هكذا يفضح الله عزّ وجلّ اليهود وأمثالهم، من الظالمين، ويحذّر العوامّ، وأهل الأهواء الذين يتبعون كلّ ناعق، يتبعون من يدعونهم بدون بصيرة وتفكر، حذّر المولى عزّ وجلّ هذا القسم من الناس بقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار}(1).
لذا يجب أن نحذر، ونركّز على هذه المسألة، ونبحث عن الذين اختارهم الله عزّ وجلّ، ولا نشغل أنفسنا بالمسائل الأخرى، فإنها لا تنتهي أبداً، وكلّ يوم تظهر مسائل وشبه جديدة، ومن عرف أولياء الله عزّ وجلّ وخيرته واتبعهم فلا عليه أوَقع على الموت أم وقع الموت عليه، لأنّه على يقين، يأخذ دينه من المبلغين المختارين لهذا الأمر من الله عزّ وجلّ لا من عند أنفسهم، ومن لم يعرف أولياء الله عزّ وجلّ وخيرته فسوف يبقى في ضلال وتخبّط، كل يوم يشك في بعض ما عنده ويؤمن بغيره، وهكذا حتى يلقى الله عزّ وجلّ وهو على ضلاله.
____________
(1) البقرة: 166، 167.
وقد يقول قائل: هل من أجل هذا السبب حاربت قريش الإسلام؟
وهذا ما يبيّنه القرآن الكريم ويوضّحه.
موقف قريش من الإسلام
لماذا حاربت قريش الدين الإسلامي؟
لماذا بذلت قريش الغالي والنفيس من أجل الإطاحة بالإسلام؟
لماذا ضحّت قريش بأعزّ رجالها وأشجعهم وقدّمتهم للموت؟
إذا سألنا كبار قريش عن السبب، فسيتعللون، كما تعلّلت اليهود، وغيرهم من المعاندين، بأن محمداً سفّه أحلامنا وكفر بآلهتنا، وساوى بيننا وبين عبيدنا; سنسمع لهم شكاوى تستعطف القلوب، ومن تلك الشكاوى: أنّ محمداً أذلّ كبارنا، واستخف بصغارنا، وفرّق شملنا وأضحك العدو علينا.
هل يا ترى يقبل الله عزّ وجلّ هذه الأعذار الواهية ويؤيد دعواهم، أم أنّه عزّ وجلّ يفضحهم كما فضح اليهود، ويبيّن أنّ السبب والسرّ الذي حاربوا الإسلام من أجله، هو شيء آخر؟
القرآن الكريم لا يقبل هذه الدعاوى المزخرفة؛ لأنّه من لدن عزيز حكيم عليم بذات الصدور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور; ولذا كشف القرآن الكريم ما أخفت صدورهم ويبين سبب كفرهم وإعراضهم، وهذا واضح في صريح الآيات المحكمات.
وهذا السؤال طرح؛ كي يلفتنا القرآن الكريم إلى أهمية الموقف وخطورته، ويلفتنا أيضاً إلى التوجه والتركيز على الجواب، وقبل الإجابة يشبّه الله عزّ وجلّ الكفار تشبيهاً عجيباً، فشبههم بالحُمر المستنفرة، وذكر أهل التفاسير أن {حُمُرٌ} جمع حمار، والمراد بها هنا الحمر الوحشية، والملاحظ أنّ الحمر الوحشية مستنفرة دائماً، ومع ذلك يقول الله عزّ وجلّ لكي يبيّن شدّة استنفارها {حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ}.
ثم مِنْ ماذا مستنفرة؟ هل من إنسان؟ لا بل من أسد، وهذا الأسد أسد مفترس أيضاً، كما ذكر المفسّرون، والملاحظ أيضاً في هذا التشبيه الدقيق هو أنك ترى الحيوانات الأخرى غير الحمر مثل القط والكلب، وغيرهما غالباً إذا هربت من شيء يخيفها، تراها تهرب، ولكنها في حالة الهرب تكون ملتفتة إلى طريقها فلا تضلّ الطريق، ولا تسقط في الحفر ولا تقع على الأشواك، ولكن الحمر المستنفرة حينما تهرب غالباً تفقد توازنها، فتراها تقوم وتسقط، وتقتحم ما أمامها حتى لو كان فيه هلاكها.
هكذا شبّه القرآن الكريم المعاندين ومن جملتهم زعماء قريش بالحمر المستنفرة التي فرت من قسورة، لكي يبين سوء حالهم، وأنهم
____________
(1) المدّثر: 49.
وبعد أن سألت الآية السابقة عن سرّ إعراضهم عن التذكرة، أجابت الآيات اللاحقة بقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}(1)، ولماذا يا ترى كلّ واحد وكل امرىءٍ منهم يريد أن يؤتى صحفاً منشّرة؟
والجواب: { كَلا بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ}(2).
قال ابن كثير: ((وقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}(3) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قاله مجاهد وغيره، كقوله تعالى: { وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}))(4) انتهى كلام ابن كثير.
وهناك آيات كثيرة تبيّن أن قريشاً لم يكن حربها للإسلام بسبب العقيدة، فقريش كانت فاقدة للعقيدة؛ ولذا يُروى أن أحد القرشيين ذات مرّة صنع له إلهاً من تمر، ثم لما جاع أكله، لكي يحوله إلى عالم
____________
(1) المدثر: 52.
(2) المدثر: 53.
(3) المدّثر: 52.
(4) تفسير ابن كثير 4: 476، المطبعة: دار المعرفة ـ بيروت.
ويبيّن القرآن الكريم في مكان آخر السرّ الذي حاربت قريش الإسلام من أجله، حيث بين أنه ليس مسألة الإيمان بالله عزّ وجلّ، فإنّ قريشاً كانت تعترف بالله عزّ وجلّ، ومعرفة الله عزّ وجلّ هي من الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}(1)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله...}(3)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
____________
(1) العنكبوت: 61.
(2) الزخرف: 9.
(3) الزمر: 38.
من هذه الآيات الكريمات يتّضح أن مشكلة قريش مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليست بسبب عدم معرفة الله عزّ وجلّ، فهم يعرفون أنّ الله عزّ وجلّ هو الذي خلق السموات والأرض، كما هو واضح، إذن ما هو سبب حربهم للرسول (صلّى الله عليه وآله)؟.
القرآن الكريم يجيب عن هذا السؤال، ويفضح كفار قريش ونظرائهم، كما فضح إبليس، بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(2).
قال ابن كثير حول هذه الآية وهو يفسّر قوله تعالى: (({قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية أي أنت المتصرف في خلقك الفعّال لما تريد كما ردّ ـ تعالى ـ على من يحكم عليه في أمره حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قال الله ردّاً عليهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} الآية، أي نحن نتصرّف فيما خلقنا، كما نريد بلا مانع ولا دافع، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد كما قال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
____________
(1) لقمان: 25.
(2) الزخرف: 31.
وقال ابن كثير في مورد آخر حول الآية المذكورة: ((يعنون لولا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجّل في أعينهم، {مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم ـ قبّحهم الله ـ كانوا يزدرون بالرسول (صلّى الله عليه وآله) بغياً وحسداً وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولاً}، وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}. هذا، وهم معترفون بفضله، وشرفه، ونسبه، وطهارة بيته، ومرباه ومنشئه ـ صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه ـ حتى أنهم كانوا يسمّونه بينهم قبل أن يوحى إليه، الأمين، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم...))(2).
هذه الآية الكريمة بيّنت ما هي مشكلة قريش مع الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنهم معترضون على الحكمة الإلهية وهي نزول القرآن على رجل من القريتين ـ أي مكة والطائف ـ ولكن هذا الرجل الذي من مكة ليس
____________
(1) تفسير ابن كثير 1: 364، المطبعة دار المعرفة ـ بيروت.
(2) تفسير ابن كثير 2: 179.
إنّ مشكلة قريش هي مشكلة إبليس، ومشكلة بني إسرائيل، نعم، إنك تجد نفس المشكلة عند قريش، فهم يرون أنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) لم يؤتَ سعة من المال، وأنّ مشائخ عشائرهم خير منه فلا يعتبرونه عظيماً، ولذلك قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني أنهم لم يمنعهم من الإيمان بهذا القرآن إلاّ هذا السبب، وهو عدم نزوله على رجل عظيم في نظرهم!
وقد أجاب الله عزّ وجلّ على كلامهم هذا في الآية التي تلت تلك الآية؛ حيث قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(1)، وهذه الآية الكريمة ناقشت عقولهم، وخاطبت ضمائرهم، وقالت لهم: هل أنتم تقسّمون رحمة الله؟! أفلا ترون أنّ الله هو الذي قسّم بينكم معيشتكم وأرزاقكم في الدنيا، والتي بسببها أصبح من تحسبونه عظيماً عظيماً، والله عزّ وجلّ هو الذي قسّمها بينكم، ولم يكن لكم دخل في
____________
(1) الزخرف: 32.
مع هذا كلّه، ومع هذه الحجج القرآنية الواضحة أصرّت قريش على عنادها وكبرها، ولم ترض بالاختيار الإلهي.
ثم إنّ قريشاً بعد ذلك لجأت إلى طريقة جديدة لمحاجة الإسلام، وهي قولهم كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(1).
فقريش ومن شاكلهم يريدون أن يقولوا كذباً وظلماً: إنّ أصنامهم هي الطريق الموصل إلى الله عزّ وجلّ، وذلك أنه قد يكون معنى اتخاذهم لأوليائهم سواءً كانوا أصناماً، أم بشراً، أم غير ذلك، بمعنى اتباعهم لهم، وإطاعتهم إياهم، ولكنّ الله لا يهدي من هو كاذب في ادعائه، كفار بخيرة الله عزّ وجلّ من خلقه.
فالقرآن الكريم لم يقبل هذا التهرّب من قريش، بل إن القرآن الكريم حدّد الطريق الواقعي والصحيح، الذي يقرب إلى الله عزّ وجلّ،
____________
(1) الزمر: 3.
ومن هنا يتّضح الأمر، فإن قريشاً تدّعي حبّ الله عزّ وجلّ، وأنها تريد أن تتقرب إليه زلفى، لكنّ الله عزّ وجلّ لا يقبل هذا الحب وذلك التقرب، إلاّ من حيث شاء هو عزّ وجلّ لا من حيث تشاء قريش، ومن شاكلها من المعاندين والمتكبرين.
فمن أراد محبة الله عزّ وجلّ والقرب منه، فلابدّ له من اتباع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو من أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) باتباعه.
فتحصل من هذا أن مشكلة أكابر قريش واضحة، وهي لماذا اختار الله عزّ وجلّ رجلاً فقيراً في نظرهم، وليس من أعاظمهم، ولا من مشائخهم وكُبرائهم، وهذه هي المشكلة الحقيقية لهم ولأمثالهم.
وكذلك اتضح أن قريشاً لم تضحِّ بأعز رجالها، وأوفر أموالها حبّاً وفداءً من أجل الأصنام، ومن أجل العقيدة، بل كانت الأصنام ذريعة يستعطفون بها قلوب العوام، وأصحاب العقول الضعيفة، ويتّضح أيضاً من آيات اُخرى أن قريشاً لم تكذب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، بمعنى انّها لم تعرف الحق، ولم يتّضح لها أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) صادق في دعواه، بل كانت تكذبه عناداً وجحوداً كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
____________
(1) آل عمران: 31.
فانهم يجحدون؛ لأنّ الله عزّ وجلّ لم ينزل القرآن الكريم على رجل من القريتين عظيم عندهم، لأنّ الله لم يختر الوليد للرسالة، ولم يختر أبا سفيان، لأنّ الله اختص برحمته من يشاء، لأن الله اختار لرسالته محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، لذلك يجحدون، نعم إنّ هذه هي المشكلة التي جعلت قريشاً تفرّ من الإسلام فرار الحمر المستنفرة، وقد أضرّوا بالإسلام كثيراً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطفئوا نور الله عزّ وجلّ، كذلك كان دأب إبليس، ومن شاكله، وهذا هو دأبهم إلى يوم القيامة، وهو دأب اتباعهم في كل زمان ومكان.
____________
(1) الأنعام: 33.
سبب الاختلاف بين الناس
لقد تبيّن ممّا سبق سرّ نزاع إبليس لآدم (عليه السلام)، وأخوة يوسف لأخيهم، واليهود لأنبيائهم، ولنبينا محمد (صلّى الله عليه وآله)، وقريش للرسول (صلّى الله عليه وآله)، فهل يمكن أن نقول: إنّ هذا السبب هو السبب الأصلي لكل الاختلافات الاساسية على وجه الأرض؟
والجواب: أنّه يمكن تعميم هذه المسألة على جميع الخلافات، وذلك عندما نرى السرد القرآني لهذه الأمثلة الكثيرة التي تبين هذا المطلب، فيلزمنا من ذلك الاعتبار من تلك القصص، وأن نعرف أن قضايا تلك القصص، لو كانت هامشية، لما ذكرت في القرآن الكريم وكرّرت أيضاً.
ومع هذا الوضوح كلّه لم يترك القرآن الكريم التصريح بهذه العلّة وبهذا السبب، وبيّن بإنّ سبب كل نزاع في كل قرية، منذ أن خلق الله الأرض إلى يوم القيامة، هو المنازعة لأجل التسلّط على الأرض، والمنافسة من أجل الحصول على الملك، وعلوّ الكلمة، سواءً كان الوصول الى تلك الاهداف من طريق السعي لنيل المناصب الإلهيـــة ـ مـــن قبــيل النبـــوة والامامة والقيادة الدينية ونزول الوحي
وقبل أن أسرد الآيات التي تشير إلى ذلك الموضوع، أود أن أُشير إلى مسألة وهي: أنّه لا يعني أن المسائل العقائدية ـ غيرالنبوة والولاية وما هو في هذه الدائرة ـ ليس لها دور في الاختلافات الموجودة لا، بل لها دور، ولكن المهم هو لماذا وجدت هذه الاختلافات العقائدية، بعدما جاءت البينات؟
الجواب: من الواضح ففي بدء ظهور النبوات والرسالات تكون الأمور واضحة، والحجج ساطعة، والناس على بيّنة ووضوح من أمرهم، ولكنه يوجد متكبرون وطغاة يريدون العلو في الأرض، وبما أن الظروف في بداية الأمر لا تسمح لهم بالوصول إلى غاياتهم لذا يلجأون إلى البحث عن المسائل التي ينهى عنا المختار من قبل الله عزّ وجلّ فيقومون بإحيائها وتحريك العوام من أجلها، ومن هناك تبدأ الإثارات ويبدأ اختلاق المسائل الخلافية، لتصبح الأمور معكّرة وغير واضحة، وهنا يصطادون ـ أي أكابر المجرمين ـ في الماء العكر، ويستقطبون ضعاف النفوس بشتى الوسائل، فيصلون إلى أهدافهم المشؤومة، ومن طرقهم وأساليبهم الخبيثة، أنهم يبحثون عن العقائد التي يرتاح لها الناس، فيروجون لها، وينظرون فيما يقوله المختارون من قبل
ثم يأتي أناسٌ مغفّلون، فينشغلون عن السبب الواقعي للاختلاف والنزاع، ويفنون أعمارهم في النقاشات العقائدية، كلّما انتهوا من مسألة ظهرت أخرى وهكذا، ولو أن الناس سلّموا لمن اختارهم الله عزّ وجلّ لما بقوا في الاختلافات التي لا تنتهي ولما بقوا في العذاب المهين، فإن الناس لو سلموا الأمر لأهله الذين اختارهم الله عزّ وجلّ لما كان عليهم إلاّ السؤال فقط، ويستلمون الجواب الصافي، الذي لا تشوبه شائبة، ولكن بسبب المعاندين والمتكبرين في الأرض، وأكابر المجرمين حُرم الناس من تلك النعمة، ولذا يجب علينا ان ننتبه، ونحذر ونعتبر مما مضى.
وأمّا الآيات الدالة على أن هذه المشكلة، هي مشكلة أكابر المجرمين في كل زمان ومكان، فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
هذه الآيات واضحة الدلالة، وهي عامة تشمل كل وقت زمان، ولدقة كلام الله عزّ وجلّ ولطافة بيانه لم يقل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أهْلَهَا}، بل قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا}، ليبين لنا أنّ الأكابر، والأعاظم هم الذين يعارضون المختار من قبل الله عزّ وجلّ؛ لأنّهم تعودوا أن تكون كلمتهم هي العليا في مناطقهم فيريدون أن تبقى كلمتهم كذلك، فلهذا يعارضون المختارين من قبل الله عزّ وجلّ، ويستقطبون أصحاب العقول الضعيفة، والنفوس المريضة، إمّا باتخاذ العقائد الموروثة حجة، والتمسك بالعادات القديمة، والدفاع عنها، أو باتباع ما وجدوا عليه آباءهم، أو باختلاق عقائد وأفكار جديدة، تعجب العوام وترضيهم، المهم يبحثون عن أي
____________
(1) الأنعام: 123، 124، 125.
والآيات الكريمات بيّنت حقيقة المعاندين والمتكبرين في الأرض، وسمّتهم أكابر المجرمين، ونقلت الآيات الكريمات ما تقوله قلوبهم ولو لم تقله ألسنتهم، فكلما جاءتهم آية ـ أي حجة واضحة ولا يوجد شيء أوضح من آيات الله عزّ وجلّ يقولون لن نؤمن!
والسؤال: لماذا لن تؤمنوا؟ هل لأنكم تعبدون الأصنام ولا تريدون تركها؟ هل لكم دين وطريقة أخرى؟ هل لكم مذهب خاص بكم؟ هل لكم عادات لا تريدون تركها؟ هل لديكم شبهة عقائدية لم تجدوا لها جواباً؟ كلاّ، كل هذه ذرائع يتوسلون بها لتحريك جمهور الناس، ومشكلتهم الحقيقية شيء آخر، وهو ما نص عليه القرآن الكريم بقوله تعالى: {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله}(1).
هذه هي مشكلتهم الواقعية، ولكن الله ـ تعـــالى ـ يقول لهم إنّه أعلم حيث يجعل رسالته.
____________
(1) الأنعام: 124.
أليس هذا العمل ظلماً؟! بلى، إنّه أعظم الظلم، فهذا هو محض الشرك، فهؤلاء وأمثالهم اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله، وكثير من الناس يقعون في نفس هذا المطب الخطير، فلولا عناد وحسد إبليس وأكابر المجرمين، ومن سار على نهجهم للمختارين من قبل الله عزّ وجلّ، ما وجدت كل هذه الاختلافات في الدين، ولما وجدت كل هذه الفرق الضالة، والأفكار الإلحادية في العالم، ولذا يعدّ ذلك الحسد والعناد أكبر جريمة عرفها ويعرفها التاريخ؛ لأنه على إثرها تنشأ الجرائم الأخر، من قبيل الكفر بالله ـ جــــــلّ وعــلا ـ وقتل الأنبياء والأولياء وضلال الأمم.
وأولئك المجرمون هم الذين يشكّلون النواة الأولى للاختلاف، والتفرق بين الناس، وإيجاد المذاهب والفرق المتنوعة، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا
هذه الآية الكريمة تبيّن أنه ما اختلف في الكتاب؛ إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات، ولماذا يا ترى يختلفون من بعد ما جاءتهم البينات؟
الجواب: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} لا جهلا، ولا لأجل اعتقاد هم صادقون فيه، بل لأجل العناد والتكبّر والسعي من أجل التسلط على الأرض.
وهناك آيات كثيرة بهذا المضمون، نذكر جزءاً منها ونترك الباقي للمتتبع الباحث عن الحق؛ حتى يعرف سرّ الاختلافات بين الناس، الذي هو نتاج لما صنعه ويصنعه أكابر المجرمين في كل مكان وزمان.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ}(2).
وقال تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(3).
____________
(1) البقرة: 213.
(2) البقرة: 159.
(3) البقرة: 209.
وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).
وقال تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}(3).
وقال تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}(4).
وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
____________
(1) البقرة: 253.
(2) آل عمران: 105.
(3) آل عمران: 184.
(4) الأعراف: 101.