مقدّمة المركز:

إنّ أكبر عقبة يواجهها المستبصر خلال بحثه في التاريخ الإسلامي هي الخطوط الحمراء التي جعلها علماء أهل السنّة حول الصحابة، ومنعهم الآخرين من تخطّي هذه الخطوط وتحريمهم البحث حول ما ارتكبوه من أفعال منافية للشرع، لئلاّ تتبدّد الهالة المقدّسة التي أضفوها على هؤلاء، ولا سيّما الخلفاء الثلاثة.

ولكنّ المستبصر يقتحم هذه العقبة، ولا يسمح لنفسه أن يمنعه شيء عن بحثه الحرّ والموضوعي في التاريخ الإسلامي.

ومن هذا المنطلق يتعرّف المستبصر على حقائق مذهلة تدفعه إلى إعادة رؤاه الفكريّة وتجديد نظره حول الصحابة ولا سيما الخلفاء الثلاثة الذين استلموا زمام الحكم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن طريق اتّباع سبل غير مشروعة.

ويكون هذا الأمر هو البوابة التي يدخل منها المستبصر في رحاب التشيّع; لأنّه يعي بعد ذلك عظمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويدرك المكانة التي جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم بأمر الله سبحانه وتعالى.


الصفحة 8
واجتياز هذه الخطوط الحمراء هو سبيل الأحرار الذين يعرفون الحقّ بالحقّ ولا يعرفون الحقّ بالرجال، وهذا ديدن الذين لا يتهيّبون بعد معرفة الحقّ أن ينزلوا من أضفى عليهم المجتمع هالة من القداسة إلى منزلتهم الواقعيّة; لأنّ أمثال هؤلاء الباحثين يتّبعون الحقّ أينما وجدوه ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

ويمكننا عدّ الأُستاذ محمّد سليم عرفه من هؤلاء الذين اجتازوا هذه الخطوط الحمراء ولم يمنعه شيء من معرفة الحقيقة مع الخلفاء الثلاثة، وقام بعمليّة استجوابيّة افتراضيّة، ليتعرّف على دوافع اجتهاداتهم في مقابل النصّ، وكذلك أجرى حواراً افتراضيّاً مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليتعرّف على مظلوميّته من لسانه، فكانت النتيجة أن أخذت الأدلّة بيده إلى ترك مدرسة الخلفاء والالتجاء إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

وقام مركز الأبحاث العقائدية ـ مواصلة للمهمة التي تلقّاها على عاتقه ـ بنشر هذا البحث من أجل إيصاله إلى كافة الباحثين، ولا سيما أصحاب العقول المتعطّشة التي تحاول الخروج من نطاق التعميم المفروض عليها في مجتمعاتها لتنال الرؤية الشمولية في معرفة الحقيقة.


محمّد الحسّون       
مركز الأبحاث العقائديّة   
1 محرّم 1427 هـ     
Muhammad@aqaed.com


الصفحة 9

بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلـيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالـينَ


صَدَقَ اللهُ العَلىُّ الْعَظيمِ


الصفحة 10

الصفحة 11

المقدّمة:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحبه الذين اتّبعوه بإحسان ولم يبدّلوا تبديلاً.

كثيراً ما راودتني فكرة تأليف كتاب أشرح فيه لماذا اخترتُ مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن كنت أقف وأتريّث لأنّي لا أريد أن أُكرّر ما كتبه المئات من قبلي في هذا الموضوع المتشابه في أكثر خطوات الهداية، مع ما في كلّ تجربة من فكر جديد يستفيد منه المسلمون عامّة وكنت أطرح على نفسي هذا السؤال:

ما الجديد الذي تود أن توصله إلى إخوانك من المسلمين؟

فإذا كان الكتاب لن يوصل فكرة جديدة تساهم في كشف الغموض والتعتيم الذي لاقته مدرسة أهل البيت من قبل الحكّام والدائرين في فلكهم من علماء، ووعّاظ سلاطين، وكتّاب مأجورين; فلا فائدة من كتابته.

ولكن كان بعض الإخوة دائماً يدفعني لكتابة كتاب أشرح فيه: لماذا وكيف هداني الله لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم

الصفحة 12
الرجس وطهّرهم تطهيراً؟

وما الصعوبات التي واجهتني في هذا السبيل؟

والشيء الآخر الذي دفعني للكتابة هو: ما نراه من الهجمة الوهابية الشرسة على المذاهب الإسلامية عامة ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) خاصّة; فهؤلاء مع اختلافهم مع أهل السنّة وتكفيرهم لهم إلاّ أنّهم يوادعونهم ويندسون بينهم، ليمرّروا لهم بعض أفكارهم، ويصوغون هذه الأفكار وكأنّها من مذاهب أهل السنّة، وترى بعض المفكّرين والكتّاب ـ ممّن أعمتهم عصبيتهم وما يغدقه عليهم هؤلاء من عائدات الذهب الأسود ـ يهرولون نحوهم ويتبنون أفكارهم.

وقد انتشرت المعاهد التي يدعمها هؤلاء على أنّها معاهد للعلوم الشرعيّة، بينما هي معاهد لترويج فكر الوهابيّة مقابل ما يأخذه هؤلاء من الإعانات والتبرّعات.

وأنا لا أُريد هنا أن أشرح عقائدهم وما يروّجون له ويسمّمون أفكار العوام، ولمن أراد أن يعرف عنهم أكثر فعليه بقراءة كتاب: (السلفية بين أهل السنّة والإماميّة) للكاتب السيّد محمّد الكثيري، جزاه الله كلّ الخير عن الإسلام والمسلمين.

وإنّ خطر هؤلاء يأتي من أنّهم قد أوهموا أهل السنّة بأنّهم يتبعون السلف الصالح، وقد ذاب فيهم الكثير من أهل السنّة، فأصبحوا

الصفحة 13
يتكلّمون بكلامهم، وقد نسوا أنّ المذهب الوهابي يكفّرهم ويكفّر كلّ من يعارضه في الرأي!

فانظر إلى ما يفعل هؤلاء في الجزائر وباكستان وفي أفغانستان وفي أي بلد يصلون إليه، وبما أنّهم لا يملكون أيّة حجّة فإنّهم لا يوافقون على الحوار العلمي، بل يقفون من بعيد حاملين سيف التكفير على كلّ من يحمل فكراً يخالف فكرهم، وليتهم يوظّفون أقلامهم وطاقاتهم وأموالهم ضدّ الكفر والإلحاد، ولكنّهم على العكس لا يحملون إلاّ على إخوانهم المسلمين، بينما يوادعون أصحاب الدولار وتراهم يقفون بوجه أيّ فكر لتوحيد المسلمين.

فعندما قامت جمعية التقريب بين المذاهب على أيدي بعض الصلحاء من هذه الأُمّة، قامت قيامتهم، وكفّروا كلّ من اشترك في هذه الجمعية.

وكما قال السيّد محمّد الكثيري في كتابه (السلفية):

"لو علم أبناء الصحوة أنّ مجمل ما يصلهم اليوم وبشكل عام ويقرؤونه ويؤمنون به على أنّه رأي الصحابة وعمل السلف الصالح، ليس سوى اختيار المذهب الحنبلي في العقائد والفقه واجتهادات رجالاته عبر التاريخ، في مقابل آراء واجتهادات واختيارات المذاهب الأُخرى التي ظهرت للوجود قبل المذهب الحنبلي، بل وقبل أن يولد مجتهدوه الكبار بقرون عدّة، والكلّ يدّعي الارتباط

الصفحة 14
بالسلف الصالح والصحابة ويسند أقواله وأفعاله لهم؟!

ولو أتيح لغالبية أبناء الصحوة سبيل الاطلاع ومعرفة آراء وأفكار مذاهب أُخرى لا يعرفون عنها شيئاً، فممّا لا شكّ فيه أنّهم سيراجعون عدداً لا بأس به من أفكار قدّمت لهم على أنّها عمل السلف الصالح ومعتقد صحابة رسول الله، وبالتالي الحقيقة الإسلامية".

لذلك نرى أنّ هؤلاء العلماء والكتّاب المأجورين يمنعون أبناء الصحوة من التعرّف على الفكر الآخر، ويمنعونهم من المطالعة والحوار الحرّ.

وحتى الآن بعد أن أصبح هذا العالم كقرية صغيرة بفضل التكنولوجيا الحديثة، وصار الاطلاع ممكن بضغطة زر واحد.

فلا يزال هؤلاء يعيشون في العصور المظلمة، ويمنعون هذه الأجيال من معرفة النور، فمن يدخل إلى أي مسجد من مساجد عامة المسلمين ويستمع إلى خطبة من خطب الجمعة، يرى أن الخطيب يتحدّث عن فضائل مزعومة لكثير من الصحابة وكثير من حكّام الجور الذين توالوا على سدّة الحكم في الدولة الإسلامية منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحتى يومنا هذا، ولا تجد أحدهم يذكر مكانة أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم رغم كثرتها!!

وإذا أرادوا أن يتكلّموا عن أهل البيت (عليهم السلام) تراهم يصوّرون لنا

الصفحة 15
الإمامين الحسن والحسين على أنّهما طفلان صغيران كان جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحبهما، وقد كان يوماً من الأيام على المنبر فدخلا وتعثّرا بثيابهما، فنزل من المنبر وحملهما معه، وبذلك يتصوّر العوام بأنّ هذين الإمامين عاشا وماتا صغيرين ولم يكن لهما أي دور في هذه الرسالة العظيمة!

وإذا ذكروا الإمام علي (عليه السلام) فلا يذكرون له إلاّ أنّه أوّل صبيّ أسلم; وكأنّه توقّف عند هذا العمر ولم يكبر ولم يشارك في المعارك الإسلامية، في حين أنّ هذه المعارك لم تقم إلاّ على سيفه (عليه السلام) لهذا ورد: "لولا مال خديجة وسيف علي لم تقم للإسلام قائمة"(1).

وعندما يذكرون السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يروون حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله): "فاطمة بضعة منِّي فمن أغضبها فقد أغضبني"(2).

____________

1- نحوه في شجرة طوبى للحائري 2: 233.

2- صحيح البخاري 4: 210، كتاب بدأ الخلق، باب مناقب قرابة رسول اللّه، وفي صحيح مسلم 7: 141، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة: "فاطمة بضعة منِّي يؤذيني ما آذاها"، وفي سنن الترمذي 5: 360: "فاطمة بضعة منِّي، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها" وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي مستدرك الحاكم 3: 158: "فاطمة بضعة منِّي يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها"، وعلّق عليه بقوله: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه"، وفي مجمع الزوائد للهيثمي 9: 203: "إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك" وعلّق عليه: "رواه الطبراني وإسناده حسن" وغيرها من المصادر الكثيرة.


الصفحة 16
فيقولون بأنّ سبب هذا الحديث هو: إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد همّ بأن يخطب بنت أبي جهل، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصعد المنبر وقال هذا الكلام.

هذا ما يتشدّق به هؤلاء! { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً }(1).

قال ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه: (إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون يرغمون به أُنوف بني هاشم.."(2).

وهم يخشون أن يتحدّثون بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) لأنّهم كما قال أحدهم عندما سأله أحد الإخوة: ولماذا لا تذكرون فضائل أهل البيت (عليهم السلام) على المنابر، بينما خطبكم تعج بذكر فضائل الصحابة؟

فقال: "وهل تريد أن يتشيّع الناس!".

إذن، هو يعرف بأنّ الناس إذا عرفوا هذه الفضائل الموجودة ـ والحمد لله ـ في كتبهم ومسانيدهم، فإنّهم سوف يتخذون مذهبهم، وهذا ما يخشاه.

وقد نسي قول الله تعالى: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ

____________

1- الكهف: 5.

2- شرح نهج البلاغة 11: 46، النصائح الكافية لابن عقيل: 99.


الصفحة 17
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(1).

ألم يقل لهم ربّ العزّة على لسان الحبيب المصطفى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقرْبى}(2).

فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يطلب منّا أجر الرسالة الإسلامية إلاّ مودّة أهل بيته، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بمعرفة حقّهم واتباعهم; لأنّ المحبّة تعني الاتباع، ولهذا قال تعالى على لسان رسوله الكريم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(3).

وقد جاء في تفسير الكشّاف: 467، وفي التفسير الكبير للفخر الرازي: ج27: 166 عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال:

ـ "من مات على حبِّ آل محمّد مات شهيداً...".

ـ "ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد مات مغفوراً له...".

ـ "ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد مات تائباً...".

ـ "ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان...".

ـ "ألا و من مات على حبِّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير".

____________

1- البقرة: 42.

2- الشورى: 23.

3- آل عمران: 31.


الصفحة 18
ـ "ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد يُزفّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها".

ـ "ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة..".

ـ "ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة..".

ـ "ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله...".

ـ "ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً..".

ـ "ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة..".

اللهمّ امتنا على حبّ محمّد وآل محمّد آمين ربّ العالمين.


محمّد سليم عرفة


الصفحة 19

كيف عرفتُ طريق الحقّ
وركبتُ سفينة النجاة؟


  رحلتي مع الكتب.

البداية.

  البحث عن الحقيقة

    1 ـ حديث الغدير.

    2 ـ حديث الثقلين.

  أصنام تواجهني.

  منهجي في هذا الكتاب.


الصفحة 20

الصفحة 21

كيف عرفتُ طريق الحقّ وركبتُ سفينة النجاة؟


قال تعالى:

{وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا..}(1).

ومعنى هذه الآية أنّ كلّ من حاول الوصول إلى الحقيقة بقلب صادق ساعده الله تعالى وسدد خطاه.

وقد وفّقني الله تعالى وعائلتي ـ والحمد لله ـ بعد البحث والعناء أن نعرف طريق أهل البيت (عليهم السلام) ونركب سفينتهم.

عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) قال: "أ يّها الناس سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

"مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له"(2).

____________

1- العنكبوت: 69.

2- مجمع الزوائد للهيثمي 9: 168، المعجم الصغير للطبراني 1: 139 و 2: 22، المعجم الأوسط للطبراني 4: 10 و 6: 85، المعجم الكبير للطبراني 3: 46، نظم درر السمطين للزرندي: 235.


الصفحة 22

رحلتي مع الكتب:

لقد كنت شغوفاً بقراءة الكتب الدينية، فبعد أن أنهيت دراستي تخرّجت من معهد متوسط للالكترون، ولكنّي لم أجد أي رغبة في مواصلة هذا المجال; لأنّني كنت أرغب في دراسة القانون، ولكن لأسباب قاهرة لم أستطع أن أدخل هذا الفرع، لذلك كنت أحبّ مطالعة الكتب القانونية والدينية.

وبما أنّي كنت ملتزماً بحضور الدروس الدينية في المساجد من صغري، فقد كنت أقرأ الكتب الدينية أكثر، وقد استهوتني منذ البداية الكتب التي تبحث في الخلافات الدينية بين الديانات السماوية الثلاث.

وقد كنت معجباً بالشيخ أحمد ديدات، والشيخ عبد المجيد الزنداني، وقد قرأت كتبهم، وشاهدت عدّة مناظرات لهم على أفلام الفيديو كانت بينهم وبين أصحاب الديانات الأُخرى، وقد كنت أفرح عندما أرى انتصار هؤلاء على مناظريهم، لأنّني كنت أشعر بانتصار الدين الإسلامي مقابل هذه الديانات.

وقد كنت أحفظ الكثير من هذه المناظرات، لذلك عندما بدأت حياتي العملية وباشرت بالعمل في محل للألبسة، كان يقع هذا المحل في منطقة (القصاع)، وهي منطقة أغلب ساكنيها من النصارى، فكان يجري بيني وبين البعض منهم حوارات ومناقشات أحاول فيها

الصفحة 23
تبيين أوجه الخلاف وخاتمية الدين الإسلامي، وكنت أُبيّن لهم بأنّ الله قد تكفّل بحفظ الدين الإسلامي ولم يطرأ عليه أيّ تحريف كما طرأ على الديانات الأُخرى.

وكان هؤلاء الذين يحاوروني عندما تعييهم الحيلة ينسحبون على أمل أن يسألوا أو يستشيروا رجال دينهم، وكنت أتفاجأ عندما كانوا يقولون بأنّهم لا يعلمون هذه الأُمور وأنّ رجال دينهم يمنعونهم من قراءة كتب المسلمين، وكانوا يقولون لهم: يكفيكم إيمانكم بأن يسوع ابن الله ـ معاذ الله ـ وأنّه صلب ليحمل خطايا الناس!

وقد كانوا يمنعونهم من قراءة الكتب التي أُعطيهم إياها، ويقولون لهم: لا تناقشوا هذا المسلم، فكنت أقول في نفسي: الحمد لله على دين الإسلام الذي حرّر عقلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فنحن نستطيع أن نقرأ ما نشاء ونسأل عن أيّ شيء.

وقد وفّقني الله لهداية البعض منهم من الذين كانوا يملكون فكراً حرّاً ويحاكمون الأدلة التي أُبرزها لهم محاكمة عقلية.

ومن هؤلاء فتاة كانت تعمل في نفس المحل الذي أعمل فيه، وقد شرح الله صدرها للإيمان بعدما سمعت مناقشاتي لبعض إخوانها من النصارى، وصارت بالفعل تقرأ الكتب التي كنت أتركها في المحل، وكانت تسألني وتستفسر عن الأمور التي تتعذّر عليها، والحمد لله فقد أسلمت وحسن إسلامها، وقد حاول أهلها منعها وإبعادها عن

الصفحة 24
المحلّ، ولكن بفضل الله تعالى كان إيمانها قويّ وقد دخلت في الإسلام عن قناعة، فما كان منّي إلاّ أن تزوّجتها والحمد لله.

ولو أنّ النصارى انفتحوا على المسلمين وسمعوا ما عندهم وقرأوا كتبهم لهداهم الله إلى الإسلام، لذلك يحاول رجال دينهم منعهم من هذا لأنّهم سوف يتركونهم.


الصفحة 25

البداية


بسبب زواجي اضطررت لترك العمل في هذا المجال، وعملت لدى خال لي عنده مكتب عقاري، وخلال عملي في هذا المكتب كنت التقي بعض رجال الشيعة الوافدين من القطر العراقي الشقيق لزيارة السيّدة زينب (عليها السلام)، وقد كان المكتب العقاري في منطقة قريبة من مكان انطلاق السيارات المتوجهة للسيدة زينب (عليها السلام).

لذلك كان يتردّد الكثير منهم لاستئجار بيوت قريبة من هذه المنطقة، فيدخلون هذا المكتب ليسألوا عن البيوت.

وقد كلّمني أحدهم وكان قادماً إلى المكتب ليستأجر داراً للسكن، وأخبرني أنّه يدرس في الحوزة(1)، ولم أكن قد سمعت بهذا التعبير من قبل، فسألته ماذا تعني (الحوزة)؟! فوضّح لي وسألني: ماذا تعرف عن الشيعة؟

فقلت له: لا أعرف إلاّ أنّه مذهب من المذاهب الإسلامية، وأنّهم يقدّسون سيّدنا علياً ـ رضي الله عنه ـ وأهل بيته، ويرون أنّه أفضل

____________

1- الحوزة: مكان يدرس فيه العلوم الدينيّة من الأُصول والفروع كالمعاهد الشرعيّة.


الصفحة 26
من كلّ الصحابة، هذا ما أخبرته به فقط، مع أنّي أخفيت في قرارة نفسي ما سمعته من مشايخي ومن العوام من تشنيع على الشيعة وذلك منعاً للإحراج، ولكنّه بدأ يكلّمني عن بعض الأُمور الخلافية بين الشيعة والسنّة، فاندهشت; لأنّ ما سمعته منه لم أسمع به من قبل، وعندما رآني غير مصدّق لكلامه، قال لي: ألست تقول بأنّك تحبّ المطالعة، وأنّك لا مانع عندك من قراءة أيّ كتاب؟

فقلت: نعم.

فنصحني بقراءة كتاب (المراجعات)، وقال لي: إنّ هذا الكتاب حوار بين شيخ سنّي وآخر شيعي وأنّ كلّ ما فيه هو من كتب وصحاح أهل السنّة.

حاولت جاهداً أن أجد هذا الكتاب في المكتبات التي أعرفها في دمشق فلم أظفر به، وفي هذه الفترة جلب لي شقيقي كتاب (المئة الأوائل من النساء)، وكان قد قرأه واستوقفته خطبة السيّدة زينب (عليها السلام) وهي في بلاط الطاغية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وذلك بعد واقعة كربلاء، ولم أكن ملم بهذه الحادثة شيئاً، ولم أسمعها من أحد من قبل، مع أنّي كما قلت سابقاً: كنت ومنذ طفولتي أتردّد على المساجد وأحضر حلقات الدروس ولكن لم أسمع عن هذه الحادثة.

وقد علمت بعد ذلك أنّ الكتب التي كنت أقرؤها كانت كتباً تحاول أن تمنع اطلاعنا على مثل هذه الأمور.


الصفحة 27

البحث عن الحقيقة:

بعد قراءتي لهذه الخطبة حاولت أن أبحث في الكتب عن واقعة كربلاء، واندهشت عندما قرأتها في تاريخ الطبري.

فسيّدنا الإمام الحسين (عليه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة كما جاء في الحديث الشريف: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"(1).

قد قتل هو وأهل بيته وأصحابه في هذه الحادثة أمام أعين المسلمين، وقاتلهم يزيد وجيشه، وهذا الطاغية كان خليفة المسلمين في ذلك الوقت، فهذه الحادثة جعلتني أعزم على أن أعرف كيف وصل هذا الطاغية إلى الحكم، فتحكّم بالإسلام والمسلمين، وتجرّأ على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن حسن الحظّ أن التقيت صدفة بأحد أصدقائي عند خروجي من صلاة الجمعة، يحمل كتاباً، فقلت له: ما هذا الكتاب؟

____________

1- مسند أحمد بن حنبل 3: 3 و 62، 64، 82، سنن الترمذي 5: 321 وقال: "حديث حسن صحيح"، خصائص النسائي: 104 ـ 105، مستدرك الحاكم 3: 154 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه"، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، والسلسلة الصحيحة للألباني 3: 243 ح796، وغيرها من المصادر.


الصفحة 28
فقال: كتاب عن الشيعة، وقالها (بنفور).

فقلت له: هاته. وكم كانت فرحتي شديدة عندما قرأت عنوان الكتاب (المراجعات)، وهو مناظرة بين السيّد شرف الدين والشيخ سليم البشري، فهذا ما كنت أبحث عنه، وقد حاول صديقي منعي من أخذه بحجّة أنّه مختلق، وأن شيخه نصحه بعدم قراءته لذلك، وهو لم يقرأه، ويريد أن يعيده إلى الشخص الذي أعاره إياه.

فقلت له: لا عليك، سوف أقرؤه بسرعة، وأُعيده إليك غداً، وفعلا قرأت الكتاب وأنهيته في ساعة متأخّرة من تلك الليلة، ثمّ أعدت قراءته لأتأكد مرّة ثانية من حقيقة الروايات والأحاديث المثبتة في هامش الكتاب والتي استشهد بها السيّد شرف الدين.

وقلت في نفسي: إن كانت هذه الروايات موجودة في كتب أهل السّنة وتواريخهم وتفاسيرهم، فسوف أُعيد النظر في قناعاتي، فلا يهم إن كان هذا الكتاب ملفّقاً أو صحيحاً; لأنّ الغاية هي ما جاء فيه وليس غير ذلك.

وبالفعل، تأكدت بعد ذلك من وجود هذه الأحاديث في الصحاح وكتب التفسير والتاريخ، وكلّ ما قاله واحتجّ به السيّد عبد الحسين شرف الدين من حجج باهرة لا يمكن نكرانها إلاّ على من لا يريد أن يرى ضوء الشمس.

لا أُريد في هذه المقدّمة أن أذكر الآيات والأحاديث التي

الصفحة 29
تتحدّث عن إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام); لأنّها سوف تذكر في طيّات هذا الكتاب، ولكن سوف أذكر هنا حديثين فقط، نالهما الكثير من التعتيم والتجاهل، مع وجودهما في صحاح المسلمين وكتبهم المعتبرة.

1 ـ حديث الغدير:

قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فينا خطيباً بماء خماً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أ يّها الناس ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: بلى يا رسول الله، فأخذ بضبعي علي ورفع يديه حتى بان بياض إبطيه وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم والي من والاه، وعادي من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار".

ذكر هذا الحديث في كثير من كتب المسلمين وبطرق عديدة وبألفاظ مختلفة تؤدّي الغرض نفسه، وأجمع علماء السنّة والشيعة على أنّه كان بعد العودة من حجّة الوداع(1).

____________

1- مسند أحمد 1: 118 وصحّحه المعلّق على المسند الشيخ أحمد شاكر، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 104 وصحّح الحديث، السنن الكبرى للنسائي 5: 136، خصائص النسائي: 103، المعجم الكبير للطبراني 4: 17 و5: 192، كنز العمّال للهندي 11: 609 و11: 610 و13: 131، فيض القدير 6: 282

=>


الصفحة 30

2 ـ حديث الثقلين:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور.. وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في

____________

<=

وعلّق عليه بقوله: "قال ابن حجر: حديث كثير الطرق جدّاً، استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، منها صحاح، ومنها حسان، وفي بعضها قال ذلك يوم غدير خم، وزاد البزار في رواية: اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحّب من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وأنصر من نصره، واخذل من خذله" ولما سمع أبو بكر وعمر ذلك قالا ـ فيما أخرجه الدار قطني عن سعيد بن أبي وقاص ـ: "أمسيت يابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة"، وأخرج أيضاً: قيل لعمر: إنّك تصنع بعليّ شيئاً لا تصنعه بأحد من الصحابة؟

قال: إنّه مولاي".

وفي تفسير الثعلبي عن ابن عيينة أن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قال ذلك طار في الآفاق، فبلغ الحارث بن النعمان، فأتى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمّد أمرتنا عن اللّه بالشهادتين، فقبلنا، وبالصلاة والزكاة والصيام والحجّ، فقبلنا، ثمّ لم ترض حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضّله علينا؟! فهذا شيء منك أم من اللّه؟ فقال: "والذي لا إله إلاّ هو إنّه من اللّه"، فولى وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقول محمّد ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ حقّاً; فأمطر علينا حجارة من السماء أو ايتنا بعذاب أليم، فما وصل لراحلته حتّى رماه اللّه بحجر فسقط على هامته فخرج من دبره وقتله".

مستدرك الحاكم 3: 109 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه"، البداية والنهاية لابن كثير 5: 228 وقال شيخنا أبو عبد اللّه الذهبي: وهذا حديث صحيح، سسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4: 331.


الصفحة 31
أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي"(1).

كما قلت: لن نناقش هذين الحديثين الآن، ولكن ما أُريد أن أقوله: إنّه لو لم يوجد في كتب الحديث عند أهل السنّة إلاّ هذين الحديثين لكفى في إثبات إمامة الإمام علي والأئمة من ولده (عليهم السلام).

لذلك انتبه لهذه المسألة الكثير من كتّاب وخطباء المساجد وأساتذة الفقه من أهل السنّة، فاستعاضوا عن كلمة (وعترتي) بكلمة (وسنّتي)! مع أنّها غير موجودة في الكتب المعتبرة والصحيحة عندهم، وتراهم لا يذكرون في خطبهم هذا الحديث إلاّ ويغيرون هذه الكلمة إلى كلمة (وسنّتي).

____________

1- صحيح مسلم 7: 923 كتاب الفضائل، باب فضائل علي (رضي الله عنه)، سنن الدارمي 2: 432، فضائل الصحابة للنسائي: 22، مسند أحمد 4: 267، السنن الكبرى للبيهقي 2: 148 و7: 31 و 10: 41، سنن الترمذي 5: 329، صحيح الجامع الصغير للألباني 1: 482، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 162 وقال عنه: "رواه أحمد وإسناده جيّد"، البداية والنهاية لابن كثير 5: 228، وقال: "قال شيخنا أبو عبد اللّه الذهبي، وهذا حديث صحيح"، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4: 357، والحديث متواتر لا غبار عليه قال سامي بن أنور المصري الشافعي في كتابه الزهرة العطرة من حديث العترة: 79: "فحديث العترة بعد ثبوته من أكثر من ثلاثين طريقاً، وعن سبعة من صحابة سيّدنا رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله ورضي اللّه عنهم ـ وصحته التي لا مجال للشكّ فيها يمكننا أن نقول: إنّه بلغ حدّ التواتر".