لذلك تجد القرآن الكريم ركّز على مسألة الاصطفاء والاختيار، فإنك تجد آيات كثيرة جداً كلّها تركّز على هذه المسألة، وتدعو الناس للتسليم والخضوع، ولو أردنا ذكر هذه الآيات، لطال بنا المقام، ولكن سنذكر آيات قليلة فيما يلي من البحوث ـ إن شاء الله تعالى ـ.
إنّ في قصة يوسف وإخوته لآيات للسائلين الذين يسألون عن الحق، ويطلبونه، فمن يقرأ قصة يوسف يندهش كثيراً حينما يرى أنّ أبناء نبي الله يعقوب (عليه السلام) وهم الذين تربوا في بيت الوحي، كيف يتصرفون ذلك التصرف الذي لا يليق لبشر يحمل روحاً إنسانية، فضلاً عن روح دينية وإيمانية؟. نعم، إنها مشكلة قد توجب الحيرة، ولكن لاغرو، فقد سبقهم إلى ذلك إبليس الذي كان في مقام عظيم، لأن الحسد والتكبر، وعدم الخضوع للمختار من قبل الله عزّ وجلّ يهوي بصاحبه إلى مكان سحيق، فإخوة يوسف هم أولاد يعقوب بن إسحاق
نعم، إن أولاد يعقوب يعلمون جيداً أن ذلك المقام انتقل من أبيهم إبراهيم (عليه السلام) إلى إسماعيل، ثم إلى إسحاق ثم إلى يعقوب، وبقي الأمر في أولاد يعقوب فمن منهم سيكون هو المرشح لذلك المقام الإلهي العظيم، ولذا أشار يعقوب إلى ولده العزيز يوسف على أنه هو المرشّح لذلك المقام، كما حكى القرآن الكريم ذلك عنه، حيث قال:
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).
ومن يراجع الروايات التاريخية، يرى كيف كانت القصة مؤلمة، وكيف كان يوسف (عليه السلام) يستغيث بهم واحداً واحداً، فلا يجيبه أحد،
____________
(1) يوسف: 6.
جواب هذا نَجده في قوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً }(1).
فهذه الآيات الكريمة شبهت المعاندين تشبيهاً فاضحاً، وذلك لأنّ الحمر المستنفرة تتحرك بدون شعور حركات عجيبة وغريبة، وأما إذا كانت نافرة من أسد، فإنك ترى منها العجب كلّ العجب؛ لأنها تهرب هروباً غير طبيعي، بحيث أنه لو كان أمامها جهنم لاقتحمتها، وهكذا الكثير من الناس! فبمجرد أن يختار الله عزّ وجلّ أحدهم، تقوم قيامتهم، ويتمنون لو وقعت السماء على الأرض، ولا يكون ذلك، ويضحّون بكل شيء، ويفترون على الله ورسوله الكذب، ويقتلون أولياء الله، ويكونون جنداً للشيطان.
كل ذلك احتجاجاً واعتراضاً على الله عزّ وجلّ، لأنّه اختص برحمته من يشاء، وهذا الاحتجاج والاعتراض ليس قولياً ولكنّه عملي، وإنّ هذا لهو الظلم العظيم؛ ذلك لأنّ كلّ إنسان لا يرضى أن يجبره أحد على ما لا يريد، ويعتبر ذلك الإجبار ظلماً عظيماً، فكيف يسعى البعض بعمله معارضاً ما يريده الله عزّ وجلّ، وهو العبد الحقير أليس ذلك هو الظلم العظيم؟
____________
(1) المدّثر: 49، 50، 51، 52.
بنو إسرائيل (اليهود)
لقد ذكر القرآن الكريم قصصاً كثيرة لبني إسرائيل، ومن الواضح أنّ مقصود القرآن الكريم هو دعوة المسلمين إلى الاعتبار بتلك الحوادث التاريخية المهمة.
ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أنّ بني إسرائيل مرّوا بمراحل عديدة، وخطيرة جداً، يجب على كلّ مسلم أن يدرس تلك المراحل بدقّة، ويعرف السبب والسرّ الذي أوصلهم إلى تلك المراحل.
ونحن هنا نقسّم المراحل التي مرّوا بها، حسب ما نص عليه القرآن الكريم إلى أربع مراحل.
1. مرحلة الذلّ والهوان:
قال تعالى: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}(1).
وهناك آيات أُخرى كثيرة بهذا المضمون، شرحت حال بني إسرائيل قبل إرسال موسى (عليه السلام) إليهم، وكيف كانوا في ذلّ وهوان،
____________
(1) البقرة: 49.
ولكن كيف استطاع بنو إسرائيل التخلّص من هذا البلاء العظيم، هذا ما سنذكره في مرحلتهم الثانية.
2. مرحلة الانتصار والتفضيل:
بعد أن جمع فرعون السحرة من كل حدب وصوب؛ ليواجهوا معجزة موسى (عليه السلام)، كما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى: {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(1).
فهؤلاء السحرة مجتمعون لمواجة آية موسى (عليه السلام) (العصا)، ينتظرهم كل النعيم المادي بجميع أشكاله، شريطة أن يقولوا للنّاس إنّ ما عند موسى (عليه السلام) إنّما هو سحر كسحرهم، وينتظرهم كلّ أنواع العذاب، والظلم والقهر إن هم أيّدوا موسى (عليه السلام) وقبلوا قوله بأنّ العصا ليست سحراً، بل هي معجزة من الله وآية منه ـ تعالى ـ.
____________
(1) الأعراف: 111، 112، 113، 114.
فرعون ذلك الكهنوت الظالم، الذي كان الخوف منه يجري في دماء بني إسرائيل، فهم منذ الولادة لم يعرفوا من فرعون إلاّ الظلم، والسحق والقهر، فهو الذي كان يبقر بطون أمهاتهم ويستحيي نساءهم ويقتل رجالهم، ومنذ ولادة موسى (عليه السلام) إلى أن بُعِث نبياً، وفرعون نفسه هو الحاكم لم يمت في هذه المدّة الطويلة، وهذا يدلّ على طول المدة التي حكم فيها، فالسحرة أمام رجلٍ قد خالط الخوف منه لحمهم ودمهم، فماذا سيكون موقفهم يا ترى؟!
لقد وقف السحرة موقفاً تخشع له الأرض والسماء، موقفاً من أشرف وأعظم المواقف التي عرفها التاريخ، كما يحكي القرآن الكريم ذلك حيث يقول: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
هذا الموقف العظيم، هو موقف التسليم لله عزّ وجلّ {َاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} يعني أنّنا سلّمنا وأسلمنا أمرنا لله ـ تعـالى ـ، وهو خيرٌ وأبقى.
نعم هذه المرحلة هي من أشد المراحل، التي واجهها بنو إسرائيل، ولكنّهم بصبرهم وتحمّلهم وجهادهم خرجوا من هذه المرحلة منتصرين فائزين، وهذه المرحلة التي انتصر فيها بنو إسرائيل تسمى (مرحلة التسليم لله تعالى)، ولكن هناك مراحل أخرى تنتظرهم، فلننظر ماذا يفعلون فيها، هل ينتصرون أم يسقطون، كما سقط إبليس ومن سلك مسلكه؟
وقبل أن نذكر المرحلة الثالثة، لابدّ أن نشير إلى أنّ الله عزّ وجلّ، قد مدح بني إسرائيل وفضّلهم على العالمين; كل ذلك من أجل المرحلة الثانية التي تسمى (مرحلة التسليم لله) فقد جاءت آيات كثيرة
____________
(1) طه: 71، 72، 73.
ولقد باء بنو إسرائيل بفضل عظيم، ولكن يا ترى هل يستمر هذا المجد وهذا التفضيل؟ هذا ما نلاحظه في المرحلة الثالثة.
3. مرحلة الانقلاب والانتكاس:
بعد أن فضّل الله بني إسرائيل ـ وذلك بسبب خضوعهم لموسى (عليه السلام) المختار من قبل الله عزّ وجلّ، ابتلاهم الله بنفس ما ابتلى به إبليس وأولاد يعقوب، وغيرهم حيث استمرت الحكمة الإلهية بانتقاء واصطفاء بعض بني إسرائيل على بعض، فقد ورد في الروايات أنّ الله عزّ وجلّ اختار من بني إسرائيل أربعة آلاف نبي، ولكن كما حكى القرآن الكريم عنهم حيث يقول: {... أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(2). إن مشكلتهم هي الاستكبار على المختار من قبل الله عزّ وجلّ، وهذه هي مشكلة أكابر المجرمين في كل زمان ومكان، فإنها كانت مشكلة إبليس، حيث استكبر وأبى أن يسجد لآدم (عليه السلام) وقال أنا خير منه، وهي مشكلة
____________
(1) البقرة: 122.
(2) البقرة: 87.
فبنو إسرائيل بسبب هذه المشكلة سقطوا إلى أسفل سافلين، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب على غضب، ووصف حالهم ـ تعالى ـ حيث يقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}(1).
فيجب على المسلم ان يعتبر ولا يقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من الخطأ الكبير، بل ينبغي عليه الإسراع في التسليم والخضوع للمختارين من قبل الله عزّ وجلّ ولا يستكبر عليهم أبداً، وينبغي عليه أن يصرف كل همّه للبحث، والتعرف على المختارين من قبل الله عزّ وجلّ ويستعين في ذلك بطول الدعاء، وإدامة الإصرار على الله عزّ وجلّ حتى يرشّحه لمقام معرفة المختارين من قبله عزّ وجلّ.
هكذا استمرّ بنو إسرائيل في السقوط، كما سقط إبليس وقابيل وغيرهما من المفسدين، ولكنهم في فترة من الزمان انتبهوا من غفلتهم، وعرفوا سرّ سقوطهم، وهو معارضتهم وعنادهم لخيرة الله
____________
(1) المائدة: 60.
4. مرحلة الانتباه ومعرفة سرّ السقوط:
تنبّه بنو إسرائيل لسرّ سقوطهم وذلّهم وسحقهم، وهو معاندتهم لصفوة الله، وعلموا أنّه لن تقوم لهم قائمة، إذا لم يسلموا لمن يختاره الله ولياً وحاكماً عليهم، لذلك لجأوا إلى نبي لهم، وقالوا ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وهو ما جاء في قصة طالوت (عليه السلام) في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1).
____________
(1) البقرة: 246، 247.
وفي هذه الآيات دروس وعبر ومن جملتها:
1. معرفة بني إسرائيل لسرّ الفلاح، وهو التسليم لمن اختاره الله عزّ وجلّ واجتباه.
2. مع معرفتهم اليقينية بذلك إلاّ أنّهم لمّا اختار الله عزّ وجلّ رجلاً منهم وهو طالوت؛ إذا بهم يعترضون على خيرة الله عزّ وجلّ كما اعترض إبليس، وقابيل وأكابر المجرمين، ومن شاكلهم من أعداء الله المعاندين لاختيار الله عزّ وجلّ في كلّ زمان ومكان، وقالوا: نفس الكلمة الشيطانية {نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} كما قال: إبليس { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} وقالوا: {لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} وقال إبليس: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
وهكذا دائماً يبدأ النزاع والخلاف، ثم يتحوّل إلى فرق ومذاهب، كل حزب بما لديهم فرحون.
ولكن بني إسرائيل كانوا في ظروف صعبة، أجبرتهم على التسليم لولي الله وخيرته طالوت (عليه السلام) ; مع أنّ نبيهم قد بيّن لهم أنّ
3. بما أنّ بني اسرائيل كانوا غير راضين في أوّل الأمر بولاية طالوت، أراد الله عزّ وجلّ امتحان إيمانهم فابتلاهم ببلاء عظيم، وهو النهر الذي منعهم عن الشرب منه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ}(1).
هكذا ابتلاهم الله على يد وليّه؛ ليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين، ولم يبقَ مع طالوت إلاّ الذين أخلصوا وسلّموا تسليماً، وأكثر من ثبت معه هم أهل الآخرة، الذين يعلمون، ويوقنون أنّهم ملاقوا الله عزّ وجلّ والذين جاؤوا من أجل نيل الشهادة.
هذه الآيات الكريمة تعلمنا دروساً عظيمة نحتاج إليها كثيراً في هذه الحياة، فمنها أن طالوت مع كونه غير نبي حرّم على أتباعه ما أحلّ لهم موسى، وجميع من سبقه من الأنبياء، وهو الماء، بل الأعجب
____________
(1) البقرة: 249.
فلنعتبر ممّا حدث لبني إسرائيل، وإلاّ نزع الله منّا شرف الإسلام، والدين الحق إلى يوم القيامة، فالله عزّ وجلّ ليس بينه، وبين أحد هوادة.
موقف بني إسرائيل من نبي الإسلام
لقد بشّر الله عزّ وجلّ على لسان أنبيائه في الكتب السماوية السابقة، بمبعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، لذلك كان أعرف الناس به (صلّى الله عليه وآله) هم أهل الكتاب الذين كانوا يهيئون أنفسهم لاستقباله ويبشرون الناس بمقدمه (صلّى الله عليه وآله)، ولمّا اختاره الله من العرب ومن ذرية إسماعيل (عليه السلام) بالخصوص، وكان اليهود يتوقعون أن يكون منهم، أي من ذرية إسحاق تغيّر كلّ شيء.
ماذا حدث؟ وماذا فعل اليهود يا ترى؟
هذا ما أجاب عنه القرآن الكريم حيث بيّن أنهم (أي اليهود) بدلاً من أن يكونوا خير أنصار وأعوان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كانوا أشدّ الناس له عداوة، وبذلوا كلّ ما في وسعهم من أجل قتله (صلّى الله عليه وآله)، أو تفريق أنصاره عنه، ومن يطالع التاريخ يجد أنّ أكثر من حارب الرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد قريش، هم اليهود وهم أشد عداوة من غيرهم كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}(1).
____________
(1) المائدة: 82.
هكذا حارب اليهود الإسلام، وكم وكم من أمثلة تؤكد هذا الحقد اليهودي وتفضحه، فكل من لديه أدنى مطالعة للتّاريخ، يعرف جيداً ماذا صنع اليهود وكيف بذلوا الغالي والنفيس من أجل الإطاحة برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحتى بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله)! وإلى يومنا هذا، ونحن نرى هذا الحقد اليهودي، يتجلّى كل يوم في ثوب جديد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا كل هذا الحقد والحرب ضد الإسلام ونبيّه؟
____________
(1) آل عمران: 72.
فهل هذا هو السبب الواقعي لحرب اليهود للإسلام يا ترى؟
مع ملاحظة أن هذا ما يتعلل به اليهود.!
القرآن الكريم لا يقبل هذا التعلل، بل كشف النقاب عن أسباب هذه الحرب الظالمة، حيث بيّن أن مشكلتهم، هي نفس مشكلة إمامهم إبليس، وهي أيضاً مشكلة أكابر المجرمين في كل مكان وزمان، حيث بيّن القرآن الكريم أنّ المشكلة ليست بسبب اختلاف الفقه الإسلامي مع الفقه اليهودي، وليست بسبب اختلاف بعض العقائد اليهودية مع العقائد الإسلامية، إنما المشكلة هي: (عدم الرضى والتسليم للاختيار الإلهي)؛ لذلك لمّا أراد اليهود طرح بعض المسائل العقائدية، ليحتجوا على الرسول (صلّى الله عليه وآله) ويقولوا له مثلاً: أنت لم تأت بما يوافق عقائدنا، أجاب الله على لسان نبيه جواباً قاطعاً للشك والريب، وبيّن أنّ هذه العلة إنّما هي محاولة فاشلة للتهرب من السبب الواقعي الذي حارب اليهود الإسلام من أجله.
انظر أخي القارئ كيف احتج عليهم القرآن الكريم، احتجاجاً قاطعاً لا يترك لهم عذراً، فما دمتم ـ أي اليهود ـ قد قتلتم الأنبياء من قبل ـ أي من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ـ مع أنهم جاؤوكم بالبينات وبالذي قلتم، ـ أي بالقربان الذي تأكله النار ـ، إذن أنتم كاذبون في ادّعائكم، بل مغالطون تريدون أن تحرفوا المسألة وتجعلوا السبب في محاربتكم للإسلام هو مذهبكم وعقائدكم، ولكن هذا كذب، فلو كنتم صادقين في هذا الادعاء، لما فعلتم بأنبياء الله ما فعلتم.
إذن هناك سبب آخر يوضّحه الله عزّ وجلّ في آيات كثيرة في كتابه الكريم، نذكر منها الجزء القليل والباقي نتركه للمتتبع لكتاب الله عزّ وجلّ حتى يكتشف هو أكثر فأكثر، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا
____________
(1) آل عمران: 183.
هكذا بيّن القرآن الكريم سرّ عناد اليهود وحربهم للإسلام، نعم، إنّه سرّ الخلافات والنزاعات وأساسها وسبب تفرّق الأمم والمذاهب، وهو عدم التسليم لمن اختارهم الله عزّ وجلّ عناداً واعتراضاً، وليس هو اختلاف الآراء الفقهية والعقائدية والمذهبية، بل إن رأس الفتنة، هو منازعة المختارين، الذين اختارهم الله واصطفاهم وعدم التواضع والتسليم لهم.
وما من أحد يقول حينما يختار الله عزّ وجلّ غيره أنا أحاربه لأنّ الله اختاره واصطفاه، فهو يعلم ـ إن قال مثل هذا الكلام ـ أنّ الناس لا يقبلونه، وسيحاربونه، وسينصرون المختار من قبل الله عزّ وجلّ، ولذا يضطر المعاند للاختيار الإلهي إلى اختلاق الأعذار المذهبية والدينية كما فعل اليهود، حيث كانوا يقولون عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إن هذا الرجل يخالف عقائدنا، هو يقول كذا ونحن نقول كذا، وهكذا يبررون لأنفسهم سوء عملهم، ويخدعون عامة الناس تحت ستار حماية الدين والعقيدة.
____________
(1) البقرة: 89، 90.
قال الآلوسي في روح المعاني في ذكره الضمير في يعرفونه قال: ((وضمير (يعرفونه) لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإنْ لم يسبق ذكره ذكر الرسول (صلّى الله عليه وآله)، لدلالة قوله تعالى: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة ـ الأبناء ـ دليل على أنّه المراد))(2).
فاليهود كانوا يعرفون الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما يعرفون أبناءَهم، وكما قالت الآيات التي كنّا بصددها، حيث بيّنت أنّه لما جاءَهم ما عرفوه ولم ينكروه، وما علموه ولم يجهلوه، كفروا به، وهم كانوا من قبل يبشّرون بقدومه (صلّى الله عليه وآله) ويستفتحون على الكفار ـ أي يطلبوا النصرة على الكفار به (صلّى الله عليه وآله)، قال الآلوسي بعد ذكره قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}(3): ((نزلت في بني قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل مبعثه
____________
(1) البقرة: 146.
(2) روح المعاني، الآلوسي 1: 411، ط. دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.
(3) البقرة: 89.
من هذه الآية الكريمة وغيرها نفهم جيداً أنّ اليهود وأهل الكتاب بشكل عام كانوا يعرفون الرسول (صلّى الله عليه وآله) تمام المعرفة، ويعرفون أنّ ما يدّعيه حق لا شك فيه!
فلماذا حارب أهل الكتاب هذا النبي الأمي، الذي يجدونه عندهم مكتوباً؟!
كما أشرنا سابقاً، وقلنا إنّ القرآن الكريم أجاب بوضوح عن هذا السؤال، وذلك بعد ذكر الآية التي ذكر فيها ـ تعــالى ـ أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا قال تعــالى مبيّــناً العلّة والسبب الواقعي بقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ الله}، لماذا يكفرون بما أنزل الله {بَغْيَاً} وعناداً واعتراضاً {أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} ونتيجة هذا البغي والعناد {فَبَآؤُواْ
____________
(1) الآلوسي، روح المعاني 1: 319، ط دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.
هكذا بيّن القرآن الكريم، ووضّح أنّ اليهود لم يكونوا جُهالاً، بل كانوا عارفين للرسول (صلّى الله عليه وآله) معرفتهم بأولادهم، ولكن لم تمنعهم معرفتهم من العناد، والعمى، كما كان إبليس وقابيل، وكثير من أكابر المجرمين، الذين حاربوا أولياء الله حقداً، وحسداً، وعناداً، واتخذوا المذاهب والفرق، وما تعارف الناس وما اعتادوه، وسيلة إعلامية لإثارة الضجة ضد المختارين من قبل الله عزّ وجلّ، ولتحريك عوامّ الناس والهمج الرعاع ضدهم؛ فالمشكلة إذن ليست هي المذاهب والفرق، بل المشكلة دائماً تبدأ من أشخاص معدودين يعارضون من اختاره الله عزّ وجلّ، ثم يضلّون من تبعهم من الناس تحت ستار أمور عقائدية فتنشأ مع مرور الزمان، المذاهب والفرق، وما شابه ذلك.
وفي الواقع هذا نتاج ما أقسم عليه إبليس من إضلال أولاد آدم (عليه السلام) أجمعين إلاّ عباد الله منهم المخلصين!
فما هي جريمتنا يا ترى؛ حتى يقسم إبليس أن ينتقم منّا بسببها؟
جريمتنا واضحة، وهي تفضيل الله سبحانه لأبينا آدم (عليه السلام) على
____________
(1) البقرة: 90.