الإهداء

إلى آدم صفوة الله، وإلى نوح نبي الله، وإلى إبراهيم خليل الله، وإلى موسى كليم الله، وإلى عيسى روح الله، وإلى محمد حبيب الله، إلى الذرية الطاهرة التي بعضها من بعض، إلى المختارين من قبل الله عزّ وجلّ في كل مكان وزمان، إلى البقية الباقية من الذرية الطاهرة، وأتباعهم المخلصين لهم المُسلّمين لهم تسليماً، أهدي هذا الجهد المتواضع؛ ليكون ذلك لي شهادة عندهم يوم القيامة، بأني بهم مؤمن، ولهم مسلّم ولأمرهم متّبع، وأني حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم، أسأل الله عزّ وجلّ أن يتقبل ذلك مني بأحسن القبول، إنه على كل شيء قدير.


يحيى     


الصفحة 8

الصفحة 9

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين.

أمّا بعد.

إنّ كل ظاهرة ظهرت في هذا الكون سلبية كانت، أم إيجابية لابدّ أن يكون لها علّة أو سبب أوجدها في الخارج.

وكلّ من أراد أن يقدّم علاجاً لظاهرة سلبية، لا بدَّ له من معرفة أسبابها، وجذورها وعلَلِها الأساسية التي أوجدتها، كي يتسنّى له معالجة تلك الظاهرة السلبية معالجةً صحيحة وكاملةً.

ويتّضح ذلك عندما نشاهد الطبيب الماهر، وهو يعالج مريضه، فهو لا يبادر إلى معالجة العوارض الخارجية للمرض من قبيل اصفرار الوجه، أو ارتفاع درجة الحرارة، بل يتخذ تلك العوارض الظاهرية وسيلة لاكتشاف المرض المصاب به ذلك المريض، وعند اكتشاف ذلك الطبيب لذلك المرض بصورة صحيحة وكاملة، عندها

الصفحة 10
يستطيع تقديم العلاج الكامل، والشافي للمريض، ويستطيع أن يزيل المرض، وكل عوارضه عن المريض.

وهذه المسألة متسالمٌ عليها بين العقلاء؛ إذ لا يمكن معالجة أيّ ظاهرة سلبية قبل تحديد هويتها، و معرفة جذورها، وعللها وأسبابها، ومصدر نشوئها.

كذلك القاضي الحاذق حينما تقدم له قضية معيّنة، فهو يحاول أن يكتشف من خلال ما يسمعه من الدعاوى، السرّ الكامن وراء ذلك الاختلاف، وما هو المحور الحقيقي الذي يدور حوله النزاع، وتقوم عليه رحى الاختلاف، حتى يتسنّى له معرفة الحق وإنصاف المظلوم.

وهذا الكتاب يكشف للقارئ السرّ الكامن وراء الاختلاف بين الفرق، وباكتشاف السرّ الكامن وراء الاختلاف، والتفرق يمكن للباحث معرفة الحقيقة بسرعة، ويمكن أيضاً للامة معالجة هذه المشكلة الخطيرة، وهي ظاهرة الاختلاف، والتفرّق والتمزّق، التي أنهكت المسلمين وطعنتهم من الداخل، وجعلتهم من أضعف الأمم في مواجهة أعدائهم، وأدّت إلى انحراف الملايين من شباب الإسلام، وعدم إقبال الملايين على الإسلام، هذه الظاهرة الخطيرة، التي لو كُتب عن سلبياتها وأضرارها المجلدات، لَمَا تيسّر حصرها، وقد حذّّر القرآن الكريم منها، ونهى عنها، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا

الصفحة 11
وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(1) الآية، والقرآن الكريم لم ينه عنها فحسب، بل بيَّن سلبياتها وأضرارها كقوله تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(2)، وأشار إلى خطورتها، فقال: {... أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ...}(3) الآية، وهذه الآية الكريمة تشير إلى أنّ الله عزّ وجلّ جعل التفرّق، والاختلاف نوعاً من أنواع عذابه، وكذلك كشف القرآن الكريم سرّ الاختلاف، والتفرق ولم يتوقف عند العوارض الظاهرية لذلك المرض؛ حيث يقول: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}(4)، وهناك آيات كثيرة تكشف لنا سرّ هذا المرض، وتبيّنه بصورة واضحة، وتعرض لنا العلاج؛ إما من خلال سرد القصص، أو غير ذلك.


يحيى طالب الشريف 
ربيع الثاني /1425هـ

____________

(1) آل عمران: 103.

(2) الأنفال: 46.

(3) الأنعام: 65.

(4) المدّثر: 49، 50، 51، 52.


الصفحة 12

الصفحة 13

جذور الاختلاف


إنّ كثرة الاختلافات العقائدية، وكثرة المسائل المختلف عليها بين الطوائف والمذاهب الإسلامية ; أصبحت اليوم من أكبر العقبات، التي تواجه الشاب المتديّن الذي يريد أن يكون خادماً لدينه وعقيدته.

فهو يرى أنّ المسائل المختلف عليها قد كثرت بشكل غريب! بحيث يصعب عليه في بعض الأوقات ذكر وحصر عناوينها، فضلاً عن مناقشتها وبحثها، وحلّ الشبه التي طرحت حولها قديماً وحديثاً ; خاصة، ونحن نعيش في عصر تكاثرت فيه الأعمال والأشغال، وكما يسمّونه عصر السرعة.

لذا لابدّ من كشف السرّ الكامن وراء هذا الضباب الذي يحول بين الحق وطالبيه، ومن أجل ذلك نريد أن نبحث في هذه الأسطر حول هذا السؤال:

هل تفرّق المسلمون من أجل الاختلافات العقائدية، أم اختلفوا عقائدياً من أجل شيءٍ آخر، وجدت الاختلافات العقائدية على إثره؟


الصفحة 14
من يتأمّل قليلاً، وينظر إلى التاريخ بدقّة، سيجد الأمر واضحاً جداً، فالرسول (صلّى الله عليه وآله) ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، والصحابة لم يكن بينهم أي اختلاف عقائدي، إذن فما هو السبب الذي أدّى إلى الاختلاف فيما بينهم؟!!

ومن يقول إنّهم ـ أي الصحابة ـ لم يختلفوا، فهو إمّا جاهل، لم يطّلع على تاريخ الإسلام، أو معاند لا يزيده العلم إلاّ جهلاً.

فمن الواضح أنّ الاختلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة، ثم تطوّر إلى حدّ كبير؛ حتى نفي وطرد بعض الصحابة، كما حصل لأبي ذر، وقتل الخليفة الثالث، وقامت حرب الجمل، وصفين والنهروان، وغير ذلك.

فالاختلاف كان موجوداً بينهم، وثبوته واضح، وهو من بديهيات التاريخ.

وكما قلنا إنّ تفرّق الصحابة لم يكن من أجل الاختلافات العقائدية المطروحة، كما نراها اليوم، بل هناك أمر خفيٌّ وخطير، لم يلتفت له إلاّ القليل.

وهذا ما سنوضّحه في الأبحاث القادمة من هذا الكتاب بإذن الله عزّ وجلّ.


الصفحة 15

سر الاختلاف والافتراق


وقبل أن أذكر ذلك السرّ الخطير، أضيف أيضاً، أنّ هذا السرّ لم يكن هو السبب في اختلاف، وتفرّق المسلمين فحسب، بل كان هو السبب في اختلاف، وتفرّق الأمم السابقة أيضاً، وهو السبب الذي جعل قريشاً تحارب الرسول (صلّى الله عليه وآله) بكلّ ما أُوتيت من قوة، وكذلك كان هو السبب الذي جعل اليهود يحاربون الإسلام، ويواجهونه ويلجأون إلى تحريف كتبهم، ونبذها وراء ظهورهم.

وأمّا ذلك السرّ الخطير فهو: (تكبر إبليس ومن سار على نهجه من الكفار واليهود وأكابر المجرمين، وعدم خضوعهم، وتسليمهم للمختارين للاستخلاف في هذه الأرض من قبل الله عزّ وجلّ، فإن أولئك الأبالسة يرون أن الخضوع لأصفياء الله عزّ وجلّ سيسحب من تحتهم البساط، ولن يبقى لهم جاه ولا مقام؛ ولذا حاربوا الصفوة من الخلق تحت كلّ عنوان يقبله الناس).

ومن أجل هذا الأمر قامت الدنيا ولم تقعد، وتفرّقت الأمم وتشتت، وتشكّلت المذاهب وتشعّبت.

وقد يزعم البعض أن هذا الأمر ليس هو السبب فيما جرى بين

الصفحة 16
الأمم، من تفرّق واختلاف؛ لذلك كان لابدّ لنا أن نسرد بعض القصص القرآنية التي وردت فيها آيات تثبت ما نقوله، وتؤكّده وتجعله السبب الرئيس لكلّ نزاع دار بين العباد على وجه الأرض.

وهذا السبب إمّا أن يكون مباشراً، كما جرى بين آدم (عليه السلام) وإبليس ـ لعنـه اللهـ، أو غير مباشر، كما هو النزاع الموجود بين طوائف المسلمين في هذا العصر، فالنزاع الموجود اليوم ناشئ عن الاختلافات العقائدية، والاختلافات العقائدية ناشئة على إثر الاختلافات التي جرت بين الصحابة، الذين تركهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) على المحجة البيضاء، التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك.


الصفحة 17

آدم (عليه السلام) وإبليس في القرآن


لقد ذكر القرآن الكريم قصة آدم (عليه السلام) وإبليس في مواضع عديدة؛ لتكون تلك القصة عبرة للعالمين، وبالأخص للمسلمين، فِذكْر القرآن الكريم لتلك القصة، كان من أجل أن نعرف كيف نشأ النزاع والاختلاف، ومن أجل أن نعرف أيضاً أسباب التفرّق وجذوره.

إنَّ في تلك القصة دروساً عظيمة جداً، منها على سبيل المثال مسألة الاصطفاء والاختيار، ومنها أيضاً مسألة الخضوع والتسليم للحكم الإلهي ـ وهذا التسليم الذي تمثّل في دور الملائكة ـ ومنها أيضاً مسألة العناد للاختيار، والاصطفاء الإلهي ـ وكان هذا العناد متمثّلاً في دور إبليس لعنه الله ـ ومنها مسألة مظلومية المنتخب والمصطفى وهو آدم (عليه السلام).

ثم إنّ الآيات القرآنية بيّنت لنا سرّ العناد الشيطاني، وقبل أن نشرع في ذكر القصة نريد أن نتعرّف قليلاً على شخصية إبليس قبل الضلال، وما هو دوره قبل خلق آدم (عليه السلام).

إبليس قبل الضلال

لقد ذكر القرآن الكريم إبليس مع الملائكة مراراً كثيرة، وذِكْره له

الصفحة 18
مع الملائكة يدلّ على أنّه كان صاحب مقام كبير عند الله، ومن أجل ذلك المقام رفعه الله سبحانه، وجعله في درجة الملائكة، وكانت تُعرض له مسائل من علم الغيب، وما هو مقدر في المستقبل، وبالتالي كان لإبليس مقام عالٍ جداً عند الله عزّ وجلّ.

وقد ذكرت النصوص أن إبليس كان له مقام عبادي كبير، فقد ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو يصف إبليس ويأمرنا بالاعتبار، قوله (عليه السلام): " فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان عَبَدَ الله ستة آلاف سنة، لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟. كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً. إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد. وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِمًى حرّمه على العالمين"(1).

وهناك نصوص كثيرة تبيّن مقام إبليس قبل الضلال، لسنا في صدد جمعها.

ومما تقدّم تتضح لنا مسألة مهمة جداً: وهي السبب في ضلال كثير من الناس، وذلك أننا حينما نرى عبداً من عباد الله قد قدم

____________

(1) نهج البلاغة: 386، بتعليق صبحي الصالح، دار الأسرة للطباعة والنشر.


الصفحة 19
أعمالاً صالحة كثيرة، نحاول أن نعطيه نوعاً من القداسة؛ بحيث نتصور أنه لا يمكن أن ينحرف عن الصراط المستقيم وهذا تصوّر خاطئ جداً، ولأجل إزالة هذا التصور، ذكرت لنا النصوص القرآنية والحديثية مقام إبليس قبل الانحراف، كي نعتبر ونعرف أنّ مجرد مدح الله سبحانه لبعض خلقه، أو تفضيله لهم لا يعني ذلك أنهم معصومون عن الانحراف، فقد ينحرفون فيما بعد، إلاّ من زكّاه الله ـ تعــالى ـ وعصمه، وذكر لنا ذلك في كتابه، أو بيّنه من خلال ما جاء على لسان رسوله (صلّى الله عليه وآله).

فها هو إبليس خير مثال، قد عبد الله ستـة آلاف سنـة ـ فإذا كانت من سنين الآخرة، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون ـ لم تنفعه عبادته بعد أن خالف الله سبحانه وعصاه، وهؤلاء بنو إسرائيل قد فضّلهم الله على العالمين، ثمّ لمّا انحرفوا ضربت عليهم الذلّة والمسكنة، وباؤوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين.

فيجب أن لا نغترّ بأحد أبداً، ولا نتبع إلاّ من أمرنا الله عزّ وجلّ بالالتزام بأمره، وأوجب علينا اتباعه، وطمأننا من عدم انحرافه كقوله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله...}(1).

____________

(1) آل عمران: 79.


الصفحة 20
فإن اتّباع أولئك الصفوة الذين اصطفاهم الله عزّ وجلّ للقيام بأمره هو الذي سينجينا من الحالة الخطيرة التي ذكرها القرآن الكريم؛ حيث يقول: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله...}(1). ولكن بشرط أن لا نزكّي على الله أحداً.

أسباب انحراف إبليس:

إنّ سبب انحراف إبليس وافتراقه عن الملائكة، هو نفس السبب الذي تفرّقت من أجله الأُمم من بعد ما جاءتهم البينات، ونفسه الذي تفرّق من أجله المسلمون.

فإبليس لم يكن لديه مشاكل عقائدية، ولم ير آدم (عليه السلام) على عقيدة فاسدة!

إذن ما هو السبب الذي جعله يتوعّد آدم (عليه السلام) وذريته كل ذلك التوعّد؟ وما هو السبب الذي جعله يحمل كل ذلك الحقد والكراهية لآدم (عليه السلام) وذريته؟

لقد ذكر القرآن الكريم ذلك السرّ، وذلك السبب، لعلّنا نعتبر، ولا نكرر الخطأ الذي وقع فيه إبليس.

قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ

____________

(1) التوبة: 31.


الصفحة 21
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَّعْنَتي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(1).

من خلال هذه الآيات الكريمات يتّضح لنا سرّ ذلك الشقاق، وأنّه لم تكن بين آدم (عليه السلام) وإبليس أي مشاكل عقائدية، بل إن مشكلة إبليس الوحيدة هي أنّه لم يستطع أن يتحمل الاختيار، والاصطفاء الإلهي لآدم (عليه السلام)، فكان يرى نفسه أولى من جميع المخلوقات بذلك المقام الذي خَصَّ الله سبحانه به آدم (عليه السلام).

وبدلاً من أن يسلّم للأمر الإلهي، استكبر وأبى وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ}، وتوعد آدم (عليه السلام) وذريته بأن يغويهم أجمعين إلاّ المخلصين منهم، وبذل جهده الجهيد في تحقيق هدفه المشؤوم.

ومن هنا يتّضح أنّ أمراً خطيراً جداً ضحّى من أجله إبليس واستعدَّ أن يتحمل العذاب، ويصبح من الملعونين، مع علم إبليس باليوم الآخر؛ حيث طلب من الله عزّ وجلّ أن يمهله إلى يوم يبعثون، وذلك الأمر الخطير هو أنّه كبر على إبليس أن يسلّم لآدم ويسجد له.

وهذا الأمر الذي ضحّى من أجله إبليس مع ما عنده من العلم باليوم الآخر، وما يرى من ملك الله عزّ وجلّ؛ حيث كان بين الملائكة يرى

____________

(1) ص: 75، 76، 77، 78.


الصفحة 22
عظمة الله، وقدرته، ويرى عذابه ونقمته، وكان إبليس ممن كلّمه الله وخاطبه؛ حيث أمره مع الملائكة بالسجود، هذا الأمر هو السبب الذي جعل أكابر المجرمين في كل زمان ومكان يُنازعون أنبياءهم، ويقاتلونهم، وهو نفسه الذي جعل اليهود يحاربون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهو السبب الذي جعل قريشاً تحارب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وتبذل كل ما أوتيت من قوّة لقتله (صلّى الله عليه وآله) أو الإطاحة به (صلّى الله عليه وآله)، وهو السبب الذي جعلهم ـ أي قريشـــاً ـ يسمّون الرسول (صلّى الله عليه وآله) الكذاب والساحر بعدما كانوا يسمّونه الصادق الأمين، وهو السبب الذي جعل أصحاب الرسول يتنازعون ويتقاتلون بعدما تركهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلاّ هالك.

ولنا هنا وقفة تأمل، وهي أنّ إبليس قد وعد أن يغوينا، فهل يا ترى سيخبرنا بما جرى بينه وبين أبينا آدم (عليه السلام) ويذكر لنا علّة عدم تسليمه، وعلّة طرده من رحمة الله، ثم يدعونا لاتّباعه والوقوف معه، ويجعل هذه هي الطريق لإغواء ولد آدم؟! أم أنّه سيأتي من طرق أُخرى؟

ومن الواضح أنّه سيسلك طرقاً أُخرى ليغوي من اتبعه؛ لأنّه لو قال الحقيقة ما تبعه أحد، ولكنه يعدهم ويمنيهم، ويكذب عليهم

الصفحة 23
ويغريهم ويزيّن لهم سوء أعمالهم، بالطبع إن إبليس ومن اتبع خطاه لا يقولون نحن نحارب أولياء الله لأنّ الله فضّلهم علينا، بل إنهم ينسبون إلى أولياء الله ما لا يليق، فكم نسبت قريش إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) من الأكاذيب، وحرّضت الناس عليه، وسنذكر ـ إن شاء الله ـ فيما يلي من الأبحاث نبذة مختصرة من النزاعات التي دارت بين أولياء الله وأعدائه حتّى ينتهي بنا المطاف إلى أمة الإسلام، وقبل ذلك يجب أن نعرف ما هو موقفنا من آدم (عليه السلام) وإبليس، فلابدّ لنا من موقف.

هل نقف موقفاً محايداً ونقول: ليس لنا دخل بين هذين الشخصين العظيمين، كلاهما مجتهد وكلاهما مصيب، ولكلّ منهما أجر؟ أو نقول: إنّ إبليس له المقام العالي فهو الأول والأكثر عبادة؟ أو نقول: آدم وإبليس تنازعا، ولو كانا صالحين ما تنازعا، إذن نتركهما ونتخلى عنهما كلياً؟ أو نقول إنّ آدم هو صفوة الله وخيرته؛ ولذا يجب أن ننصره ونكون من حزبه؟ فما هو الموقف الصحيح؟

أصحاب الموقف الأوّل يقولون: إنّ إبليس وآدم كان لهما المقام العالي والرفيع عندالله، فكيف يصحّ لأمثالنا التدخل، والتمييز بين أولئك الكبار، ونحن مقصّرون ومذنبون، ومهما فعلنا، فلن نصل إلى ما وصلا إليه!

والجواب: إنّ ارتفاع مقام أحد المخلوقات في فترة من الزمن لا

الصفحة 24
يعني أنّه معصوم مطلقاً من كل خطأ وانحراف؛ ولذلك ذكر الله عزّ وجلّ لنا هذه القصّة ـ قـصــة إبـليـس وآدم (عليه السلام) ـ لتــكون لنا درساً، فلا يصحّ أن نعتمد على أحد أبداً إلاّ من أمرنا الله بالاعتماد عليه كالأنبياء، والمرسلين والأولياء المخلصين، المخصوصين من قبل الله عزّ وجلّ بالاتباع.

إذن لا يصحّ أن نكون حياديين، ونتّهم أنفسنا بالنقص؛ لأننا من العالم السفلي وإبليس وآدم (عليه السلام) من العالم العلوي وذلك لسببين أوّلها: أنّ افتراق المقام لا يمنعنا من أن نعرف الحق ونميّزه من الباطل.

ثانياً: أن إبليس بعد الانحراف سقط إلى أسفل سافلين، كذلك كلّ من سلك مسلكه ونازع أولياء الله حقّهم ومقامهم.

ولا يمنعنا أيضاً عن البحث والتحقيق مقولة بعض الهمج الرعاع الذين يقولون: دعنا نصل أوّلاً إلى مقام آدم (عليه السلام) وإبليس، ثم بعد ذلك يحق لنا أن نتكلّم وننتقد، وهذه المقولة باطلة؛ لأنّه سينتج منها الآتي:

1. أنّه لا يصح لمسلم نقد إبليس أو تبيين ضلاله.

2. أنّه لا يصح لمسلم نقد علماء بني إسرائيل؛ حتى يصبح أعلم منهم.

3. أنّ كل مفسد في الأرض إذا ارتقى مراتب العلم، أو وصل إلى

الصفحة 25
مقام عال يجب أن نسكت عنه، حتى نصبح أعلم منه، أو أعلى منه مقاماً، وبهذا ستمتلئ الأرض فساداً، والله لا يحب الفساد.

وأما القول الثاني فهو واضح البطلان؛ وذلك لأن إبليس سقط إلى أسفل سافلين بعد أن أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد بعناده وكبره.

ويجاب على أصحاب المقال الثالث: بأنّ هذا المقال سيؤدّي إلى مخالفة القرآن و العقل.

فأمّا مخالفة القرآن: فقد أمر ـ تعالى ـ أن نصلح بين المتنازعين، فإن بغى أحدهما على الآخر فلنقاتل الباغي، قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله...}(1).

وأمّا مخالفة العقل: فلو قلنا بهذه المقالة، لما حق لنا أن نقول: إنّ دين الإسلام هو الحق؛ لأنّه تنازع مع الأديان والفرق الأُخرى. فهل يعني تنازع شخصين أنّ كلاهما مبطل؟ وهذه مقالة واضحة البطلان.

ولم يتبقَّ إلاّ القول الرابع، والذي هو الحق، فيجب أن نسلّم لصفي الله ونتّبعه ونكون من حزبه، وبحثنا هذا لا يعني بالضرورة

____________

(1) الحجرات: 9.


الصفحة 26
أنّ المسلم متحيّر في قضية آدم (عليه السلام) وإبليس، لأنّ كلّ مسلم متيقّن بضلال إبليس، ولكن نريد من هذا البحث أن نعرف موقفنا من المتنازعين بشكل عام، فمثلاً نعرف موقفنا من النزاع الذي دار بين ابني آدم (عليه السلام)، وموقفنا من النزاع الذي دار بين بني إسرائيل (اليهود)، والحواريين (النصارى)، وكذلك نعرف موقفنا من النزاع الذي دار بين الرسول (صلّى الله عليه وآله)، واليهود والنصارى، ثم نعرف أيضاً موقفنا من النزاع الذي دار بين الصحابة، وهكذا نميّز الحق ونتبعه، ونعرف الباطل وننبذه.


الصفحة 27

أولاد يعقوب (عليه السلام)


قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}(1).

إنّ في القصص القرآنية دروساً عظيمة، وعميقة لو تدبّرناها واستفدنا منها، لقضينا على كثير من مشاكلنا الدينية والدنيوية.

فالقرآن الكريم هنا ـ وبشكل قصة بسيطة يفهمها العامة والخاصة ـ يعالج أخطر مشكلة واجهتها الأمة الإسلامية، بل أخطر مشكلة واجهتها البشرية، وهي مشكلة النزاعات والصراعات التي تضرب الأمم من الداخل، فها هو يذكر لنا قصة يوسف (عليه السلام) وإخوته، ويشرح لنا أحداثها ونتائجها، ويذكر مشاكلها، ثم يكشف أسرار تلك المشاكل، ويبين عللها.

ومن المعلوم أن أولاد يعقوب (عليه السلام) لم يكن لديهم صراع ديني، أي لم تكن بينهم مشاكل عقائدية، ولا اختلافات مذهبية، ولا شيء من هذا القبيل.

فلماذا تنازعوا؟!

وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجده يجيب على سؤالنا، ويكشف

____________

(1) يوسف: 7.


الصفحة 28
لنا سرّ وسبب ذلك النزاع، قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).

هاتان الآيتان الكريمتان تكشف لنا سرّ النزاع الذي دار بين أولاد يعقوب (عليه السلام)، فقد أرشد يعقوب (عليه السلام) ولده العزيز يوسف (عليه السلام) أن لا يقصص رؤياه على إخوته، لأنّهم سوف يكيدون له كيداً شديداً، كما كاد الشيطان لآدم (عليه السلام).

ولكن لماذا يكيدون له ذلك الكيد المذكور في الآية الأولى؟!

تجيب الآية التالية بعدها، وتذكر سبب ذلك الكيد، وهو المقام الإلهي الذي سوف يُعطى ليوسف من قبل الله عزّ وجلّ، فإنّ الله سبحانه سيجتبيه ويعلّمه من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه، كما أتمّها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق، وهذا مقام عظيم يُظلم أولياء الله من أجله دائماً!

أتمنى لو يقرأ كلّ مسلم القرآن الكريم من جديد، ويدقّق ويبحث عن سرّ النزاعات التي دارت بين أولياء الله، وأعدائهم، سيجد أنها

____________

(1) يوسف: 5، 6.