أصنام تواجهني:
إنّ ما كان يواجهني مع النصارى عندما كنت أحاورهم حول الإسلام من منع رهبانهم لهم من القراءة ودراسة الأُمور بتعقّل وحكمة، صار يوجّه لي من علماء أهل السنّة الذين جعلوا الصحابة عدول ولا يجوز التعرّض لهم، وإنّ الكتب فيها الغث والسمين، ولا يصح أن يقرأها كلّ من هبّ ودب، ولا يجب أن نناقش مثل هذه الأُمور.
وعندما رفضت أن أحجز عقلي حكموا عليّ بالضلالة، كما صرّح أحد المشايخ الذين كنت أحضر دروسهم وحتى إنّه رفض مناقشتي في هذه الأُمور.
وشيخ آخر نصح الناس بالابتعاد عنِّي، وذلك عندما نقل له أحد من كان يحضر عندي من تلاميذه بأنّي أعطيهم بعض الكتب لكي يقرأوها مثل كتاب (ثم اهتديت) للدكتور محمّد التيجاني، وكتاب (المراجعات)، وكتب كلّ الذين كتب الله لهم الهداية إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
فما كان من هذا الشيخ إلاّ أن قال في خطبة يوم الجمعة وعلى المنبر: إنّ أحد الزنادقة يوزّع كتباً فيها سبّ وشتم للصحابة، فننصح
هذا كلّ ما عنده و عند أمثاله، فأيّ إنسان يخالفه في الرأي سيصبح زنديقاً يسبّ الصحابة ولا يصحّ أن يكلّمه أحد!
وعندها آثرت أن أقرأ كتاب العواصم من القواصم لأرى ما فيه، ففوجئت عندما وجدت فيه من سبّ وشتم للصحابة وانتقاص لهم، وفي نهاية الكتاب وجدت فتوى بقتل الشيعة وكلّ من يخالف مذهب العامة.
لذلك قرّرت أن أذهب إلى هذا الشيخ وذلك في يوم الجمعة، وقد أخذت معي كتاب العواصم من القواصم، بعد أن همشّته ووضعت علامات على المواضيع التي ينتقص فيها مؤلّف الكتاب من الصحابة، وأخذت معي أيضاً كتاب التشيّع للسيد عبد الله الغريفي (حفظه الله).
وفي يوم الجمعة دخلت إلى مسجد الزهراء (عليها السلام) في منطقة المزة واستمعت إلى الخطبة، ثمّ صلّيت معهم صلاة الجمعة، وبعد الانتهاء التفت الشيخ إلى الحضور، وبدأ يجيب عن أسئلتهم، فلمّا شارف الشيخ على الانتهاء وعندما هم بالوقوف، قمت له سائلاً وقلت له: إذا سمحت يا شيخ عندي بعض الأسئلة.
وهنا بادرني بالسؤال عندما رأى كتاب العواصم من القواصم
فقلت له: نعم، حسب ما طلبت أنت من الإخوة، فطلب منّي أن أعطيه الكتاب ليتأمّله، وبالفعل أخذه من يدي، وبدأ يتصفحه ويبدي سروره عند كلّ صفحة، وعندما قال لي ما سؤالك؟
فقلت له: إن كان يوجد هنا مكتبة أو مكتب لندخل له حتى يتسنّى لنا الحديث بهدوء.
فقال: لا، أسأل هنا أمام الإخوة.
فقلت له: يا سماحة الشيخ، ألم يأمرنا الله بالاعتصام بحبل الله جميعاً، وأمرنا رسول الله الكريم (صلى الله عليه وآله) بعدم تكفير بعضنا البعض، وقال: من كفّر مسلماً فقد كفر، فكيف تأمر الناس بقراءة كتاب يفتي بقتل نصف المسلمين ممّن يشهدون الشهادتين ويقيمون الصلاة ويصومون شهر رمضان؟!
وهذا الكتاب أيضاً يسبّ الصحابة ويقول: إنّ بعض هؤلاء مثل عمّار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وكنانة بن بشر التُجيبي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي قد لعب فيهم ابن اليهوديّة (عبد الله ابن سبأ) فكادوا لدولة الإسلام وأججوا الفتنة التي أدّت إلى مقتل عثمان بن عفان.
فقاطعني هنا الشيخ وقال: تفضل لنتكلّم في الداخل.
فقلت له: أنت قلت: أسأل هنا أمام الإخوة.
فقلت له: هذا هو الكتاب، وفتحت له الصفحة التي فيها الفتوى بقتل الشيعة، وقال كاتب الكتاب في الصفحة (259):
"وأكثر الملحدة على التعلّق بأهل البيت، وتقدّمة علي على جميع الخلق، حتى إنّ الرافضة انقسمت إلى عشرين فرقة أعظمهم بأساً من يقول: إنّ علياً هو الله، والغرابيّة يقولون: إنّه رسول الله، لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمّد حميّة منه معه!! في كفر بارد لا تسخنه إلاّ حرارة السيف، أمّا دفء المناظرة فلا يؤثّر فيه"(1).
وأريته في صفحة أُخرى كيف حاول المؤلّف تنزيه من غضب عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمر بقتله حتى ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة وطعن بغيره، فقد قال الكاتب:
"وأمّا الوليد بن عقبة فقد روى بعض المفسّرين أنّ اللّه سمّاه فاسقاً في قوله: {اِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ}.. وقيل في علي والوليد في قصّة أُخرى"، وقال محقّق الكتاب: "كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة، ويسمّيه اللّه فاسقاً، ثمّ
____________
1- العواصم من القواصم: 259، تحقيق محبّ الدين الخطيب.
وكأنّه يوحي بأنّ هذه الآية نزلت في (علي) معاذ الله.
وهنا التفت إلي الشيخ قائلاً: أنا لم أقرأ الكتاب.
فقلت له: إذن كيف تأمر الناس بقراءة الكتاب وأنت لا تعرف ما فيه؟! وكيف نصحت الناس بعدم قراءة كتب الشيعة وكتب أُخرى تزعم أنّها تسبّ الصحابة وأنت لم تقرأها أيضاً؟!
وعلى كلٍّ أقول لك قول الإمام علي (عليه السلام)؟
فقاطعني قائلاً: ماذا تعمل أنت؟
قلت له: ليس هذا محل الموضوع.
على كلّ، يقول الإمام علي (عليه السلام): "الناس أعداء ما جهلوا"(2)، وأنت تجهل كل شيء عن الشيعة، إلاّ ما يقوله الواشون المغرضون والمشنّعون، وقد أتيتك بكتاب يشرح منشأهم وأُصول المذهب عندهم، وأتمنى منك أن تقرأ بعين المنصف، وسوف آتي إليك في الأسبوع المقبل لأعرف رأيك، وهذا رقم هاتفي واسمي وعنواني، فبان عليه الاستغراب عند سماع اسمي، فعرفت ما يدور في ذهنه، فقلت له: إنّي كنت حنفي المذهب، والآن أتبع مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
____________
1- العواصم من القواصم: 102، تحقيق محبّ الدين الخطيب.
2- نهج البلاغة 4: 42، باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام).
وعندما أتى الموعد ذهبت إلى المسجد ولم يكن قد اتصل بي خلال هذا الأسبوع، وعندما قابلته بعد الصلاة اعتذر وقال: إنّه لم يقرأ الكتاب لأنّه مشغول، وعنده دورة لتحفيظ القرآن الكريم، وواعدته في الأسبوع الذي يليه، ولكنّه للأسف خرج من المسجد عندما رآني وأنا أصلي، ولم يلتفت إليّ.
فعرفت أنّه لم ولن يقرأ الكتاب، فلم أعد له ولم يتصل بي، ولكنّي عرفت رأيه من نظرة بعض الأصدقاء لي ونفورهم منِّي، وكانوا يقولون لي: لماذا تركت مذهبك واعتقادك السابق، وكنت دائماً أشرح لهم وأعرَّفهم الحقّ وقد اهتدى البعض، واستنكف آخرون; لأنّهم كانوا يأخذون بكلام مشايخهم وإن كان بلا دليل، ويرفضون كلامي وإن أتيت عليه بألف دليل من الكتاب والسنّة. وقد نسوا قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ...}(1).
ومن المعلوم أنّ النصارى لا يعبدون أحبارهم ولا رهبانهم، بل يطيعونهم فيما يقولون ويصدّقونهم ويسلّموا لهم دون دليل ودون تعقّل أو تفهّم، لذلك وصفهم الله بأنّهم يعبدونهم من دون الله.
____________
1- التوبة: 31.
قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها...}(1).
ولهذا حرّرت عقلي، ومضيت في سبيل الله لا أخشى لومة لائم، وبذلك نزعت التعصّب الأعمى وما أورثه لي أسلافي، فانكشف لي ما حاولوا تغطيته والتعتيم عليه عبر العصور.
وما أحوجنا الآن إلى دراسة هذا التاريخ الذي اختفى من ورائه النزاع السياسي والصراع الطائفي، دراسة واقعية على ضوء التحقيق العلمي المجرّد عن التعصّب والتحيز ليظهر الحقّ، والحقّ أحقّ أن يتّبع.
والحمد لله على ما هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
منهجي في هذا الكتاب:
سوف أُحاول في هذا الكتاب ـ واعتماداً على أبواب عدّة ـ أن أميط اللثام عن الكثير من الحوادث التاريخية التي حصلت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أُمور الخلافة وما تبعها من حوادث وحروب وفتن ومؤامرات.
وقد وضعتُ هذه الأبواب على طريقة إفادات، أي أن أحضر الشخصيّات التي لعبت دوراً في هذا التاريخ، وكان لهم الأثر الكبير
____________
1- محمّد: 24.
وقد اعتمدتُ في هذا الكتاب على كتب عدّة، وقد سجّلت أسماءها، وأين يوجد كلّ جواب أو مسألة في الهامش.
ولم اعتمد إلاّ على الروايات من كتب أهل السنّة، وطرحت الآراء التي يتبناها الشيعة مع صحتها وثقتي بها، ولكن الاحتجاج على أهل السنّة بما ألزموا به أنفسهم أجدى وأنفع وأقوى; اعتماداً على المقولة: "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم"، و"من فمك أدينك".
وقد يكون للحادثة التاريخية ألفاظ عدّة، ورواة عدة، ومعان عدّة، ولكني لن أنتقي ما يؤكّد ما أرمي إليه في رأيي، وأطرح الباقي كما يفعل الكثيرون من الكُتّاب من أهل الخلاف، إذ إنّهم يأخذون ما يوافق منهجهم ويتركون ما يناقضه، بل اعتمدتُ ـ قدر الإمكان ـ في أخذي للأحاديث والروايات ما هومقبول عند الفريقين، وذلك أنجع للحجّة وأكثر تطبيقاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّ أُمتي لا تجتمع على ضلالة"(1).
____________
1- سنن ابن ماجه 2: 1303، ونحوه في مسند أحمد 6: 396، سنن الدارمي: 1: 29، سنن الترمذي 3: 315، مستدرك الحاكم 1: 115، السنن الكبرى للبيهقي 2: 454، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 218، وغيرها من المصادر.
حوار مع أبي بكر (الخليفة الأول)
السقيفة.
اجتماع الأنصار.
أخذ البيعة من قريش.
محاولة أخذ البيعة من سيّد أهل البيت (عليهم السلام).
منع إرث فاطمة (عليها السلام) ونحلتها.
موت فاطمة (عليها السلام) وهي غاضبة على أبي بكر.
حرق الأحاديث ومنع روايتها.
حروب الردّة.
عهد أبي بكر باستخلاف عمر.
حوار مع أبي بكر (الخليفة الأوّل)
س1 ـ هل يمكننا أن نتعرّف عليك؟
ج ـ اسمي أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك.
وأمّي أمّ الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة(1).
وكنت أعمل في التجارة وأعرف علم الأنساب.
أسلمت بعد أربعة أو خمسة من الصحابة، فأوّل من أسلم خديجة وعلي وزيد بن الحارثة ثمّ خالد بن سعيد بن العاص وأبو ذر وأنا(2).
رافقت رسول الله في كلّ غزاوته، وكنت أجلس معه في العريش، ولم أشارك في القتال ولم أبارز أحداً خلال معارك الرسول(3).
س2 ـ يقول البعض من أهل السنّة بأنّك وصلت إلى الخلافة
____________
1- تاريخ الطبري 2: 615.
2- تاريخ الطبري 1: 615.
3- تاريخ الطبري 2: 33.
ج ـ أولا: لم يكن معي من رسول الله أيّ نصّ، ولو كان معي مثل هذا النصّ لاحتججت به يوم السقيفة; لأنّي كنت في أشد الحاجة إلى ما أثبت به أمري يوم ذاك.
ـ ثانياً: أمّا بشأن ما يدّعيه البعض من موضوع الصلاة، فهي لم تكن إلاّ مرّة واحدة. وقصتها: إنّ ابنتي عائشة بعثت لي وقالت: إنّ رسول الله مريض فصلّ بالناس، وما إن بدأت بالصلاة حتى خرج رسول الله يتهادى من شدّة مرضه بين الفضل بن العباس وعلي ودخل المسجد وصلّى عن يميني قاعداً وصلّى الناس، فلمّا فرغ من الصلاة أقبل على الناس وكلّمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول: "يا أ يّها الناس سُعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإنّي والله لا تمسكوا عليّ شيئاً. إنّي لم أُحلّ لكم إلاّ ما أحلّ لكم القرآن، ولم أُحرّم لكم إلاّ ما حرّم عليكم القرآن"(1).
وعليه فإنّ رسول الله لم يأمرني بالصلاة بالناس، ولو كان فعل لما
____________
1- تاريخ الطبري 7: 441.
وكيف يأمرني بذلك وقد كان جنّدني في جيش أُسامة بن زيد وقد كان معسكراً خارج المدينة، وكنت معهم، وإنّما كنت أتردّد على المدينة لعيادة رسول الله، ومن المعلوم أنّ قائد الجيش هو الإمام في الصلاة، وقد كان أُسامة بن زيد هو إمامنا في الصلاة؟
وقبل وفاته استأذنته بالذهاب إلى أهلي بالسنح(1)، فأذن لي، لذلك عندما توفّي رسول الله لم أكن في المدينة.
وأيضاً لم احتج بقصة الصلاة في السقيفة لأنّها عليّ لا لي.
ـ وأمّا بشأن أنّي كنت صديقه في الغار، فقصته أنّني أتيت في يوم هجرة رسول الله إلى داره، فوجدت علياً، فسألته عن نبيّ الله فأخبرني أنّه لحق بالغار من ثور، فخرجت مسرعاً، فلحقت نبيّ الله في الطريق، فسمع رسول الله جرسي في ظلمة الليل، فحسبني من المشركين، فأسرع في المشي، فانقطع قبال نعله، ففلق إبهامه حجر، فكثر دمها، وأسرع السعي، فخفت أن يشقّ على رسول الله، فرفعت صوتي وتكلّمت، فعرفني رسول الله، فقام حتى أتيته، فانطلقنا ورجل رسول الله تستن دماً حتى انتهينا إلى الغار في الصبح(2).
____________
1- السنح: أرض قريبة من المدينة.
2- تاريخ الطبري 2: 100.
السقيفة:
س3 ـ كيف علمتَ بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وما قصة اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؟
ج ـ أخبرتك آنفاً أنّني كنت في داري عند أهلي في (السنح)، وعند عودتي إلى المدينة لعيادة رسول الله وجدت عمر على باب المسجد واقفاً شاهراً سيفه يتهدّد ويتوعّد الناس، وهو يقول: إنّ رسول الله لم يمت، ولكنّه ذهب إلى ربِّه كما ذهب نبّي الله موسى (عليه السلام)، وإنّه سيعود ويقطع أيدي وأرجل رجال يزعمون أنّه مات. وكان لا يدع أحداً يدخل إلى الدار، فقلت له: على رسلك يا عمر أنصت، فأبى إلاّ أن يتكلّم، فلمّا رأيته لا ينصت دخلت، وكان رسول الله مسجّى في ناحية البيت عليه برد حبرة، فكشفت عن وجهه وقبّلته، وقلت: بأبي أنت وأمي، أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثمّ لن يصيبك بعدها موتة أبداً، ثمّ رددت الثوب على وجهه، ثمّ خرجت وأقبلت على الناس، فحمدت الله وأثنيت عليه ثمّ قلت:
- "أيّها الناس، من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن وكان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت، ثمّ تلوت هذه الآية: {وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
فوالله لكأن الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت على رسول الله، فأتاني عمر وأخبرني أن أخرج إليه، وعندما خرجت أخبرني أنّ بعض الأنصار مجتمعون في سقيفة بني ساعدة لأمر، ولابدّ أن نكون هناك حتى لا يقطع أمر لا نكون فيه، فذهبنا وأخذنا معنا أبا عبيدة بن الجراح، وفي طريقنا باتجاه السقيفة وجدنا (عويم بن ساعدة الأنصاري ومعن بن عدي) وهما من صفوة الأنصار وممّن شهدوا بدراً، وقالوا لنا: ارجعوا واقضوا أمركم بينكم.
فلم نلتفت إليهم وتابعنا مسيرنا إلى السقيفة، وعندما وصلنا وجدنا جماعة من الأنصار ويوجد بينهم رجل مزّمل.
فقلنا لهم: من هذا الرجل؟
فقالوا: سعد بن عبادة، وقد كان مريضاً لا يقوى على الوقوف.
وهنا حاول عمر أن يتكلّم، ولكنّي منعته وبدأت الكلام، فحمدت الله وأثنيت عليه، ثمّ ذكرت ما للأنصار من فضل فلم أترك شيئاً إلاّ قلته، ثمّ قلت: كنا معاشر المسلمين المهاجرين أوّل الناس إسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع، ونحن عشيرة رسول الله، وأوسط العرب أنساباً. ليس من قبائل العرب إلاّ ولقريش فيها ولادة.
وبعد أن أنهيت كلامي وقف عمر، وقد كان قد زوّر مقالة قبل أن
____________
1- آل عمران: 144.
فقال عمر: إنّه والله لا ترضى العرب أن تؤمرّكم ونبيّها من غيركم، ولكنّ العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلاّ من كانت فيها وأولوا الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة.
فقالت الأنصار: لا نبايع إلاّ علياً.
فقلت لهم: إنّي ناصح لكم في أحد هذين الرجلين أبي عبيدة بن الجرّاح، أو عمر بن الخطاب، فبايعوا من شئتم.
فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أبسط يدك أُبايعك.
فبايعني عمر وأبو عبيدة وتتابع الأنصار على مبايعتي، وتخلّف سعد وأولاده.
فقال عمر: اقتلوا سعداً قتله الله.
وتمّت البيعة، ثمّ ذهبنا إلى المسجد فقال عمر للناس:
مالي أراكم حلقاً شتى قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومن معه من بني أُميّة فبايعوا، وقام سعد بن أبي
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 7، الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 13، ونحوه في تاريخ تاريخ الطبري 2: 458.
اجتماع الأنصار:
س4 ـ هذا يعني أنّ الأنصار لم يكونوا مجتمعين من أجل أن يبايعوا سعد بن عبادة كما يزعم البعض; لأنّه كما ذكرت كان مريضاً ولا يقوى على الوقوف، وإنّ جماعة من الأنصار كانوا يعودونه، وأيضاً في معرض حديثك قلت: أنّكم صادفتم عند مجيئكم إلى السقيفة (عويم بن ساعدة ومعن بن عدي) وهما باتجاه المسجد، أي خارجين من السقيفة وغير هذا، فكيف يكونون مجتمعين من أجل البيعة مع أنّ عمر قد منع الناس من أن يقولوا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مات؟ أي إنّ الذين كانوا خارج المسجد لا يعلمون حقيقة الموقف..؟
ج ـ هذا صحيح، ولكن عندما علم عمر باجتماع الناس في السقيفة، تبادر إلى ذهنه أنّهم لابدّ أن يذكروا أمر الخلافة من بعد الرسول بناءً على مرض الرسولَ وهذا ما حصل.
س5 ـ من هو الشخص الذي أخبر عمر باجتماع السقيفة كما
____________
1- الإمامة والسياسة: 18.
ج ـ لا أعرف بالضبط من هو المخبر، ولكن من أخبرني هو عمر.
أخذ البيعة من قريش:
س6 ـ هل كانت البيعة عامة؟ أي هل كانت بالإجماع أم أنّه امتنع أحد عن هذه البيعة؟
ج ـ لم تكن هذه البيعة عامة في أوّل الأمر، بل امتنع عن البيعة من الأنصار سعد بن عبادة، وعند دخولنا إلى المسجد وقول عمر للناس أن يقوموا للبيعة خرج من المسجد علي ومعه بنو هاشم وأبو ذر الغفاري وطلحة والزبير بن العوّام والمقداد بن الأسود وعمّار بن ياسر وآخرون من المهاجرين(2).
س7 ـ ماذا فعلتم بعد ذلك بمن امتنع عن البيعة؟
ج ـ في أوّل الأمر لم نهتم بمن امتنع عن البيعة، لكن عندما بدأ خروج علي يحمل فاطمة بنت محمّد (عليها السلام) على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، وكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت
____________
1- تفسير القرطبي 4: 224.
2- الإمامة والسياسة: 28.
وعند عودة أبي سفيان حاول أيضاً أن يستنهض علياً بقوله:
أين الأذلاّن علي والعباس؟ وما لهذا الحيّ من قريش بهذا الأمر؟ وقال لعلي: امدد يدك أُبايعك، ولكنّ عليّاً رفض ذلك، وقال له: إنّك واللّه ما أردت إلاّ الفتنة وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّاً.
وهنا كلّمني عمر قائلا:
إنّ أبا سفيان قادم، وإنّا لا نأمن شرّه، فدع له ما بيده من الصدقات.
(وقد كان أبو سفيان يجمع الصدقات بناءً على أمر رسول الله).
فتركنا له ما بيده من الصدقات، وعيّنت ابنه معاوية قائداً آخر بنفس الجيش تحت إمرة أخيه يزيد، فكان معاوية على مقدّمة جيش يزيد في فتح صيدا وعرفة وجبيل وبيروت. وهكذا رضي أبو سفيان وامتنّ لنا وقال: وصلته رحم(2).
وأمّا بالنسبة للعباس، فقد أشار عليّ المغيرة بن شعبة بقوله:
إنّ الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له في أمر الخلافة نصيباً يكون
____________
1- الإمامة السياسة: 19، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 13.
2- نظام الحكم للقاسمي: 152، تاريخ الطبري 2: 449.
إنّ الله بعث محمّداً نبياً وللمؤمنين ولياً، فمّن الله تعالى بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له الله ما عنده، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متّفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم وليّاً ولأمورهم راعياً، وما أخاف بعون الله وهناً ولا حيرة ولا جبناً وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب، وما أزال يبلغني عن طاعن يطعن بخلاف ما أجمعت عليه عامة المسلمين ويتخذوكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع، فإمّا دخلتم فيما دخل فيه العامة أو دفعتموهم عمّا قالوا إليه، وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عمّ رسول اللّه، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان أصحابك فعدلوا الأمر عنكم، وعلى رسلكم يا بني عبد المطلب فإنّ رسول الله منا ومنكم.
ثمّ قال عمر: أي والله، وأُخرى أنا لم نأتكم حاجة منّا إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما أجمع عليه العامة فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم وعامتكم.
ولكن كان ردّ العباس حاسماً، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
إنّ الله بعث محمّداً كما زعمت نبياً، وللمؤمنين ولياً، فمّن الله
وأمّا قولك إنّ رسول الله منّا ومنكم، فإنّه من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها..(1).
س8 ـ إذن لم تصيبوا هدفكم بأن تجعلوا العباس (رضي الله عنه) من طرفكم؟!
ج ـ نعم، لأنّه رفض وامتنع عن البيعة، وكان ردّه حاسماً، وانضم إلى عليّ، ولم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر، أيّ بعد موت فاطمة بنت محمّد.
محاولة أخذ البيعة من سيّد أهل البيت (عليهم السلام):
س9ـ ماذا حصل بعد ذلك بالآخرين الذين امتنعوا عن البيعة؟
ج ـ تفقدّت يوماً قوماً تخلّفوا عن البيعة فقالوا لي: إنهم في دار
____________
1- الإمامة والسياسة: 32 ـ 33.
فقيل له: يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة؟
فقال: وإن! فخرجوا فبايعوا إلاّ علياً فإنّه قال: "حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن".
فوقفت فاطمة على بابها، فقالت: "لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردّوا لنا حقّنا".
فأتى عمر إليّ، وقال: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟
فقلت لقنفذ (وهو مولى): اذهب فادع لي عليّاً، فذهب إلى عليّ فقال له: ما حاجتك؟
فقال: يدعوك خليفة رسول الله.
فقال عليّ: لسريع ما كذبتم على رسول الله، فرجع فأبلغني الرسالة فبكيت طويلا.
فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة.
فقلت لقنفذ: عد إليه، فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع.
فجاءه قنفذ، فأدى ما أمرته به، فرفع عليّ صوته فقال: سبحان الله! لقد ادّعى ما ليس له.