حوار مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(الخليفة الرابع)
استسلام عائشة لعواطفها.
آية الإنذار.
حديث الثقلين.
آية المودة.
آية المباهلة.
حديث المنزلة.
حديث السفينة.
آية التبليغ.
آية الولاية.
انقسام الأُمّة الإسلاميّة.
حوار مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخليفة الرابع
س1 ـ هل يمكننا أن نتعرّف عليكم؟
ج ـ أنا أبو الحسن علي بن أبي طالب ـ واسمه عبد مناف ـ بن عبد المطلب ـ واسمه شيبة الحمد ـ بن هاشم (عمرو) بن عبد مناف ابن قصي.
وكان ابني الحسن يدعوني في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا الحسين.
ويدعوني الحسين أبا الحسن.
وكانا يدعوان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أباهما.
فلمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعواني بأبيهما.
وكنّاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي تراب، وكان قد وجدني نائماً على تراب قد سقط عنّي ردائي وأصاب التراب جسدي، فجاء حتى أيقظني، وجعل يمسح التراب عن ظهري.
ويقول لي: اجلس، إنّما أنت أبو تراب، فكانت من أحبّ الأسماء
وكانت بنو أُميّة ترغّب خطباءها أن يسبّوني بها على المنابر، وجعلوه نقيصة لي ووصمة عليَّ، فكأنّما كسوني بها الحلي والحلل، كما قال الحسن البصري(2).
وكان اسمي الأوّل الذي سمّتني به أمي (حيدرة) باسم أبيها أسد بني هاشم.
والحيدرة: هو الأسد، فغيّر أبي اسمي وسمّاني عليّاً(3).
ودُعيت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بوصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوصيّته إليّ بما أراد.
وأُمّي: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وهي أوّل هاشمية ولدت لهاشمي، وكنت أصغر بنيها، وجعفر أسنّ منّي بعشر سنين، وطالب أسنّ من عقيل بعشر سنين، وفاطمة بنت أسد أُمّنا جميعاً.
وأُمّي فاطمة أسلمت بعد عشرة من المسلمين، فكانت الحادية
____________
1- صحيح البخاري 4: 208، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 12.
3- شرح صحيح مسلم للنووي 12: 185.
وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيتها، وصلّى عليها ونزل في لحدها وأضطجع فيه قبل دفنها، ثمّ البسها قميصه.
فقال له أصحابه: إنّا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها، فقال: "إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، وأضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر"(1).
وفاطمة أُمّي هي أوّل امرأة بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النساء(2)، ولِدْتُ في الكعبة، وأنا أوّل وآخر إنسان يولد بها منذ بناها نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) للناس.
وعندما صار عمري ستّ سنوات أصاب قريشاً قحط، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمّيه حمزة والعباس: "ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل"، فجاؤوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفّوا أمرهم، فقال: دعوا عقيلا وخذوا من شئتم، فأخذ العباس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال لهم: "قد اخترت من
____________
1- الاستيعاب لابن عبد البرّ 4: 189، أسد الغابة لابن الأثير 5: 517، سير أعلام النبلاء للذهبي 2: 119.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 14.
فكنت في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ كان عمري ستّ سنوات.
لذلك عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأُمّة سبع سنين، وقد كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعاً، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حينئذ صامت ما أُذن له في الإنذار والتبليغ.
وذلك لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أظهر دعوته وعمري ستّ سنوات، لذلك عبدت الله قبل الناس أجمعهم ـ إلاّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة ـ بسبع سنين(2).
قاتلت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلّ معاركه وغزواته إلاّ غزوة تبوك، فقد استخلفني في أهله فقلت: أتخلّفني في الصبيان والنساء؟
فقال: "ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"(3).
س2 ـ مولاي أمير المؤمنين، سؤالي التالي ليس سؤال مستنكر
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 15.
2- سنن ابن ماجه 1: 44 وقال المحقّق: "في الزوائد: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. رواه الحاكم في المستدرك عن المنهال وقال: صحيح على شرط الشيخين".
3- صحيح البخاري 4: 208، و 5: 129، صحيح مسلم 7: 120 و 121، كتاب الفضائل، باب فضائل علي (رضي الله عنه).
ج ـ أوّلا: إنّ لأُمّ المؤمنين عائشة فضلها ومنزلتها، غير أنّها ليست بأفضل أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكيف تكون أفضل مع ما صح عنها إذ قالت: "ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، خديجة ذات يوم فتناولتها، فقلت: عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها.
قال: ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها"(2).
وقالت غير مرّة: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت
____________
1- صحيح البخاري 5: 143، كتاب المغازي، باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
2- الاستيعاب لابن عبدالبر 4: 1824، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 224 وقال: "رواه أحمد وإسناده حسن"، الإصابة لابن حجر 8: 103، وغيرها من المصادر.
ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء...)(1).
وربما كانت ترى أنّها أفضل من غيرها، فلا يقرّها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما اتفق هذا مع أم المؤمنين صفية بنت حيي، إذ دخل النبيّ (صلى الله عليه وآله) عليها وهي تبكي، فقال لها: "ما يبكيك"؟
قالت: بلغني أنّ عائشة وحفصة تنالان منّي، وتقولان: نحن خير من صفية.
قال (صلى الله عليه وآله): "ألا قلت لهن: كيف تكّن خيراً منّي، وأبي هارون، وعمّي موسى، وزوجي محمّد"(2).
____________
1- مسند أحمد 6: 117، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 224، المعجم الكبير للطبراني 23: 13، الإصابة لابن حجر 8: 103، الوافي بالوفيات للصفدي 13: 182، الاستيعاب لابن عبد البرّ 4: 1824، أسد الغابة لابن الأثير 5: 435.
2- سنن الترمذي 5: 367، الاصابة لابن حجر 8: 211، الاستيعاب لابن عبدالبر 4: 1872، أسد الغابة لابن الأثير 5: 491، المستدرك للحاكم 4: 29، سير أعلام النبلاء للذهبي 2: 223.
وقد أُوحي إليه (صلى الله عليه وآله) أن يبّشرها ببيت لها في الجنة من قصب(1)، ونصّ على تفضيلها فقال: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران"(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): "خير نساء العالمين أربع" ثمّ ذكرهن(3).
وقال: "حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، وآسية امرأة فرعون"(4).
____________
1- صحيح البخاري 2: 203، كتاب الكسوف، باب طواف الوداع، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل خديجة.
2- مسند أحمد 3: 135، مستدرك الحاكم 2: 497، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 223، فتح الباري لابن حجر 6: 321.
3- صحيح ابن حبان 15: 402، المعجم الكبير للطبراني 22: 402، الاستيعاب لابن عبد البرّ 4: 1821، موارد الضمآن للهيثمي 7: 168.
4- مسند أحمد 3: 135، سنن الترمذي 5: 367، مستدرك الحاكم 3: 157، فتح الباري لابن حجر 6: 340، المصنّف للصنعاني 11: 430، صحيح ابن حبان 15: 464.
لما ثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واشتد وجعه خرج وهو بين رجلين تخطّ رجلاه في الأرض، بين العباس بن عبد المطلب ورجل آخر....
قال المتحدث عنها ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ـ فأخبرت عبد الله بن عباس عمّا قالت عائشة، فقال ابن عباس: هل تدري من الرجل الذي لم تسمّه عائشة؟
قال: لا.
قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب.
ثمّ قال: إنّ عائشة لا تطيب له نفساً بخير(1).
وكانت لا تمنع الناس من الوقوع فىّ:
جاء رجل أعرابي فوقع فىّ عند عائشة، فقالت: أمّا عليّ فلست قائلة لك فيه شيئاً وأمّا عمّار فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول فيه: لا يُخيّر بين أمرين إلاّ اختارا أشدهما(2).
فالتي لا تطيب نفساً بذكري لسيري مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا تمنع
____________
1- إرواء الغليل 1: 178، الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 232، مسند أحمد 6: 228.
2- مسند أحمد 6: 113، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 43: 407.
ثمّ هل كان رأيها أنّ الوصية لا تصحّ إلاّ عند الموت; كلا، ولكن حجّة من يكابر الحقيقة داحضة كائناً من كان، وقد قال الله تعالى مخاطباً نبيه الكريم في محكم كتابه الحكيم: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصـيَّةُ}(1).
فهل كانت أم المؤمنين تراه لكتاب الله مخالفاً؟ أو لأحكامه صادفاً؟
معاذ الله! وحاشا لله، بل كانت تراه يقتفي أثره، ويتبع سوره، سباقاً إلى التعبّد بأوامره ونواهيه، بالغاً كلّ غايات التعبّد بجميع ما فيه، ولا شكّ في أنّها سمعته يقول: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به أن يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده"(2).
أو سمعت نحوه، فإنّ أوامره الشديدة بالوصية ممّا لا ريب في صدوره منه، ولا يجوز عليه ولا على غيره من الأنبياء، أن يأمروا بالشيء ثمّ لا يأتمرون به أو يزجرون عن شيء ثمّ لا ينزجرون عنه، تعالى الله عن إرسال من هذا شأنه علواً كبيراً.
____________
1- البقرة: 180.
2- صحيح البخاري 3: 186، كتاب الوصية باب الوصايا، صحيح مسلم 5: 70، كتاب الوصية، باب الوصية.
وهم أهل الأرض في الطول والعرض كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، ليس لها من يرعاها حقّ رعايتها، ومعاذ الله أن يترك الوصيّة بعد أن أوصي بها إليه فأمر أمته بها وضيّق عليهم بها.
وقد أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلىّ في مبدأ الدعوة الإسلاميّة قبل ظهورها في مكّة حين أنزل الله سبحانه: {وَأَنْذِرْ عَشـيرَتَكَ الأَقْربـينَ}(1).
ولم يزل يكرّر وصيّتة لي ويؤكّدها مرّة بعد مرّة بأحاديثه، حتى أراد وهو محتضر ـ بأبي هو وأُمّي ـ أن يكتب وصيّته لي تأكيداً لعهوده اللفظيّة وتوثيقاً لعرى نصوصه القولية، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع، فقالوا (قال عمر): هجر رسول الله ـ معاذ اللّه ـ وعندها علم أنّه لم يبق ـ بعد كلمتهم هذه ـ أثر لذلك الكتاب إلاّ الفتنة، فقال لهم: قوموا عنّي، فمات وهو غاضب عليهم; لأنّهم منعوه من كتابة وصيّته واكتفى بعهوده اللفظية، ومع ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا
____________
1- الشعراء: 214.
لكن السلطة والسياسة وأُمّ المؤمنين يومئذ ما أباحت للمحدّثين أن يُحدّثوا بوصيّته الأولى، فزعموا أنّهم نسوها(1).
استسلام عائشة لعواطفها:
س3 ـ سيّدي، عرفنا بأن أُمّ المؤمنين كانت لا تطيب لك ذكراً بخير، ولكن ـ كما يقول أهل الخلاف ـ بأنّها لا يمكن أن تتحدث عن رسول اللّه بغير الواقع وتستسلم لعواطفها إيثاراً لغرض في نفسها، وهي زوجة رسول الله وقد أمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا تكتم ما ينزل في بيتها؟
ـ إنّ الناس فهموا من كلمة (أُمّ المؤمنين) أنّها فضيلة تخصّ السيّدة عائشة من بين سائر أزواج الرسول (صلى الله عليه وآله)، والحال أنّ الله حرّم على المؤمنين الزواج بنساء النبيّ بعد وفاته بقوله تعالى: {وَما كانَ
____________
1- قال البخاري 4: 31، كتاب الدعاء، باب دعاء النبي، في آخر الحديث المشتمل على قولهم: هجر رسول الله: "وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزه، ثمّ قال: ونسيت الثالثة"، صحيح مسلم 5: 75، كتاب الوصية، باب ترك الوصية.
وهذه الآية نزلت في طلحة عندما قال: "إذا مات رسول الله تزوّجت عائشة ابنة عمّي"(3).
فأراد الله سبحانه أن يقول للمؤمنين بأنّ نساء الرسول حرام عليكم كحرمة أُمّهاتكم.
وقد أعلم الله عباده وخاصّة زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخاصّة عائشة وحفصة عندما تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله): {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}(4).
في سورة التحريم ليعلمها وبقية المسلمين الذين يعتقدون بأنّ أُمّ المؤمنين تدخل الجنّة بلا حساب ولا عقاب; لأنّها زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأن الذي ينفع ويضرّ عند الله هو الأعمال فقط، قال
____________
1- الأحزاب: 53.
2- الأحزاب: 6.
3- تفسير القرطبي 14: 228، الدر المنثور للسيوطي 5: 214.
4- التحريم: 4.
وقال الله تعالى ضارباً مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قال: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ}(2).
وبهذا يتبين بأنّ الزوجيّة ليست فضيلة في حدّ ذاتها، إلاّ إذا اتسمت بالأعمال الصالحة، وإلاّ سيكون العذاب مضاعفاً.
ونعود لسؤالك، فإنّ أُمّ المؤمنين السيّدة عائشة كانت تستسلم في معظم أمورها إلى العاطفة والغيرة كما تروي هي عن نفسها، فقد قالت:
"بعثت صفيّة زوج النبيّ إلى رسول الله بطعام قد صنعته له، وهو عندي، فلمّا رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقلني أفكل،
____________
1- التحريم: 10.
2- التحريم: 11 ـ 12.
فقلت: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم.
قالت: قال: أولي.
قلت: وما كفّارته يا رسول الله؟
قال: طعام كطعامها وإناء كإنائها"(1).
ومرّة أُخرى تروي عن نفسها قالت: "قلت للنبيّ: حسبك من صفية كذا وكذا.
فقال لي النبيّ: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"(2).
وهاهي تحكي عن غيرتها مرّة أُخرى قائلة: "ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، وذلك أنّها كانت جميلة جعدة، وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أوّل ما قدم بها في بيت حارثة بن النعمان وفزعنا لها فجزعت، فحوّلها رسول الله إلى العالية فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا، ثمّ رزقه الله الولد منها وحرمناه"(3).
____________
1- مسند أحمد بن حنبل 6: 277، كنز العمال للمتقي الهندي 15: 7.
2- سنن أبي داود 2: 450، تفسير ابن كثير 4: 229.
3- الإصابة لابن حجر 8: 311، امتاع الاسماع للمقريزي 5: 336.
فقلت: ما أرى شبهاً.
فقال رسول الله: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟
قالت: فقلت: من سُقي ألبان الضان ابيضّ وسمن"(1).
وعندما تزوّج رسول الله (صلى الله عليه وآله) مليكه بنت كعب، فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك، فاستعاذت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطلّقها.
وكما تدلّ هذه الروايات على الأساليب التي اتبعتها عائشة في الخداع والمكر للمؤمنات البريئات وحرمانهم من الزواج برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النعمان لما غارت من جمالها وقالت لها: إنّ النبيّ ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له: أعوذ بالله منك(2).
فكانت تستبيح مثل هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترويجاً
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 37، متاع الاسماع للمقريزي 5: 336.
2- مستدرك الحاكم 4: 37، عمدة القارئ للعيني 20: 229، سير أعلام النبلاء للذهبي 2: 259.
وخاصمته يوماً إلى أبيها ـ نزولا على حكم العاطفة ـ فقالت له: اقصد، فلطمها أبوها حتى سال الدم على ثيابها(2).
وقالت له مرّة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنّك رسول الله(3) إلى الكثير من الأمثال، وهذا بشكل عامّ.
أمّا عن إعراضها عنّي، فقد كانت كما ذكرت لك آنفاً، أنّها لا تطيب لها نفساً لذكري بخير.
آية الإنذار:
س4 ـ مولاي، تقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أوصى لك منذ بدأ الدعوة الإسلاميّة عند الإيذان بالجهر بالدعوة وتعاهد ذلك حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، فهل لك أن تدلّنا على ذلك؟
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 8: 161.
2- كنز العمال 13: 696، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 215.
3- مجمع الزوائد للهيثمي 4: 322.
فأحجم القوم عنها غيري، وكنت أصغرهم، فقمت وقلت: "أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) برقبتي وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا".
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(2).
____________
1- الشعراء: 214.
2- إنّ هذا الحديث قد جاء في مصادر كثيرة بهذه الصيغة أو قريب منها مثلا:
1 ـ تاريخ الطبري 2: 62 ـ 64.
2 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير الشافعي 2: 63.
3 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 211.
4 ـ البداية والنهاية لابن كثير 3: 53.
5 ـ كنز العمال للمتقي الهندي 13: 133.
6 ـ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 49.
=>