الصفحة 55
فرجع قنفذ فأبلغني الرسالة فبكيت طويلا.

ثمّ قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة، فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم آخرون، فأخرجوا عليّاً، فمضوا به إلي.

فقالوا له: بايع.

فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟

قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك.

فقال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله.

فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا، (وقد كنت ساكتاً لا أتكلّم).

فقال له عمر: بايع أبا بكر.

فقال: "أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا أُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً؟

ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمّد منكم، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيّاً وميّتاً،

الصفحة 56
فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.

فقال عمر: إنّك لست متروكاً حتى تبايع.

فأجابه الإمام علي: "احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً".

والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايع.

فقلت له: إن لم تبايع فلا أكرهك.

فقال أبو عبيدة لعلي: يا بن عم، إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالا واضطلاعاً به، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق، وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.

فقال علي: "الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به; لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأُمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية؟! والله إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله

الصفحة 57
فتزدادوا من الحقّ بعداً".

فلمّا سمع بشير بن سعد الأنصاري ـ الذي شقّ جمع الأنصار وبايعني في السقيفة ـ قال: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ـ ما اختلف عليك اثنان.

أمام إصرار عليّ قال عمر لي: ألا تأمر فيه بأمرك.

فقلت: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.

فلحق عليّ بقبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصيح ويبكي وينادي:

"يا بن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني"(1).

س10 ـ بعد أن استتب لك أمر الخلافة بعثت إلى أبيك رسالة فما نصها؟

ج ـ نعم، لقد بعثت لوالدي رسالة ليدخل فيما دخل الناس فيه، وقلت له فيها:

من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أبيه أبي قحافة.

أما بعد; فإنّ الناس تراضوا بي فإنّي اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا لكان أحسن بك.

فلمّا قرأ أبي أبو قحافة الكتاب، قال:

إن كان الأمر في ذلك بالسنّ، فأنا أحقّ من أبي بكر، لقد ظلموا

____________

1- الإمامة والسياسة: 28 ـ 31.


الصفحة 58
عليّاً حقّه، وقد بايع له النبيّ وأمرنا ببيعته، ثم كتب لي:

من أبي قحافة إلى أبي بكر، أما بعد:

فقد أتاني كتابك، فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضاً، مرّة تقول: خليفة رسول الله، ومرّة تقول: خليفة الله، ومرّة تقول: تراضى بي الناس، وهو أمر ملتبس، فلا تدخلن في أمر يصعب عليك الخروج منه غداً، ويكون عقابك منه إلى الندامة وملامة النفس اللوامة لدى الحساب يوم القيامة، فإنّ للأُمور مداخل ومخارج، وأنت تعرف من هو أولى بهامتك، فراقب الله كأنّك تراه، ولا تدعنّ صاحبها، فإنّ تركها اليوم أخف عليك وأسلم لك(1).

س11 ـ هذا يعني أنّكم استعملتم سياسة الترغيب والترهيب، ولم يكن الموضوع موضوع بيعة ونصّ ومشورة؟

فقد حاولتم استخدام القوّة بعد أن أعيتكم الحجّة في السقيفة على سعد بن عبادة ومن معه، فعند امتناعه عن البيعة حاول عمر في السقيفة تحريض الناس على قتله بقوله: اقتلوا سعداً قتله الله.

ورغّبتم أبا سفيان واستملتموه بعدما حاول مبايعة عليّ لغرض في نفسه، ورفض عليّ ذلك بقوله: والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، والله طالما بغيت للإسلام شرّاً، لا حاجة لنا بنصيحتك.

____________

1- الاحتجاج للطبرسي 1: 115.


الصفحة 59
فقد تركتم له ما بيده من الصدقات كما أشار عمر.

وحاولتم استمالة العباس بأن تجعلوا له في الأمر شيئاً له ولعقبه من بعده، لكنّه رفض.

وأيضاً حاولتم أخذ البيعة من عليّ بالقوّة وعندما خشيتم انقلاب الناس عليكم عند سماع حجّته وقول الأنصار: لو سمعت الأنصار منك هذا قبل بيعتها لأبي بكر لم يختلف عليك اثنان، فتركتموه، أو كما قلت أنت لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جانبه؟

ج ـ نعم، هذا صحيح، ولكن كان كلّ هذا من أجل حفظ بيضة الدين ولكي نلتفت إلى الأُمور الأُخرى، فقد كانت بعض القبائل قد بدأت بالارتداد، فكان لابدّ من أن نسرع في إتمام البيعة.

منع إرث فاطمة (عليها السلام) ونحلتها:

س12 ـ وهل من أجل حفظ الدين أيضاً قمتَ بمنع فاطمة (عليها السلام) إرثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومصادرة (فدك)، وهي الأرض التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نحلها إياها، وقد أخرجت عمّالها منها بعد أن استتب لك الأمر؟

أم أنّه كان من قبيل منع ما كان في يد عليّ وفاطمة (عليها السلام) وما تدرّه هذه الأرض من مال; لأنّه يمكن أن يميل الناس لهم؟

ج ـ لما بلغ فاطمة من إجماعنا على منعها إرثها وفدك نحلتها،

الصفحة 60
لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله حتى دخلت عليَّ وأنا في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة.

ثمّ أجهشت وأجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس، ثمّ أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله عزّ وجلّ والثناء عليه، والصلاة على رسول الله، ثمّ قالت:

{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيم}.

فإن تعزّوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلا عن سنن المشركين، ضارباً ثبجهم، يدعوا إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذ بأكظام المشركين، يهشم الأصنام، ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، وحتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقائق الشياطين، وتمّت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار، نهزة الطامع، ومذقة الشارب، وقبسة العجلان، وموطىء الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون القد والورق، أذلّة خاسئين، يختطفكم الناس من حولكم،

الصفحة 61
حتى أنقذكم الله برسوله (صلى الله عليه وآله) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مُني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ}(1)، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة قذف أخاه عليّاً في لهواتها، ولا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، وأنتم في رفاهية من العيش فكهون آمنون وادعون(2)، حتى اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وشمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأفكين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً فيكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، ولقربه متلاحقين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، إنما زعمتم خوف الفتنة {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ}(3).

فهيهات! وأنّى بكم وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم،

____________

1- المائدة: 64.

2- إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن عائشة، ومن بعده رواية عروة عن عائشة.

3- التوبة: 49.


الصفحة 62
زواجره بيّنة، وشواهده لائحة، وأوامر واضحة، أرغبة عنه تريدون، أم لغيره تحكمون؟! بئس للظالمين بدلا! {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}.

ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، تسرون حسواً في ارتغاء، ونحن نصبر منكم على مثل حز المدى، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنُونَ}(1)؟

يا بن أبي قحافة: أترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فرياً إدّاً! فدونكها مخطومه مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون"!

ثم قُمت خطيباً، فحمدتُ الله وأثنيت عليه وصليت على محمّد وقلت:

يا خير النساء وابنة خير الآباء، والله ما عدوت رأي رسول الله ولا عملت إلاّ بإذنه، وإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّي أشهد الله وكفى بالله شهيداً، إنّي سمعت رسول الله يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث"(2).

____________

1- المائدة: 50.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 252.


الصفحة 63
هذا الحديث لم يروه إلاّ أبو بكر، ولا يحقّ له الاستشهاد به; لأنّه لو كان هذا الحديث صحيحاً لكان عرفه أكثر الصحابة، وأيضاً الإمام علي (عليه السلام) باب مدينة العلم الذي كان يلازم رسول الله دائماً، وكتاب الله أيضاً يشهد بأنّ الأنبياء يورثون كما استشهدت سيّدة نساء العالمين عندما قالت لأبي بكر:

ـ {وَوَرِثَ سـلَيْمانُ داوُدَ}(1).

ـ {يرِثُنِي وَيـرِثُ مِنْ آلِ يَعْقـوبَ}(2).

ـ {يُوصِـيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيـيْنِ}(3).

ثمّ قالت لي: لئن مُت اليوم من كان يرثك؟

قلت: ولدي وأهلي.

قالت: فلم ورَثت أنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون ولده وأهله؟

فقلت: فما فعلت يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

قالت: بلى، إنّك عمدت إلى فدك، وكانت صافية لرسول الله وآله فأخذتها، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنّا.

فقلت لها: يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لم أفعل(4)!

____________

1- النمل: 16.

2- مريم: 5 ـ 6.

3- النساء: 11.

4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 232.


الصفحة 64
قلت لها: من يشهد بأنّ رسول الله قد أنحلك فدك؟ فجاءت بعليّ وأُمّ أيمن والحسنين وشهدوا لها بذلك.

فجاء عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف فشهدوا أنّ رسول الله كان يقسّمها، فصدّقت كلام عمر وعبد الرحمن بن عوف وصدقت كلامها.

وقلت لها: كان رسول الله يأخذ من فدك قوتكم ويقسّم الباقي ويحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها؟

قالت: أصنع بها كما صنع بها أبي.

فقلت: فلك عليّ الله أن أصنع فيها كما صنع فيها أبوك، فهجرتني فاطمة فلم تكلّمني حتى ماتت(1).

موت فاطمة (عليها السلام) وهي غاضبة على أبي بكر:

س13 ـ هل حاولت إرضاء فاطمة (عليها السلام) بعد ذلك؟

ج ـ لقد حاولت، وجاءني عمر، فقلت له: انطلق بنا إلى فاطمة، فإنّا قد أغضبناها، فانطلقنا جميعاً إلى فاطمة، فلم تأذن لنا، فأتينا عليّاً فكلّمناه، فأدخلنا عليها، فلمّا قعدنا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّمنا عليها فلم ترّد السلام.

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 216 218.


الصفحة 65
ثمّ قالت: "أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به"؟

قلنا: نعم.

فقلت: "نشدتكم الله، ألم تسمعا رسول الله يقول رضى فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة أبنتي فقد أحبّني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني"؟

قلنا: نعم، سمعناه من رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم).

قالت: "فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت أبي لأشكونكما إليه، ثمّ قالت: والله لأدعون الله عليكم في كلّ صلاة أُصليها"(1).

س14 ـ هذا يعني أنّ فاطمة ماتت وهي ساخطة عليك وعلى عمر؟!

ج ـ نعم، حتى إنّها أوصت عليّاً أن يدفنها ليلا ويخفي قبرها(2).

س15 ـ هل طالبتك فاطمة (عليها السلام) بشي آخر؟

ج ـ بعد منعي فاطمة من إرثها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأرض فدك

____________

1- الإمامة والسياسة: 31.

2- صحيح البخاري 5: 83، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.


الصفحة 66
طالبتني فاطمة بسهم ذوي القربى(1)، قائلة: لقد حرمتنا أهل البيت، فأعطنا سهم ذوي القربى، وقرأت آية: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى}(2).

فقلت لها: سمعت رسول الله يقول: سهم ذي القربى لهم في حال حياتي وليس لهم بعد موتي(3).

ولكني أعطيت عليّاً وفاطمة دابة رسول الله وحذاءه(4).

س16 ـ لا أعرف سبب إعطائكم دابة الرسول وحذائه لعليّ وفاطمة (عليهما السلام) وهي من الإرث مع ما تقول من منع الإرث لهم، وهذا يؤكّد أنّ ما ذهبتم إليه هو المنع الاقتصادي فقط، وكان قصدك من هذه القرارات التي اتخذتها أنّك منعت آل البيت من كلّ الموارد التي كانت مخصّصة لهم حال حياة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله).

وهكذا حرم أهل البيت (عليهم السلام) من إرث النبىّ (صلى الله عليه وآله) ومن المنح ومن الخمس الوارد في القرآن، والصدقة محرمة عليهم فمن أين يأكلون بحقّ الله؟

فقد روى مسلم: إنّ النبيّ كان إذا أُتي بطعام سأل عنه، فإن كان

____________

1- تاريخ الذهبي 1: 347.

2- الأنفال: 41.

3- مسند ابن راهوية 5: 27.

4- شرح نهج البلاغة لابن الحديد 16: 214، بلاغات النساء: 12 ـ 15.


الصفحة 67
هدية أكل منها، وإن كان صدقة لم يأكل منها وردّ الصدقة.. ومرّ النبيّ بتمرة بالطريق فقال: "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها".

وإنّ الحسن بن علي (عليه السلام) أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كخ كخ، إرم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة".

وفي رواية: "إنّا لا تحلّ لنا الصدقة"(1).

ج ـ إنّي أعول من كان رسول الله يعول، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه(2)، فآل محمّد يأكلون، ليس لهم أن يزيدوا على المأكل!(3)

س17 ـ هذا يعني أنّك اتّبعت سياسة تفقير المعارضة لكي لا يلتفت إليهم أحد ولا يفكروا بمعارضتك؟

ج ـ لقد أحسست بعد فترة بهذا الإجحاف الذي طال آل البيت، وكان كلّه بسبب الخلافة، وإنّ غضب فاطمة وسخطها عليّ وقولها إنّها ستدعوا عليّ في كلّ صلاة، وأدركت أنّي أوّل الضحايا من هذه

____________

1- صحيح مسلم 3: 117، كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وعلى آله، مسند أحمد 1: 20، سنن أبي داود 1: 373، مجمع الزوائد للهيثمي 3: 89.

2- سنن الترمذي 3: 81.

3- صحيح ابن حبان 11: 153، مسند الشامين للطبراني 4: 198، سنن أبي داود 2: 23.


الصفحة 68
البيعة فخرجت قائلا: "يبيت كلّ واحد منكم معانقاً حليلته مسروراً في أهله، وتركتموني وما أنا فيه، أقيلوني بيعتي"(1).

ولكنّ القوم أمروني بالبقاء، وتعلّلوا بسبب ظاهري مفاده: خشيتهم من عدم استقامة الأمر ورخاوة العروة، فاضطررت للبقاء مرغماً.

حرق الأحاديث ومنع روايتها:

س18 ـ لماذا قُمتَ بجمع ما كُتب من الأحاديث الشريفة وقُمتَ بإحراقها، وأمرتَ الناس ألاّ يحدّثوا عن النبىّ (صلى الله عليه وآله)؟

ج ـ كنت قد جمعت في كتاب خمسمائة حديث، وبعد وفاة الرسول قمت بإحراقها مخافة أن أكون قد أخذت هذه الأحاديث عن رجل قد ائتمنت ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد نقلت ذلك(2).

ثمّ جمعت الناس وقلت: إنّكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله، فمن سألكم قولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله

____________

1- الإمامة والسياسة: 31.

2- تذكرة الحفّاظ 1: 5.


الصفحة 69
وحرّموا حرامه(1).

س19 ـ هل منعك رواية الحديث كان برأيك، أم أنّه كان لديك نصّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك؟

ج ـ كان برأيي ولم يكن لدي أي نصّ بذلك، وإنّما خشيت من اختلاف الناس في رواية الحديث; لأنّهم بدأوا في الاختلاف في بداية عهدي.

س20 ـ على ماذا اختلف المسلمون وقد كنتم قريبي عهد برسول الله (صلى الله عليه وآله)، هل اختلفوا في عدد ركعات الصلاة أم على صيام شهر رمضان؟

ج ـ لا، كان جلّ خلافهم في مسألة الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم).

س21 ـ يتبادر هنا سؤالان؟

1 ـ إمّا أن تكون الأحاديث التي انتشرت في بداية عهدك تؤكّد النصّ على خلافتك، أو كما تدّعي ترك الأمر شورى بين الناس. ولو كانت كذلك لما كان هناك داع لمنع رواية أو كتابة هذه الأحاديث؟!!

2 ـ وإمّا أن تكون في خلاف ما ذهبتم إليه من البيعة ونصر لمخالفيك وفي إبراز فضائلهم وأحقيّتهم في هذا الأمر، فأحببت صرف الناس عن الخوض في ذلك الأمر وتوجيههم إلى القرآن؟

ج - نعم، هذا صحيح; لأنّ الناس بعد أن سمعوا بمقالة عليّ وأنّه

____________

1- تذكرة الحفّاظ 1: 3.


الصفحة 70
أحقّ منّي بهذا الأمر، بدأوا برواية أحاديث تؤيّده، لذلك أمرت بحرق الأحاديث وعدم كتابتها أو التحدّث بها والاكتفاء بالقرآن(1).

____________

1- إنّ ما يؤكّد هذا الهدف الذي سنّه أبو بكر ومَن جاء بعده ما رواه الزبير بن بكّار (ت256) بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد قال:

قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة (82هـ) وهو ولي عهد، فمرّ بالمدينة، فدخل عليه الناس فسلّموا عليه، وركب إلى مشاهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) التي صلّى فيها وحيث أصيب أصحابه بأُحد، ومعه أبان بن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبد اللّه، فأتوا قباء ومسجد الفضيخ ومشربة أُمّ إبراهيم وأُحد، وكلّ ذلك يسألهم، ويخبرونه عمّا كان.

ثمّ أمر أبان بن عثمان أن يكتب به سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومغازيه.

فقال أبان: هي عندي، وقد أخذتها مصحّحة، ممّن أثق فيه.

فأمر بنسخها، وألقى إلى عشرة من الكتاب فكتبوها في رق.

فلمّا صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وذكر الأنصار في بدر فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمضوا عليهم، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان: أيها الأمير لا يمنعنا ما صنعوا... أن نقول بالحقّ، هم ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعلّه يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فخرق وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعتُ، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان، فقال عبد الملك: وما حاجتك أن تقدّم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تعرّف أهل

=>


الصفحة 71

حروب الردّة:

س22 ـ بعد أن سكن لك الأمر في المدينة وبايعك الناس، إمّا رغبة أو رهبة أو طمعاً، ماذا فعلت بمن عارضك من خارج المدينة من القبائل؟

ج ـ لقد انتظرت حتى عاد جيش أُسامة بن زيد الذي كنت قد سيّرته كما أمر رسول الله، وعندما عاد عزمت على مقاتلة المرتدين من القبائل وهم كانوا على فئتين:

____________

<=

الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها!

قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرتُ بتخريق ما كنتُ نسخته حتى استطلع رأي أمير المؤمنين.

فصوّب رأيه.

راجع الموفقيات للزبير بن بكار: 332 نقلا عن معالم المدرستين للعسكري: 261.

ذكرتُ ذلك لأقول: إن كان بنو أميّة وبعد أن استتب لهم الأمر لا يتحمّلون ذكر فضل الأنصار، فكيف يتحملون ذكر فضل أهل البيت وسيدهم أمير المؤمنين؟!

ويدلّ عليه ما روي: أنّ خالد القسري ـ أحد ولاة بني أُميّة ـ طلب من أحدهم أن يكتب له سيرة النبيّ.

فقال الكاتب: فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب أفأذكره؟

فقال خالد: لا، إلاّ أن تراه في قعر جهنم..

راجع الأغاني: 19: 59 نقلا عن الصحيح من سيرة النبيّ للعاملي: 358.


الصفحة 72
ـ فئة أعلنوا الردّة جهرة عن الإسلام، وهؤلاء بعضهم ادّعى رؤساؤهم النبوّة.

أوّلهم ـ مسيلمة الكذّاب وكان على قبيلة بني حنيفة شرقي جزيرة العرب، وهذا ادّعى النبوّة قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وثانيهم ـ الأسود العنسي بصنعاء كلاهما ادّعى النبوّة إمّا قبيل حجّة الوداع أو بعدها في مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي مات فيه.

ثالثهم ـ طليحة بن خويلد الأسدي، الذي ادّعى النبوّة أيضاً في بلاد بني أسد في مرض الرسول (صلى الله عليه وآله).

رابعهم ـ ادّعت النبوّة سجاح بنت الحارث التميمية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ـ وفئة من قبائل العرب المسلمين امتنعوا عن أداء الزكاة. فبعضهم حبسها، وبعضهم توّقف يترقّب ما يصير إليه أمر الخلافة، وبعضهم قال: نأخذها من أغنيائنا ونعطيها فقراءنا، وإعلاني الحرب على هذه القبائل المرتدة كان فيه أهم داع إلى توحيد الكلمة في المدينة، حتّى إنّ علي بن أبي طالب أنهى عزلته ودعاني إلى بيته للبيعة.

وقد قال في ذلك: "فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد (صلى الله عليه وآله)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلمة أو هدماً تكون المصيبة به

الصفحة 73
عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل"(1).

س23 ـ لا خلاف في ضرورة الحروب التي قمت فيها ضدّ القبائل التي جهرت في ردّتها عن الإسلام، لكن السؤال عن القبائل التي أمسكت الزكاة فهؤلاء لم يرتدّوا عن الدين، بل منعوا الزكاة، لذلك نريد أن نسمع منك عن حالهم، وما كانت حجّتهم لمنع الزكاة؟

ج ـ هؤلاء كانت حجّتهم أنّهم كانوا يدفعون الزكاة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حال حياته، وأمّا بعد موته فإنّهم لن يدفعوها لي، بل سيأخذونها من أغنيائهم ويردّونها على فقرائهم.

س24 ـ لم تقل كلّ أعذارهم، لذلك سأعرض عليك حججهم!

فهذا الحارث بن سراق، أحد شيوخ كندة في حضرموت يقول:

نحن إنّما أطعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كان حيّاً، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه، وأمّا ابن أبي قحافة فلا، والله ما له في رقابنا طاعة ولا بيعة!

ثم قال:


أطعنا رسولَ اللهِ إذ كانَ بيننافيا عَجَباً ممّن يطيع أبا بكر(2)

والأشعث بن قيس، زعيم كندة كان يقول لقومه:

إن كنتم على ما أرى فلتكن كلمتكم واحدة، إلزموا بلادكم،

____________

1- نهج البلاغة 3: 119، من كتاب له (عليه السلام).

2- الفتوح لابن أعثم 1: 47.