ولكن معاوية ما إن استتبّ الأمر حتى خرج على أهل العراق وقام خطيباً، وقال: يا أهل العراق لم أُقاتلكم لتصلّوا أو لتصوموا أو تحجّوا أو تزكّوا فإنّكم تفعلون ذلك، ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وليس لكم عندي إلاّ السيف، وكلّ شرط شرطته للحسن بن علي فهو تحت قدمي(1).
ولكي يتمّ الأمر لعقبه من بعده كان لا بدّ من أن يقتل الحسن، فبعث لزوجة الحسن جعدة بنت الأشعث ومنّاها بالمال وبالزواج من يزيد، فوافقت ودسّت له السمّ في الطعام ولهذا كان يقول معاوية: لله جند من عسل.
بعد هذا تتابعت المحن على آل البيت المحمدي ومن شايعهم، فقتلوا تحت كلّ حجر ومدر بحجّة معارضتهم للحكومات الظالمة على مرّ التاريخ، وحتى هذه الأيام ولكن بصورة مختلفة، فالآن يعتبرونهم خارجين عن الإجماع لأنّهم لم يرضوا عن سنّة نبيّهم وآل البيت (عليهم السلام) بدلا، وتركوا معاوية ومن شايعه من الحكام الذين
____________
1- الفتوح لابن أعثم 4: 294، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 15 ـ 46.
انظر لقول الإمام علي بن الحسين يصف حالة آل بيت محمّد (صلى الله عليه وآله):
ـ في دمشق استقبل المنهال بن عمرو الصحابي، علي بن الحسين بن علي، فقال له: كيف أمسيت يا بن رسول الله؟
فقال له الإمام علي بن الحسين: "أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمّداً منهم، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون، مقهورون، مثبورون، مطردون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال"!(1)
انقسام الأُمّة الإسلاميّة:
س10 ـ مولاي إنّ ما تفضلتم به من توضيح يبيّن أنّ الأُمّة قد انقسمت بعد توليك للخلافة إلى قسمين: قسم تابعك وشايعك، وفيهم جل الصحابة الكرام وأولادهم، وقسم آخر تابع معاوية ومن أتى بعده وشايعهم، وبذلك شقّوا عصا الطاعة، وخالفوا إمامهم، وتمّ
____________
1- فتوح البلدان لابن الأعثم 5: 133.
فهل يمكن يا سيّدي أن تبيّن لنا نظركم لذلك، لتوضح للناس ما أبهم واُخفي عنهم؟
ج ـ لا يختلف اثنان في أنّ أبا بكر كان الخليفة الأوّل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا ممّا تتفق عليه المدارس الإسلامية بأجمعها سنّة وشيعة، ولكنّ خلافهم بأحقيته بهذا الأمر من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى كل فقد مضى لسبيله.
ثمّ أدلى بها إلى عمر بن الخطّاب، فانتقلت الخلافة له بوصيّة من أبي بكر الخليفة الأوّل، وأصبح هو الخليفة الثاني، وذلك أيضاً ممّا تتفق عليه المدارس الإسلامية بأجمعها سنّة وشيعة.
ثمّ لمّا طعن عمر وأشرف على الموت جعلها في جماعة، إلى أن قام ثالث القوم عثمان وقد بايعه الناس وأصبح الخليفة الثالث بوصيّة من عمر، بغض النظر عن طريقته في الاختيار والتوصية، وهذا أيضاً ممّا لا يختلف فيه أحد من المسلمين، إلى أن أجهز عليه عمله وكبّت عليه بطنته.
وقد كانت خلافتي متصلة بخلافة من كان قبلي من الخلفاء الثلاثة الذين سبقوني أبي بكر وعمر وعثمان وصولا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون...
وبذلك يكون كلّ من اتّبعني وشايعني قد مشى على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وإنّ من وقف ضدّي خرج عن الشرع وخالف الحقّ، وعلى هذا يكون من وقف مع معاوية، وشايعه، ومشى على نهجه، وصحّح له، ودافع عنه، فهو من شيعته ومن أعوانه، ويكون خارجاً عن الشرعيّة المتمثلة بي وبالخلفاء الذين سبقوني في ضوء مبانيهم، وهؤلاء هم أهل الخلاف من عامة المسلمين الذين وقفوا مع معاوية وقاتلوا معه ضدّي بالسيف في عصره ومن تبعه من بني أُميّة، وهؤلاء كانوا ضدّ الخلافة الشرعيّة التي انتهت من بعدي بقتل الإمام الحسن.
وقد حاولت السلطات الحاكمة ورجالهم المرتبطون معهم على
____________
1- (شيعة) المعنى اللغوي لهذه الكلمة: شيعة لغة تعني الفرقة، أو الجماعة من الناس التي تجتمع أبناؤها على أمر واحد ويتبع بعضهم رأي بعض وهم متشابهون في آرائهم وأُمورهم وموالاتهم.
وإذا أُضيفت كلمة (شيعة) لرجل كقولك: شيعة فلان فإنّها تعني: الأصحاب أو الأعوان أو المؤيدين. لسان العرب لابن منظور 8: 188 مادة شيع، تاج العروس للزبيدي 11: 257.
وورد لفظ شيعة في القرآن في عدّة مواضع منها قال سبحانه وتعالى: {فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ} القصص: 15.
وهنا كان المقصد من كلمة (شيعة) أي من أتباع سيّدنا موسى، وقال تعالى: {وَإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاَبْراهِيم} الصافات: 83.
ومن معاني هذه الآية أنّ سيدنا إبراهيم من شيعة سيّدنا نوح.
ومن هذا تعرف أنّ لفظ (الشيعة) يطلق على أتباع سيّدنا محمّد وآل بيته الأطهار، وأوّل من أطلق لفظ (شيعة علي) على أتباع علي (عليه السلام) هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} البيّنة: 7، بقوله لعلي:
"هم أنت وشيعتك يا علي وستقدم على الله وشيعتك راضيين مرضيين" مجمع الزوائد للهيثمي 9: 131، الدر المنثور للسيوطي 6: 379.
وحول هذه المعاني يراجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2: 460، ينابيع المودة للقندوزي 2: 357، روح المعاني للألوسي 30: 207، نظم درر السمطين للزرندي: 92، المعجم الأوسط للطبراني 4: 187، فتح القدير للشوكاني 5: 477، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 576.
وهذا ما صوّره لهم معاوية بدهائه ومن تبعه من بني أُميّة وبني العباس، وهؤلاء إنّما وقفوا أيضاً ضدّ الخلفاء الثلاثة الأوائل، وشقّوا وحدة المسلمين، وصنعوا لهم مذهباً سياسياً لا يعارض الحكم القائم ويعتبر طاعة الأمير براً كان أو فاجراً، وقد وضعت الكثير من الأحاديث لتأكيد ذلك في العهدين الأموي والعباسي.
لذلك كانت الحكومات تدعمه دائماً، ولذلك ترى انتشار المذاهب الأربعة; لأنّها دعمت سياسياً الحكومات الجائرة أنذاك وخططت لدعم كلّ حكومة جائرة تأتي بعدها، بينما بقي أتباع مدرسة محمّد وآل بيته (عليهم السلام) ملاحقين مقتّلين مطرودين مقهورين في كلّ زمان ومكان، لأنّهم لا يعتقدون بولاية الفاجر والطليق ومن اعتدى على هذه الأُمّة بالسيف، ولا يرضون عن مذهب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار بدلاً، وتمسّكوا بولايتنا آل البيت واستمروا على ذلك.
الفصل الأخير
لمحات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعيّن أوصياءه وأئمة المسلمين من بعده.
ضوء من ضوء.
نصّ فتوى مكتب شيخ الجامع الأزهر المسجّلة بدار التقريب.
لمحات عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)
الإمام الثاني: الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أُمّه فاطمة الزهراء، سيّدة نساء العالمين، بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولد بالمدينة المنوّرة ليلة النصف من رمضان سنة (2هـ).
توفّي في المدينة المنورة 7 صفر سنة (50هـ) مسموماً، سمّه معاوية بن أبي سفيان.
ودفن في البقيع.
الإمام الثالث: الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أُمّه فاطمة الزهراء (عليها السلام)، سيّدة نساء العالمين، بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولد بالمدينة 3 شعبان سنة (3هـ).
واستشهد في كربلاء في 10 محرّم سنة (61هـ) ودفن هناك.
قتله جيش يزيد بن معاوية وكان عمره الشريف (58 سنة).
الإمام الرابع: علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).
أُمّه شاه زنان بنت يزدجرد، وقيل اسمها شهربانو.
ولد بالمدينة المنوّرة في 5 شعبان سنة (38هـ).
ودفن في البقيع عن عمر (57 سنة).
الإمام الخامس: محمّد بن علي الباقر (عليه السلام).
أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام).
ولد بالمدينة المنورة في غرّة رجب سنة (57هـ).
توفّي بالمدينة في 7 ذي الحجّة سنة (114هـ).
ودفن بالبقيع عن عمر (57 سنة).
الإمام السادس: جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام).
أُمّه فاطمة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
ولد بالمدينة المنورة في 25 شوال سنة (83هـ).
توفّي في المدينة سنة (148هـ).
ودفن بالبقيع عن عمر يناهز (65 سنة).
الإمام السابع: موسي بن جعفر الكاظم (عليه السلام).
أُمّه حميدة المصفّاة.
ولد بالأبواء (موضع بين مكة والمدينة) في 7 صفر (128هـ).
توفّي ببغداد في 25 رجب سنة (183هـ).
ودفن في مقابر قريش في الجانب الغربي من بغداد ـ مدينة الكاظمية ـ عن عمر (55 سنة).
الإمام الثامن: علي بن موسي الرضا (عليه السلام).
أُمّه أُمّ البنين وتسمّى (تكتم) وقيل: نجمة.
ولد بالمدينة المنوّرة في 11 ذي القعدة سنة (148هـ).
توفّي بطوس من أرض خراسان في 17 صفر سنة (203هـ).
ودفن في طوس عن عمر (55 سنة).
الإمام التاسع: محمّد بن علي الجواد (عليه السلام).
أُمّه تدعى سبيكة من أهل بيت مارية القبطية زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولد في 10 رجب سنة (195هـ).
توفّي ببغداد في أوّل ذي القعدة، وقيل أواخره، وقيل في الخامس من ذي الحجّة سنة (220هـ).
ودفن في مقابر قريش غربي بغداد ـ مدينة الكاظمية ـ عن عمر (25 سنة).
الإمام العاشر: علي بن محمّد الهادي (عليه السلام).
أُمّه سمانة المغربية، وقيل: جمانة.
ولد في (بصريا) قريبة من نواحي المدينة المنوّرة في 1 رجب، وقيل في النصف من ذي الحجّة سنة (212 أو 214).
توفّي في سامراء عن عمر (42 سنة).
الإمام الحادي عشر: الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).
أُمّه سوسن أو حديثة أو سليل.
ولد بالمدينة، في 8 أو 10 من شهر ربيع الثاني سنة (232 هـ).
توفّي بسامراء في 8 ربيع الأوّل سنة (260هـ).
ودفن بداره في سامراء عن عمر (28 سنة).
الإمام الثاني عشر: الإمام المهدى المنتظر (عجلّ الله فرجه الشريف).
أبوه الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).
أُمّه نرجس.
ولد بسامراء في 15 شعبان سنة (255هـ).
له غيبتان:
1 ـ الغيبة الصغرى: واستمرّت من260 حتى 329 هـ.
2 ـ الغيبة الكبرى: من 329 هـ إلى أن يظهر.
وقد استمرّت الشيعة في موالاة الأئمة من ولدي علي مرّ العصور،وهم ينتظرون الفرج القادم على يدي آخر الأئمة من أهل البيت الإمام المهدي المنتظر الذي بشّر فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعين أوصياءه
وأئمة المسلمين من بعده
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا جابر إنّ أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أوّلهم علي، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي المعروف بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرأه منّي السلام، ثمّ جعفر بن محمّد، ثم موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ القائم اسمه اسمي وكنيته كنيتي محمّد ابن الحسن بن علي، ذلك الذي يفتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للأيمان"(1).
ـ عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّ عليّاً وصيي من ولده القائم المنتظر المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً"(2).
والعجيب والغريب ممّن يأتي الآن في عصرنا، ويدافع عن هؤلاء
____________
1- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 399.
2- حياة الإمام المهدي للقرشي: 177.
بينما هؤلاء الذين خرجوا عن السلطة الشرعيّة اعتمدوا في مذاهبهم على الرأي والقياس والاستحسان ووضع أحاديث تنتقص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتبرير ما يفعله الحكّام من ظلم وقتل واستبداد بالحكم.
(للمزيد من معرفة أسباب نشوء المذاهب، راجع كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر).
لذلك يجب على المثقّفين المسلمين أن يعيدوا النظر بهذا التاريخ وينظروا لأنفسهم، فإن كان معاوية ومن تبعه قد أكرهوا الناس على بيعتهم، وقتلوا كلّ من وقف ضدّهم وحاولوا إطفاء نور محمّد وآل بيته الأطهار صلوات اللّه عليهم، ومنعوا ذكر فضائلهم وأعلنوا سبّهم على منابر المسلمين، وأجبروا الناس على ذلك وهم له كارهون، فإنّ معاوية ومن ولاه قد هلك، وهلك ذكره إلاّ في مفاسده، فعلى علماء المسلمين الآن ليس التماس الأعذار له ولمن تابعه، بل على
وقال تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}(2).
فإنّ معاوية تسلّط على رقاب الناس وأطلق على عام تسلطه (عام السنّة والجماعة)، ومن هنا جاء اسم (أهل السنّة والجماعة)، فقد كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع عماله: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضائل أبي تراب، وأهل بيته(3).
وأيضاً كتب معاوية: إلاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقرّبوه وأكرموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه
____________
1- تقدم تخريجه.
2- النساء: 109.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطايع ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا(1).
ثمّ كتب: إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّليين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وأتوني بمناقض له، فإنّ هذا أحب إلىّ وأقرّ إلى عيني وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقُرأت كتبه على الناس، ورويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجرى الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك إلى ما شاء الله، فظهر حديث كثير موضوع،
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
وقال ابن عرفة المعروف بنفطويه، وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم عند أهل السنّة في تاريخه: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أُميّة تقريبا إليهم بما يظنون انهم يرغمون به أنوف بني هاشم(2).
وإنّ ذلك قد وصل إلينا فأنت ترى أنّ الخطباء في المساجد يتبارون في ذكر فضائل الصحابة وقد يصلون إلى أنّهم أفضل من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكثير من الأمور (معاذ الله).
مثلا:
ـ عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعنده نساء من قريش يكلّمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يضحك.
فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عجبت من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب".
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 46.
ثمّ قال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "والذي نفسي بيده: ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلاّ سلك فجّ غير فجكّ"(1).
وهنا أرادوا أن يجعلوا فضيلة لعمر وهي المهابة، فأسقطوها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولم يكتفوا بذلك بل سلبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يوصف بأنّه أشد حياءً من العذاري في خدورهن. سلبوه هذا الحياء، أُنظر إلى هذا الحديث:
عن عائشة: إنّ أبا بكر استأذن على رسول الله وهو مضطجع على فراشه، لابساً مرط عائشة، كاشفاً عن فخذيه، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثمّ انصرف.
استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى له حاجته، ثمّ انصرف.
____________
1- صحيح البخاري 7: 93، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك.
فقالت عائشة: يا رسول الله! مالي أراك ما فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّ عثمان رجل حيي، وإنّي خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليّ في حاجته"(1).
وفي حديث آخر: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة"(2).
النبيّ كاشف عن فخذيه، عائشة غير جامعة لثيابها، يدخل أبو بكر فلا يبالي رسول الله ولا يستحيي أن يراه أبو بكر على هذه الحالة مع زوجته.
يدخل عمر فلا يبالي رسول الله ولا يستحيي أن يراه عمر على هذه الحالة مع زوجته.
ولمّا يدخل عثمان، فيأمر زوجته بأن تجمع عليها ثيابها، ويسوّي جلسته ويستر عورته، لماذا؟ لأنّ عثمان رجل تستحي منه الملائكة!!
____________
1- صحيح مسلم 7: 117، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عثمان.
2- صحيح ابن حبان 15: 336.
وإنّنا نرى أنّ حقد معاوية ليس على الإمام عليّ وبنيه (عليهم السلام) فقط، بل تعدّاه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فانظروا إلى هذا الخبر:
روى الزبير بن بكار وقال: قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي إلى معاوية، وكان أبي يأتيه فيتحدّث معه ثمّ ينصرف أبي، فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّاً فانتظرته ساعة، وظننت أنّه لأمر حدث فينا فقلت: مالي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟
فقال: يا بني! جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم (يعني معاوية).
قلت: وما ذاك؟
قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيراً فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه... وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال: هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه!
ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما أخذ أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر.
وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرّات (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فأيّ عمل يبقى؟
وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك؟
والله إلاّ دفناً دفناً(1)(2).
وقد كان معاوية عندما يستعمل عمّاله لا يأمرهم بالعدل والإحسان بل كان يأمرهم بسبّ الإمام علي وذمّه، اُنظر لما يروي الطبري وابن الأثير:
قال: استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة (42هـ) فلما أمّره عليها، دعاه، وقال له: قد أردتُ إيصاءك بأشياء أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة، لا تترك شتم علي وذمّه، والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء منهم.
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 130.
2- كانت قريش تكني رسول الله أبا كبشة استهزاء، به لعنهم الله.
ولذلك نرى الآن يذكر في الكتب فضائل كثيرة للصحابة، وأكثرها موضوعة ليس لها أيّ أصل من الصحّة، ويكفي أن أكثر هذه الفضائل المنتحلة يوجد فيها الانتقاص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتعلم بطلانها، ولكنّ الناس لا يتدبّرونها، بل يذكرونها كما يذكرها مشايخهم، مع العلم أنّ أصحاب هذه الفضائل لم يكونوا قد سمعوا بها على زمانها وقد رأينا ذلك من خلال الإفادات السابقة.
لذلك عظم شأن الكثير من الصحابة وأصبح لهم هالة من القداسة والعظمة المفتعلة التي تمنع الكثيرين من أهل الخلاف بالتصريح بأي هفوة وإن كانت صغيرة، فكيف بعظائم الأُمور وفدائح الخطوب!!
وكتب التاريخ والحديث والسير مليئة بالكثير من مثالبهم، من أجل ذلك ترى أنّ علماءهم يمنعونهم من مطالعة كتب التاريخ والسير لأنّها مليئة بمثل هذه الأُمور التي تسيء للصحابة، وتظهر مخالفتهم الصريحة لنصوص القرآن والسنّة النبويّة المطهّرة، وعندما تواجه بعض هؤلاء الأشخاص وتذكر بعض مخالفات الأصحاب،
____________
1- تاريخ الطبري 4: 188.