(٧٤) محمّد بشير سوما (مالكي / غينيا - كوناكري)

ولد عام ١٣٦٤هـ (١٩٤٥م) في جمهورية غينيا كوناكري بمدينة «كنديا»، درس الدروس الأكاديمية إلى أن تخصّص في مجال الرياضيات واللغة الفرنسية، ونشأ في أسرة تعتنق المذهب المالكي، ولكنّه لم يقتصر على تقليد آبائه، بل حاول أن يبحث بنفسه عن الحقّ، وكانت النتيجة أنّه أعتنق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وذلك سنة ١٤١٩هـ (١٩٩٩م) في «كوناكري» العاصمة.

الجمع بين الصلاتين:

من الأمور التي وقع النزاع فيها بين أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وبين مدرسة الخلفاء في جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معاً في وقت واحد، بأن يصلّي العصر عقيب الظهر مباشرة، وكذا العشاء بعد المغرب على نحو الجمع، أو لا يجوز إلاّ الفصل بينهما كلّ صلاة في وقتها المحدّد لها بحيث لا يمكن الجمع بينهما.

وقد ذهبت شيعة آل محمّد(عليهم السلام) بجوازه مطلقاً، غير أنّ التفريق عندهم أفضل، تبعاً للنبي وآله، فإذا هم يجمعون غالباً بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء سفراً وحضراً، لعذر أو لغيره، خلافاً لأهل السنّة حيث اختلفوا في ذلك:


الصفحة 482

فالحنفية منعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول مطلق.

وأمّا الشافعية والمالكية والحنبلية فأجازوه في السفر على خلاف بينهم، فيما عداه من الأعذار كالمطر والطين والمرض والخوف، وعلى تنازع في شروط السفر المبيح له.

فقد تواترت الأخبار في أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الصلاتين، ظهراً وعصراً، ومغرباً وعشاءً، جمع تقديم وجمع تأخير، في الحضر وبدون عذر في الصحاح وغيرها من المسانيد والسنن، وكتب الأحاديث والتفاسير والتاريخ.

سوف نشير إلى بعض ما ورد في الصحيحين من جواز الجمع بنحو مطلق، فقد أخرج مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر قال:

١) حدّثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، في غير خوف ولا سفر.

٢) وحدّثنا أحمد بن يونس... عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر جميعاً بالمدنية في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال سألت ابن عبّاس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمّته.

٣) وعن يحيى بن حبيب الحارثي... سعيد بن جبير حدثنا ابن عبّاس: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال سعيد: فقلت لابن عبّاس: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمّته.

٤) وعن معاذ قال: خرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك فكان يصلّي


الصفحة 483

الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً.

٥) وعن معاذ بن جبل أيضاً قال: جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمّته.

٦) وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب... سعيد ابن جبير عن ابن عبّاس قال: جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر. (في حديث وكيع) قال: قلت لابن عبّاس: لم فعل ذلك؟ قال كي لا يحرج أمّته.

وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عبّاس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته.

٧) عن جابر بن زيد عن ابن عبّاس قال: صليت مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً.

قلت: يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء.

قال: وأنا أظنّ ذاك.

٨) حدّثنا حمّاد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

٩) وعن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عبّاس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة، فقال ابن عبّاس أتعلّمني بالسنة!


الصفحة 484

لا أمّ لك.

ثمّ قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

قال: عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدّق مقالته.

١٠) وحدّثنا ابن أبي عمر حدّثنا عمران بن حدير عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: قال رجل لابن عبّاس: الصلاة، فسكت، ثمّ قال: الصلاة فسكت، ثمّ قال: الصلاة، فسكت، ثمّ قال: لا أمّ لك أتعلمّنا بالصلاة وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(1)!

١١) وأخرج البخاري في صحيحه قال: حدّثنا حمّاد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر والمغرب والعشاء(2).

١٢) حدّثنا آدم، قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا عمرو ابن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عبّاس قال: صلّى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) سبعاً جميعاً وثمانياً جميعا(3).

١٣) ويؤيّد ما روي عن عبد الله بن مسعود قال: جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الأولى والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لكي لا تحرج أمّتي(4).

١٤) وعن عمرو بن شعيب قال: قال عبد الله: جمع لنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مقيماً غير مسافر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال: رجل لابن عمر: لم ترى

____________

1- صحيح مسلم ٢: ١٥١ - ١٥٣.

2- صحيح البخاري ١: ١٣٧.

3- صحيح البخاري ١: ١٤٠.

4- المعجم الأوسط ٤: ٢٥٢، مجمع الزوائد ٢: ١٦١.


الصفحة 485

النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فعل ذلك؟ قال: لأن لا يحرج أمّته إن جمع رجل(1).

مضافاً إلى ما ورد من أنّه جمع بين الصلاتين في السفر كما في غزوة تبوك(2)، أو يوم غزا بني المصطلق(3)، أو جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة(4).

ومضافاً إلى ما ورد عن طريق أهل البيت(عليهم السلام) من الأخبار التي تجوّز الجمع بين الصلاتين(5).

فنلاحظ ما في الأخبار من أنّ العلّة في تشريع الجمع إنّما هي التوسعة على الأُمّة بنحو مطلق، وعدم إحراجها بسبب التفريق رأفة بهم، فحملها على المطر والمرض والسفر أو من المظنونّ أنّه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء، فكل ذلك لا دليل عليه، فإنّه على أقلّ التقادير يوجب الظنّ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً قال تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(6).

أقوال علماء أهل السنّة في تأويل هذه الأخبار:

فقد اختلفت المدرسة السنّية في تأويل هذه الأخبار إلى أقوال مختلفة:

فقال أيّوب: لعلّه في ليلة مطيرة(7).

____________

1- كنز العمّال ٨: ٢٤٦، ح٢٢٧٦٤، المصنّف ٢: ٥٥٦، ح٤٤٣٧.

2- صحيح مسلم ٢: ١٥٢، السنن الكبرى ٣: ١٦٢، ١٦٧، صحيح ابن خزيمة ٢: ٨١.

3- مسند أحمد بن حنبل ٢: ٢٠٤، ٣: ٣٤٨.

4- مسند أحمد بن حنبل ٥: ٢٠٢.

5- وسائل الشيعة ٤: ٢١٨، الباب ٣١ - ٣٢، جواز الجمع بين الصلاتين في وقت واحد جماعة وفرادى لعذر ولغير عذر.

6- يونس -١٠- : ٣٦.

7- صحيح البخاري ١: ١٣٧.


الصفحة 486

قال مالك: أرى ذلك كان في مطر(1)، ووافقه عليه الشافعي(2)، وغيره اختار المطر الكثير والمستدام(3).

وجوّز جماعة في صورة إذا كان غيم.

وجوّز جماعة في أنّه جمع صوري، ومال إليه ابن حجر، واستحسنه القرطبي، ورجّحه قبله إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي وغيرهم(4).

وقال جماعة: الجمع بعذر المرض، وقوّاه النووي.

وجوّزوا الجمع بشرط أن لا يتّخذ ذلك عادة، اختاره ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير والخطابي(5).

وفي المقام نلاحظ هنا ما علّق النووي على هذه الأقوال بقوله: «وأمّا حديث ابن عبّاس فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال:

منهم: من تأوّله على أنّه جمع بعذر المطر، وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدّمين، وهو ضعيف بالرواية الأخرى: «من غير خوف ولا مطر».

ومنهم: من تأوّله على أنّه كان في غيم فصلّى الظهر، ثمّ انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلاها. وهذا أيضاً باطل ; لأنّه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر لا احتمال فيه في المغرب والعشاء.

ومنهم: من تأوّله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه، فلمّا فرغ

____________

1- الموطّأ ١: ١٤٤.

2- شرح الزرقاني ١: ٤١٧.

3- شرح الزرقاني ١: ٤١٧.

4- فتح الباري ٢: ١٩.

5- فتح الباري ١: ١٩.


الصفحة 487

منها دخلت الثانية فصلاّها، فصارت صلاته صورة جمع. وهذا أيضاً ضعيف أو باطل ; لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عبّاس الذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في ردّ هذا التأويل.

ومنهم: من قال هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه ممّا هو في معناه من الأعذار، وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا، واختاره الخطابي والمتولّي والروياني من أصحابنا، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث، ولفعل ابن عبّاس، وموافقة أبي هريرة، ولأنّ المشقّة فيه أشدّ من المطر.

وذهب جماعة من الأئمّة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتّخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر.

ويؤيّده: ظاهر قول ابن عبّاس أراد أن لا يحرج أمّته فلم يعلّله بمرض ولا غيره، والله أعلم»(1).

وقد ردّ ابن حجر هذه الأقوال من قول مالك من احتمال المطر أو غيم السماء، فصلّى الظهر ثمّ انكشف الغيم مثلاً فبان أنّ وقت العصر دخل فصلاها، ومنها ما قواه النووي للمرض: «وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض وقواه النووي، وفيه نظر ; لأنّه لو كان جمعه(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الصلاتين لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنّه صلّى الله عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرّح بذلك ابن عبّاس في روايته»(2).

____________

1- شرح مسلم للنووي ٥: ٢١٨ - ٢١٩.

2- فتح الباري ٢: ١٩.


الصفحة 488

ثمّ مال هو إلى القول بالجمع الصوري بقوله: «... لكن يقوي ما ذكره من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلّها ليس فيها تعرّض لوقت الجمع، فأمّا أن تحمل على مطلقها فتستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإمّا أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج، ويجمع بها بين مفترق الأحاديث والجمع الصوري أولى والله أعلم»(1).

وردّ القسطلاني وغيره(2) الجمع الصوري بقوله: «وتأوّله آخرون على الجمع الصوري بأن يكون آخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجّل العصر في أوّل وقتها، وضعف لمخالفته الظاهر»(3).

وبعد ما نلاحظ ما في هذه الأقوال ووجوهها، يتّضح من أنّه لا وجه لحملها على خصوص المطر أو المرض أو السفر أو الجمع الصوري، بعد بطلان تلك الوجوه من هذه الأقوال من نفس علماء أهل السنّة، مضافاً إلى الأخبار الدالّة من الفريقين بجواز الجمع مطلقاً من غير عذر، بالأخص إذا لاحظنا بعين الاعتبار مصلحة التسهيل على الأُمّة.

ومن خلال هذا اتّضح حقيقة المسألة من أنّه لا محيص إلاّ عن القول بجواز الجمع بين الصلاتين بعد وجود أدلّة قاطعة على ذلك، وأنّ طريق أهل البيت(عليهم السلام) هو الطريق الوحيد للسعادة الدنيوية والأخروية، والسبيل المنحصر لأحكام الله، والكاشف الحقيقي لحقائق دين الله، والمنار لهداية خلق الله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

____________

1- فتح الباري ٢: ٢٠.

2- شرح مسلم للنووي ٥: ٢١٨.

3- إرشاد الساري ٢: ٢٢٢.


الصفحة 489

(٧٥) محمّد بيلو باري (مالكي / غينيا - كوناكري)

مرّت ترجمته في ١: ٤٥٣ من هذه الموسوعة، ونشير هنا إلى مالم يذكر سابقاً.

إحدى الاستفسارات والأسئلة التي كانت تدور في ذهن «محمّد» بعد مطالعته لكتب التاريخ هي علل وأسباب تخلّف الأُمّة الإسلاميّة عن أهل البيت(عليهم السلام) والتخلّي عنهم وتقديم غيرهم، مع أنّ أفضليّتهم(عليهم السلام)واضحة وجليّة يقرّ بها المؤالف والمخالف.

هذا الإشكال وغيره أوجد في دخيلة «محمّد» حالة من الاضطراب، فبدأ بطرح أسئلته على أبيه، لكنّه لم يقتنع بالإجابات.

عندئذ لم يجد «محمّد» سبيلاً سوى الخوض والتعمّق في التاريخ الإسلامي وسيرة أهل البيت(عليهم السلام) أكثر من قبل، فتوصّل إلى نتائج كانت تختلف عن معتقداته الموروثة.

سيرة أهل البيت(عليهم السلام):

وجد «محمّد» بعد اطّلاعه على سيرة أهل البيت(عليهم السلام) بأنّ هؤلاء العترة خير قدوة للبشريّة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيرتهم عليهم السلام خير شاهد على وجود دعم لهم من السماء واصطفائهم من قبل الله عزّ وجلّ.


الصفحة 490

وعندما يدقّق الباحث النظر في كلّ جانب من جوانب حياة أهل البيت يلمس النور بوضوح، ويكون بإمكانه الاهتداء إلى الحقّ بهذا النور الساطع.

وأوّل سيرة ملفتة للنظر من سيرة أهل البيت(عليهم السلام) هي سيرة الإمام علي(عليه السلام)الذي حاز شرف النشوء في حجر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والتأدّب به.

وكان أوّل من آمن بالله عزّ وجلّ وبرسوله صلّى الله عليه وآله، وكان أوّل ذكر دعاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام فأجاب، ولم يزل ينصر الدين ويجاهد المشركين ويقتل أهل الزيغ والطغيان، وينشر معالم السنّة والقرآن، ويحكم بالعدل ويأمر بالإحسان.

فكان مقامه مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة بمكّة قبل الهجرة مشاركاً له في محنه كلّها، متحمّلاً عنه أكثر أثقاله، وعشر سنين بعد الهجرة بالمدينة يكافح عنه المشركين، ويجاهد دونه الكافرين، ويقيه بنفسه من أعدائه في الدين، إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنّته، ورفعه في عليّين، فمضى(صلى الله عليه وآله وسلم)ولأمير المؤمنين(عليه السلام) يومئذ ثلاث وثلاثون سنة.

فاختلفت الأُمّة في إمامته يوم وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت شيعته وهم بنو هاشم وسلمان وعمّار وأبو ذر والمقداد وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيّوب الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأمثالهم من أجلّة المهاجرين والأنصار ; إنّه كان الخليفة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام ; لفضله على كافّة الأنام بما اجتمع له من خصال الفضل والرأي والكمال، من سبقه الجماعة إلى الإيمان ، والتبريز عليهم في العلم بالأحكام، والتقدّم لهم في الجهاد، والبينونة منهم بالغاية في الورع والزهد والصلاح، واختصاصه من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في القربى بما لم يشركه فيه أحد من ذوي الأرحام.


الصفحة 491

ثمّ لنصّ الله على ولايته في القرآن، حيث يقول جلّ اسمه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(1).

ومعلوم أنّه لم يزكّ في حال ركوعه أحد سواه عليه السلام، وقد ثبت في اللغة أنّ الولي هو الأولى بلا خلاف.

وإذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) - بحكم القرآن - أولى الناس من أنفسهم، لكونه وليّهم بالنصّ في التبيان وجبت طاعته على كافّتهم بجلّى البيان.

وفي يوم الدار إذ جمع رسول الله بني عبد المطلب - خاصّة - للإنذار، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم):«من يؤازرني على هذا الأمر يكن أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي، فقام إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) من بين جماعتهم وهو أصغرهم سنّاً فقال: «أنا أوازرك يا رسول الله».

فقال له الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): اجلس فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي»(2).

ويكشف هذا الحديث بوضوح النصّ على إمامة الإمام علي(عليه السلام) واستخلافه بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً لأمير المؤمنين عند توجّهه إلى تبوك: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(3).

فأوجب له الوزارة، والتخصّص بالمودّة، والفضل على الكافّة، والخلافة

____________

1- المائدة -٥- : ٥٥.

2- راجع الغدير ٢: ٢٨٢.

3- راجع: مسند أحمد ١: ١٧، صحيح البخاري ٥: ١٢٩، صحيح مسلم ٧: ١٢٠ وغير ذلك.


الصفحة 492

عليهم في حياته وبعد وفاته ; لشهادة القرآن بذلك كلّه لهارون من موسى(عليهما السلام).

قال تعالى مخبراً عن موسى: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(1).

فثبت لهارون(عليه السلام) شركة موسى في النبوّة، ووزارته على تأدية الرسالة، وشدّ أزره به في النصرة.

وقال في استخلافه له: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(2).

فثبت له خلافته بمحكم التنزيل.

ولكن رغم وجود النصّ على إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام) كانت إمامته بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ثلاثين سنة، منها أربع وعشرون سنة وأشهر ممنوعاً من التصرّف على أحكامها، مستعملاً للتقيّة والمداراة، ومنها خمس سنين وأشهر ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين، مضطهداً بفتن الضالين كما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ثلاث عشرة سنة من نبوّته ممنوعاً من أحكامها خائفاً ومحبوساً وهارباً ومطروداً لا يتمكّن من جهاد الكافرين ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين، ثمّ هاجر وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهداً للمشركين ممتحناً بالمنافقين إلى أن قبضه الله تعالى إليه وأسكنه جنّات النعيم.

وكانت وفاة أمير المؤمنين(عليه السلام) ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة.

وكان الإمام(عليه السلام) يعلم ذلك قبل أوانه ويخبر به الناس قبل زمانه، وتولّى غسله

____________

1- طه -٢٠- : ٢٩ - ٣٦.

2- الأعراف -٧- : ١٤٢.


الصفحة 493

وتكفينه ابناه الحسن والحسين عليهما السلام بأمره، وحملاه إلى الغري من نجف الكوفة، فدفناه هناك وعفيا موضع قبره، بوصيّة كانت منه إليهما في ذلك ; لما كان يعلمه(عليه السلام) من دولة بني أميّة من بعده، واعتقادهم في عداوته، وما ينتهون إليه بسوء النيّات فيه من قبيح الفعال والمقال بما تمكّنوا من ذلك، فلم يزل قبره(عليه السلام) مخفيّاً حتّى دلّ عليه جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في الدولة العبّاسيّة(1).

وعموماً فكلّ من ينظر في سيرة الإمام علي(عليه السلام) ويتأمّل فيها فانّه سيرى بوضوح مظلوميّة أمير المؤمنين، فإن كان صادقاً في إيمانه فسيتبرّأ من أعداء الإمام علي(عليه السلام) وهذا التبرّي هو المؤدّي إلى التحوّل المذهبي في داخل الدائرة الإسلاميّة.

«محمّد» والتشيّع:

بعد أن بذل «محمّد» قصارى جهده في البحث والتحقيق قرابة عامين، وبعد أن تجلّت عنده الصورة واطمأنّ قلبه لما قرأ وحقّق في التاريخ الإسلامي وجد نفسه مشايعاً وموالياً لأهل البيت(عليهم السلام)، فقرّر أن لا ياخذ علمه من سواهم ولا ينهل إلاّ من منهلهم الصافي.

وقد قام «محمّد» بعدّة نشاطات في سبيل الثقافة الشيعيّة بعد استبصاره فترجم الكثير من الكتب الدينيّة إلى اللغة الفرنسيّة والفولانيّة ومن تلك الكتب كتاب الفتاوى الميسّرة لآية الله العظمى السيّد السيستاني الذي ترجمه إلى اللغة الفولانية.

____________

1- مقتطفات من كتاب مقدّمة الإرشاد للمفيد ١: ١٠.


الصفحة 494

(٧٦) محمّد بيلو جالو (سني / غينيا - كوناكري)

من سكنة «كوناكري» العاصمة.

وهو أحد المئات المثقّفين الذين تحرّروا من الحصار الفكري الضيّق، وقاموا بالبحث الجادّ في العقائد السائدة عندهم، فغيّروا انتماءهم الطائفي وأعلنوا استبصارهم وسيرهم على خطى أهل البيت(عليهم السلام).

بعد مرحلة الاستبصار قام «محمّد» بتبليغ الدين الإسلامي وفق الرؤية الشيعيّة، الرؤية التي ارتآها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) للجوامع الإسلامية في سائر العصور.

الولد للفراش وللعاهر الحجر:

إحدى القوانين التي سنّها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لثبات المجتمعات الإسلاميّة وحفظ كيان الأسرة، هي قاعدة أن «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، أي أنّ الابن يلحق الأم الذي وُلد منها، ولا يحقّ للعاهر الذي زنى بالأم أن يدّعي أبّوة ذلك الولد، كما لا يحقّ للولد أن يدّعي بنوّة العاهر، ولاصلة بينهما شرعاً.

ومستند هذه القاعدة عدّة روايات، أهمها الرواية الواردة عن رسول


الصفحة 495

الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في الصحاح الستّة(1)، حيث قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

كما روي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في خطبة له بمنى: «لعن الله من ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه، الولد للفراش وللعاهر الحجر»(2).

وقد عدّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من ادّعى إلى غير أبيه ممّن لم يرح رائحة الجنّة(3)، وأنّ عليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة(4).

ومع كلّ هذه التأكيدات من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقعت مأساة الاستلحاق في العام الرابع والأربعين للهجرة، أي بعدما يقارب (٣٣) عاماً من وفاة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك نصب أعين المسلمين، ومن قبل الطبقة الحاكمة التي تدّعي الخلافة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

استلحاق زياد بأبي سفيان:

ولد زياد على فراش عبيد مولى ثقيف من أمة تُسمّى «سميّة»، وسميّة هذه كانت من البغايا المشهورات بالطائف ذات راية، وقد زنى بها العديد، ومنهم أبو سفيان عندما نزل ضيفاً عند أبي مريم السلولي الخمّار بالطائف فطلب بغياً، جيء بسميّة، فزنى بها(5).

وأمّا زياد، فكان يقال له قبل الاستلحاق: زياد بن عبيد الثقفي(6)، وفي زمن

____________

1- صحيح البخاري ٣: ٥، صحيح مسلم ٤: ١٧١، مسند أحمد ٤: ١٨٧، سنن الترمذي ٢: ٣١٣، سنن النسائي ٦: ١٨٠، سنن ابن ماجة ١: ٦٤٧.

2- مسند أحمد ٤: ١٨٦.

3- سنن ابن ماجة ٢: ٨٧٠.

4- سنن أبي داود ٢: ٥٠٣.

5- راجع تاريخ مدينة دمشق ١٩: ١٧٣، تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٩.

6- كما جاء ذلك في إحدى الرسائل التي بعثها معاوية له، فقال له في مطلعها: من أمير المؤمنين! معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد، راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦: ١٨٢.


الصفحة 496

حكومة معاوية رأى أن يلحق نسبه بأبي سفيان الذي كان قد زنى بأمّه في الجاهلية، ويتقرّب بذلك من السلطة الحاكمة.

أخرج الطبري في تاريخ: أن زياداً لمّا قدم الكوفة، قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته الا لكم، قالوا: أُدعُنا إلى ما شئت، قال: تلحقون نسبي بمعاوية، قالوا: أمّا بشهادة الزور فلا(1).

إلاّ أن زياداً لم يقتصر على ذلك، وبعد بيعته مع معاوية ومصالحته «فارس» على ألفي الف، تواطأ مع مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية: إنّ الأموال التي أخذتها من زياد وصالحته عليها قليلة جدّاً، وهذا ما سبب الشائعات في فارس!

وعندما يسأل معاوية عنها أن يقول له: قد شاع هناك أنّ زياداً بن أبي سفيان، ففعل مصقلة ذلك.

ورأى معاوية أن يستميل زياداً، ويستصفي مودّته باستلحاقه، فاتّفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟

فقال: أنا أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندي وطلب منّي بغيّاً، فقلت له: ليس عندي إلاّ سميّة.

فقال: ائتني بها على قذرها ووضرها فأتيته بها فخلا معها، ثمّ خرجت من عنده وإنّ إسكتيها ليقطران منيّاً.

فقال له زياد: مهلاً أبا مريم إنّما بُعثت شاهداً ولم تُبعث شاتماً، فاستلحقه

____________

1- تاريخ الطبري ٤: ١٦٣.


الصفحة 497

معاوية(1).

ولمّا بلغ أبا بكرة أخا زياد لأمه سميّة أن معاوية استلحقه وأنّه رضي بذلك آلى يميناً أن لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنّى أمّه وانتفى من أبيه(2).

عبد الرحمن بن الحكم وواقعة الاستلحاق:

لمّا ادّعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أميّة وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان، فاعترض على معاوية فعله، وقال: لولم تجد إلاّ الزنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلة!!

فغضب معاوية ثمّ طلب من مروان أن يقرأ الأشعار التي ذكرها عبد الرحمن فيه وفي زياد، والتي كانت قد وصلت إلى سمعه، فقال مروان:


ألا أبلغ معاوية بن صخر لقد ضاقت بما تأتي اليدانِ

أتغضب أن يقال أبوك عف وترضى ان يقال: أبوك زانِ

فاشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من وُلد الأتانِ

وأشهد أنّها حملت زياداً وصخرٌ من سمية غيرُ دانِ(3)

فقال معاوية: والله، لا أرضى عنه حتّى يأتي زياداً فيترضاه ويعتذر إليه، وبعد مدّة أتاه عبد الرحمن يستأذن عليه معتذراً فلم يأذن له، فأقبلت قريش على

____________

1- راجع: الكامل في التاريخ ٣: ٤٤٤، مروج الذهب ٣: ١٦، تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦: ١٨٧.

2- الاستيعاب ٢: ٥٢٦، وفيات الاعيان ٦: ٣٥٨.

3- راجع: الاستيعاب ٢: ٥٢٦، تاريخ مدينة دمشق ٣٤: ٣١٤، وفيات الأعيان ٦: ٣٥٩، مروج الذهب ٣: ١٧. الوافي بالوفيات ١٥: ٧.


الصفحة 498

عبد الرحمن، فلم يدعوه حتّى أتى زياداً، فلمّا دخل وسلم عليه نشاوس(1) له زياد بعينه، وكان يكسر عينه، فقال له زياد: أنت القائل ما قلت؟

فقال عبد الرحمن: وما الذي قلت؟

فقال: قلت ما لا يقال.

فقال عبد الرحمن: أصلح الله الأمير إنّه لا ذنب لمن اعتب، وإنّما الصفح عمّن أذنب. فاسمع منّي ما أقول.

قال: هات. فأنشأ يقول:


إليك أبا المغيرة تبتُ ممّا جرى بالشام من جور اللسانِ

وأغضبتُ الخليفة فيك حتّى دعاه فرط غيظ أن لحاني

وقلت لمن لحاني في اعتذاري إليك الحقّ شأنك غير شاني

عرفت الحقّ بعد خطاء رأيي وما ألبسته غير البيانِ

زيادٌ من أبي سفيان غصنٌ تهادى ناضرٌ بين الجنانِ

أراك أخاً وعمّاً وابن عمٍّ فما أدري بعين ما تراني

وأنت زيادةٌ في آل حرب أحبّ إليّ من وسطى بناني

ألا أبلغ معاوية بن حرب فقد ظفرت بما تأتي اليدانِ

فقال له زياد: أراك أحمقاً مترفاً شاعراً صنع اللسان، يسوغ لك ريقك ساخطاً ومسخوطاً، ولكنّا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك، فهات حاجتك.

____________

1- من شاس، أي نظر بمؤخّر عينه تكبّراً.


الصفحة 499

قال: كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضا عنّي.

قال: نعم، فكتب كتاباً أخذه ومضى حتّى دخل على معاوية، ففضّ الكتاب ورضي عنه وردّه إلى حاله وقال: قبّح الله زياداً ألم ينتبه له إذ قال: وأنت زيادة في آل حرب(1).

أقوال العلماء في واقعة الاستلحاق:

بعد أن استلحق معاوية زياداً ولم يكترث لحكم الشريعة الإسلاميّة بحرمة مثل ذلك الإلحاق، كثرت أصداء ذلك العمل الشنيع في الوسط الديني.

فقال له يونس بن عبيد الثقفي: يا معاوية، قضى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقضيت أنت أنّ الولد للعاهر وأنّ الحجر للفراش، مخالفة لكتاب الله تعالى، وانصرافاً عن سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان.

فقال معاوية: والله يا يونس لتنتهين أو لأطيرن بك طيرة بطيئاً وقوعها(2).

ويقول سعيد بن المسيّب: أوّل قضيّة ردّت من قضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علانية قضاء فلان في زياد(3).

كما قال ابن نجيح: أوّل حكم ردّ من أحكام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم في زياد(4).

وقال ابن بحجة: أوّل داء دخل على العرب قتل الحسين سبط النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)

____________

1- الاستيعاب ٢: ٥٢٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦: ١٩٠.

2- مروج الذهب ٣: ١٧.

3- تاريخ مدينة دمشق ١٩: ١٧٩.

4- نفس المصدر.


الصفحة 500

وادّعاء زياد(1).

وقال الحسن البصري: أربع خصال كنّ في معاوية لم لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادّعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «الولد للفراش وللعاهر الحجر». وقتله حُجراً(2).

وقال الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) لزياد في حضور من معاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم: «وما أنت يا زياد وقريشاً؟ لا أعرف لك فيها أديماً صحيحاً ولا فرعاً نابتاً، ولا قديماً ثابتاً، ولا منبتاً كريماً، بل كانت أُمّك بغيّاً تداولها رجال قريش، وفجّار العرب، فلمّا ولدت لم تعرف لك العرب والداً، فادّعاك هذا - يعني معاوية - بعد ممات أبيه، ما لك افتخار، تكفيك سميّة ويكفينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبي علي بن أبي طالب سيّد المؤمنين الذين لم يردّ على عقبيه، وعمّي حمزة سيّد الشهداء، وجعفر الطيّار، وأنا وأخي سيّد شباب أهل الجنّة(3).

نشاطات تبليغية:

بعد مرحلة الاستبصار قدم «محمّد» إلى الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية، ودرس العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة، وبعد إغناء رصيده الديني عاد إلى بلده،

____________

1- راجع: المصنّف لابن أبي شيبة ٨: ٣٤٠، المعجم الكبير ٣: ١٢٣، تاريخ مدينة دمشق ١٩: ١٧٩.

2- راجع: تاريخ الطبري ٤: ٢٠٨، الكامل في التاريخ ٣: ٤٨٧، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٦٢.

3- المحاسن والمساوئ للبيهقي: ٦٥.


الصفحة 501

وقام - ضمن نشاطه التبليغي - بإدارة «جمعية أهل البيت(عليهم السلام) لنشر الإسلام».

وتُقدّم هذه الجمعية عدّة خدمات للجالية الشيعيّة في «كوناكري» فإنّها تقوم بإحياء ذكريات المعصومين(عليهم السلام) ولادةً ووفاةً، كما تقيم دورات تبليغية لأئمّة الجمعة والجماعات والأساتذة المتشيعين، وقد أجرت عدة لقاءات حوارية مع أتباع المذاهب الأخرى، كما قدّمت كتب المذهب إلى المثقفين.


الصفحة 502

(٧٧) محمّد حبيب سو (وهّابي / غينيا - كوناكري)

ولد عام ١٣٨٩هـ (١٩٦٧م) في قرية (كمبيا) التابعة لمحافظة (لابي) في غينيا، تلقّى دروسه الأوّلية على يد والده الذي كان مدرّساً ومثقّفاً، وقد جهد أبوه خلال هذه الفترة وما بعدها لرفع مستوى ثقافة ابنه، فأرسلهُ إلى العاصمة كوناكري ليواصل دراسته، وكذلك ليتعلم اللغتين العربيّة والفرنسيّة.

وفي أثناء دراسته تأثّر بالفكر الوهّابي قليلاً ممّا جعله يروّج لها، وكان من الدعاة إلى الفكر الوهّابي في منطقته وفي العاصمة بالذات، إلاّ أنّ الظروف قادته إلى التحقيق والتشرّف بمذهب أهل البيت(عليهم السلام).

في سجون السعودية كانت البداية:

كان الأخ «محمّد» يتنقل بين البلدان لطلب العلم، وكان من عادته الرجوع إلى بلده خلال العطلة لتدريس ما تعلّمه، ويبثّ ما حصل عليه من معلومات بين أبناء بلده.

لا يخفى على أحد من أنّ الدعاية الكاذبة التي تروّجها الوهّابية لتمرير مخطّطاتهم الشيطانيّة قد تنطلي على كثير من المسلمين، لأسباب كثيرة: قسم منهم لا


الصفحة 503

يعرف الكثير من المسائل العقدية المرتبط بدينه، لانعدام الوسائل المتاحة للتعليم والتعلم بسبب الفقر الساري في كثير من البلدان خصوصاً الدولة الأفريقية، أو لا يهتم بالأمور الدينية كثيراً، أو يصدّق ما يسمع بخبر أو يقرأ في كتاب أو مجلّة أو جريدة من دون تحقيق أو تكليف للنفس عناء البحث لمراجعة هذه المعلومات ممّا جعلهم تنطلي عليهم الأفكار المنحرفة، وإلحاق الضرر بكثير من المسلمين.

فاستغل الوهّابيون هذه الفرص للاصطياد في الماء العكر، وترويج أفكارهم بما يملكون من قوة من خلال إرسالهم للمبلغين وإعطاء الكتب المجانية والقنوات الفضائية وغير ذلك.

فجعلت الدعاية التوحيدية وغيرهم من مسائل التوسل والشفاعة التي تتمسك بها الوهّابية تبهر الأبصار لأوّل وهلة، وإن كان سرعان ما ينكشف زيفها وخداعها، والوجه الكالح لهذه الفرقة، إلاّ إنّه تأثّر بها كثير من الشباب منهم الأخ «محمّد حبيب»، وصار من دعاة الوهّابية في منطقته.

ويقول في هذا الصدد: «تأثّرت بالفكر السلفي مثل كثير من شباب منطقتنا، وصرت من دعاة الوهّابية في منطقتنا وفي العاصمة بالذات - لكنني مع ذلك كنت مشككّاً - وسافرت إلى السعودية للتعرّف أكثر على هذا المذهب، وقضيت هناك عدّة أشهر مع هؤلاء، إلاّ أنّهم زجوني في السجن حيث قضيت فيه ثلاثة أشهر، تعاملوا خلالها بقساوة ووحشية، فهم أوحش من الخوارج الذين خرجوا على الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، أو الخمير الحمر في كمبوديا».

فرأى «محمّد حبيب» - في هذه المدّة التي أقامها معهم - هؤلاء - أي الوهّابييون يوزعون صكوك التكفير على أهل القبلة كيفما شاؤا، في حين يتركون أعداء الإسلام في منأى عن حرابهم.


الصفحة 504

فهذه تعدّ واحدة من آلاف الشهادات الحيّة بحقّ هذه الفرقة الممزقة لوحدة المسلمين.

أوجه الشبه بين الخوارج والوهّابية:

فقد بليت الأُمّة الإسلاميّة بفرقة تسمّى نفسها بالوهّابية، وتعتقد بأنّها هي الفرقة الناجية، وأمّا سائر المسلمين فهم مشركون لا حرمة لدمائهم وذراريهم وأموالهم، ودارهم دار حرب وشرك، ويعتقدون أنّ المسلم لا تنفعه شهادة أن (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) ما دام يعتقد بالتبرّك بمسجد الرسول - مثلاً - ويقصد زيارته ويطلب الشفاعة منه، ويقولون: إنّ المسلم الذي يعتقد بهذه الأمور فهو مشرك، وشركه أشدّ من شرك أهل الجاهليّة من عبدة الأوثان والكواكب ومن جرى مجراهم.

فالوهّابية تتبع في نهجها نهج الخوارج في تعاملها مع المسلمين ; فإنّ من يقرأ سيرة الخوارج وأفكارهم المتحجّرة، وفهمهم الخاطئ للإسلام، وموقفهم اتّجاه المسلمين من تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم، لرأى النهج الوهّابي استمراراً وامتداداً للنهج الذي اتّبعته الخوارج.

وفيما يلي نستعرض بعض أوجه الشبه بين الخوارج والوهّابية:

أوّلاً: إنّ شعار الخوارج هو (لا حكم إلاّ لله)، وهي كلمة حقّ يراد بها باطل فإنّ أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «ويحكم إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل! إنّهم ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة! أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا»(1).

____________

1- شرح نهج البلاغة ٢: ٢١٦.


الصفحة 505

فهي كلمة حقّ لأنّها تتطابق مع قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ، يراد بها باطل، وهو أنّه لا إمارة لأحد، ولا يجوز التحكيم في الأمور الدينيّة، وفرّعوا عليه إنّ التحكيم الذي كان بصفين كان معصية وكفراً.

مع أنّ التحكيم قد جاء في الشريعة الإسلاميّة بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا(1).

وقال تعالى في جزاء الصيد:﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ(2).

كذلك الوهابيّيون شعارهم: لا دعاء إلاّ لله، لا شفاعة إلاّ لله، لا توسّل إلاّ بالله، لا استغاثة إلاّ بالله، ونحو ذلك.

كلمات حقّ يراد بها باطل ; لأنّ المدعو والمتوسّل به حقيقة لدفع الضر وجلب النفع، والمغيث الحقيقي ومالك أمر الشفاعة هو الله. يراد بها باطل وهو منع تعظيم من عظّمه الله بدعائه والتوسّل به ليشفع عند الله تعالى ويدعوه لنا، وعدم جواز التشفّع والاستغاثة والتوسّل بمن جعله الله شفيعاً مغيثاً، وجعل له الوسيلة.

وهي كجملة من كلماتهم المزخرفة كقولهم: لمن يقول يا محمّد ويا فلان ويا فلان، هل الله أعطاك القوّة أو محمّد؟ فلابدّ أن يقول الله، فيقولون له: لم لا تدعو الله وتدعو محمّداً؟!

وهذا تمويه وتضليل يراد به باطل ; إذ لا يوجد أحد يعتقد أنّ محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) أو غيره بيده الأمر أصالة، وإنّما هو التوسّل وطلب الشفاعة ممّن له الوسيلة والشفاعة، واعتراضهم هذا هو بالحقيقة اعتراض على الله الذي جعل الشفاعة لمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلاّ فمتى جعلها له فعلينا أن نطلبها منه.

____________

1- النساء -٤- : ٣٥.

2- المائدة -٥- : ٩٥.


الصفحة 506

ولو صحّ اعتراضهم هذا لتوّجه على من يسأل الدعاء من الغير فيقال له: الله الذي يجيب دعاءك أو أخوك المؤمن؟ فلابدّ أن يقول: الله، فيقال له: لم لا تدعو الله وتطلب من أخيك أن يدعو لك؟ وكقولهم لمن يقبّل ضريح النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو المنبر الموضوع في مسجده وفي مكان منبره إنّما تقبّل حديداً أو خشباً جيء به من بلاد الإفرنج، ولم يعلموا أنّه كما يحترم جلد الشاة بعمله جلداً للمصحف، والورق والمداد بكتابة المصحف عليه وبه، كذلك يحترم الحديد والخشب الذي وضع على قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أو في مسجده وفي مكان منبره(1).

لاشكّ أنّ الله تعالى فاوت بين مخلوقاته في الفضل، فجعل بعضها أفضل من بعض من الأزمنة والأمكنة، والأحجار والآبار، والحيوانات وبني آدم وغير ذلك.

ففي الأزمنة فضّل شهر رمضان على سائر شهور السنة، وجعل فيه ليلة القدر،وجعلها خيراً من ألف شهر، وجعل من أشهر السنة الاثني عشر، أربعة حرماً، حرّم فيها القتال، وفضّل يوم الجمعة على سائر الأيّام، وفضّل ساعة منه على سائره.

وفي الأمكنة فضل الكعبة على سائر بقاع الأرض، وتعبّد الناس بالحجّ إليها، والطواف حولها، ومكّة والمقام، وحجر إسماعيل، والمسجد، والمساجد الأربعة، والمسجد الحرام منها على غيرها.

وفي الأحجار فضّل الحجر الأسود على غيره، وتعبّد الناس باستلامه وتقبيله.

وفي الآبار فضّل بئر زمزم على غيره.

وفي الحيوانات فضّل الخيل على غيرها، وأمر بارتباطها وإكرامها، وجعل الخير معقوداً بنواصيها، وجعل بعض دم الغزال مسكاً، وفي ذلك يقول الشاعر:

____________

1- كشف الارتياب في أتباع محمّد بن عبد الوهاب: ١١٢.


الصفحة 507


فإن تفق الأنام وأنت منهم فإنّ المسك بعض دم الغزال

وفي بني آدم فضّل الأنبياء على غيرهم، ومحمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) على سائر الأنبياء، والشهداء على غيرهم، والعلماء على الشهداء وعلى بعض الأنبياء.

بل الشيء الواحد له فضل في حال دون حال، فالكنيف لا فضل له، وهو منتهى الخسة، فإذا جعل مسجداً صار معظّماً عند الله، وحرّم تنجيسه، ووجب تعظيمه.

وجلد الشاة يجعل نعلاً وحذاءً، فيكون في منتهى الإهانة، ويعمل جلداً للقرآن الكريم، فيكون في منتهى الإكرام والإعظام كما قال الشاعر:


أو ما ترى نوع الأديم فإنّه منه الحذاء ومنه جلد المصحف

والرجل يكون كسائر الناس، فيبعثه الله بالنبوة، فتجب إطاعة أمره ونهيه، أو ينصبه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بعده خليفة، أو المسلمون، فيدخل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ(1).

ومن هذا القبيل البقعة من الأرض تكون كسائر البقاع، فيدفن فيها نبيّ أو ولي، فتكسب شرفاً وفضلاً وبركةً بدفنه لم تكن لها من قبل، ويجب احترامها، وتحرم إهانتها لحرمة من فيها، ومن احترامها قصدها لزيارة من فيها، وبناء القباب عليها، والحجر حولها، لتقي زائريها من الحرّ والبرد، وعمل الأضرحة لها التي تصونها عن كلّ إهانة، وإيقاد المصابيح عندها لانتفاع زائريها واللاجئين إليها، وجعل الخدمة والسدنة، وتقبيلها والتبرك بها، ووضع الخلع عليها، والمعلقات فوقها وغير ذلك.

ومن إهانتها هدمها، وهدم ما فوقها من البناء، وتسويتها بالأرض، وجعلها معرضاً لوقوع القاذورات، ووطئ الدواب والكلاب والآدميين، وترويث وبول

____________

1- النساء -٤- : ٥٩.


الصفحة 508

الدواب والكلاب وغير ذلك.

وهل يشك في ذلك عاقل وهو يرى أنّ الله تعالى جعل احتراماً لصخرة صماء بسبب وقوف إبراهيم الخليل(عليه السلام) عليها حين بنى البيت فقال عزّ من قائل: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى(1). أفيجعل الله احتراماً لمقام رجل خليله، ولا يجعل احتراماً لمدفن جسده، أو مدفن جسد سيّد أنبيائه؟!

وإذا كان له هذا الاحترام، فلماذا حرّم تقبيله، والطواف والتبرّك به، والصلاة عنده، ودعاء الله تعالى كما يصلّى عند مقام إبراهيم(عليه السلام) ويدعى؟ فإن كان لتوهم أنّه عبادة له كعبادة الأصنام، فهو توّهم فاسد ; لأنّ احترام من جعل الله له حرمة احترام لله، وعمل بأمر الله، وعبادة وإطاعة لله، فهو كتقبيل الحجر الأسود، وتعظيم الكعبة، والحرم والمقام، والمساجد، والتبرّك بماء زمزم، وسجود الملائكة لآدم(2).

ثانياً: كما أنّ الخوارج متصلّبون في الدين مواظبون على الصلوات وتلاوة القرآن والعبادة حتّى اسودّت جباههم من طول السجود، متمسّكون بظواهر القرآن والسنّة قشرين، حتّى أنّه ورد أنّ إنساناً منهم ضرب خنزيراً برّياً بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، والتقط أحدهم تمرة من الطريق فوضعها في فمه، فبادر آخر وطرحها من فمه.

فهم أكثر المسلمين عبادة ومحافظة على الصلاة، حتّى عرفوا بأهل الجباه السود من كثرة السجود، ومع ذلك كانوا لا يتورّعون عن سفك الدماء، ونهب الأموال، والإخلال بالأمن، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أسروه وامرأته معه، وهي حامل فقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبد الله

____________

1- البقرة -٢- : ١٢٥.

2- كشف الارتياب في أتباع محمّد بن عبد الوهاب: ١٠٩ - ١١٠.


الصفحة 509

ابن خباب صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّكم قد روعتموني. فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي».

فاقتادوه بيده، فبينما هو يسير معهم، إذ لقي بعضهم خنزيراً لبعض أهل الذمّة، فضربه بعضهم، فشقّ جلده. فقال له آخر: لم فعلت هذا، وهو لذمي؟ فذهب إلى ذلك الذمي، فاستحلّه وأرضاه، وبينا هو معهم إذ سقطعت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه. فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلمّا بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي(عليه السلام) بأن يبدأ بهؤلاء، ثمّ إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شرّ هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضاً، فأرسل علي(عليه السلام) إلى الخوارج رسولاً من جهته وهو الحرث بن مرّة العبدي، فقال: أخبر لي خبرهم، وأعلم لي أمرهم واكتب إليّ به على الجلية، فلمّا قدم عليهم قتلوه، ولم ينظروه، فلمّا بلغ ذلك علياً(عليه السلام)عزم على الذهاب إليهم أوّلاً قبل أهل الشام(1).

وعن حميد بن هلال قال غزا عمارة بن فرض الليثي غزاة له فمكث فيها ما شاء الله، ثمّ رجع حتّى إذا كان قريباً من الأهواز سمع صوت الأذان فقال: والله مالي عهد بصلاة بجماعة من المسلمين منذ ثلاث، وقصد نحو الأذان يريد الصلاة، فإذا هو

____________

1- البداية والنهاية ٧: ٣١٨ - ٣١٩.


الصفحة 510

بالأزارقة. فقالوا: له ما جاء بك يا عدو الله. فقال: ما أنتم إخواني. قالوا أنت أخو الشيطان لنقتلنك. قال: أمّا ترضون منّي بما رضي به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالوا: أيّ شيء رضي به منّك؟ قال: أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فخلّى عنّي. فأخذوه فقتلوه. رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح(1).

وأيضاً روي أنّ الخوارج قطعوا الطريق على العالم المعروف واصل بن عطاء، ورفقة معه، ولمّا أرادوا قتلهم لا لشيء إلاّ لأنّهم مسلمون. قال لهم واصل: نحن مشركون ممّن قال الله فيهم: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ(2) فنجوا، ولكن بعد أن اعترفوا على أنفسهم بالشرك، ولو قالوا للخوارج: نحن مسلمون، وأخوتكم في الدين لقتلوهم كما قتلوا الصحابي عبادة.

ولا يختلف الوهابيّة عن الخوارج في هذا الصعيد متصلّبون في الدين، يؤدّون الصلاة لأوقاتها، ويواظبون على العبادة، ويطلبون الحقّ وإن أخطأوه، ويتورّعون عن المحرّمات، كانت الوهّابية لا تكفّر بعض الصحابة، وتستحلّ دماءهم كما هي الحال عند الخوارج، ومهما يكن، فإنّ الإسلام في مفهوم الوهّابية ضيق جدّاً، بخاصّة فيما يتعلّق بالتوحيد، فإنّهم يفسرّونه تفسيراً ضيّقاً لا ينطبق إلاّ عليهم وحدهم، حيث يربطون به هدم القبور، وما بني عليهم من المساجد، حتّى قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحريم الصلاة والدعاء عندها، ويحرّمون زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتبغ والتصوير الفوتغرافي، وما إلى ذاك، أمّا وضع الستائر على الروضة الشريفة، وقول المسلم سيّدنا محمّد، وحقّ محمّد، ويا محمّد، فبدعة وضلالة.. هذا هو الإسلام في مفهومهم(3).

____________

1- مجمع الزوائد ١: ٢٦.

2- التوبة -٩- : ٦.

3- هذه هي الوهّابية: ٦٩ - ٧١ (بتصرّف).


الصفحة 511
الصفحة السابقةالصفحة التالية