تفويض اختيار المعرِّف مستحيل
وطالما أنّ المعرِّف له الخصوصيات المتقدّمة فإنّ تعيينه يتطلّب دقّة متناهية في الاختيار، أي لابد وأن يكون أكمل أهل زمانه، وأفضل من بعث لهم، فالمرسِل ـ عرفاً ـ يرسل أفضل رسول لديه ينطق عنه، فبالرسول يستدلّ على المرسِل، وهنا المرسِل هو الكامل المطلق فلابدّ وأن يكون الرسول أقرب الخلق إليه، ومَن هكذا صفته أنّى للبشر اختياره، مهما بلغوا من كمال إلاّ أن يكونوا على حدّ المعرِّف نفسه، فتنتفي حينئذ فائدة بعثه، فالمرسِل يجب أن يكون هو الذي يختار المعرِّف ; لأنّه هو وحده العارف به وهناك نماذج عديدة لمحاولات البشر في تعيين مصيرهم وطريقهم للسعادة ولكنها بائت بالفشل.
فالاختيار إذن لله وحده، متعلّق به كإله وربّ لنا، يستحيل أن يتعلّق بغيره، وفي ذلك يقول الله سبحانه بأوضح بيان: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1) فالخلق والاختيار له سبحانه {مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ}
____________
1- سورة القصص: 68.
علامات المعرِّف
ثمّة أمران يعرف بهما المعرِّف ـ هذا مع كماله في نفسه، وأهليته لذلك، وهذا غنيّ عن البيان ـ وهما: ادّعاؤه الرسالة، وإتيانه بالمعجز، وهو البيّنة على دعواه، فلو تمّ الأمران وجب التسليم لذيهما بلا أدنى ريب.
وهذا المعرِّف الذي يأتي بالرسالة مقترنة بالآية (المعجزة) يسمّى بـ (الرسول) فإذا انتهت مدّة حياته في الدنيا قام مقامه من يسمّى بـ (الإمام)، فالمعرِّف هو: رسول الله وهو ميلاد الرسالة وبدؤها، وإمام وهو استمرار وامتداد للرسول والرسالة، ولابدّ وأن يكون كاملا كمال الرسول، واختياره كذلك أمر مختص بالله تعالى كما هو الحال في اختيار الرسول.
قد تستفسر: هل يجب أن يكون الإمام بهذه الصفة؟ وبأيّ دليل؟
والجواب على ذلك واضح بعد ما تقدّم بيانه حيث الاختلاف طبيعة لازمة من اجتماع البشر، نظراً لتفاوت العقول، ورحمة الله وحكمته تقتضيان وجود معرِّف يعرِّفهم وجه الحق والصواب فيما اختلفوا فيه، ونفس البيان آنف الذكر يرد هنا.
إذن وجب أن يكون هناك معرِّف طالما هناك بشر سواء كان رسولا أو إماماً.
قال صاحبي: هناك فرق بين الرسول والإمام، فالرسول يأتي بكتاب فيه تبيان كلّ ما تحتاجه اُمّته، فوجود الإمام زائد عن الحاجة، فقبل الرسول لم يكن هناك كتاب يرجع إليه عند الاختلاف، فألحّت الحاجة إلى وجوده وقد أورث أمّته هذا الكتاب، يرجعون إليه في قضاياهم ومنازعاتهم، فقياس حاجة البشر إلى إمام بحاجتهم إلى رسول قياس مع الفارق.
قلت: إذا كان الكتاب كافياً في حسم النزاعات، وتبيين الحقائق بلا مبيّن فما الذي حدث بعد وفاة أو استشهاد النبي؟ ما الذي حدث في أمّته؟ فقد وقع اختلاف صارخ في القضايا الأصليّة والمصيرية، فضلا عن القضايا الفرعيّة والثانوية، هذا مع ادّعائهم كافّة الاعتصام بالكتاب، وإسناد معارفهم إليه!
إنّ وجود الكتاب مع عدم اقترانه بشارح ومترجم لمعانيه المرادة لا يصدر من حكيم، خاصّة إذا كانت لغته في أعلى قمّة البلاغة والفصاحة والمعارف الإلهيّة، نعم قد يفهم منه بعض القضايا الإجماليّة
اذن اختيار العالم المرجع الذي هو الإمام لا يخلو إمّا من منزلِ الكتاب سبحانه أو الرسول المنزَل عليه ; لأنّه هو وحده من دون بقيّة البشر عالم بمن هو أعلم بالكتاب، وحيث إنّ الرسول لا يفعل ولا يقول إلاّ بأمر من الله سبحانه فيكون تعيينه للإمام بعده بأمر الله سبحانه وتعالى.
فقال لي صاحبي: ما قلته أمر كلّي وقاعدة عامّة تنطبق على كلّ العصور، وما قلته في ذلك لا غبار عليه، فما جئت به أقوى الحجج، وأكمل البراهين، نوّر الله قلبك كما أنرت قلبي، وأذهب عنك الشكّ والشبهة وآثارهما، كما أذهبت ذلك عن قلبي، غير أنّي أريد معرفة هذا الأمر بعد نبيّنا ورسولنا الأعظم محمّد (عليه السلام) إذ معنى ما ذكرت استمرار وجود المعرِّف بعد رسولنا (صلى الله عليه وآله) معيّناً من قبل الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: من هو أكمل أهل زمان الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ أليس هو أبو بكر؟ ولكن ما قلته من شرط الكمال غير متحقّق فيه، وهو مقرّ بذلك، فكيف يستخلف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه صفته؟ وأين المعرِّف في زمننا هذا؟
ولكن أسألك بالله ـ عزّ وجلّ ـ أن تسمع كلامي بتفكّر، ولا تجعل لهوى أو عصبيّة سبيلا على عقلك، وأن تدعو الله أن يريك الحق حقاً، ويرزقك اتباعه، وأن يريك الباطل باطلا، ويرزقك اجتنابه، وهو وحده الموفّق والهادي.
صفات المعرِّف ومصاديقه
أوّلا: قال أصدق القائلين ـ وقوله شفاء من كلّ داء ـ: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1) يستفاد من هذه الآية الكريمة ما يلي:
أ ـ إنّ الإمامة عهد من الله سبحانه بما لا يدع مجالا لاختيار بشري، فهي جعل من قبله سبحانه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وهذا كقوله سبحانه في موضع آخر: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).
ب ـ إنّ هذا العهد وهذا الجعل لا ينال الظالمين سواء كان ظلم النفس، أو ظلم الغير، بأيّ درجات الظلم كما هو معنى الإطلاق من الآية.
ثانياً: قال سبحانه {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(3).
____________
1- سورة البقرة: 124.
2- سورة القصص: 68.
3- سورة الأعراف: 181.
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(2) {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(3) وغيرها من الدلائل والإشارات كقوله تعالى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد}(4) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}(5). فكلّها دلائل على عدم خلوّ الأمم على طول خطّ وجودها من منذر أو هاد.
وهذه الأمّة التي تهدي الناس إلى الحق، وتبسط فيهم العدل إنّما يهدون بأمر من قبل الله. سبحانه وتعالى، ولذا قال سبحانه {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(6) فجعل
____________
1- سورة آل عمران: 113، 114، 115.
2- سورة الاعراف: 159.
3- سورة المائدة: 66.
4- سورة الرعد: 7.
5- سورة البقرة: 128.
6- سورة السجدة: 24.
ثالثاً: قال تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(2) والمستفاد من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى قد اصطفى من هذه الأمّة عباداً، واختارهم اختياراً ; ليرثوا علم الكتاب الكريم، وليكونوا أهلا لحمله، وهم السابقون بالخيرات. فالمستفاد من مجموع ما ذكر أنّ الإمامة عهد من الله لا يعطى لظالم، فالإمامة تعهد إلى أناس قد اصطفوا من قبله ـ سبحانه ـ ليهدوا بأمره الخلق إلى الحق، ومعنى ذلك أنّ الإمام يشترط فيه أعلى درجات الطهارة، وهي المعبّر عنها بـ (العصمة) وهي عدم الظلم في الآية الأولى، والاصطفاء في الثانية، وأعلى درجات العلم ; إذ لا يعقل الهداية إلى الحق بلا علم به، مع أنّ شرط العصمة وحده كاف، إذ معنى العصمة الكمال، فبعد انقضاء حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لابدّ من وجود المعرِّف بعده ; ليبيّن لنا حقائق الكتاب ومعارفه بعده والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا المعرِّف (الإمام) يجب أن يكون معصوماً عن الظلم، وعالماً بالكتاب كلّه.
____________
1- سورة يونس: 35.
2- سورة فاطر: 32.
قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1) والذكر هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو القرآن، والدليل على الأوّل قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَات لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(2).
والدليل على الثاني قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(3). وكلا المعنيين مراد ; فأهل القرآن عدله، على أعلى مستوى من الكمال الذي يناسب كلام اللّه، فأهل القرآن على علم كامل به، ومن هذه صفته فلابدّ وأن يكون على أعلى قمّة الطهارة.
فأهل القرآن هم مطهّرون وهذا هو المطابق للآية الكريمة {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(4) فالمطهّرون هم المصطفَوْن من العباد، وهم الأمة الذين يهدون بالحق وبه يعدلون ; لأنّ من يعرف الحقّ معرفة كاملة، هم أهل الكتاب الذين أُورثوه، والمطهّرون المصطفون من قبل الله سبحانه، فمَن مِن الأمّة المطهّرون والمصطفون من قبل الله؟
____________
1- سورة النحل: 43.
2- سورة الطلاق: 10، 11.
3- سورة الحجر: 4.
4- سورة فاطر: 32.
فأتى (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن هو بمنزلة نفسه، والنساء والأبناء هؤلاء هم أهل بيته، وكما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
____________
1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة آل عمران: 16.
(ونساءنا) هي فاطمة (عليها السلام) و (أبناءنا) هما الحسن والحسين (عليهما السلام) وما ورد في تفسير آية التطهير كان المطهّرون هم الخمسة (عليهم السلام) انظر من مصادر أهل السنة التي روت هذا المعنى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسانيد صحيحة: صحيح مسلم(2)، سنن الترمذي(3)، مسند أحمد بن حنبل(4)، الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين لابن عساكر الشافعي(5)، المستدرك للحاكم النيشابوري(6)، وغيرها من المصادر الكثيرة.
فمن كان مطهّراً من قبله «تعالى» كيف نجرؤ ونقدّم عليه غيره، وكيف نثق بمعارف من أخذ عن غيرهم علوم دينه وإذا كان لدينا
____________
1- سورة النحل: 44.
2- صحيح مسلم 7: 130، باب فضائل أهل البيت:.
3- سنن الترمذي 5: 361، ما جاء في فضل فاطمة:، و5: 328، كتاب تفسير القرآن.
4- مسند أحمد 18: 314، وأخرجه ابو يعلى الموصلي في مسنده 12: 344، والطبراني في المعجم الكبير 3: 53، وابن عساكر في تاريخ دمشق 13: 203 و14: 141.
5- الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين: 106.
6- المستدرك على الصحيحين 3: 147.
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(1) فهل هناك في الأمّة أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون غير أهل البيت (عليهم السلام) وقد تسأل ومن الإمام بعدهم (عليهم السلام) إلى زمننا هذا؟
والجواب: أنّ القرآن أوضح لنا القائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه لابدّ أن يكون كاملا مطلقاً، ولمّا كان هذا البيت أطهر بيت وجب أن يكون باقي الأئمّة (عليهم السلام) منه، وقد دلّنا على ذلك قول المطهّرين (عليهم السلام) فلمّا ثبت أنّ الخمسة هم المطهّرون وجب اتّباعهم وتصديقهم في كلّ ما يقولونه، وقد بيّنوا لنا الأئمّة من بعدهم، فوجب تصديقهم، فكان كلّ إمام ينصّ على من يليه، ولتأكيد الحجّة كان للإمام الكرامة والآية التي تثبت دعواه الإمامة، وكان ذلك كاف بحدّ ذاته لإمامته بلا نصّ. وغير ذلك، فلم يثبت أنّ واحداً منهم تعلّم على يد أحد، بل هم الأعلم دونهم، ولم يكن لأحد فيهم مغمز ولا مهمز، وكان فضلهم عميماً على الكلّ بلا استثناء، وقد صرّح المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمائهم في أكثر من مقام، بل صرّح صلوات الله عليه وآله بألقابهم أيضاً.
____________
1- سورة يوسف: 106.
رواية هامّة في المقام
في البدء نورد الرواية المعروفة والمشهورة لدى كلا الفريقين: أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، وهي المعروفة بحديث الثقلين، ونصّه كما في صحيح مسلم (ت261هـ) «وأنا تارك فيكم الثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»(1).
وجاء في مستدرك الحاكم بما نصّه:... عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه)، قال: لمّا رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع، ونزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقممن، فقال: «كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض» ثمّ قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن» ثمّ أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: «من كنت وليّه فهذا وليّه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» ثمّ قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم
____________
1- صحيح مسلم 4: 1873، باب فضائل علي (عليه السلام).
وفي المستدرك أيضاً «... عن أبي الطفيل، عن ابن واثلة أنّه سمع زيد بن أرقم (رضي الله عنه) يقول: ثمّ نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين مكّة والمدينة، عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثمّ راح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشيّة فصلّى، ثمّ قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذكّر ووعظ، فقال ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي» ثمّ قال: «أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» ثلاث مرّات، قالوا: نعم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه» وحديث بريدة الأسلمي صحيح على شرط الشيخين»(2).
وجاء في مسند أحمد (ت241هـ) بهذا النصّ «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله وأهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا على الحوض جميعاً»(3).
وفي سنن الترمذي (ت279هـ) ما لفظه:
____________
1- المستدرك على الصحيحين 3: 109.
2- المستدرك على الصحيحين 3: 110، وانظر تاريخ مدينة دمشق 42: 216.
3- مسند أحمد بن حنبل 5: 189.
فهذا الحديث المبارك من أهمّ الأحاديث التي تثبت أحقّيّة أهل البيت (عليهم السلام) بالمرجعيّة المطلقة، وأنّهم (صلوات الله عليهم) أجدر من غيرهم بحمل أعباء الإمامة، وهي العهد الإلهي لأبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله السلام وذرّيّته المحسنة من بعده. ونستطيع أن نستنتج منه عدّة أمور:
الأوّل: أنّ أهل البيت هم عدل القرآن الحكيم، ومعنى ذلك أنّ أهل البيت معصومون كعصمة الكتاب الكريم، وأنّ عندهم تبيان كلّ شيء، وأنّ الرادّ عليهم كالرادّ على القرآن، حيث إنّنا مأمورون باتّباعهما، ولا يمكن أن نؤمر باتّباع من قد تصدر منه المعصية، أو من قد يجانبه الصواب في جزئيّة من جزئيّات المعرفة، فكما لا يتصوّر ذلك في القرآن الكريم فكذلك في العترة الطاهرة.
الثاني: أنّ العصمة من الضلال إنّما هي مشروطة بالتمسّك بالكتاب الحكيم وأهل البيت (عليهم السلام). فالتمسّك بأحدهما وإلغاء الآخر.
الثالث: كما أنّ القرآن الكريم باق ما بقي البشر، حجّة على العباد، ونوراً لهم في الظلمات، كذلك أهل البيت (عليهم السلام) ولن يأت زمان
____________
1- سنن الترمذي 5: 329.
الرابع: أنّ تعيينهم من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يوجب اختلافاً على معرفتهم ـ واجب، فثبت أنّه عيّنهم وعرّفهم لنا من بعده إلى قيام الساعة.
ولم يعيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ اثني عشر خليفة بعده، ليس فيهم زيادة ولا نقصان، فوجب اتّباعهم.
سؤالان حول مفهوم الحديث الأوّل:
قال صاحبي: إنّك ذكرت حديث الثقلين بشكل لم آلفه، والذي ألفته وسمعته كثيراً هو «تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبداً: كتاب الله وسنّتي» وهو مشهور شهرة عظيمة؟
ثم قال: هذا السؤال الأوّل أمّا الثاني فبعد إجابتك.
فقلت: ربّ مشهور لا أصل له، وما شهرته إلاّ بين العامة من الناس فحسب، وأمّا العلماء فيعلمون أنّه حديث يبعد إمكان الاعتماد عليه ثمّ إنّ هذا الحديث ساقط علمياً ; لأنّ فيه من الرواة من قدح فيه بأسوأ أنواع القدح، وهم:
1 ـ إسماعيل أبي أويس، الذي قال عنه علماء الرجال: «هو وأبوه يسرقان الحديث» و «كذّاب» و «ضعيف» وغيرها من العبارات صريحة الذمّ والجرح(1).
____________
1- انظر ميزان الاعتدال 1: 222.
3 ـ صالح بن موسى الطلحي، الذي قالوا عنه: «ليس بشيء» و «لا يكتب حديثه» و «عامّة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد» و «منكر الحديث» و «ضعيف» و «متروك» وغيرها من العبارات(2).
4 ـ كثير بن عبد الله بن عمرو، وقالوا فيه: «ليس بثقة» و «ركن من أركان الكذب» و «متروك» وغيرها من العبارات الذامّة(3) يجدها المراجع في كتب الرجال.
فهل بعد ما ذكر في ترجمتهم نركن لرواية عنهم، بل ونعتمدها كمصدر نستقي منه ديننا؟!
والمفارقة العجيبة أنّ هذه الرواية الساقطة علمياً باعتراف علماء الرجال، والتي لم يخلو سندها من مقدوح فيهم(4) تشتهر تلك الشهرة
____________
1- انظر ميزان الاعتدال 2: 255، تاريخ الإسلام 11: 163، تهذيب التهذيب 4: 260.
2- انظر ميزان الاعتدال 2: 301، تاريخ الإسلام 12: 188 تلخيص الحبير لابن حجر 5: 560، تهذيب التهذيب 4: 355.
3- انظر ميزان الاعتدال 3: 406، تاريخ الإسلام 10: 409، تهذيب التهذيب 8: 377.
4- نعم حاول البعض جاهداً إثبات اعتبار هذا الحديث ضاربا ببعض القواعد الرجالية عرض الجدار.
ولنرجع إلى تعيين الأئمّة، فلقد صرّح أصحاب المباهلة والكساء (عليهم السلام) بعددهم تارة، وهو إثنا عشر، وبأسمائهم تارة، وبأسمائهم وأسماء أمّهاتهم وألقابهم تارة أخرى، فوجب التسليم لهم فيما قالوه، وفيما أمروا به ونهوا عنه، هذا مع أنّهم قد ذكروا ضمناً في آية التطهير، فالمقصود من أهل البيت: أهل بيت النبوّة، وهم المعصومون الأربعة عشر.
فقال صاحبي: ولكن ما ذكرته لا يساعد عليه مورد السياق ; إذ الآيات السابقة واللاحقة لآية التطهير تتحدّث عن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلماذا لا يمكن أن يكون هن التطهير من هذه الآية الكريمة؟ وهذا هو السؤال الثاني.
فقلت:كان متوقعاً ما ذكرت ; لأنّه لا يمكن أن يغفل طالب الحق مثل هذا الاحتمال، خاصّة مع ظهوره في مورد السياق كما ذكرت، لكن هذا الظهور يضمحل بأدنى تأمّل لمن كان تالياً للقرآن الكريم، ومطالعاً لصدر التاريخ الإسلامي، وملمّاً ولو ببدايات علم النحو فنقول:
أوّلا: المطالع لسورة التحريم من أوّلها إلى الآية الخامسة منها مع
قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}(3) وهذا تصريح آخر واضح بارتكابهما المعصية {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي مالت وعدلت عن الحق، وأنت تلاحظ
____________
1- صحيح البخاري 6: 167.
2- سورة التحريم: 3.
3- سورة التحريم: 4.