكري)
ولد عام ١٣٦٩هـ (١٩٥٠م) في مدينة «كويا» بغينيا كوناكري في أسرة مالكية المذهب فاتّبع أسرته في السير على هذا المعتقد.
واصل «كرفالا» دراسته الأكاديمية حتّى تخرّج من الجامعة برتبة دكتوراه في مادة الكيمياء.
إلى جانب دراسته الأكاديمية كان «كرفالا» ممّن يتابع قراءة الكتب الإسلاميّة المترجمة إلى اللغة الفرنسية، وقد كان لقراءة هذه الكتب الدور الرئيسي في فتح آفاق فكرية جديدة لدى «كرفالا» قادته في نهاية المسير إلى تغيير انتماءه المذهبي.
متاهات وأفخاخ في مسير البحث:
قد يقع الباحث في المجال الإسلامي في متاهات يصعب في كثير منها الخروج بنتائج سليمة، إلاّ من خلال التعمّق في التاريخ الإسلامي والأحاديث النبويّة الشريفة.
ومن هذه المتاهات التي قد تكون فخّاً للكثير من غير المسلمين الذين يرتئون البحث عن الشريعة الإسلاميّة ويرغبون باعتناقها، هي الأبحاث حول
مدى مصداقية الشخصيات التي كان لها دور فاعل في التاريخ الإسلامي، فهل يستحقّ بعضها هذا المدح والثناء الذي أُدرج في الكتب، أم أنّها لم تكن ممّن يستحقها بل افتعلتها هي ومناصريها؟
فبعض أولئك كان لا ينتهي حتّى عن المحرّمات المسلّمة في الشريعة الإسلاميّة، ومع ذلك يدّعي لنفسه مكانة النيابة والخلافة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
معاوية والخمر:
من الأمور المنهيّة والمنكرة في الشريعة الإسلاميّة تعامل الخمر، تعاطيها والإدمان عليها.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1).
وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لعنت الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكلّ ثمنها»(2).
وقال: «الخمر أمّ الخبائث»(3).
كما روي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): «شارب الخمر كعابد وثن»(4)، وفي لفظ: «مدمن الخمر كعابد وثن»(5).
وعدّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مدمن الخمر ممّن حرمت عليه الجنّة(6)، وأنّه لا يدخلها أبداً(7).
____________
1- المائدة -٥- : ٩٠.
2- مسند أحمد ٢: ٧١، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٢٨٧، المعجم الكبير للطبراني ١٠: ٩٢، الكامل لابن عدي ٥: ٢٤٨.
3- المبسوط للسرخسي ٢٤: ٣.
4- المغني لابن قدامة ٢: ٣٠٢، المبسوط للسرخسي ٢٤: ٣، عمدة القاري ٢١: ١٦٥.
5- سنن ابن ماجة ٢: ١١٢٠، المصنّف للصنعاني ٩: ٢٣٧، نيل الأوطار للشوكاني ٩: ٥٥.
6- مسند أحمد ٢: ٦٩، الجامع الصغير للسيوطي ١: ٥٤٠.
7- الجامع الصغير ١: ٤٥٤.
وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من شرب خمراً أخرج الله نور الإيمان من جوفه»(1).
و«من شرب الخمر قليلاً أو كثيراً سقاه الله من حميم جهنم يوم القيامة»(2).
وجاء في مصادر أهل السنّة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «كلّ مسكر حرام، إنّ على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال»، قالوا: يا رسول الله، وما الخبال؟
قال: «عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار»(3)، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في الترهيب عن هذا الرجس والمنكر.
إلاّ أنّ البعض كمعاوية بن أبي سفيان، ومن يصفه أهل السنّة بخال المؤمنين وكاتب الوحي، ويدرجون له الفضائل والسجايا، فيسمع سامعهم هاتفاً ينادي على جبل الشام: من أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنّم الحامية، يُرمى به في الحامية الهاوية(4).
معاوية هذا كان يتعاطى الخمور ويشربها، ولا عجب! فإنّه حذا بذلك حذو أبيه أبي سفيان، فإنّه كان من الزناة وشاربي الخمور(5).
ولعلّ في الناس من يحسب أنّ سلسلة الاستهتار بمعاقرة الخمور مبدؤة بيزيد ابن معاوية، لكن هناك أخباراً وروايات جلية تتّضح من خلالها رؤية تعامل أبيه معاوية مع الخمور وشربها، تعلمنا أنّ هاتيك الخزاية كانت موروثة له من أبيه
____________
1- المعجم الأوسط للطبراني ١: ١١٠، والجامع الصغير ٢: ٦١٢.
2- تذكرة الحفاظ ٢: ٤٩٩.
3- صحيح مسلم ٦: ١٠٠، مسند أحمد ٣: ٣٦١، سنن النسائي ٨: ٣٢٧.
4- البداية والنهاية ٨: ١٤٩.
5- كما جاء في خبر أبي مريم السلولي الخمّار بالطائف، فإنّه عندما نزل أبو سفيان عنده، وشرب الخمر، ثمّ طلب بغياً ليزني بها! فاقترح أبو مريم عليه سميّة، فقبل، ثمّ زنى بها.
راجع: تاريخ مدينة دمشق ١٩: ١٧٣، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦: ١٨٧.
الماجن المشيع للفحشاء في الذين آمنوا، حامل الخمور على القطارة تارة وعلى حماره أخرى بملأ من الأشهاد، ونصب أعين المسلمين.
أمّا عن شرب معاوية للخمور، فقد أخرج أحمد بن حنبل ذلك في مسنده، من طريق عبد الله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على معاوية، فأجلسنا على الفرش، ثمّ أُتينا بالطعام فأكلنا ثمّ أُتينا بالشراب، فشرب معاوية، ثمّ ناول أبي، ثمّ قال: ما شربته مذ حرّمه رسول الله. الحديث(1).
كما أنّ لمعاوية بيتين من الشعر يذكر فيهما شربه للخمر، ويقول:
شربت الخمر حتّى صرت كلاً | على الأدنى ومالي من صديق |
وحتّى ما أوسّد من وساد | إذا أنشو سوى الترب السحيق(2) |
وأمّا عن اتّجاره بالخمور، فقد ذكرت المصادر التاريخية في ذلك عدّة أخبار:
١) ما روي عن عبيد بن رفاعة عن أبيه أنّه قال: مرّ على عبادة بن الصامت(3) وهو في الشام قطارة تحمل الخمر، فقال: ما هذه؟ أزيت؟ قيل: لا، بل: خمر تُباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق، فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول له: أمّا تُمسك عنّا أخاك عبادة؟ أمّا بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمّة متاجرهم، وأمّا بالعشيّ فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا فأمسك عنّا
____________
1- مسند أحمد ٥: ٣٤٧، وقال الهيثمي بعد ذكر الحديث: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، وفي كلام معاوية شيء تركته!! (مجمع الزوائد ٥: ٤٢).
2- تاريخ مدينة دمشق ٢٧: ٣١٢.
3- وهو من الذين بايع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقبة على السمع والطاعة وأن لا يخاف في الله لومة لائم، كما أنّ شهد المشاهد كلّها مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (راجع: سير أعلام النبلاء ٢: ٥ - ٧، الثقات لابن حبان ١: ١٠٦).
أخاك.
فأقبل أبو هريرة يمشي حتّى دخل على عبادة، فقال له: يا عبادة مالك ولمعاوية؟ ذره وما حمل، فإنّ الله يقول: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ﴾(1).
قال: يا أبا هريرة لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه ممّا نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأهلنا، ولنا الجنّة، فهذه بيعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التي بايعناه عليها، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الله له بما بايع عليه نبيّه، فلم يكلّمه أبو هريرة بشيء(2).
والملفت للنظر في هذه الرواية أنّ الراوي لم يذكر اسم معاوية أوّلاً، بل قال: «خمر تباع لفلان» إلاّ أنّه أعرض عن ذلك في وسط الرواية فقال: «... يا عبادة! مالك ولمعاوية؟! ذره وما حمل»، فيظهر أنّ معاوية هو نفس «فلان» إلاّ أنّ الراوي لم يذكره صريحاً في صدر الرواية، ولعلّ فعل الراوي هذا جاء نتيجة للضغوط الأمويّة الحاكمة آنذاك.
٢) جاء في تاريخ مدينة دمشق من طريق عمرو بن قيس أنّه قال: إنّ عبادة أتى حجرة معاوية وهو بأنطرطوس(3)، فألزم ظهره الحجرة وأقبل على الناس
____________
1- البقرة -٢- : ١٣٤.
2- تاريخ دمشق ٢٦: ١٩٧، سير أعلام النبلاء ٢: ٩.
3- انطرطوس: بلد من سواحل بحر الشام، وهي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأوّل أعمال حمص. معجم البلدان ١: ٢٧٠.
بوجهه وهو يقول: بايعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا أُبالي في الله لومة لائم، ألا إنّ المقداد ابن الأسود قد غلّ بالأمس حماراً، قال: وأقبلت أوسق من مال، فأشارت الناس إليها فقال عبادة: أيها الناس ألا إنّها تحمل الخمر، والله ما يحلّ لصاحب هذه الحجرة أن يعطيكم منها شيئاً، ولا يحلّ لكم أن تسألوه، وإن كانت معبلة(1) - يعني سهماً - في جنب أحدكم، قال: فأتى رجل المقداد بن الأسود(2)، وفي يده قرصافة، فجعل يتلّ الحمار بها(3) وهو يقول: يا معاوية هذا حمارك، شأنك به، حتّى أورده الحجرة(4).
ولعله جرّاء هذه المكافحات والكشف عن عورات الرجل كتب معاوية إلى عثمان بالمدينة: أنّ عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله، فإمّا أن تكفّه اليك وإمّا أن أخلّي بينه... وبين الشام. فكتب إليه عثمان: أن أرحل عبادة حتّى ترجعه إلى داره من المدينة، فبعث بعبادة حتّى قدم المدينة، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين، فلم يفج عثمان به إلاّ وهو قاعد في جانب الدار، فالتفت إليه وقال: ما لنا ولك يا عبادة؟ فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال: إنّي سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أبا القاسم يقول: «إنّه سيلي أُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تضلّوا بربّكم»، فوالذي نفس عبادة بيده إنّ فلاناً ٠ يعني معاوية - لمن أُولئك، فما راجعه عثمان بحرف(5).
٣) ذكرت المصادر التاريخية أنّ عبد الرحمن بن سهل الأنصاري غزا في زمن
____________
1- المعبلة: نصل عريض طويل. لسان العرب ٧: ٤٨.
2- جاء في الحاشية: بعدها ثمّة نقص في الكلام، وتمام العبارة في المطبوعة: فأخبره الذي قال عبادة بن الصامت، فقام المقداد بن الأسود في يده قرصافة.
3- أي يقتاده.
4- تاريخ مدينة دمشق ٢٦: ٢٠٠.
5- تاريخ مدينة دمشق ٢٦: ١٩٧.
عثمان، ومعاوية أمير على الشام، فمرّت به روايا خمر فقام إليها برمحه فبقر كلّ راوية منها، فناوشه الغلمان حتّى بلغ شأنه معاوية، فقال: دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله. فقال: كلاّ والله ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً، وأحلف بالله لئن بقيت حتّى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لأبقرنّ بطنه، أو لأموتنّ دونه(1)(2).
يظهر من سياق هذه الرواية أنّ روايا الخمر هذه كانت لمعاوية، ولذا عُدّ معنيّاً بها عند الغلمان، فابلغوه ببقرها من قبل عبد الرحمن بن سهل.
كما يدل على ذلك أيضاً إيقاع عبد الرحمن بن سهل بمعاوية الذي أنكر عمله، واستدلاله في ردّ معاوية بنهي الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمّا كلام معاوية حيث قال: «دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله»! فإنه لا يشمّ منه إلاّ رائحة سخرية الصحابي الذي استند في حكم التحريم إلى قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك فقد استهزء معاوية بصاحب الشريعة والشريعة التي جائت به أيضاً.
التشيّع سبيل النجاة:
بعد البحث والتدقيق في الكتب الإسلاميّة، وتأثّره بعدّة محاضرات دينية
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ٣٤: ٤٢٠، الإصابة ٤: ٢٦٤، كنز العمّال ٥: ٤٩٣، كما ذكره ملخّصاً ابن عبد البر في الاستيعاب ٢: ٨٣٦ .
2- يقصد عبد الرحمن بن سهل بذلك أنّه إن بقى حياً حتّى يرى معاوية على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لينفّذنّ فيه أمر النبيّ وليبقرنّ بطنه وهذا من الأدلّة على صحّة الحديث النبوي: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، أو فابقروا بطنه، أو فارجموه» الذي نقله كلّ من الطبري في تاريخه ٨: ١٨٦، عبد الله بن عدي في الكامل ٢: ١٤٦، ٢٠٩، ابن عساكر في تاريخ دمشق ٥٩: ١٥٥ - ١٥٦، الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣: ١٤٩ وميزان الاعتدال ١: ٥٧٢، ٢: ٦١٣، ابن حجر في تهذيب التهذيب ٢: ٣٦٩. وغيرهم من أئمّة الحديث بصيغ متقاربة.
للمثقفين الشيعة أعلن «كرفالا» استبصاره وسلوكه لسبيل النجاة، سبيل الرسول وعترته الطاهرة(عليهم السلام)، وكان ذلك عام ١٤١٦هـ (١٩٩٦م) في مدينة «كويا» بغينيا كوناكري.
وقد قام «كرفالا» بعدة نشاطات تبليغية بعد استبصاره، وهو يؤمّ الناس في مسجد سفينة النجاة هناك.
(٧٣) محمّد الطوري (مسلم / غينيا)
ولد عام ١٣٧٤هـ (١٩٥٥م) في قرية «تامبالا» في منطقة «كوبيا» بغينيا، وبعد إتمامه سن السابعة بدأ بالدراسة، وكان يقرأ الدروس في الألواح الخشبية حيث لم تتوفّر لديه الكتب المدرسية.
كما أنّه - وبتوصية والده - بدأ بدراسة القرآن الكريم عند خاله، وتمكّن من قراءة القرآن من أوّله إلى أواسطه.
إلاّ أنّ نفسيّة الباحث إذا لم تكن مقتنعة بالاعتقادات الوراثيّة التي تنتقل من المجتمع والأسرة إليها فإنّها لا محالة تقرّر الرحيل والبحث عمّا يروي غليلها في المجال الديني.
بعد سنّ الخامسة عشر قرّر «محمّد» الرحيل، فسافر إلى عدّة بلدان، وفي أثناء سفره استقرّ في كلّ من السنغال، غامبيا، مالي، سيراليون، إلى أن انتهى به المسير إلى المحطّة المؤثّرة في حياته وهي سوريا، وكان ذلك بعد عشرين عاماً من الرحلات المستمرّة، فحطّ الرحال فيها مندفعاً للبحث عن الحقيقة.
تعرّف «محمّد» في سوريا على الحوزة العلميّة الزينبيّة للشيعة الاثنى عشريّة،
فقرّر الدراسة فيها، وكانت دراسته في هذه المدرسة المنفذ الذي تعرّف «محمّد» من خلاله على العقائد الشيعيّة، فقرّر الاستبصار والانتماء إلى هذا المذهب، وأعلن استبصاره رسميّاً عام ١٤١٠هـ (١٩٩٠م) هناك.
كما أنّه ألّف كتاباً ذكر فيه أسباب استبصاره وتغيير انتماءه المذهبي.
لماذا اعتنقت التشيّع؟
يذكر «محمّد» في كتابه «لماذا اعتنقت التشيّع» الأمور التي دفعت به إلى الاستبصار واعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ويثبت أحقّية هذا المذهب من كلّ من القرآن الكريم السنّة النبويّة، العقل والاجماع.
يقول «محمّد»: لقد ثبت عندي وبالأدلّة القويّة، والبراهين القاطعة، والحجج الدامغة الرصينة الواضحة التي هي كالشمس في رابعة النهار لا تغطيها السحب، أحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، وأنّه هو المذهب الحقّ الذي أخذه الشيعة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، عن جدّهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، عن جبرئيل عن الربّ الجليل، وليس فيه دخل، ولن يرضون عنه بدلاً إلى يوم البعث، ولا يختلف آخرهم عن أولهم في ذلك، وهذا ليس من باب التعصب وإنّما الدليل والحجّة والبرهان.
ما ورد في كتاب الله:
أمّا الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾(1)، فإن حبل الله هم أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الاثنى عشر، وهم سلسلة واحدة تتصل بالنبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)فقد روى الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، وهو من كبار علماء العامّة حيث قال: أخرج الثعلبي بسنده عن أبان بن تغلب عن جعفر الصادق(عليه السلام) قال:
____________
1- آل عمران -٣- : ١٠٣.
«نحن حبل الله الذي قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾(1).
وقال أيضاً: أخرج صاحب كتاب المناقب، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: كنا عند النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ جاء أعرابي فقال: يا رسول الله سمعتك تقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ﴾ فما جعل الله الذي نعتصم به؟ فضرب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بيده في يد على، وقال: تمسكوا بهذا هو حبل الله المتين(2).
وقوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(3).
حيث أن القرآن الكريم في هذه الآية الشريفة يأمر بمودتهم، فقد اتّفق المفسرون من الشيعة أن هذه الآية نزلت بحق أهل البيت(عليهم السلام)، وهي تخصّهم فقط، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين من أولاد الحسين(عليهم السلام).
ومن مثل هذا جاء في كتب أهل السنّة والجماعة وصحاحهم ومسانيدهم في تفسير هذه الآية المباركة، واعترافهم بأنّها نزلت في حقّ العترة الطاهرة من أهل البيت(عليهم السلام).
قال الزمخشري: روي أنّها لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله: من هم قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «علي وفاطمة وابناهما»(4).
ورواه عنه كذلك الفخر الرازي في تفسيره حيث قال: فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدلّ عليه وجوه:
١) قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، إذ أن نفي النفي إثبات ويفيد هنا الحصر.
____________
1- ينابيع المودّة ١: ٣٥٦.
2- ينابيع المودّة ١: ٣٥٦.
3- الشورى -٤٢-: ٢٣.
4- تفسير الكشاف ٣: ٤٦٧.
٢) لاشك أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يحب فاطمة(عليها السلام) حيث قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها»(1).
وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه كان يحب عليّاً والحسن والحسين، وإذ ثبت ذلك وجب على الأمّة مثلة، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(2).
ولقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾(3).
٣) أن الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: (اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد وارحم محمّداً وآل محمّد) وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل فكل ذلك يدلّ على أن حب آل محمّد واجب.
يقول الإمام محمّد بن إدريس الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حبّكم فرض من الله في القرآن أنزله *** كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(4)
وأورد الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي حيث قال: أخرج أحمد في مسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: لما نزلت الآية: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(5)، قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت لنا مودّتهم قال: «علي وفاطمة والحسن والحسين»(6).
____________
1- صحيح مسلم ٧: ١٤١، مسند أحمد ٤: ٥.
2- الأعراف -٧- : ١٥٨.
3- النور -٢٤- : ٦٣.
4- التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٧: ١٦٦.
5- الشورى -٤٢-: ٢٣.
6- ينابيع المودّة ١: ٣١٥.
وأخرج ابن المؤيد موفق بن أحمد الخوارزمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده لا يزول قدم عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله ممّ كسبه وفيما أنفقه وعن حبّنا أهل(1) البيت.
أقول: الحب هنا بمعنى الطاعة، إذ لو لم يكن هنا هذا المعنى لما كان للوجوب فائدة، وهذا يعني أن على الأُمّة الإسلاميّة برمّتها وجوب الطاعة لأهل البيت(عليهم السلام)وبصورة مطلقة من دون استثناء بمعنى: أنّه كما تجب الطاعة لله ولرسوله، كذلك هي مقرونة بأهل بيته(عليهم السلام) أيضاً، إذ هم من نور واحد.
وأمّا السنّة الشريفة:
فلقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أيها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي أبداً فإنّ اللطيف الخبير أخبرني وعهد إلى انهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».
إن كثيراً من علماء العامة نقلوا هذه الرواية إلى حد يبلغ عدد ورودها (٦٦) مرة وأمّا في الكتب المعتبرة، فقد ورد في مسند أحمد عن الركين بن الربيع(2)، وفي صحيح مسلم عن طريق ابن عليّة(3) وصحيح الترمذي عن سلمان الأعمش(4).
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف
____________
1- ينابيع المودّة ١: ٣٣٦.
2- مسند أحمد ٥: ١٨١.
3- صحيح مسلم ٧: ١٢٢.
4- سنن الترمذي ٥: ٣٢٩.
عنها هلك»(1). واستجابة لقول النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) علينا أن لا نتخلّف عن هذه السفينة التي توصّلنا إلى شاطئ الأمان، لأن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يحذّرنا هنا من التخلّف عنها، لأن التخلف نتيجته الحتمية الهلاك والضلال وهو واضح من الرواية، فعلينا أن نركب تلك السفينة، ونتمسك بحبل الله المتين، لنحصل على النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، إذ لا بديل لمن لا يركب هذه السفينة المعطاء، ومن لا يهتدي بنورها لا محال له من الضلال والهلاك.
إذ لا سبيل آخر لنجاته، وطريق النجاة هو التمسّك بحبل الله المتين وركوب تلك السفينة المباركة، سفينة أهل البيت(عليهم السلام)، فوجه التشبيه هنا الهلاك للذين تركوا سفينة نوح ولم يركبوها، إذ هلكوا ولم يبق أحد منهم، ولم يبق ذكر ولا أثر لهم وخسروا الدنيا والآخرة، وهكذا أيضاً من ترك سفينة أهل البيت(عليهم السلام) سوف يكون مصيره الهلاك، ولم يحصد شيء في الدنيا وفي الآخرة. وسيكون مصير أعداء آل محمّد الحسرة والندامة والخيبة والخذلان لاشك في هذا ولا ريب حيث ورد في صحيح البخاري وكنز العمّال عن ابن عمر قال: قال أبو بكر: «ارقبوا محمّداً في أهل بيته»(2).
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - حثّ على كتاب الله ورغب فيه - ثمّ قال: وأهل بيتي: أذكركم الله في أهل بيتي»(3).
إذن لا انفكاك بين العترة الطاهرة من أهل بيت النبوة(عليهم السلام) وبين كتاب الله
____________
1- راجع: المستدرك على الصحيحين٢: ٣٤٣، المعجم الكبير٣: ٤٥، المعجم الأوسط٤: ١٠.
2- صحيح البخاري ٤: ٢١٠، كنز العمّال ١٣: ٦٣٨.
3- صحيح مسلم ٧: ١٢.
العزيز، لأنهم(عليهم السلام) لا ينطقون إلاّ عن وحي القرآن، ولا يدلّون إلاّ عليه، فالاعتصام بهم لا ينفك عن الاعتصام بالقرآن، فهما معاً طريق الهداية وسبيل النجاة، وما هما إلاّ دعامتان قام عليهما سقف الشريعة الإسلاميّة السمحاء.
وأمّا العقل:
إن العقلاء وأصحاب النظر السليم يحكمون بتقديم العالم على الجاهل، والسابق على المسبوق، والعاقل على المجنون، والقادر على المقدور عليه وهكذا، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): وهو يخاطب الناس في مسجد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)في المدينة المنورة وفي زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان: أتعلمون أن الله عزّ وجلّ فضل في كتابه السابق على المسبوق في غير آية، ولم يسبقني أحد من الأُمّة في الإسلام(1).
ولأن الوحي نزل في بيتهم، وأهل البيت أدرى وأعرف بما في البيت من غيرهم، فجدير بالعقل المتدبّر أن لا يترك ما صحّ لديه من الأدلّة منهم، ويأخذ من الآخرين والدخلاء، وأن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أرجع أمّته إلى أهل بيته(عليهم السلام) إذا اختلفوا في الرأي، فأمرهم أن يأخذوا برأيهم(عليه السلام)، وهذا دليل على أنهم طريق الهدى والصواب، وبهم يهتدي الناس إلى الأصلح لهذه الأُمّة، ومن خالفهم فهو في ضلال وعمى.
ومن هذا وقع في نفسي شيء من الشك والريب في المذاهب الأربعة الأخرى،حيث خالف أصحاب هذه المذاهب رأي أهل البيت(عليهم السلام)، واعتمدوا بشكل أساسي في الكثير على آرائهم الخاصّة، وهذا سبب وقوعهم في الخلافات فيما بينهم في
____________
1- ينابيع المودّة ١: ٣٤٦.
الأحكام وبشكل واضح وملموس، حيث رأيت البعض يحللون مسألة وآخرين يحرمونها وبعضهم يكرهون وآخرين يسنّنون، فمن باب المثل نرى أن الشافعي يقول: لمس المرأة الأجنبية يوجب الوضوء، والحنفي يقول بخلافه، ويخالفهما مالك حيث يقول: إن اللمس إذا كان بشهوة أو عن عمد وجب الوضوء وإلاّ فلا.
وأيضاً الشافعي يجيز نكاح البنت من الزنا وخالفة الثلاثة(1).
والحنفي يقول: بوجوب الوضوء لمن خرج الدم من بدنه ولو قليلاً وخالفه الثلاثة(2).
ويجيز مالك أكلّ لحم الكلاب على قول وخالفه الثلاثة(3).
ويجيز الشافعي أكل لحم الضبع والجري والثعلب، ويحرم أبو حنيفة أكلها ويحلل الشافعي القنافذ بينما يحرمها الآخرون(4). هذا جزء من كثير من هذه الخلافات الواقعة بينهم من أوّل الفقه إلى آخره.
والأعجب من ذلك كلّه أنّه قد اشتدت الخلافات بينهم حتّى وصل الأمر إلى أن كفّر بعضهم بعضاً، ورمى بعضهم الآخر بالفسق، فمثلاً أن أصحاب أبي حنيفة، وابن حزم وغيرهم يطعنون في الإمامين مالك والشافعي، وأصحاب الشافعي مثل إمام الحرمين، والإمام الغزالي وغيرها يطعنون في أبي حنيفة ومالك وابن الجوزي، فقد جاء في المنتظم: اتّفق على الطعن في أبي حنيفة ومن جهات عديدة، حيث قال
____________
1- الفقه على المذاهب الأربعة ٤: ١١٦.
2- نفس المصدر ١: ٨٦.
3- المجموع للنووي ٩: ٨ .
4- الفقه على المذاهب الأربعة ٣: ٢.
البعض منهم: أنّه ضعيف العقيدة متزلزل فيها.
وقال آخرون: إنّه ضعيف في ضبط الرواية وحفظها، وقالوا فيه: أنّه صاحب رأي وقياس وأن رأيه غالباً مخالف لأحاديث الصحاح، هذا ما ورد في كلام ابن الجوزي(1).
وجاء في كتب العامّة عن الإمام مالك أنّه قال: ما ولد في الإسلام أشأم من أبي حنيفة(2) وقال الشافعي «نظرت في كتب أصحاب أبي حنيفة وإذا فيها مائة وثلاثون ورقة خلاف الكتاب والسنّة»(3).
وقال الإمام الغزالي الشافعي في كتابه (المتحول في الأصول): فأمّا أبو حنيفة فقد قلب الشريعة ظهراً لبطن، وشوش مسلكها وغيّر نظامها(4)، ثمّ أردف جميع قواعد الشرع بأصل هدم به شرع محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ يستمر بالطعن في أبي حنيفة وبشكل مفصّل.
وأمّا الخطيب البغدادي وهو من علماء العامّة يقول في كتابه تاريخ بغداد قال يوسف بن أسباط: رد أبو حنيفة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أربعمائة حديث أو أكثر(5)، وحكى عن يوسف أيضاً: ان أبا حنيفة كان يقول: لو أدركني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لأخذ بكثير من قولي(6).
____________
1- راجع المنتظم ٥: ١٨٧.
2- تاريخ بغداد ١٣: ٤٠١، ترجمة أبي حنيفة.
3- نفس المصدر ١٣: ٤١٢.
4- المتحول في الأصول للغزالي: ٦١٣.
5- تاريخ بغداد ١٣: ٣٩٠.
6- نفس المصدر ١٣: ٣٨٦.
نعم هكذا رأينا هؤلاء كيف يطعن بعضهم البعض يا سبحان الله!! أفهل كانت الشريعة ناقصة لم تتم حتّى أتوا بما أتوا به من خلافات دارت رحاها بينهم؟ فهذا يحلل وذاك يحرم، والآخر يجيز وذاك بالعكس، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1). ألم يقل الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(2).
وفي آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(3).
وحسب هذه الآية إن هؤلاء لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، لأنهم لم يردوا نزاعهم إلى كتاب الله وسنة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم).
فإن كانوا مؤمنين لما تخلفّوا عن أهل البيت(عليهم السلام) ولم يردوا نزاعهم إلى الله وأهل بيته(عليهم السلام) ويمتثلوا لأمر الله جل وعلا؟
وأمّا الإجماع:
فقد اتّفقت جميع فرق المسلمين بأن حبّ آل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من الواجبات، ولقد أشرنا سابقاً أن معنى الحبّ هو الطاعة: أي أداء الطاعة لأهل البيت(عليهم السلام) في جميع الأمور، وشؤون الحياة والعمل بأوامرهم والانتهاء بنواهيهم.
____________
1- راجع سنن الدارمي ١: ١١٥، كنز العمّال ١: ١٩٦.
2- المائدة -٥- : ٣.
3- النساء -٤-: ٥٩.
ذكر الفخر الرازي في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ أنّ (أولي الأمر منكم): هم أمراء الحقّ الذين على سبيل الجزم أن يكونوا معصومين(1)، وجاء في الكشاف للإمام جار الله محمود بن عمر الزمخشري هذا المعنى مع اختلاف يسير(2).
وقد فسرت لنا الروايات أنّ (أولي الأمر) هم الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)(3).
فقد جاء أيضاً عن الشيخ الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي ما يؤيد هذا التفسير، حيث يقول: بعد ذكر السند أنّ: «أولوا الأمر هم الأئمّة من أهل البيت»(4).
وفي قوله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾(5).
فقد ورد عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، إنهم مسؤولون عن ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)هذا وأخرج سبط بن الجوزي حيث قال: ومنها: في سورة الصافات في قوله تعالى ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ قال: قال مجاهد: عن حبّ علي(عليه السلام)(6).
وروى العلاّمة البحراني، عن أبي بكر الشيرازي في كتابه، عن معاوية الغرير، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله مالكاً أن يسعّر النيران السبع، وأمر رضوان أن يزخرف الجنان
____________
1- تفسير الرازي ١٠: ١٤٤.
2- راجع: الكشاف للزمخشري ١: ٥٣٥ .
3- راجع الروايات التي وردت في ذيل الآية الكريمة في تفسير البرهان ٣: ١٣٤ - ١٥١.
4- ينابيع المودّة ١: ٣٤١.
5- الصافات -٣٧- : ٢٤.
6- تذكرة الخواص لابن الجوزي ١: ١٩٠.
الثمان، ويقول: يا ميكائيل مدّ الصراط على متن جهنم، ويقول: يا جبرائيل أنصب ميزان العدل تحت العرش، وينادي يا محمّد قرّب أمّتك للحساب. ثمّ يأمر الله أن يعقد على الصراط سبع قناطر، طول كلّ قنطرة سبعة عشر ألف فرسخ وعلى كلّ قنطرة سبعون ألف ملك قيام، فيسألون هذه الأُمّة نسائهم ورجالهم على القنطرة الأولى يسألون عن ولاية أمير المؤمنين وحبّ أهل بيت محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن أتى به جاز على القنطرة الأولى كالبرق الخاطف، من لم يحب أهل البيت سقط على أم رأسه في قعر جهنم ولو كان معه من أعمال البر عمل سبعين صدّيقاً، وعلى القنطرة الثانية فيسألون عن الصلاة، وعلى الثالثة يسألون عن الزكاة، وعلى الرابعة عن الصيام، وعلى الخامسة عن الحجّ، وعلى السادسة عن الجهاد، وعلى السابعة عن العدل، فمن أتى من ذلك، جاز على الصراط كالبرق الخاطف، ومن لم يأت عذب، وذلك قوله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾.
يعني: معاشر الملائكة قفوهم: يعني: العباد على القنطرة الأولى (فسألوهم) عن ولاية علي وحبّ أهل البيت(1)(2).
دعوة لعلماء العامة:
وفي خاتمة المطاف يقول «محمّد» إني أوجه الدعوة إلى علماء العامّة في النظر إلى معتقدات الشيعة الأصلية، ومراجعة أصول العقائد والفقه والرجوع إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فإن هناك كتب ومؤلفات ثرية في مناقشة جميع الآراء، ومن خلالها يتمكّن الباحث من الوصول إلى الحقيقة التي غطّتها السحب عبر هذه القرون
____________
1- غاية المرام ٣: ٨٧ .
2- مقتبسات من كلمات المستبصر (مع تصرّف يسير).
الطويلة، فبعض علماء السنّة يتّبعون بعض أسلافهم في إثارة التهم والافتراء والأكاذيب على الشيعة بغير حقّ ولا تحقيق ومن غير تدبر وسلطان مبين.
إنّي أدعو علماء العامّة إلى التفكير والتعمق في معتقداتهم، وأطلب منهم بالحاح في أن يحققوا في المسائل الخلافية بينهم وبين الشيعة، فيعرفوا دلائلهم لعلّهم يجدوا الحقّ فيتّبعوه، والحقّ أحقّ أن يتّبع.
كما أنني أؤكد لهم أن يمروا بفتاوى أئمّة المذاهب الأربعة، ليجدوا فيها ضعف الرأي وغريب النظر من قبيل جواز نكاح الأم، ونكاح الولد الأمرد في السفر، أو المسح على العمامة والخفين في الوضوء بالنبيذ أو السجود على العذرة اليابسة، وإلى غيرها من الفتاوى والأغرب من هذا تسليم سائر علماء العامّة لتلك الآراء وعدم نقضها، ولكنهم يطعنون في رأي أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، ويتجرؤن على الرد عليهم والتجاسر على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ويتّهمونهم بالكفر والشرك، معاذ الله، وربما أفتوا بجواز قتل الشيعة وإباحة أموالهم.
وبهذه الآراء والأعمال يضعفون مذهب الحقّ ويضيعون الإسلام الحقيقي جانباً، ويعبّدون الطريق للأعداء، ومنهم اليهود والنصارى ليتسلطوا على رقاب المسلمين وبلادهم.
نسأل الله تعالى أن يوحد بين المسلمين، ويؤلف قلوبهم ويلقي بيننا المودّة والإخاء إنّه سميع مجيب.
![]() | ![]() |