الصفحة 91
الْكـافِرِينَ...}(1)(2).

____________

1- المائدة: 67.

2- تنبيه: أكّدت الكثير من المصادر على نزول هذه الآية على رسول الله حينما كان في طريق العودة من حجّة الوداع في مكان (غدير خمّ) وأنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب، ومن هذه المصادر:

1 ـ السيوطي في الدر المنثور 2: 298 عن أبي سعيد الخدري قال: "نزلت هذه الآية {يا أيُّها الرَّسُولُ...} على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خمّ في علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ".

2 ـ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1: 251 بإسناده عن ابن عباس في قوله تعالى الآية:...

قال: "نزلت في علي، أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبلّغ فيه، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) فقال من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه".

3 ـ الواحدي في أسباب النزول: 135: بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: "نزلت هذه الآية... يوم غدير خمّ في علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ".

4 ـ الفخر الرازي في التفسير الكبير 12: 49 ـ 50 قال في سياق تعداد الوجوه الواردة في سبب نزول هذه الآية:

"العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه".

فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبرّاء بن عازب ومحمّد بن علي".

=>


الصفحة 92
ولم يكد ينتهي من خطبته حتى نزلت هذه الآية من سورة المائدة:

آية إكمال الدين:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}(1).

____________

<=

5 ـ فتح القدير للشوكاني 2: 60 قال: "أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أ يّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك أن عليّاً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته".

1- توضيح: أشارت الكثير من مصادر التفسير والتاريخ إلى نزول هذه الآية بعد الانتهاء من الخطبة في غدير خم ومن هذه المصادر:

1 ـ السيوطي في الدر المنثور 2: 259 ذكر عن ابن مردويه وابن عساكر، كلاهما عن أبي سعيد الخدري قال: "لما نصب رسول الله عليّاً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط [ جبرئيل ] بهذه الآية..".

وذكر عن ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة قال: "لما كان يوم غدير خم وهو يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة قال النبيّ: (من كنت مولاه فعلي مولاه)، فأنزل الله هذه الآية".

2 ـ الحمويني في فرائد السمطين: 1: 74 ح40 روى بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دعا الناس إلى علي (عليه السلام) في غدير خم وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمّ، [ قُمَّ: أي أزيل ] وذلك يوم الخميس،

=>


الصفحة 93
وهنا وعند نزول هذه الآية وما قال رسول الله تأكدتُّ أنّ هذا الأمر أصبح لعليّ بن أبي طالب، ولكنّي كنت أعلم أنّ قريش لن ترضى به; لأنّه قتل ساداتها في حروب الرسول، وأيضاً فقريش لن ترضى أن تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم، وهذا ما صرّحت به

____________

<=

فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله، ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية {اليوم أكملت..} فقال رسول الله: "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي".

3 ـ ابن عساكر في ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ دمشق: 42: 233 روى بإسناده عن أبي هريرة قال: "من صام ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خمّ لمّا أخذ النبيّ بيد علي فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم، فأنزل الله الآية".

4 ـ الحاكم الحسكاني الحنفي أيضاً في شواهد التنزيل 1: 201 ح 211 روى بإسناده عن أبي سعيد الخدري، قال: "إن رسول الله لما نزلت هذه الآية قال: (الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي وولاية علي اللهمّ والي من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله".

5 ـ تاريخ بغداد 8: 284، وذكر نحو ما تقدّم.

6 ـ البداية والنهاية لابن كثير 7: 386.


الصفحة 94
عندما أصبحت الخليفة واستتب لي الأمر فقد قلت لابن عباس: يا بن عباس، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد؟

قال ابن عباس: فكرهت أن أُجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري، فإنّ أمير المؤمنين يدري.

فقلت: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتجحّفوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام وتحطّ عنّي الغضب تكلّمت.

فقلت له: تكلّم.

قال ابن عباس: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: (اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت)، فلو أنّ قريشاً اختارت من حيث اختار لها الله لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأمّا قولك: (إنّهم أبو أن تكون لنا النبوّة والخلافة) فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهيّة فقال: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالـهُمْ}(1).

فقلت له: هيهات يا بن عباس، قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.

____________

1- محمّد: 9.


الصفحة 95
فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقلت له: بلغني أنّك تقول: صرفوها عنا حسداً وبغياً وظلماً.

قال ابن عباس: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: (ظلماً) فقد تبين للجاهل والحليم، وأمّا قولك: (حسداً) فأنّ آدم حُسد ونحن ولده المحسودون.

فقلت (عمر): هيهات هيهات، أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسداً لا يزول.

فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين مهلاً، لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بالحسد والغش، فإنّ قلب رسول اللّه من قلوب بني هاشم.

فقلت له: إليك عني يا بن عباس(1).

ومنذ عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع فقد كان يحاول أن يثبت هذا الأمر لعليّ لعلمه من أنّ قومه لن يرضوا به بعد وفاته، لذلك حاول إبعاد كلّ كبار الصحابة وذلك بتجهيز جيش جعل جل الصحابة فيه، وقد جنّدني فيه مع أبي بكر وأبي عبيدة وعثمان، وأمّر علينا أُسامة بن زيد، وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشر من العمر، وقد

____________

1- تاريخ الطبري 3: 289، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 189.


الصفحة 96
عرفت مقصد الرسول من هذا الأمر، لذلك حاولت تعطيل خروج الجيش بعدّة وسائل:

أولها:

طعني بأُسامة بن زيد لصغر سنه ونحن كبار الصحابة مجنّدون في جيشه، وقد راقت هذه الفكرة للكثيرين، لذلك تأخّر البعث، وقد بلغ رسول الله ذلك، فخرج معصّب الرأس محموماً يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطّان الأرض من شدّة ما به من لغوب، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

"أ يّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة، ولئن طعنتم في تأميري أُسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم والله إنّه خليقاً بالإمارة، وإنّ ابنه من بعده لخليق بها"(1).

"لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة بن زيد"(2).

ومع ذلك تشدّدنا في الأمر، ولم ينفذ البعث ريثما نرى ما تنجلي عنه الأُمور.

____________

1- ورد بألفاظ مختلفة في مسند أحمد 2: 20، صحيح البخاري 5: 84، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، صحيح ابن حبان 15: 535، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 159.

2- الملل والنحل للشهرستاني 2: 173، شرح المواقف للجرجاني: 619 نقلا عن جواهر المطالب في مناقب الإمام علي 2: 173.


الصفحة 97
س4 ـ كيف علمت بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يريد أن يصرح باسم علي (عليه السلام) في كتابة الوصيّة، وماذا فعلت؟

ج ـ قلت لك: إنّنا أخّرنا بعث جيش أسامة، وفي هذا الوقت كنّا لا نغادر المسجد ودار الرسول، لذلك عندما طلب رسول الله أن يكتب الكتاب بقوله: "هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً".

فقد تبادر إلى ذهني ما حصل في غدير خمّ، فعلمت أنّه يريد أن يصرّح باسم عليّ بكتاب، فإنّه قال في خطبته: "تركت فيكم ما إن تمسّكت بهما لن تضلّوا أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"، وقال: "فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه".

وهنا يقول: "اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً".

إذاً الأمر واضح لذلك ودون أي تمهل قلت: إنّ رسول الله يهجر. أو إنّ رسول الله غلب عليه الوجع، وقد صرّحت بذلك في كلام لي مع عبد الله ابن عباس في زمن خلافتي.

فقد سألت يوماً عبد الله ابن عباس ونحن نتحدث، فقلت له: يا عبد اللّه، عليك دماء البدن إن كتمتها، هل بقي في نفس عليّ شيء من أمر الخلافة؟

قال ابن عباس: نعم.

قلت له: أيزعم أنّ رسول الله نصّ عليه؟

قال: نعم، وأزيدك: إنّي سألت أبي عمّا يدّعيه فقال: صدق.


الصفحة 98
فقلت له: لقد كان في رسول الله من أمره ذروٌ من قول (طرف من قول) لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام! وربّ هذه البنية (يعني الكعبة) لا تجتمع عليه قريش أبداً! فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك(1).

س5 ـ هل قلت وحدَك: إنّ رسول الله يهجر (معاذ الله)؟

ج ـ عندما قلت: إنّ رسول الله يهجر، انقسم الناس فقوم يقولون: قرّبوا لرسول الله يكتب لكم، وقوم يقولون ما قلت، وعندما كثر اللغط قال رسول الله: قوموا عنّي، فقد علم رسول الله أنّه لم يعد هناك داع من كتابة الكتاب لما سوف يوجب الطعن في مقام النبوّة.

وخرجنا من عند رسول الله بعدما قال قوموا عني، وكان هذا آخر عهدي برسول الله.

س6 ـ هذا يعني أنّ رسول الله مات وهو غاضب منك وممّن كان معك، ووقف موقفك في ذلك اليوم؟

ج ـ هذا صحيح، ولكن كان قصدي هو فقط عدم التصريح لعليّ بالخلافة مخافة أن ينقسم المسلمون; لأنّ قريشاً لن ترضى به خليفة كما قلت آنفاً، وهذا سبب مقالتي التي قلتها.

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 21.


الصفحة 99

منع إعلان وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله):

س7 ـ ماذا فعلتَ بعد ذلك، وما كانت خطّتك؟

ج ـ أوّلا، كان يجب أن أبقى في المدينة قريباً من المسجد ودار رسول الله، لذلك كما قلت لك: أخّرت جيش أُسامة بن زيد، وبما أنّي كنت قريباً من دار الرسول، فكنت أوّل من علم بوفاة الرسول، ولكن أبا بكر لم يكن موجوداً بسبب ذهابه إلى أهله في السنح، فكان لابدّ أن أنتظره ريثما يحضر لنتابع الخطّة معاً، ولذلك حملت سيفي، ووقفت على باب المسجد ومنعت الدخول والخروج من المنزل، وكنت أقول: إنّ رسول الله لم يمت وإنّما ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى، وإنّه سوف يعود ويقطع أيدي وأرجل رجال يقولون إنّه مات، وقد أرسلت إلى أبي بكر لكي يأتي، وانتظرت على هذه الحالة حتى وصل أبو بكر، وعندما خرج وقال قولته الشهيرة: من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت.

وبينما الناس بين مصدّق ومكذّب، انتهزت هذه الفرصة وقلت لأبي بكر: هيا بنا إلى سقيفة بني ساعدة; لأنّ الأنصار مجتمعون عند رئيسهم سعد بن عبادة وقد كان مريضاً، ولا بدّ أن نصل هناك لننفذ خطتنا، وفعلا ذهبنا وأخذنا معنا أبا عبيدة بن الجرّاح، وفي طريقنا رأينا (عويم بن ساعدة الأنصاري ومعن بن عدي)، وهما من صفوة

الصفحة 100
الأنصار، وقد شهدا بدراً وكانا ذاهبين إلى المسجد ليستعلما عن حال رسول الله، وعندما أخبرناهما أنّ رسول الله توفي قالا لنا: عودوا واقضوا أمركم بينكم، وافترقنا، هما ذهبا إلى المسجد ونحن ذهبنا إلى السقيفة(1).

أحداث السقيفة:

س8 ـ ماذا حصل عند وصولكم إلى السقيفة، ومن بدأ الكلام؟

ج ـ أتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟

قالوا: سعد بن عبادة.

فقلت: ما شأنه؟

قالوا: وجع.

فقام رجل منهم فحمد الله وقال: أمّا بعد فنحن الأنصار كتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا، وقد دفت إلينا من قومكم دافة.

فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر، وقد

____________

1- صحيح البخاري 8:27، كتاب المحاربين، الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 23.


الصفحة 101
كنت زوّرت في نفسي مقالة أُقدمها بين أيدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحدّ.

وكان هو أوقر منّي وأحلم، فلمّا أردت أن أتكلّم قال: على رسلك! فكرهت أن أعصيه.

فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئاً كنت زوّرت في نفسي أن أتكلّم به لو تكلّمت إلاّ قد جاء به أو أحسن منه.

وقال: أمّا بعد يا معشر الأنصار، فإنّكم لا تذكرون منكم فضلاً إلاّ وأنتم له أهل، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش، وهم أوسط العرب داراً ونسباً، ولكن رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة الجرّاح.

فلمّا قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنّا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب(1).

فقالت الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً(2).

فارتفعت الأصوات وكثر اللغط، فلمّا أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أُبايعك، فبسط يده فبايعته، وبايعه أبو عبيدة، وقام بشير بن سعد وكان من سادات الخزرج فبايع خشية أن يصل

____________

1- تاريخ الطبري 2: 446، البداية والنهاية 5: 266.

2- تاريخ الطبري 2: 443، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 22.


الصفحة 102
الأمر إلى الأوس، وكانت بينهم خلافات متجذّرة، فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه، فأخذوا سيفه منه فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها يا معشر الأنصار، أمّا والله لكأنّي بأبنائكم على أبواب أبنائهم، قد وقفوا يسألونهم بأكّفهم ولا يسقون الماء.

قال أبو بكر: أمنا تخاف يا حباب؟

قال: ليس منك أخاف ولكن ممّن يجيء بعدك.

قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك فالأمر إليك وإلى أصحابك، ليس لنا عليك طاعة.

قال الحباب: هيهات يا أبا بكر، إذا ذهبت أنا وأنت وجاءنا بعدك من يسومنا الضيم.

فقال سعد بن عبادة يخاطبني: أمّا والله لو أنّ لي ما أقدر به على النهوض لسمعتم منّي في أقطارها زئيراً يخرجك أنت وأصحابك، ولألحقتك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع، خاملاً غير عزيز، فبايعه الناس جميعاً حتى كادوا يطئون سعداً، فقال سعد: قتلتوني.

فقلت: اقتلوه، قتله الله.

فقال سعد: احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياماً، ثمّ بعث إليه أبو بكر أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك.


الصفحة 103
فقال: أمّا والله حتى أرميكم بكلّ سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي، ولا والله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربّي، وأعلم حسابي، فلمّا أتي بذلك أبا بكر من قوله قلت له: لا تدعه حتى يبايعك.

فقال لنا بشير بن سعد: إنّه قد أبى ولجّ وليس يبابعك حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه، وأهل بيته وعشيرته، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمراً قد استقام لكم، فاتركوه فليس تركه بضاركم، وإنّما هو رجل واحد، فتركناه وقبلنا مشورة بشير بن سعد(1).

وتمّ الأمر وخرجنا من السقيفة وأبو بكر هو الخليفة.

الخليفة الأوّل صورة:

س9 ـ المتتبّع لأمر بيعة أبي بكر يرى أنّك كنت وراء كلّ ما حصل، وكان بإمكانك أن تكون أوّل خليفة، ولكنّك تركت الأمر

____________

1- الإمامة والسياسة: 17.


الصفحة 104
لأبي بكر، وفضّلت أن تكون القوة الضاربة في مواجهة ما سيحدث، ويكون أبو بكر هو الذي في الصورة.

ج ـ هذا صحيح، والأمر يعود لأمرين.

الأوّل: أنّني ذو طبع حاد وفىَّ غلظة، وهذا مما كان يُنفّر القوم منّي، وبذلك صرّح طلحة وبعض المهاجرين الذين دخلوا على أبي بكر في مرض موته بعد ما علموا بأمر استخلافه لي، فقالوا له: ما أنت قائل لربّك غداً وقد وليت علينا فظاً غليظاً تنفر منه النفوس وتنفضّ عنه القلوب(1)؟

وقد كان أبو بكر أوقر مني وأحلم.

والثاني: كوني الرجل الثاني في خلافة أبي بكر يعطيني امتيازات، فأنا كنت مدبّر كلّ الأُمور وخيوطها بيدي، عاقبتها تكون لي آخراً، وأمّا سخط الناس عن أعمالي إن أسأت فكان يأتي على الخليفة لا علي أنا، لأنّي أمام الناس كنت أنفذ ما يطلبه هو، لذلك كنت في خلافة أبي بكر نظريّاً الرجل الثاني وعمليّاً الخليفة، فقد كنت أتخذ القرارات وأنفذ الخطط وأحلّ وأربط، وحتى إنّي أرد

____________

1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 199، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 411، أُسد الغابة لابن الأثير 4: 69، كنز العمال 5: 675، تاريخ الإسلام للذهبي 3: 116.


الصفحة 105
قرارات قد يتخذها الخليفة فمثلا; كتب أبو بكر لعيينه بن حفص والأقرع بن حابس كتاباً، فأخذاه إليّ لأشهد، فلمّا شاهدت الكتاب لم يعجبني، فتفلت فيه فوراً ومحوته، فرجعا إلى أبي بكر وقالا له: والله لا ندري أأنت الأمير أم عمر؟

فقال أبو بكر: بل هو، لو شاء كان.

ثمّ جئت إلى أبي بكر وقرعته بشدّة على هذا الكتاب.

فقال لي أبو بكر: فلقد قلت لك: إنّك أقوى منّي على هذا الأمر لكنّك غلبتني(1).

ولذلك فضّلت أن يكون هو الخليفة الأوّل، وأنا معه أساعده وأُشير عليه، ويكون الأمر لي من بعده، وذلك بعد أن تكون الأُمور قد استقامت واستتبّت وسار كلّ شيء حسب ما خطّطت وبهدوء، وأكون قد قمعت المعارضين ممّن لن يبايع واستملت البعض، وكأنّ الأمر ليس لي وإنّما كنت أنفّذ ما يطلب منّي وحسب، وقد فهم علىٌّ هذا منّي عندما أمرته أن يبايع أبا بكر فقال لي: "احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً"(2)، وهذا ما كان.

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 59، كنز العمال للمتقي الهندي 3: 914، تاريخ مدينة دمشق 9: 196.

2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 18.


الصفحة 106

كراهيّة جمع النبوّة والخلافة لبني هاشم:

س10 ـ تقول: إنّ قريشاً كانت تكره علياً، وتكره أن تجمع لبني هاشم النبوّة والخلافة، ولكن تشدّدك في أمر فرض بيعة أبي بكر على عليّ (عليه السلام) ومحاولتك إحراق بيت فاطمة (عليها السلام) وكلّ ما جرى بعد ذلك من منع الإرث، وأُمور أُخرى، تبيّن وكأنّ في الأمر شيئاً خاصّاً بينك وبين الإمام علي (عليه السلام)، وكأنّك أنت من أصحاب هذه الفكرة؟

ج ـ إنّ كره قريش لبني هاشم شيء مفروغ منه، ولذلك استخدمت ذلك لصالحي، فلم أكن قبل الإسلام بموقع اجتماعي مميّز، ولم يكن لي شأن يذكر، فقد كنت أعمل مبرطش أكتري للناس الإبل والحمير وآخذ عليه جعلا(1).

وبنو عدي لم يكونوا مع العير ولا مع النفير، ولم يقاتلوا محمّداً ولم يقاتلوا قريشاً كما قاتل أبو سفيان(2).

ولم أقتل أو أجرح مشركاً في المعارك التي خاضها النبيّ.

لذلك كان لا بدّ لكي أجمع كلمة قريش أن يكون هناك أمر مشترك بيننا، ألا وهو إبعاد عليّ وبنيه عن الخلافة، وبذلك يرتفع قدري عندهم ويصبح لهم مصلحة فىّ.

____________

1- تاج العروس 9: 58، مادة برطش.

2- المغازي للواقدي 1: 45.


الصفحة 107
وهذا بالضبط ما حصل، فإنّ إبعادي لعليّ عن الخلافة بمنع الرسول من كتابة العهد له رفع قدري إلى القمة، وعلى هذا وحّدت كلمة قريش من المهاجرين والطلقاء لهدف محدّد، وهو الحيلولة بين بني هاشم وبين أن يجمعوا النبوّة والخلافة بعد وفاة النبىّ(1).

وبذلك سلّمت لي قريش عمليّاً رئاسة التحالف أو الحزب، وكانت بيدي خيوط اللعبة السياسية، وأخذت أواجه المعارضين للبيعة وأنا مستند إلى جدار قويّ من القوّة والمنعة، وكيف ما أفعل فلن أجد منكراً أو مستنكراً.

فلو هدّدت بقتل عليّ فالكلّ يسكت.

ولو هممت بإحراق بيت فاطمة فالكلّ يسكت.

والسكوت هنا أوضح بيان على موافقتهم على ما أقوم به.

س11 ـ ما الخطوات التي مرّرتها لأبي بكر لإقصاء أهل البيت عن أمرهم في الخلافة وإبعاد الناس عنهم؟

ج ـ أوّلا: منع رسول الله من كتابة العهد لعليّ بن أبي طالب، وذلك في رزيّة يوم الخميس(2).

ثانياً: حرمان أهل بيت النبوّة من إرث النبيّ.

____________

1- تاريخ الطبري 3: 289، الكامل في التاريخ 4: 63.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 21.


الصفحة 108
فرأيت أنّ أوّل خطوة بعد وفاة النبيّ هي أن يُحرم عليّ وفاطمة وابناهما وآل محمّد من ميراث محمّد، فلا يرثون من مال النبيّ شيئاً، واستدللت على ذلك بأنّ رسول الله قال لأبي بكر: "إنّا معاشر الأنبياء لا نورث".

وعندما احتجّت فاطمة وقالت: "ومن يرثك إذا مت"؟

قال أبو بكر: ولدي وأهلي.

فقالت: "فما لنا لا نرث النبيّ"؟!

فرددّ أبو بكر مقولته السابقة.

فقال علي: {وَوَرِثَ سـلَيْمانُ داوُدَ}(1)، {يرِثُنِي وَيـرِثُ مِنْ آلِ يَعْقـوبَ}(2).

فسكت أبو بكر وانصرف مصراً على قوله(3).

ثالثاً: حرمان أهل البيت من فدك، وهي منحة من رسول الله لفاطمة، ومع أنّ فاطمة احتجّت عند أبي بكر وقدّمت شهوداً على منحة رسول الله فشهدت على ذلك أم أيمن ورباح مولى الرسول وعليّ، ولكن قرارنا كان قد أحكم قبل ذلك.

____________

1- النمل: 16.

2- مريم: 5 ـ 6.

3- الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 315، عنه في كنز العمال 5: 625.


الصفحة 109
رابعاً: حرمان أهل البيت من الخمس الوارد في القرآن، فلمّا حرم أبو بكر فاطمة من إرثها ومن منح الرسول، طالبتنا بسهم ذوي القربى.

فقالت لأبي بكر: "لقد حرمتنا أهل البيت، فأعطنا سهم ذوي القربى"، وقرأت الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى}(1).

فقال لها أبو بكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "سهم ذوي القربى للقربى حال حياتي وليس لهم بعد موتي"(2).

خامساً: منع رواية الحديث وحرق ما كان مكتوباً منها; لأنّ الكثير منها يذكر عليّاً خاصة، وأهل البيت عامة، وفضائلهم، وأحقيّتهم في هذا الأمر.

منع رواية الحديث:

س12 ـ وهل وافقك الناس على منع رواية الحديث؟

ج ـ إنّ منع كتابة الحديث لم أبتدعه أنا; لأنّ قريشاً كانت تنهى عن كتابة الحديث على عهد رسول الله، فقد قال عبد الله بن عمرو بن

____________

1- الأنفال: 41.

2- كنز العمال 5: 629.


الصفحة 110
العاص: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء من رسول الله؟ ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضى، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأومأ إلى فيه وقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ"(1).

س13 ـ متى بدأتَ بمنع كتابة الحديث؟

ج ـ بدأتُ بمنع كتابة الحديث منذ كان رسول الله على فراش الموت، فمنعته من كتابة كتاب يعصم الناس من الضلالة; لأنّي علمت أنّ رسول الله سوف يذكر عليّاً.

وبعدها أشرتُ على أبي بكر بمنع الحديث، فحرق أبو بكر ما كان عنده من الحديث، وقد بلغ خمسمائة حديث، وأمر الناس إن اختلفوا أن يعودوا لكتاب الله ويدعوا حديث الرسول، ولكنّه ترك ما بأيدي الناس من كتب.

ولكن عندما وصلت الخلافة لي أمرتُ الناس بعدم رواية الحديث، وهدّدت بالضرب كلّ من أكثر من رواية الحديث، وقد خطبت الناس يوماً قائلا: أيّها الناس، إنّه بلغني أنّه قد ظهرت في

____________

1- مسند أحمد 2: 162، سنن الدارمي 1: 125، سنن أبي داود 2: 176، فتح الباري 1: 185، المستدرك 1: 105 وغيرها من المصادر.