قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قَسْمِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم.
وهكذا اكتمل الحصار بجميع أشكاله على أهل البيت عليهم السلام طيلة فترة أبي بكر الذي أوصى بالخلافة لعمر من بعده، الذي قال في عدة مواقف أبت قريش أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة، الذي اخترع قضية الشورى استكمالا لمخطط قريش في فصل الكتاب عن العترة الطاهرة.
قضية الشورى:
لقد كانت قضية الشورى التي صممها عمر بن الخطاب قبل وفاته، وترشيح ستة أشخاص من بينهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إستكمالا لمخطط إبعاد أهل البيت النبوي عن كل شؤون الحياة، فأمير المؤمنين الذي جعله الله تعالى أفضل إنسان بعد رسول الله، والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (علي خير البشر فمن أبى فقد كفر). رواه في كنز العمال عن جابر. ورواه السيوطي عن ابن مسعود. ورواه السيوطي عن حذيفة بن اليمان. ورواه بن كثير في البداية والنهاية عن علي عليه السلام.
وأمير المؤمنين هو الذي شهد له كل الناس بالعلم والمعرفة والشجاعة والفضل والقضاء، وهو الذي كانت كل انتصارات المسلمين على يديه، وهو الذي قالوا
فشخص بهذا المستوى الذي يسمو على مستوياتهم في كل المجالات، عندما يرشحه عمر مع أشخاص دونه بكثير في تلك المستويات، فإنه يقصد بذلك مساويته بهم، ورفع لشأنهم على حساب التقليل والحط من شأن أمير المؤمنين عليه السلام، وبذلك ينظر المسلمون على أن أمير المؤمنين إنسان عادي مثله مثل غيره من المسلمين، وبناء على ذلك تطمس كل الحقائق والفضائل التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مئات المواقف في حق أمير المؤمنين عليه السلام، ومن ثم يصبح حديث رسول الله صلى الله عليه وآله فيما يتعلق بأمير المؤمنين عليه السلام هباءً منثورا لا قيمة له ولا وجود، وبالتالي تكون النظرة لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، نظرة دون العادية، وهو ما حصل بالفعل من ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.
ولذلك فإنني أعتقد أن عملية فصل الكتاب عن العترة الطاهرة أُسس لها منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتزايدت في عصر الخليفة الأول والثاني بشكل مطرد، وأما ما حصل في العصور التي تلتها فهو نتيجة طبيعية لما أسسه الأوائل لعملية التفريق بين ما جمع الله تعالى وهما الكتاب والعترة الطاهرة.
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية فيما يتعلق بقضية الشورى.
(حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ، نَافِجاً حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلِهِ
إذن في هذه المرحلة وُضِعَ أمير المؤمنين عليه السلام مرشحا مع عدة أشخاص، ليس لهم سابقة في الإسلام كسابقة أمير المؤمنين عليه السلام، وبالرغم من أن عملية الشورى بحد ذاتها هي معول من معاول فصل الكتاب عن أهل البيت عليهم السلام، وإبعادهم عن دورهم الأساسي في الحياة، إلا أنه قد فرضت شروط تعجيزية لا يمكن لأمير المؤمنين علي عليه السلام أن يقبل بها.
ولقد وضع أشياخ قريش ذلك الشرط، حتى يكون عقبة أمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في حال بقي أمير المؤمنين هو المرشح الأقوى للوصول إلى سدة الخلافة.
لقد اشترطوا على أمير المؤمنين أن يبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين من بعده، لقد أرادوا بذلك الشرط أن يضيعوا دور أهل البيت عليهم السلام في الإيمان والولاية، وأرادوا أن يجعلوا بين الكتاب والعترة الطاهرة ما يحول بين التقائهما ببعضهما.
وأيضا وجود ذلك الشرط والقبول به، هو اعتراف صريح بأفضلية الشيخين على علي عليه السلام، وهو ما لا يرضاه الله ورسوله، وهو ما يخالف الواقع والحقائق، وهو ما يخالف أيضا اعترافات أبي بكر وعمر بأفضلية علي عليه السلام عليهما.
ولذلك رفض أمير المؤمنين عليه السلام ذلك الشرط طاعة لله ولرسوله، وحتى لا يفرق تلك الإرادة التكوينية بأن الكتاب والعترة الطاهرة شيء واحد لا يجوز افتراقهما ولا تفريقهما.
روى البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة قال (طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظتُ، فقال أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم، انطلق فادعوا الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع لي علِيًّا، فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ الليل، ثم
وهنا سؤال مهم جدا يطرح نفسه، لماذا قال عمر في حادثة رزية الخميس حسبنا كتاب الله واكتفى بالكتاب، بينما في قضية الشورى لم يكتف بالكتاب وإنما بسنة رسول الله وسنة أبي بكر وعمر؟.
وروى أحمد في مسنده قال (سئل عبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟ قال: وما ذنبي. قد بدأت بعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر فقال: فيما استطعت ثم عرضتها على عثمان فقبلها).
وهكذا غُيِبَ الأمام عن دوره، وعُزل أهل البيت عليهم السلام عن موقعيتهم التي اختارها الله لهم، وضاع حقهم وتاهت الأمة عن أحقيتهم، وتم لأشياخ قريش ما أرادوه من فصل الكتاب عن العترة الطاهرة، وبقي الأمر على تلك الحال في فترة عثمان بن عفان الخليفة الثالث.
وخلال تلك الفترة من العزلة بكل أشكالها على أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام، ظل أمير المؤمنين يجمع القرآن كما جمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وينقل السنة الصحيحة للحسن والحسين عليهما السلام ولشيعته المنتجبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين بقوا على عهدهم، ولم يمنعهم كل ذلك العنف والتعنيف من الخلفاء الثلاثة، أن يفوا بعهدهم ووعدهم وبقي الكتاب والعترة الطاهرة مقترنين على هذا المستوى كما أمر الله تعالى ورسوله.
روى الحاكم في المستدرك عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمة مضلون، وليخرجن على أثر ذلك الدجالون الثلاثة). ورواه السيوطي وغيره كثير.
وروى في كنز العمال وغيره عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، و آخرهن الصلاة).
وروى أحمد والحاكم والسيوطي وابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، و آخرهن الصلاة).
لاحظوا التغيير والتبديل، كيف بدأ بالحكم في عهد أبي بكر، وانتُزِعَ حق الحكم من أمير المؤمنين عليه السلام، وتغير الحكم ووضع في غير المحل الذي اختاره الله تعالى له، وما أن جاء عهد الخليفة الثالث حتى كانت الصلاة قد ضيعت وتغير شكلها، وتغير الوضوء وكذلك عشرات الأحكام، كل ذلك تغير بما يخالف أمر الله ورسوله.
ثم ماهي حقيقة تلك الفتن التي تجعل حذيفة رضي الله عنه وغيره من الصحابة المنتجبين يُخفون ويُسرون صلاتهم عن الخلفاء؟.
ومعلوم أن حذيفة رضي الله تعالى عنه توفي في أواخر خلافة الخليفة الثالث، وقيل مرض مرضا شديدا، ولزم بيته وتوفي بعد مقتل عثمان بأربعين يوما، أي أن الخوف والفتنة التي عاشها أولئك الصحابة المنتجبون، كانت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى فترة مبايعة أمير المؤمنين عليه السلام.
وروى مسلم في صحيحه، وأحمد في المسند، وبن ماجة، وفي كنز العمال عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام، قال، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون. لعلكم أن تبتلوا، قال، فابتلينا. حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا).
روى البخاري في صحيحه عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت (دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا.) ومعناه لا أعرف شيئا من الشريعة لم يتغير عما كان عليه إلا أنهم يصلون جميعا أي مجتمعين ..
وقال في فتح الباري تعقيبا على الحديث (لأن حال الناس في زمن النبوة، كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة
وروى البخاري في باب تضييع الصلاة عن أنس قال (ما أعرف شيئا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قيل: الصلاة؟ قال: أليس ضعيتم ما ضعيتم فيها).
وروى الترمذي عن أنس قال (ما أعرف شيئا مما كنا عليه على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقلت: أين الصلاة؟ قال: أو لم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم).
ويؤكد الصحابي عمران بن حصين ومطرف بن عبد الله، حصول النقض في آخرهن، وهي الصلاة عندما صليا خلف أمير المؤمنين علي عليه السلام، وتنهدا واعترفا بأن أمير المؤمنين علي عليه السلام ذكرهما بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
وروى البخاري في صحيحه، وكذلك في بقية الصحاح والسنن عن مطرف بن عبد الله قال: (صليت خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة، أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما بالنسبة إلى أحوال المنافقين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه يصفها وصفا دقيقا لايقبل التأويل، ويؤكد على حقيقة حديث الثقلين في أن عدم التمسك بالكتاب والعترة معناه الضلال والزيغ عن جادة الحق وعن الصراط المستقيم.
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال (إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما اليوم: فإنما هو الكفر بعد الإيمان).
وإنني أتساءل، أين أجهزة الدولة عن أولئك المجاهرين بكفرهم؟. وأين عمر ابن الخطاب وشدته وجلادته في الله كما يدعون؟. ولماذا لا يخاف أولئك المجاهرون الذين على ما يبدوا من الأحاديث كانت لهم سطوة وسلطة، ويتمتعون بحصانة قوية وقرار، جعلت الصحابة المنتجبين يخشونهم ويخشون الرد عليهم؟ .... فهذه مرحلة خطيرة من تاريخنا الإسلامي لا بد من إعادة النظر فيها ببصيرة وإنصاف.
وبقي الوضع والتغيير والإبتعاد عن أحكام الله، وبقيت محاصرة وعُزلة أهل البيت عليهم السلام قائمة إلى أن قتل عثمان بسبب تجاوزاته التي ملأت السهل والوعر، ومخالفته لأحكام القرآن والسنة النبوية.
وبسبب الفتن والمحن التي عانى منها المسلمون، فإنهم تنبهوا لضرورة وجود أهل البيت عليهم السلام، وتذكروا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما أكد عليه من حقائق وفضائل في حق أهل البيت عليهم السلام، وتذكر المسلمون بأن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، هم سفينة النجاة، التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهلك، وأنه لا يمكن لهم الخلاص من كل الفتن والمحن ومهاوي الضلال التي عاشوها من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، بسبب فصلهم لدور أهل البيت عليهم السلام، فقرروا التمرد على مخططات أشياخ قريش في إبعاد العترة الطاهرة عن واقع الحياة، وتنبهوا إلى ضرورة مبايعة إمام زمانهم، لأنهم أدركوا أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، ومن لم يعرف ويبايع إمامه الذي ارتضاه الله تعالى له ضل عن دينه، وهو الواقع الذي عاشه المسلمون بعد وفاة رسول الله وحتى مبايعة الإمام علي عليه السلام، فقرروا مبايعة إمام زمانهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
خلافة أمير المؤمنين عليه السلام:
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الخطبة الشقشقية متحدثا واصفا قصة مبايعته قال (فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ، وَ شُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ، نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَ مَرَقَتْ أُخْرَى، وَ قَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا، وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا، أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عََلى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ).
وما أن تمت مبايعة أمير المؤمنين علي عليه السلام، حتى بدأ بالعمل على إعادة ما ترك الناس من أحكام القرآن والسنة النبوية الصحيحة، وقام بإعادة عشرات الأحكام وتطبيقاتها إلى وضعها الصحيح، فقام بتطبيق آية الوضوء وأعاده على وفق أحكام القرآن الكريم، حتى يتقبل الله طاعة الناس وعباداتهم، ثم أعاد شكل الصلاة وفق صلاة رسول الله وشهد كما ذكرنا الكثير من الصحابة كما في كتب الحديث أنه ذكرهم بصلاة رسول الله، لأنهم منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله لم يصلوها كما كان يصليها رسول الله إلا ما كان من صلاتهم مع إمامهم أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأعاد حج التمتع كما فرض الله ورسوله، وتوقف النظام الطبقي في العطاء الذي غيره عمر بن الخطاب حيث ساوى في العطاء كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوقف العشرات من البدع التي كانت تطبق في العهود التي سبقت عهده كصلاة التراويح وغيرها من البدع.
فلقد عمل أمير المؤمنين عليه السلام ومنذ اليوم الأول على إصلاح الفصم والفصل بين القرآن الكريم وأهل البيت عليهم السلام، الذي تم من يوم أن رفع
حرب المسلمين ضد خلافة أمير المؤمنين:
فعند وصول خبر مبايعة أمير المؤمنين عليه السلام إلى من تصدوا منذ البداية للصد عن سبيل الله، وكذلك وصول الخبر إلى كل المنافقين وإلى المبغضين لأهل البيت عليهم السلام، استفزهم الأمر واستنفرهم، لأنه خالف الواقع الذي رسمه أشياخ قريش لهم، ولم يكن متوقعا لديهم عودة العروة الوثقى إلى معترك الحياة التشريعية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية، ففي تلك العودة إفشال لكل مخططاتهم، وضياع كامل لكل مصالحهم، فاستنفروا كل قواهم لمواجهة تلك الدولة الوليدة، التي إن بقي على رأسها أمير المؤمنين، ويعسوب الدين، وإمام المتقين، والصراط المستقيم، فإنهم وعلى حسب معرفتهم بعلي عليه السلام، سوف لن تقوم لهم ولمخططاتهم قائمة، وسوف يكون مصير تراثهم الذي ورثوه عمن سبقهم إلى زوال، فبدأت محاربة أمير المؤمنين عليه السلام، واستُغلت كل الطاقات وحتى الشيطانية الخبيثة منها، من أجل أن لا يترك مجال لأمير المؤمنين لتطبيق كتاب الله وسنة نبيه، ومن أجل الوصول إلى حالة الفوضى واللاإستقرار في دولته عليه السلام، ومن أجل ضربها إقتصاديا حتى تبلغ معاناة الناس ذروتها، فبالتالي تسقط دولة الحق، ويعود الأمر كما كان عليه قبل أن يتسلم الإمام مهامه في إمامة الناس وقيادتهم.
وعندما يحصل ذلك الهدف لمن نَصَبوا العداء لأمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام مرة أخرى، فإنهم سوف يعتبرون ذلك انتصارا ووفاءً لأشياخهم من قريش الذين أسسوا للجيل الجديد من أن يحافظ على تراث الأجداد، ويتمسك به، وكلنا نتذكر أبيات الشعر التي تمثل بها يزيد لعنة الله عليه، عندما قَتَلَ
ليت أشياخي ببدر شهدوا | جزع الخزرج من وقع الأسل |
لأهلوا واستهلوا فرحا | ثم قالوا يا يزيد لا تشل |
لعبت هاشم بالملك فلا | خبر جاء ولا وحي نزل |
ومعروف أن ذلك التراث ليس هو الحُكم فقط، بل هو الإبقاء على عملية الفصل والفصم بين الكتاب والعترة الطاهرة (الذين أمر الله تعالى ورسوله بالتمسك بهما معا) وأن لا يسمح لأهل البيت النبوي الشريف الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، الذين من أحبهم فقد أحب الله ومن أبغضهم فقد أبغض الله، من أن يكون لهم أي ظهور.
فكان من أهم ماورثه أولئك النواصب، عدم السماح لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام أن يكون لهم دور أو وجود في الحياة بأي شكل من الأشكال، حتى ولو أدى ذلك إلى القتل أو السجن أو الحرق أو نهب الأموال والأعراض والحقوق، وهذا ما شهد عليه التاريخ وكل العصور التي تلت عصر أمير المؤمنين علي عليه السلام، وسنأتي على بعض التفاصيل التاريخية فيما يتعلق بظلم واضطهاد أهل البيت وشيعتهم بحسب ما يسمح به بحثنا المتواضع هذا.
لقد كانت الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله واضحة الموقف في عداء أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، فبالرغم من كل ما عاناه أمير المؤمنين عليه السلام من الأذى والضغائن والأحقاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الأمر كان أشد وأوسع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ولقد أشار الرسول الأكرم إلى ذلك الواقع في عشرات الروايات التي سمعها ووعاها كل المسلمين في ذلك الوقت، فهناك الأحاديث التي تأمر بمحبة أهل البيت وموالاتهم، وهناك الأحاديث التي تنهى عن بغضهم ومعاداتهم أو موالاة أعدائهم، وهناك الروايات العديدة في فضائلهم، وهناك الأحاديث التي تأمر بالموالاة والتشيع لأهل البيت عليهم السلام، وتبين ما أعد الله تعالى لهم
فبالإضافة إلى اغتصاب حقوق أمير المؤمنين عليه السلام والسيدة فاطمة الزهراء وأهل البيت عليهم السلام، والهجوم على بيوتهم وحرقها، والإعتداء على السيدة فاطمة الزهراء وإسقاط جنينها وضربها حتى أنها توفيت بعد أيام من الإعتداء عليها.
فلقد وصل الأمر أن عددا من الصحابة كانوا لا يطيقون ذكر اسم علي عليه السلام، ومنهم من هدده عليه السلام بالإفتراء عليه واتهامه بالسرقة من أجل أن يرضخ لرغباته ومنهم من لاحقه في رزقه وسمعته، كل ذلك كما قلنا من أجل إبعاده عن موقعيته الربانية وعزله عنها. ومخالفة محتويات ومضامين حديث الثقلين.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض، وكان بين العباس ورجل آخر).
روى الهيثمي في مجمع الزوائد عن علي بن أبي طالب قال، بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا على حديقة فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة، فقال: إن لك في الجنة أحسن منها. ثم مررنا بأخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة، قال: لك في الجنة أحسن منها. حتى مررنا بسبع حدائق، كل ذلك أقول: ما أحسنها، ويقول: لك في الجنة أحسن منها. فلما خلا لي الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً، قلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: (ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي. قال: قلت: يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك).
ورواه في مجمع الزوائد أيضا ولكن عن ابن عباس قال: خرجت أنا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام في حشان المدينة، فمررنا بحديقة فقال علي: ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله! فقال: حديقتك في الجنة أحسن منها. ثم أومأ بيده إلى رأسه ولحيته، ثم بكى حتى علا بكاؤه، قلت: ما يبكيك؟ قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني.
وروى الخوارزمي وابن المغازلي الشافعي والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: (يا عليّ، حربُك حربي، وسِلمك سلمي).
وروى الطبراني وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين (أنا حربٌ لمن حاربكم، وسِلم لمن سالمكم (.
وعليه فإن من حارب عليا فقد حارب رسول الله، ومن حارب أهل البيت فقد حارب رسول الله، ومن حارب رسول الله فقد حارب الله، أي أن حرب علي عليه السلام هي حرب الله ورسوله، ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حربك حربي، تحذيرا وتنبيها للمسلمين حتى يقفوا مع الله ورسوله في الحكم على ما حصل من حروب بين علي عليه السلام وبين أعداءه، بل وحتى يدافعوا عن الحق الذي مع أمير المؤمنين علي عليه السلام ولا يحاربونه
قال تعالى في سورة المائدة الآيتان 33 - 34 {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
معركة الناكثين أو الجمل:
ونعود إلى موضوع البحث، فقد قلنا أن أعداء أمير المؤمنين بعد أن علموا بخبر بيعته، خافوا من أن تلتقي العروة الوثقى بطرفيها الكتاب والعترة الطاهرة، فاستنفروا كل طاقاتهم، وكان أول المستنفرين معاوية بن أبي سفيان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة، التي كانت ذاهبة من المدينة إلى مكة لأداء العمرة، فلما سمعت ببيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام، أدارت جملها وحشدت المسلمين لقتل أمامهم يرافقها طلحة والزبير، مدعية أنها تطالب بدم عثمان الذي كان لها دور كبير في تأليب الناس عليه، وخرجت من بيتها مخالفة بذلك أمر الله تعالى لأمهات المؤمنين {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}.
روى القرطبي في الجامع أن عمارا قال لعائشة، إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، ما زلت قوالا بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك.
فخالفت أمر الله ورسوله وخرجت على إمام زمانها ولم تبايعه، وكانت النتيجة معركة الجمل بقيادة عائشة وطلحة والزبير ودعم أساسي من معاوية بن أبي سفيان والي الشام،
روى في كنز العمال عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأزواجه: أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب؟ فلما مرت عائشة ببعض مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب عليها فسألت عنه فقيل لها: هذا ماء الحوأب، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا راجعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب: قيل لها: يا أم المؤمنين! إنما تصلحين بين الناس.
روى في العواصم من القواصم قال: روى قوم أن البيعة لما تمت لعليّ استأذن طلحةُ والزبير علياً في الخروج إلى مكة. فقال لهما عليّ: لعلكما تريدان البصرة والشام. فأقسما ألا يفعلا.
وكانت عائشة بمكة. وهرب عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة إلى مكة، ويعلى بن أمية عامل عثمان على اليمن.
فاجتمعوا بمكة كلهم، ومعهم مروان بن الحكم. واجتمعت بنو أمية. وحرّضوا على دم عثمان وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة ألف درهم. وأعطى لعائشة "عسكراً" جملاً اشتراه باليمن بمائتي دينار. فأرادوا الشام، فصدّهم ابن عامر وقال: لا ميعاد لكم بمعاوية، ولي بالبصرة صنائع، ولكن إليها.
فجاءوا إلى ماء الحوأب، ونبحت كلابه، فسألت عائشة، فقيل لها: هذا ماء الحوأب. فردَّت خطامها عنه، وذلك لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، التي تنبحها كلاب الحوأب؟ فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب، وخمسون رجلاً إليهم وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام.