مقدّمة المركز
الحمدُ للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق اللّه أجمعين، أبي القاسم محمّد، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم ومنكري فضائلهم، من الآن إلى قيام يوم الدين.
الحمدُ للّه على الهداية وإكمال الدين وإتمام النعمة، والحمدُ للّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأولاده المعصومين (عليهم السلام).
وبعد،
فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى البشر لكي يعبدوه، إذ قال في كتابه العزيز: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}(1)، فالهدف الرئيسي من خلق المخلوقات ـ الجن والإنس ـ هو عبادة اللّه جلّ وعلا.
وقبل عبادته، يجب على الإنسان أن يعرف ربّه، إذ العبادة فرع المعرفة، فكيف يعبد الإنسان من لا يعرفه؟ وعلى قدر المعرفة تكون العبادة.
____________
1- سورة الذاريات: 56.
وذلك يتمّ بواسطة إرسال الرسل والأنبياء إليهم، فقد بعث اللّه تعالى أوّل مُعرِّف به إلى البشر وهو النبيّ آدم عليه وعلى نبيّنا آلاف التحيّة والثناء.
ثمّ تتالت الرسل والأنبياء من قبل الباري عزّ وجلّ طوال قرون من الزمان، إلى أن شاء اللّه تعالى ختم إرساله للأنبياء، فبعث نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) كخاتم للرسل والأنبياء.
ولكن هل هذا يعني أنّ الاتصال بالسماء انقطع بموت خاتم الأنبياء والرسل؟
إنّ حكمة الباري عزّ وجلّ اقتضت وجود إمام ووصيّ لنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن بعده أولاده المعصومين (عليهم السلام).
واقتضت حكمته تعالى أن يبقي آخر الأئمة (عليهم السلام) حيّاً، غائباً عن أعين الناس، إلى أن يأذن اللّه سبحانه وتعالى بالظهور فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، إذ عدم وجود وصيّ وخليفة للنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) يعني انقطاع الاتصال بالسماء وموت الرسالة وهلاك البشر.
وقد بيّن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) في حياته عبر مجموعة كبيرة من الأحاديث، ذلك الإمام والوصيّ بعده، وبيّن أيضاً الأئمة والأوصياء
وألّف علماؤنا الماضون رحمهم اللّه تعالى، موسوعات عقائدية كبيرة ومتنوعة، أثبتوا فيها وبالأدلة القطعية، أنّ النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أوصى أن تكون الإمامة من بعده لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومن بعدهما للتسعة المعصومين من ولد الحسين (عليهم السلام).
والكتاب الذي بين أيدينا ـ وإن كان صغيراً في حجمه، إلاّ أنّه كبير في محتواه ـ محاولة جادّة وجديدة، وبأسلوب أدبي حواري، لبيان الأوصياء والخلفاء والأئمة من بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
وكاتبه هو الأُستاذ حسام الدين أبو المجد، من أرض الكنانة، كتبه بعد أن وفقّه الباري عزّ وجلّ لاعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فأحبّ أن ينقل تجربته العلمية هذه إلى إخوانه، وأن يلقي عليهم الحجّة البالغة، إذ قال في مقدّمة كتابه هذا:
«فاعلم يا من وصلك هذا الكتاب بأنّ الحجّة أقيمت عليك، ولا عذر لك بحال من الأحوال، إلاّ إذا فنّدت ما فيه بحجّة من العقول مرضيّة، أو آية كريمة قرآنيّة، أو سنّة نبويّة مجمع عليها، وهيهات..».
فبدأ كتابه هذا ببيان ضرورة معرفة الباري عزّ وجلّ، وتتمّ هذه المعرفة بواسطة إرسال «معرِّف» و «معرِّفين» من قبل اللّه تعالى، كي يُعرِّفوا البشريّة باللّه، وصفاته، وما أراد منهم من العبادة.
ثمّ ذهب إلى أنّ اختيار المعرِّف يكون بيد اللّه تعالى، ويستحيل كونه بيد المخلوق، وبعدها أشار بشكل إجمالى إلى صفات المعرِّف،
ومركز الأبحاث العقائدية إذ يقوم بطبع هذا الكتاب ضمن «سلسلة الرحلة إلى الثقلين»، يدعو كافّة الإخوة المستبصرين إلى المساهمة في هذا المشروع الحيويّ، وتسجيل ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وآثار، حيث تحكي بوضوح عظمة نعمة الولاية التي مَنّ اللّه سبحانه وتعالى بها عليهم، والمركز على استعداد كامل لطبع نتاجاتهم العلمية، بعد مراجعتها وتصحيحها من قبل اللجنة العلمية فيه.
وختاماً نتمنّى للمؤلّف المزيد من الرقيّ والتطوّر العلمي، كما نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لكلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب، ونخصّ بالذكر فضيلة الشيخ رافد التميمي الذي قام بمراجعة وتصحيح هذا الكتاب واستخراج كافة الموارد التي تحتاج إلى استخراج، والحمد للّه ربّ العالمين.
محمّد الحسّون
27 ربيع الآخر 1428هـ
Site.aqaed.com/Mohammad
Muhammad@aqaed.com
إهـداء
إلى من ربّياني على حبّ أهل بيت النبي، وسعيا جهدهما لتأصيل ذلك في قلبي، وأنارا سبيلي بذكر أنوار الله، وعمدا إلى توعيتي ببغض أعداء الله..
إليهما أُهدي أوّل ثمرة جهدهما وتربيتهما، وإليهما أقول:
لم يذهب تعبكما ضياعاً، وأتمنّى أن أكون عند حسن ظنّكما بي.
وأقول: ربّي ارحمهما كما ربّياني صغيراً.
إلى أبي وأُمّي أَهدي ثواب هذا الجهد المتواضع.
وأرجو من الله القبول.
ورجائي من كلّ من يقرأ هذه الصفحات أن يدعو لهما ويتلو سورة الفاتحة ويهديها لوالدي (رحمه الله) رحمة واسعة إنّه أرحم الراحمين.
شكر وتقدير
أتوجّه بالشكر الجزيل لكلّ من ساعدني في كتابة هذا الحوار بدعائه، أو بتشجيعه، أو بتيسير السبل لذلك، وأخصّ بالذكر أخي العزيز الذي كتب الحوار بيده المباركة طالباً الثواب على ذلك من ربّ العالمين، وزوجتي العزيزة التي كتبته على جهاز الكمبيوتر رغم مشاغلها الكثيرة طلباً لثواب ربّ العالمين، والتي طالما شجّعتني وألحّت في إخراج هذا الحوار إلى النور، أشكرهما كثيراً، وأدعو الله العليّ القدير أن يمنّ عليهما وعلى جميع من ساندني بالثواب الجزيل والعافية دنيا وآخرة بحقّ أحبّ خلقه إليه محمّد وأهل بيته الطاهرين.
مقدّمة
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق باجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها...
وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، لا حبيب إلاّ هو وأهله.
وأشهد أنّ علياً وأولاده المطهّرين حجج الله في أرضه، لا يقاس بهم أحد..
صلوات الله عليهم وعلى من أحبّهم من الأوّلين والآخرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
من المعلوم لدى المسلمين كافّة أنّ معرفة العقائد الأساسية من أهمّ المعارف، وأوجب الواجبات، ولا يجوز فيها تقليد الغير،
فاعلم يا من وصلك هذا الكتاب بأنّ الحجّة أُقيمت عليك، ولا عذر لك بحال من الأحوال، إلاّ إذا فنّدت مافيه بحجّة من العقول مرضيّة، أو آية كريمة قرآنية، أو سنّة نبويّة مجمع عليها وهيهات..
ولأهل بيت النبوّة (صلوات الله عليهم أجمعين) أهدي هذه الصفحات، راجياً منهم القبول، وطالباً من المولى سبحانها أن يثّبتني على موالاتهم، ومعاداة أعدائهم أبداً ما حييت، إنّه نعم المولى، ونعم المجيب، وأن يجعلني من المستشهدين بين يدي صاحب الزمان ـ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ـ مدافعاً عنه راضياً بذلك غير مكره.
إنّه قريب مجيب سميع الدعاء.
ولكلّ باحث عن الحقيقة، مخلصاً في بحثه عنها أهدي هذه الهديّة.
{إنْ أُريد إلاّ الإصلاح مَا اسْتَطعْت وَمَا تَوْفِيقي إلاّ بالله عليه
وصلّى الله على النبيّ محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أبد الآبدين.
خادم العترة الطاهرة
حسام الدين عبد الخالق المحمّدي
2 / مايو / 1998
6 / محرم / 1419
____________
1- سورة هود: 88.
البداية
قابلت ـ ذات يوم ـ شابّاً من الشباب ممّن يتمتّعون بثقافة عالية وسعة أفق، قليلا ما نجدها في هذه الأيام، تحدّثنا في أمور شتّى، وتطرّقنا إلى مواضيع مختلفة، يهمّني من تلك المواضيع الحوار الذي دار بيننا على مدى أيّام متعدّدة، ذلك الحوار الذي أثمر ثمرة هامّة، سميتدّ أثرها إلى ما شاء الله من أجيال قادمة.
إنّه حوار حول مسألة تخصّ الإنسان في صميم ذاته، في دينه، في أفكاره، في سلوكه.
إنّها مسألة الإمامة والسفارة الإلهيّة بين الله وخلقه، أو بعبارة أخرى (المعرفة والمعرِّف) حيث تلخّص هاتان الكلمتان فلسفة الإمامة كلّها، بل فلسفة خلقنا.
فقد كنت أحثّه على التمسّك بالدين الإسلامي، والعمل بمقتضاه، وما إلى ذلك، فأحسست منه استثقالا، وعدم رغبة في سماع كلامي، فقلت له: ما بك؟ أتريد تغيير الموضوع؟ أم مشغول بشيء تريد الانصراف له؟ أم ماذا؟
فقال: بصراحة تامّة إنّ موضوع الدين مشكل بالنسبة لي.
فقال: لا تعجب، فإنّ الدين الذي تتحدّث عنه أصبح موضوعاً اعتباريّاً.
زاد تعجّبي، واشتدّت دهشتي، ثمّ واصل حديثه قائلا: أيّ دين تحثّني على التمسّك به؟
هل الدين الأشعري أم الماتريدي؟ أم المعتزلي؟ أم الشيعي؟ أم أم.
قائمة طويلة من فرق متعدّدة، وكلّها تدّعي الإسلام.
بالله عليك هل الله سبحانه يرضى بهذه الاختلافات؟ ألم يرسل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبيّن للأمّة أمور دينها؟ أي أنّ الدين واحد فمن أين أتت كلّ هذه الفرق؟ وهل يعقل أن ننسب جميعها إلى الصواب؟!
للأسف أقول عن نفسي: إنّي مسلم!
وأخرج لي بطاقته الشخصيّة، وقال: انظر ما كتب مقابل الديانة (مسلم) وهكذا الكلّ، من منّا يعرف دينه؟! يا صديقي الكلّ تائه في فلاة ليس لها بداية أو نهاية، الكلّ يريد النجاة من هذه الفلاة، الكلّ يفكّر، يخطّط، يتوهّم طريقاً يظنّه كذلك، بل يتيقّن أنّه ذلك، بل وإنّ غيره لن يوصل إلى النجاة مطلقاً، توهّم طريقاً، بل وحصر النجاة في السير عليه، هذا هو حالنا يا صديقي، فرق متعدّدة، ومذاهب شتّى، وأفكار متقابلة، اختلاف مطلق أو كاد.. وبعد كلّ ذلك تقول لي تمسّك بالدين!!
قال: نعم، وليس غير ذلك.
فقلت: إذن تمسّك بالكتاب والسنّة.
فقال: يا أخي، إنّي لست متخصّصاً في الدين، نعم، أقرأ القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وأفهم بمقدار ما أستطيع، وليس من المعقول أن يكون مطلوباً من كلّ فرد مسلم أن يتفقّه في الدين، ويتخصّص في ذلك، وإلاّ لاختلّ نظام الحياة، لذلك كان هناك فقهاء بالشريعة علماء بالدين، يرجع إليهم عند الجهل أو الشبهة أو الشك، فيكشفون ذلك بما أوتوا من معرفة وعلم، هذا هو المفترض، ولكنّ الواقع غير ذلك، فإنّ بالرجوع إليهم تزداد الحيرة، وتتوسّع رفعة الإبهام، للأسف فكلّ عالم ينصر مذهبه، ويؤوّل الآيات ويحوّر فهم الآحاديث بما يطابق أفكاره وتوجّهاته، وإن خالفت العقل والفطرة.
فقلت له: تلك اجتهادات، ولكلّ رأيه.
فقال غاضباً: اجتهادات؟! أصبح كلّ ما في الدين مسرحاً للاجتهاد؟ إذن ليس هناك دين من الأساس، فكلّ له رأيه، فالآراء هي الدين إذن، وليس الكتاب والسنّة، وإنّما هي مجرّد واجهة تتمترس وراءها الأفكار والآراء فقط ; لتكتسب منها شرعيّتها، ولتقبلها العامّة بلا جدال.
فقلت: يظهر منك أنّك متحامل على العلماء كثيراً، وتحمل
فقال: لا والله، ولكنّي أقول ما هو واقع، إنّي أتمنّى أن أجد مخلصاً ممّا أنا فيه، فإنّي في حيرة لاتدري بها، ثمّ أطرق لحظات برأسه محاولا مداراة ألمه وحيرته، ثمّ نظر لي بتعجّب واستفهام قائلا: ولكن، أو لست أنت واقعاً في هذه الحيرة؟!
قلت: لا.
فقال: لا، كيف؟!
قلت: الأمر بسيط للغاية، يحتاج إلى تجرّد وتعقل فقط، فإذا تجرّدت وتعقّلت أبصرت مالا يبصره غيرك، فبدى عليه الاهتمام والتأمّل بشدّة في الكلام.
فقال لي: بالله عليك إلاّ ما بصّرتني بما أورثك كلّ هذه الطمأنينة والثقة واليقين.
المعرِّف وهدف الخلقة
قلت: لنعود إلى الوراء، إلى حيث المبدأ من بعيد، إلى بدء وجودنا، فنحن نعلم بوجودنا كمخلوقات لابدّ وأن يكون لنا خالق، ونعلم كذلك أنّنا لم نخلق أنفسنا، ولا خلقنا من هو مثلنا، فتعيّن أنّ لنا خالقاً واحداً، أحداً، عالماً، وحكيماً، وقادراً، قيّوماً ومن هذه صفته فله هدف وغاية من إيجادنا ; لأنّه لا يجوز عليه ـ على ما وصفنا ـ العبث واللهو واللعب، فوجب على كلّ عاقل أن يسأل نفسه: ما غاية خلقنا؟
فعلمنا أنّ مراده «جلّ وعلا» عبادته وطاعته والانقياد له، وإذ لا يمكن أن يترك الله لنا الخيار للوصول إلى ما أراد ; لأنّ العقول متفاوتة في الإدراك، وكلّ سيدرك هدفاً غير الآخر، بينما الهدف واحد، ولا يمكن أن يتعدّد، لذا اختار الله من بين البشر أُناساً لهم صفات معيّنة ليقوموا بهذا الدور الإرشادي التوجيهي، وليبلّغونا غاية خلقنا كما أرادها ربّ العالمين جلّ وعلا.
هنا قال صاحبي: ولم لا يهدينا الله بشكل مباشر، إذ هو قادر على أن يهدي كلّ إنسان بطريقة أو بأُخرى؟
قلت: لا يمكن ذلك ; لأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد من وجودنا في هذه الحياة أن يختبرنا، ومعنى الاختبار أن يكون الإنسان في وضع الاختيار بين طرف وآخر، أو بين أطراف متعدّدة.. المهمّ أنّ الاختبار الموجّه للإنسان يتضمّن الاختيار الإنساني، أي: أنّ الله
____________
1- سورة الذاريات: 56.
الآن يواجهنا سؤال هامّ للغاية، وهو كيف نعبد الله تعالى؟ فإذا كان الهدف هو العبادة فبأيّ طريقة وكيفية تتحقّق؟
والجواب المنطقي على ذلك هو بالمعرفة، أي أنّنا لا يمكننا أن نعبد الله تعالى إلاّ إذا عرفناه، فبقدر المعرفة تكون العبادة، لذا قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاء إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(3) فكلّما ارتقى الإنسان في المعرفة الإلهيّة كانت عبادته أرقى وأكمل، فمعرفة الله سبحانه هي أساس العبادة، إذ قد يعبد الله تعالى من لا يعرف الله، ولا يعرف صفاته، ولا أوامره ونواهيه، ولا يعلم أيّ طريق فيه رضاه،
____________
1- سورة الكهف: 7.
2- سورة الإنسان: 3.
3- سورة فاطر: 28.
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ}(1).
وعلى مدار التاريخ الإنساني وجدت طوائف كثيرة تعبّدت لله بطرق اخترعوها من تلقاء أنفسهم، فضلّوا الصراط السوي ; لأنّ العالِم بحقائق الأمور، والعالِم بما فيه مصلحة الإنسان وما فيه ضرره هو الله تعالى، لذا انحصر طريق العبادة بما يعرّفنا به الله تعالى، وكما ذكر من قبل بأنّ الحياة هنا حياة امتحان، وأنّ الله تعالى ارتضى لنا طريق عبادته، فكان من تمام رحمته ـ جلّ وعلا ـ أن يدلّنا على كيفيّة عبادته، أيّ أن يعرّفنا ذلك، فكان لابدّ من معرِّف ; لكي لانخطأ الطريق، ولئلاّ يكون للناس على الله حجّة، وهو ـ سبحانه ـ له الحجّة البالغة على الخلق أجمعين ; ولأنّ الله حكيم منزّه عن العبث سبحانه.
وهكذا كان، فأبو البشر (عليه السلام) هو أوّل معرِّف وجد في أوّل مجموعة بشريّة على وجه الأرض، واحتفظت تلك المجموعة بإيمانها إلى أن تكاثروا فهجم التفكير المنحرف عليهم، فأوردهم موارد شتّى كل اختار طريقاً، وتيقّن أنّ النجاة في سلوكه، فاقتضت رحمة الله تعالى وحكمته بعث معرِّف يعرِّف خلقه معالم الطريق ; وحتّى يكونوا على
____________
1- سورة الزمر: 9.
قال صاحبي: لو فرضنا عدم وقوع الاختلاف في معرفة الحقيقة والعبادة الصحيحة، فهل يعني ذلك عدم الاحتياج للمعرِّف؟
قلت: نعم، مادام المجتمع البشريّ مجمعاً على «الصراط المستقيم» فلا حاجة للمعرِّف بعد ذلك، ولمّا كان الاختلاف بين الناس وهو طبيعة بشريّة، اقتضى ذلك وجود المعرِّف دائماً ; ليبيّن الحق من الباطل، وليكون حجّة على العباد.
وفي هذا الأمر يقول الله تعالى:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(2) فالاختلاف باق ما بقي البشر إلاّ من رحمهم الله بالاجتماع على الحق الذي عرّفهم إيّاه المعرِّف، ولذلك خلقهم.
فالاجتماع على العبادة هو هدف الخلقة، ولذا نقرأ كلّ يوم في
____________
1- سورة البقرة: 213.
2- سورة هود: 118 ـ 119.
المرحومون هم من اجتمعوا على دين الله بهداية المعرِّف وما عداهم فهم الظالمون.
إذن فهدف بعث الرسل هو تصحيح المسار وتوضيح معالم المحجّة، تلك كانت مهمّتهم، والعلّة الغائيّة لإرسالهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(3) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
____________
1- سورة الفاتحة: 5.
2- سورة الشورى: 8.
3- سورة النحل: 36.
ويتّضح ممّا ذكر أمر آخر وهو أنّ العبادة هي الصراط المستقيم، وبما أنّ المعرِّف هو الذي يدلّنا على العبادة، وهي نفسها الصراط، فالمعرِّف إذن هو باب الله الأوحد، فلا يمكن الوصول إلى الله بغير طريقة، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(2) وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}(3) وهل من الممكن أن يعتصم أحد بالله بغير طريق رسوله، ويصل إلى الصراط المستقيم؟!
____________
1- سورة الأنبياء: 25.
2- سورة آل عمران: 51.
3- سورة آل عمران: 101.