مقدمة المؤلف
إلى كل مسلم أسكن في لبه وازع الخير، فتذكر فإذا هو مبصر" وما يذكر إلا أولوا الألباب".
إلى كل من ضم بين جوانحه المضغة الصالحة التي تألف الخير وتسكن إليه، والتي أشار إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " ألا وإن في الجسد لمضغة، إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله".
إلى كل أولئك الذين تملكتهم أحاسيس الرحمة، وأخذت بمجامع قلوبهم مشاعر اللطف، فانبروا إلى خالقهم مجردين من ملكات الاستكبار، ودواعي التطاول على الحضرة القدسية، يريدون وجهه وركنه وعروته وحبله المتين.
إلى الذين لم يشربوا عباداتهم بترانيم النفس الأمارة بالسوء، ولم يقترفوا وهم في سعيهم نحو المعرفة سيئة الاستعلاء، قد وطنوا أنفسهم في طريق الهجرة إلى الله، على محاربة النفس لا محاربة الناس، وفاضت أرواحهم على الناس خدمة وتواضعا.
إلى الذين نسوا أنفسهم في جنب الله، وحسبوا له حسابا ولم يحسبوا لها حسابا، فقربهم وأدناهم وباركهم.
إلى عشاق الحقوق المهضومة، والمتيمون بحب المستضعفين.
إلى أعداء الاستكبار أينما كان وحيثما كان، وكيفما كان.
إلى الذين" إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
إلى كل الذين أدبوا أنفسهم قبل تأديب غيرهم، وجهزوا أمتعتهم لسفر طويل وشاق لا مفر منه، وهم يحملون على أكف الضراعة الثقة التامة بالله تعالى.
إلى كل الذين لم تراودهم عقلية التطاول على الخلق، والوصاية على الدين.
إليكم جميعا إخوتي وأخواتي في الله تعالى، أضع بين أيدي الجميع هذه البينات، لعلها تكون أثرا موصلا إلى الهداية، ودافعا قويا للبحث عن سبيل الولاية، لأنه السبيل والوحيد والسراط الرشيد، لإدراك حقيقة الدين كما أنزل على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
أملي الأخير في أن تعي الشعوب الإسلامية ما يحاك ضدها، ويعمل من أجل بقائها مشتتة ضعيفة، وأن تعمل بواسطة طلائعها المؤمنة، من أجل يوم تكون فيه كلمة واحدة، وأمة واحدة، وحكومة إلهية واحدة، ولن يكون ذلك إلا بالبحث عن تفاصيل هذا الدين العظيم، وسط ركام كبير اختلط فيه الحابل بالنابل، والغث بالسمين، والسقيم بالسليم، والله ولي التوفيق.
تقديم:
تشكو المجتمعات الإسلامية عموما من نقيصة سيئة ظلت ترافقها منذ زمن طويل
وهي شدة اهتمامها بالمحسوسات، وإهمالها للغيبيات، وبمعنى أدق انجذابها للدنيا وتباعدها عن دينها.
ففي أكثر نواحي حياة أفرادها نجدهم يولون اهتماما مفرطا إلى البهرج والزينة، يتحسسون فيهما أنجح الصفقات، وأقوم المكسب، وأجود المتاع وألذ المأكل، قد يقضي هؤلاء أكثر أوقاتهم من أجل تحصيل شيء زائل، وفي كسب مطلب لا يستحق كل ذلك الجهد والاهتمام والوقت، لكنك إذا التفت إلى علاقاتهم بدينهم وأسباب بلوغ رضوان الله تعالى في الآخرة، لا تجد منهم نفس الاهتمام والرغبة واللهفة والجهد، بل لا تكاد تجد شيئا من ذلك كله عند أكثر أفراد الأمة ولا دليل أسوقه هنا أوضح من إنصراف أكثر الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب في صلاة الجمعة، ليجتمعوا بدحية الكلبي وما أتى به معه من تجارة.
ولئن عبرت تلك الحادثة عن سطحية عقيدة المنفضين عن الله تعالى، إلا أنها في نفس الوقت أشارت إلى أن الدنيا يبقى لها أثر لا ينمحي من أكثر النفوس حتى ولو كانت متصلة بأفضل الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
ويبقى عامل الدنيا هو المؤثر في عموم الناس، ولكن يمكن تغييره ليكون في صالح الدين.....
وهي قلة المطالعة، وانصراف همة أفرادها عن تحصيل المعلومة، إلى درجة الاتكال على الغير في أخذها وتلقفها.
وهذه الظاهرة ليست وليدة العصر الحديث بقدر ما هي قديمة قدم مؤسسيها من القصاصين والوعاظ والرواة، من يهود قربتهم الأنظمة آنذاك ووسعت لهم في مجالسهم ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام، الذين وجدوا أمامهم مجالا لتمرير أفكارهم المسمومة وعقائدهم المحرفة، ولولا حزب النفاق الذي كان المؤسس الأول لوظيفة القاص، لما كان لهؤلاء وجود داخل منظومتنا الخاتمة، ولا كان لهم أثر سلبي على جانب من الروايات التي تمس بجوهر الدين وعقيدته، ولئن كان الوضع الاجتماعي والعلمي للأمة في ذلك الوقت دافعا إلى تلك النتيجة، بحكم قلة الكتب، وانعدام توفرها، وتعسر وصول طالبي العلم إليها، لأنها نسخ معدودة بعدد أصحابها، الأمر الذي أوجد في أفراد الأمة عقلية التواكل، والعزوف عن تحصيل المعلومة لضنين مواردها، وفسح المجال من جهة أخرى إلى الطغاة والظالمين ليمرروا سياساتهم الهدامة، وأفكارهم المريضة إلى عقول الأمة بعناوين إسلامية.
وعوض أن يتفطن الناس إلى ما دبر لهم من تظليل وتجهيل، إلتفوا حول أولئك الذين اشتروا آخرتهم بدنيا زائلة لا محالة، فأعطوهم نوافذ عقولهم وأفئدتهم، وأصغوا إليهم بجوارحهم إصغاء الأبله المريض، بينما كان القصاصون من الجهة المقابلة يدسون السم في الدسم، وينشرون ما يقوي الظالمين، ويشد أزر سلطانهم، فلم ينتبه إلى الحق إلا القليل، ومضي الأمر على ذلك النسق زمن طويلا، تربت فيه الأجيال على ثقافة مشوشة بالكذب والبهتان والزور، وجاء عصر التدوين فكتب حق وباطل وأثبت بعد ذلك، ثم وصف بالصحة، ونودي عليه بالسلامة والنقاوة، وسمي سنة نبوية، ولو علم الناس انقطاعه عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخذوه وعملوا به.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أستحضر مقالة للإمام علي عليه السلام، تحدث فيها عن أصناف رواة السنة النبوية المطهرة، استكمالا للفائدة المرجوة من وراء ذلك إذ يقول عليه السلام:
إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده حتى قام خطيبا فقال: " من كذب علي - متعمدا- فليتبوأ مقعده من النار.
" وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، سمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله بالمنفقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده عليه وآله السلام، فتقبروا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهو أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمد كذبا فهو في يديه يرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوا منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا يأمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم الناس إذ سمعوه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفا من الله، وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه..." نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده ج 2 ص 188/190
لقد كان للعامل السياسي في تفشي ظاهرة الكذب في دين الله تعالى الأثر الأكبر، مضافا إلى ذلك الإجراء الظالم في منع تدوين الأحاديث النبوية، والذي استمر أكثر من قرن نيف، حتى إجازة التدوين التي صدرت من عمر بن عبد العزيز، وبوشر العمل بها بعده كانت مقيدة ومخصوصة، بحيث لم تشمل جميع من له صلة بالرواية والفقه، وإنما تعلق الأمر بالمقربين من البلاط الأموي، بينما أقصي غيرهم باعتبارهم مناوئين للسلطة.
وإذا نحن استعرضنا من جانب آخر تشجيع الأمويين، وعلى رأسهم مؤسس سلطانهم معاوية بن أبي سفيان الطليق، بعض الصحابة كأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وإغرائهم بالأموال والأعمال، للكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، في عصر ما زال التدوين فيه بعيدا عن الحصول، تكونت لدينا فكرة ثابتة وصحيحة، عن الظروف والأوضاع التي مرت بها السنة النبوية التي هي بين أيدينا الآن، أخص بالذكر منها ما هو متعلق بما يسمى بالصحاح والمسانيد، وبقية الكتب الروائية عند بني مذهبي الذين كنت منهم.
وعلى ذلك حصل لدينا يقين بأن الله تعالى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، لا يمكنه أن لا يكون إلا حكيما دائما، ومكملا دائما، ومتما دائما ومحسنا دائما، فقد جعل لمسألة حفظ دينه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مستحفظا يذب عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو الإمام المبين، ومن عنده علم الكتاب، باب مدينة علم الرسول صلى الله عليه وآله والهادي إلى سبيل الله تعالى من بعده، وثقل القرآن وعدله، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي لو تأملت سيرته، بما فيها من تضحيات في سبيل الحق، وبذل للمهجة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونوره المبين، وتتبعت كلامه الذي قال عنه جهابذة اللغة، وأرباب البلاغة أنه دون كلام الله تعالى وفوق كلام البشر، واستقصيت دعاءه الذي لم يشهد له الناقلون مثيلا من حيث العمق المعنوي، والقوة البلاغية، والتناسق الفكري، والبناء العقائدي، ونظرت إلى من كان حوله من أصحابه وأتباعه، والتفت إلى من ناوئه وظلمه وحاربه وهضم حقه، تأكدت أن الحق أبلج كالنور، وأعلى كالقمم الشماء، فليس بعد الحق إلا الضلال المبين.
إن الإسلام دين خاتم جاء ليصحح ما حرف من رسالات سابقة، وليقوم اعوجاج مسار البشرية، ويوجهها جميع إلى التوحيد الخالص الذي لا شرك فيه، وأعني بذلك فصل الدين عن الحياة، واعتبار أن الدين شيء والسياسة شيء آخر.
لقد شرع المولى تعالى دينه الخاتم ليشكل به خلاصة الرسالات السابقة، فهو مجموعة من الأحكام التي تتعلق بعلاقة الفرد مع خالقه ومع غيره من البشر والكائنات، وهذه المنظومة تحتاج لاستمرارها إلى أداة تنفيذ وحفظ تكون من جنس التشريع، والقول بغير هذا كلام غير مبني على أساس، ولا يستند على دليل منطقي.
نقطة الخلاف الأساسي بين المسلمين اليوم، بصرف النظر عن بعض الخلافات في التوحيد والنبوة، هي نظام الحكم في الإسلام، علينا أن نبحث بما توفر لدينا من نصوص عن أصحاب الرأي الأصح، والحجة الأقوى لنكون معهم يدا واحدة بها يتجدد الدين ويقوم أساسه الأول وهو الإمامة.
عليك أيها المسلم الرشيد أن تعيد حساباتك جيدا، وتبحث بين ذلك الركام الذي وصلنا عبر قرون طويلة استطال فيها الظلم والبغي، حتى اصبح دينا يتعبد به الناس، فتخير سبيل الرشاد، وانظر لنفسك من ستقدم، يوم يدعو الله تعالى كل أناس بإمامهم، واسأل الله تعالى العون على ذلك، مخلصا له في كل حركة تقوم بها، وتأكد أنه لن يتركك سدى.