"ولاَ يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ، إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ"(2).
وقد وقفت يوم الشورى (شورى عمر) ثمّ قلت: "لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك.
فقلت: أُنشدكم الله أيها النفر جميعاً، أفيكم أحد وحّد الله قبلي؟
قالوا: لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل منكم أحد له أخ مثل جعفر يطير في الجنة مع الملائكة؟
____________
1- نهج البلاغة 3: 119 الخطبة: 62.
2- نهج البلاغة 4: 41، المختار من حكم أمير المؤمنين.
قلت: أُنشدكم الله، هل فيكم أحد له عمّ كعمي حمزة، أسد الله وأسد رسوله سيّد الشهداء غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: أُنشدكم بالله، هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء أهل الجنة غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم باللّه، هل فيكم أحد ناجى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر مرّات وقدّم بين يدي نجواه صدقة قبلي؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره ليبلغ الشاهد الغائب) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك واليَّ وأشدّهم لك حبّاً ولي حبّاً، يأكل معي من هذا الطير، فأتاه وأكل معه) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوفد بني وليعة: (لأبعثنّ إليكم رجلاً نفسه كنفسي، وطاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي، يقتلكم بالسيف) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال فيه رسول الله: (كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغض هذا) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد سلّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف ملك من الملائكة منهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، حيث جئت بالماء إلى رسول الله من القليب غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد قال له جبرائيل: (هذه هي المواساة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّه منّي وأنا منه. وقال جبرائيل: وأنا منكما) غيري؟
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد نودي من السماء: (لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبيّ غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّي قاتلت على تنزيل القرآن وتقاتل على تأويل القرآن) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلّى العصر في وقتها غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
فقلت: هل فيكم أحد أمره رسول الله أن يأخذ براءة من أبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله، نزل فىّ شيء؟ فقال: (إنّه لا يؤدّي عني إلاّ علي) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله):
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، أتعلمون أنّه تعالى أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي، فقلتم في ذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما سددت أبوابكم ولا فتحت بابه، بل الله سدّ أبوابكم وفتح بابه؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم بالله أتعلمون أنّه ناجاني يوم الطائف دون الناس، فأطال ذلك فقلتم: ناجاه دوننا، فقال: (ما أنا أنتجيته، بل الله انتجاه)؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الحقّ مع علي وعلي مع الحقّ، يدور الحقّ مع علي كيف دار؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم بالله، أتعلمون أنّ رسول الله قال: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد افتدى رسول الله من المشركين بنفسه واضطجع في مضجعه غيري؟
قلت: فأُنشدكم الله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ودّ العامري، حيث دعاكم إلى البراز غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير حيث قال: {اِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله: (أنت سيّد العرب) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما سألت الله شيئاً إلاّ سألت لك) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا(1).
س8 ـ مولاي إنّ من استبدّ عليكم بالخلافة كانت حجّته كما قال عمر لابن عباس بأنّ قريش قد كرهت أن تجمع لكم النبوّة والخلافة، فنظرت قريش لنفسها فأصابت، ولو أنّكم وليتموها لتداولها بنو
____________
1- شرح إحقاق الحقّ للمرعشي 5: 28.
ج ـ نعم، لقد صرّح عمر بن الخطّاب بذلك لابن عباس في حوار دار بينهما قائلا: إنّ قريشاً قد كرهت أن تجمع لنا النبوّة والخلافة فنجحف على قومنا بجحاً بجحاً، وهم يعلمون بأنّ رسول الله قد قال: (أنا سيّد النبيّين وعليّ سيّد الوصيّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم عليّ وأخرهم القائم المهدي)(1).
لذلك أرادوا صرفها عنا، وذلك لأنّ قريشاً كانت تنظر إلى الخلافة نظرة الرياسة والزعامة والقيادة، وبنظرة جاهليّة قبليّة، وقد توحّدت بطون قريش لوجود صراع قديم بين أُميّة وهاشم، فقد ساد هاشم بعد أبيه، فحسده أُميّة بن أخيه عبد شمس، فتكلّف أن يصنع ما يصنع هاشم، وقالوا: أنت تتشبه بهاشم وعجز عن مجاراته، فعيّرته قريش، فدعا هاشماً للمنافرة في نفر ونزلوا على الكاهن الخزاعي، فقال الكاهن قبل أن يخبروه خبرهم: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر ومن منحدر غائر، لقد سبق هاشم أُميّة إلى المفاخر... فبعد هذا عاد هاشم إلى مكّة ونحر الإبل وأطعم الناس، وخرج أُميّة إلى الشام فأقام فيها
____________
1- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2: 316.
وكان يقال لهاشم وإخوانه عبد شمس والمطلب ونوفل: أقداح النضار. ويقال لهم: المجبرون، لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على العرب.
فقد حاز قصي شرف مكّة، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء، وإنّ أكبر أولاد قصي عبد الدار، إذ شرف بزمان أبيه وذهب شرفه كلّ مذهب، ثمّ صارت السقاية لعبد المطلب، ومن بعده لأبي طالب، والقيادة كانت لعبد مناف، ومن بعده لولده عبد شمس، ثمّ لابنه حرب، ثمّ لابنه أبي سفيان، فكان يقود الناس في غزواتهم، ودار الندوة في يد عبد الدار، وقصي هو جماع قريش لذلك سمّي مجمعاً(2).
وكان الأمويون يعتقدون بأنّ مقاليد الأُمور بأيديهم، وهم أصحاب الملك، أليست القيادة في أيديهم؟
وفي أحسن الظروف، فإنّ بني هاشم وبني المطلب من جهة، وبني أُميّة وبني نوفل من جهة أُخرى، كانا كفرسي رهان يتعاوران
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 76.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 2.
ولقد فضّل الله هاشماً على أُميّة، وقدّم هاشماً وأخر أُميّة بفضله في ما بعد.
وكان أبو سفيان يعلم مثل غيره أن سيأتي نبي فيأخذ منه شرف القيادة، وهذا النبيّ سيكون من سلالة عبد مناف، وبعد معاناة، اقنع أبو سفيان نفسه بأنّه بالذات سيكون النبيّ; لأنّه لا يوجد ـ حسب رأيه ـ من هو جدير بالنبوّة سواه.
وأفصح عن هاجسه لبعض الذين يرتاح إليهم.
وأنّه لأمر مشين ـ حسب تفكير أبي سفيان ـ أن تراه بنيات ثقيف يتبع غلاماً من بني عبد مناف وعبثاً حاول ابن أُميّة أبي الصلت أن يغيّر طريقة تفكير أبي سفيان.
فيقول أُميّة مشفقاً: كأنّي بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي، يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد، وهذا ما حصل عند فتح مكّة.
ومن سوء طالع أبي سفيان أنّ بني هاشم ـ كافرهم ومؤمنهم ـ احتضنوا محمّداً (صلى الله عليه وآله)، وعندما جهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالدعوة قاومه أبو سفيان وأركان القيادة في مكة بكل الأساليب.
وعندما لم ينثن محمّد (صلى الله عليه وآله) واحتضنه الهاشميون اتفقت قريش
ولم يستسلم محمّد (صلى الله عليه وآله) ولا الهاشميون، وأبطل الله كيد قريش وزعامتها بعد مقاطعة استمرت ثلاث سنوات.
وتأجّجت الكراهيّة بنجاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالهجرة وفشلت قريش في قتله عندما دخلوا فوجدوني نائماً مكانه.
وجنّ جنون قريش وزعيمهم أبو سفيان، وأعلنت الجوائز لمن يقبض عليه حيّاً أو ميّتاً.
وعندما اشتعلت الحرب الأُولى ببدر بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقريش قتل ثلاث من أجود وأروع شخصيات أُميّة وهم: عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وهم سادات بني أُميّة.
والمريع أن الذين قتلوهم من بني هاشم وهم: أنا، وحمزة، وعبيد الله بن الحارث.
وبذلك أصبح محمّد (صلى الله عليه وآله) وبنو هاشم الخطر الحقيقي على الزعامة الأموية; لأنّهم سادات بني أُميّة، وتحوّل حقدهم على محمّد وعترته إلى سواد مظلم وملأ صدورهم وعطل أذهانهم.
انظر إلى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كيف لعب برأس الحسين
ليت أشياخي ببدر شـهدوا | جزع الخزرج من وقع الأسل |
قد قتلنا القرن من ساداتهم | وعدلنا ميل بدر فاعتدل |
لعبت هاشم بالملك فلا | خبر جاء ولا وحي نزل |
لست من خندف إن لم انتقم | من بني أحمد ما كان فعل |
وانظر إلى جدّته هند أم معاوية زوجة أبي سفيان، تأمر بقتل حمزة غدراً، ولا تكتفي بالقتل بل تشقّ صدر حمزة عمّ النبيّ وأسد الله وتتناول كبده وتحاول أكلها من شدّة الحقد.
وقد رفضت الزعامة الأمويّة الدين المحمدي ونبوّة محمّد بالذات; لأنّها تكره أن يأتي هذا الدين عن طريق بني هاشم.
وعندما فوجئ أبو سفيان بجند الله قرب مكّة، وذلك حينما أوقفه العباس ليرى جند الله، فدخل الرعب في قلبه، وأفصح قائد حزب الطلقاء عن حقيقة تصوراته لدعوة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فيقول: ما رأيت ملكاً مثل هذا، لا ملك كسرى وملك قيصر ولا ملك بني الأصفر.
إذاً هو لا ينظر إلى النبوّة والدين بل إلى ملك!
وجرّه العباس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول: "ويحك يا أبا سفيان ألم يئن لك أنّ تعلم أنّه لا إله إلاّ الله"؟
فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأُمّي ما أحلمك وأكرمك، لقد ظننت
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا أبا سفيان ألم يئن لك أن تعلم أنّي رسول الله".
فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأُمّي، أما والله فإنّ في النفس حتى الآن منها شيء.
وهنا صاح العباس: ويحك يا أبا سفيان، أسلم واشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله قبل أن تُضرب عنقك.
وهنا فقط أسلم أبو سفيان بعد ذكر ضرب العنق.
ودهش أبو سفيان وهو ينظر للنبيّ فقال في نفسه: ليت شعري بأيّ شيء غلبتني، فأوحى الله إلى نبيه بما في صدر أبي سفيان.
فقال له الرسول: "باللّه غلبتك"(1).
وكان أبو سفيان ينتظر الفرصة السانحة للانقلاب على هذا الملك الذي تصوّره، وكان ما أراد بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستمالة الخلفاء له بتركهم له ما بيده من الصدقات وتوليه ابنه يزيد ومعاوية على الجيش الذاهب إلى الشام، ومن ثمّ توليتهم ما فتح من بلاد الشام. وهذا ما أسّس لدولة بني أُميّة فيما بعد.
قال الله تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
____________
1- السيرة الحلبية 3: 55.
ممّا جعل لأبي سفيان مصلحة بالوقوف ولو مؤقتاً مع السلطة القائمة، وخاصة بعد أن تركوا ما بيده من الصدقات، وعيّنوا ابنه يزيد قائداً عاماً للجيش الذاهب إلى الشام ومعاوية قائداً آخر في الجيش نفسه تحت إمرة يزيد.
وأمّا ما فعلوه بزعمهم أنّه من قبيل حفظ الشرع وعدم وقوع الفتنة كما صرّح عمر; لأنّه كما يرى بأنّ قريش تأبى أن تجمع لبني هاشم النبوّة والخلافة خوفاً من إجحافهم، ولكنّهم وقعوا في أشدّ من ذلك لكي يبعدوني ويبعدوا بني هاشم عن الخلافة، فقد أحرقوا سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المكتوبة، ومنعوا من رواية الحديث وقالوا: حسبنا كتاب الله.
وعندما طالبتهم فاطمة (عليها السلام) بإرثها واستشهدت عليهم بكتاب الله نبذوه وراء ظهورهم واستشهدوا عليها بحديث لم يسمعه أحد من قبلهم وهو قولهم: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
فهم رفضوا سنّة رسول الله أن يحدّث فيها أحد لأنّ فيها الوصيّة لي، وكان ذلك تمسّكاً بحديث موضوع، فهم ينظرون إلى مصلحتهم
____________
1- آل عمران: 144.
وهم يعترفون بفضلي وعلمي وقوتي على هذا الأمر، وذلك كما قال عمر لي في مرض موته:
أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء(1).
فهو يعرف بأنّي سوف أُقيم الشرع إذا وليتها، لأنّي لا أنظر إلى الخلافة مثل ما كانوا ينظرون إلى الخلافة، بل أنظر إليها على أنّها إقامة للدين الحنيف واستمرار لنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم أعادوها جاهلية، لذلك صبرت وفي الحلق شجا وفي العين قذى، فاستغلوا صمتي وهضموا حقّي وتناقلوها بينهم.
وعندما وصلت الخلافة إليّ وبايعني الناس بعد مقتل عثمان لم يرق لقريش ذلك، فنكثت طائفة، وقسطت أُخرى، ومرق آخرون، فتحقّق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ستقاتل من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين"، فقامت عائشة تحرّض الناس ضدّي، ووقف معها طلحة والزبير وكانا قد بايعاني ثم نكثا بيعتي، وقد زعموا أنّهم يطالبون بدم عثمان، وقد كانوا هم أوّل من حرّض الناس وقاموا ضدّه إلى أن
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 186، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني: 510.
ثمّ قام معاوية معلناً أنّه يطالب بقتلة عثمان، مع أنّه لم ينصره وقد كان يستطيع ذلك، إلاّ أنّه آثر أن يقتل لينازع في أمر ليس هو أهله.
وقد جمع حوله من باع دينه بدنياه، مثل عمرو بن العاص وأمثاله.
وكلّ ما فعلوه كان لخوفهم من أن يتمّ الأمر لي فأعيدهم إلى ما مضى من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم أبوا إلاّ أن يجعلوها قبليّة جاهليّة.
وبعد أن وصلوا إليها ظهر ما كانوا يخفون، ولم يعد معاوية يطالب بقتلة عثمان بل وقف معاوية وقال: يا أهل العراق ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم(1).
فهذا هو ما يريدون أن يتأمروا ليس إلاّ.
وما عشت أراك الله العجب فيمن يصدقهم الآن في زمانكم، بعدما وضحت الأُمور بأجلى صورها، ويصوّروا هذا على أنّه اجتهاد مأجور صاحبه بأجر إن أخطأ وأجرين إن أصاب.
ومنذ وصلت الخلافة إلى عثمان وجمع حوله بني أُميّة، قال له أبو سفيان في مجلسه: تلقّفوها يا بني أُميّة تلقّف الصبيان للكرة، فوالذي
____________
1- البداية والنهاية لابن كثير 8: 140، سير أعلام النبلاء للذهبي 3: 147.
وهذا ما حصل منذ ولّى عثمان أقاربه وأبناء عمومته على رقاب الناس وقوّى سلطة معاوية في الشام، فبسط يده عليها بعد ما أجازه عليها، كما أجازه أبو بكر وعمر، فصارت بيده يتصرّف بها تصرّف المالك المطلق.
لذلك عندما بايعني الناس، وأحسّ زعيم بني أُميّة معاوية أنّي إن تمّ لي هذا الأمر فسوف يعزل ويصبح كعامة المسلمين، وسوف يخسر ما كان يجهز له منذ ربع قرن، وهو أن يعيد مجد أُميّة ويكون هذا الملك له ولعقبه من بعده والانتقام منّي ومن بني هاشم عموماً; رفض بيعتي.
انظر إلى رسالة محمّد بن أبي بكر إلى معاوية وردّ معاوية عليه:
من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر:
سلام على أهل طاعة الله، ممّن هو سلم لأهل ولاية الله.
أما بعد، فإن الله بجلالته وعظمته وسلطانه وقدرته، خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوته، ولا حاجة به إلى خلقهم، لكنه خلقهم عبيداً وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقيّاً وسعيداً، ثمّ اختار على علم فاصطفى وانتخب محمّداً (صلى الله عليه وآله) فاختصه برسالته واختاره لوحيه
____________
1- نحوه في الاستيعاب لابن عبد البرّ 4: 1679.
وقد رأيتك تساميه، وأنت أنت، وهو هو، السابق المبرز في كلّ خير، أوّل الناس إسلاماً وأصدق الناس فيه، وأفضل الناس ذرّية وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عمّ، أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة، وعمّه سيّد الشهداء يوم أُحد، وأبوه الذاب عن رسول الله وعن حوزته، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله وتبذلان الغوائل، وتجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال وتؤلّبان عليه القبائل، على هذا مات أبوك وعلى ذلك خلّفته، والشاهد عليك بذلك من تدُني، ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق والشقاق لرسول الله.
والشاهد لعليّ ـ مع فضله المبين، وسابقته القديمة ـ أنصاره الذين
فكيف يالك الويل! تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله ووصيه وأبو ولده، وأوّل الناس له اتباعاً وأقربهم به عهداً، يخبره بسره ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه؟!
فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، وسوف تبين لك لمن تكون عاقبة العليا!
واعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي أمِنت كيده، وآيست من روحه وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع الهدى.
ـ ردّ معاوية:
من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر:
سلام على أهل طاعة الله.
أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه، وما احتفى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع كلام كثير الفّته، ووضعته
ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله ونصرته له ومواساته إياه في كلّ هول، فكان احتجاجك علىَّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.
فقد كنّا وأبوك معاً في حياة نبيّنا نرى حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلما اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلح محبّه، وقبضه الله إليه (صلى الله عليه وآله)، كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتسقا، ثمّ إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما، فهمّا به الهموم، وأرادا به العظيم ثمّ إنّه بايعهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرّهما، حتى قبضهما الله، وانقضى أمرهما، ثمّ قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بمسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل حتى بلغتما فيه مناكما، فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزيد الجبال حلمه ولا تلين على قسر قناته ولا يدرك ذو مدى أناته.
أبوك مهّد له مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صواباً
ولمّا قتل الحسين ابني، كتب عبد الله بن عمر رسالة إلى يزيد بن معاوية جاء فيها:
أما بعد، فقد عظمت الرزيّة وجلّت المصيبة، حدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين.
فكتب إليه يزيد:
أما بعد، يا أحمق، فإنّا جئنا إلى بيوت مجدّدة وفرش ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنا عنها. فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحقّ لغيرنا، فأبوك أوّل من سنّ هذا واستأثر بالحقّ على أهله.
والغاية من إيرادي لرسالة محمّد بن أبي بكر ورد معاوية عليه، ورسالة عبد الله بن عمر وردّ يزيد عليه، إنّما هو لاعترافهم. بأنّ من أوصل لهم هذا الأمر هو من ابتزّني الخلافة وغصبني حقّي من بعد
____________
1- أنساب الأشراف للبلاذري: 394، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 189.
س9 ـ كيف وصل أمر الخلافة إلى معاوية؟
ج ـ بعد الانتهاء من معركة صفّين وما جرى فيها من التحكيم وخداع معاوية وعمرو بن العاص لي وللناس(1).
قتلني الخارجي عبد الرحمن بن ملجم وبايع الناس ابني الحسن، بعد أن أوصيت له بناءً على أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعندما رأى ابني الحسن قلّة الناصر، واستمالة معاوية للناس بالمال، وكثرة القتلى بين أصحابه; آثر صلح معاوية، ليحقن دماء المسلمين، وليوقف ما كان يروّج له معاوية ورجاله من أكاذيب وسبّه لي على منابر المسلمين، وتصالح معه على الشروط التالية:
1 ـ أن يعمل معاوية بالمؤمنين بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله).
2 ـ أن يكون الأمر للحسن من بعده وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.
3 ـ أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير.
4 ـ أن يسلم ما في بيت مال الكوفة وله خراج دار أبجرد.
____________
1- لم نذكرها خوف الإطالة وهي موجود في كتب السير والتواريخ.