الصفحة 124
وخرج عليٌّ إلى الكوفة، وتعسكر الفريقان والتقوا، وقال عمار وقد دنا من هودج عائشة: ما تطلبون؟ قالوا: نطلب دم عثمان.

قال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق.

والتقى علي والزبير، فقال له عليّ: أتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم إنك تقاتلني وأنت لي ظالم؟.

ونادى عليّ عليه السلام طلحة من بعد: ما تطلب؟ قال: دم عثمان. قال: قاتل الله أولانا بدم عثمان. ألم تسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله" وأنت أول من بايعني ونكث.

وهكذا شغلوا أمير المؤمنين بالحروب والفتن، حتى لا يتمكن من تحقيق وتطبيق الحق، وحتى لا يتمكن من إعادة دور العترة الطاهرة من أهل البيت عليهم السلام الذين جعلهم الله تعالى أئمة للمسلمين.

فكانت معركة الجمل بقيادة عائشة هي الفتنة الكبرى التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حذر منها عائشة وبشكل صريح، وحذر أيضا بقية المسلمين، حتى لا يكونوا في صف من يريدون فصم العروة الوثقى، وإبعاد المسلمين عن الصراط المستقيم أهل البيت عليهم السلام، وإغراق الناس في بحر الهالكين.

روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال، قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا، فأشار نحو مسكن عائشة، فقال: (هنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشيطان).

وروى الحاكم في المستدرك عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول لعلي بن أبي طالب:

(تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين بالطرقات والنهروانات، وبالشعفات).

قال أبو أيوب: قلت: يا رسول الله، مع من نقاتل هؤلاء الأقوام؟ قال: (مع علي بن أبي طالب).


الصفحة 125
وروى في كنز العمال عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

وروي في كنز العمال عن علي عليه السلام قال: أمرت بقتال ثلاثة: القاسطين، والناكثين والمارقين؛ فأما القاسطون فأهل الشام، وأما الناكثون فذكرهم، وأما المارقون فأهل النهروان.

وروى في كنز العمال عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى منزل أم سلمة، فجاء علي عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم سلمةّ، هذا والله قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي.

وسنأتي على ذكر الأنواع الثلاثة الذين أُمرَ أمير المؤمنين علي عليه السلام من الله تعالى ومن رسول الله بقتالهم، وقد صنفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان قتل الناكثين في معركة الجمل، والقاسطين الباغين في معركة صفين التي قادها معاوية وعمرو بن العاص، وأما قتال المارقين فكان في معركة النهروان ضد الخوارج.

لكن الذي يجب التذكير به هو أننا نطرح ذكر تلك المعارك من باب تذكير القارئ بمحاولات وعمليات فصل الكتاب عن العترة الطاهرة، وإبعاد وعزل أهل البيت عليهم السلام عن دورهم الذي جعله الله لهم من خلال الإمامة وقيادة الأمة، و كذلك تذكير القارئ العزيز بأن البحث هو في حديث الثقلين والمعاني الواقعية لجملة لن يفترقا الواردة في الحديث.

فكانت معركة الجمل هي معركة الناكثين، الذين بايعوا إمام زمانهم ثم نقضوا عهدهم ونكثوا بيعتهم، ولقد قاتلهم أمير المؤمنين عليه السلام على نكث بيعتهم، وأيضا على تأويل القرآن الذي كانوا يؤولونه بحسب أهوائهم وشهواتهم، هكذا كانوا يفسرون الأمور ويسخرونها لمصالحهم مع أنها تخالف أمر الله ورسوله، ففي حين أن الطاعة واجبة على المسلمين لولي أمرهم، فإنهم برروا وأولوا مخالفاتهم كما يحلوا لهم، فبدلا من طاعة إمامهم خرجوا يقاتلونه، وبدلا من الوفاء ببيعتهم التي عقدوها لإمامهم فإنهم نكثوا.


الصفحة 126
ولقد ذكَرَت الأحاديث النبوية الشريفة، أحدَ أهم ألأسباب التي قاتلهم عليها أمير المؤمنين علي عليه السلام، أو بالأحرى التي أُمر علي عليه السلام من ربه ونبيه بقتالهم عليها، حيث بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حقيقة المرحلة ودقائقها وبين أيضا وجهة الحق، حتى يكون المسلمون على حذر شديد.

روى الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فانقطعت نعله، فتخلف عليٌّ يخصفها، فمشى قليلا ثم قال (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله).

فاستشرف لها القوم، وفيهم أبو بكر وعمر. قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا. ولكن خاصف النعل، يعني: عليا.

فأتيناه فبشرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ورواه في كنز العمال ومجمع الزوائد، ورواه أبو يعلى وقال رجاله رجال الصحيح.

وروى في كنز العمال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعلي يقاتل على تأويله).

وليس مجال البحث هنا هو سرد تفاصيل المعركة، فمن أراد ذلك فهناك مؤلفات خاصة تبحث في ذلك، لكننا نذكر هنا فقط ما يلزم لبحثنا وترابطه مع حديث الثقلين.

معركة صفين:

وبعد أن انتهت معركة الجمل أو معركة الناكثين، التي لم تحقق أهدافها بالنسبة لأعداء أمير المؤمنين، فإنهم انتقلوا إلى مِعوَلٍ آخر من معاول فصم وفصل الكتاب عن العترة الطاهرة، وذلك من خلال مقدمات ونتائج كان منها انقسام المسلمين في أغلبهم مع الفئة الباغية فئة معاوية وعمرو بن العاص ومن والاهما من الصحابة، ضد أمير المؤمنين عليه السلام.


الصفحة 127
لقد سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القاسطين أي الباغين. قال تعالى {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}. والقاسطون هم العادلون عن الحق، والحق هو أمير المؤمنين علي عليه السلام.

ولقد نبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك المعركة، وحذر المسلمين من أن يكونوا مع الفئة الباغية، خصوصا عندما قال في عشرات المناسبات (علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث دار).

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أن يلتزم مع فئة علي عليه السلام، وكان كثيرا ما يجعله علامة على تمييز الفئة المحقة من التي على الباطل، وإليك جملة من الأحاديث التي توضح وتبين ميزان الحق في معركة صفين.

روى البخاري في صحيحه وأحمد في المسند وغيرهما كثير عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ويح عمار: تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).

وروى السيوطي عن بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عمار يزول مع الحق حيث يزول).

وروى السيوطي في الجامع الصغير وبن عساكر عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (عمار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه، وخلط الإيمان بلحمه ودمه، يزول مع الحق حيث زال، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا).

وروى السيوطي عن بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق). ورواه الطبراني.

روى في كنز العمال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: (يا عمار بن ياسر، إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس كلهم واديا غيره، فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردى، ولن يخرجك من هدى).


الصفحة 128
وروى في كنز العمال حديثا عن الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في رواية عن أبي صادق، قال: قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق، فقلت له: يا أبا أيوب! قد كرمك الله بصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبنزوله عليك، فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم؟. تستقبل هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عَهدَ إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم، وعَهدَ إلينا أن نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم - يعني معاوية وأصحابه - وعَهدَ إلينا أن نقاتل مع علي المارقين فلم أرهم بعد. ورواه الطبراني وفي مجمع الزوائد.

والناظر المدقق في هذه الروايات، يتأكد من أحقية علي عليه السلام، فالأمر الإلهي على لسان النبي الأكرم واضح من خلال الأحاديث المذكورة أن علي مأمور بقتال الأصناف الثلاثة، وأنه على الحق ومع الحق، ومن خالفه على الباطل ومع الباطل.

وأما لمن كان عنده شك في أمير المؤمنين عليه السلام، فأنني لا أظنه يشك في الميزان الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان عمار بن ياسر كما بينت الأحاديث الصحيحة، علامة فارقة وواضحة المعالم وسهلة المنال، للتمييز بين الفئة المحقة والفئة الباغية.

معركة النهروان:

ثم جاءت المعركة الثالثة في خلافة أمير المؤمنين عليه السلام مع الخوارج، وهي معركة المارقين الذين خرجوا على إمامهم وحتى أنهم رموه بالكفر وأوجبوا على أنفسهم قتاله، واعتبروا قتال أمير المؤمنين عليا عليه السلام هو الجهاد الحقيقي في سبيل الله، واعتبروا قتل أمير المؤمنين عليه السلام يفتح لهم أبواب الجنة الثمانية يدخلون إلى الجنة من أيها شاؤوا.


الصفحة 129
ولقد أخبر رسولنا الكريم الرحيم المسلمين بحقيقة أؤلئك المارقين من دين الله، وبين أوصافهم، وأخبر بأن أمير المؤمنين عليا عليه السلام هو الذي سيقتلهم وينتصر عليهم.

روى الحاكم في المستدرك عن أبي بكرة قال،قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن أقواما من أمتي أشدة ذلقة ألسنتهم بالقرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن المأجور من قتلهم).

وروى الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجع حتى يرد السهم على فوقه، وهم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال، التحليق). والتحليق في الحديث ليس فقط معناه حلق الشعر والشارب، وإنما المقصود الإهلاك والإفساد، أن من سيماء أولئك الخوارج في كل عصر إفساد وإهلاك المسلمين وتكفيرهم وتنفيرهم من الدين ومن أحكامه وعقائده وإعطاء صورا مشوهة عن حقيقته، وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر، وأن لا يبقوا شيئا من معالم الدين حتى يذهبوا بها، وهذا واقعهم اليوم كما كان في عهد أمير المؤمنين عليه السلام.

وروى السيوطي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عن ذي الخويصرة: (إن من ضئضيء هذا قوما يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).

ولقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام أنه سوف يقتل أحد شياطينهم ويدعى ذو الثدية، الذي حضر في يوم من الأيام وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حضر إلى المسجد النبوي الشريف، حيث

الصفحة 130
أمر رسول الله أبا بكر وعمر بقتله، لكنهما خالفا الأمر النبوي، وبعد ذلك أرسل رسول الله أمير المؤمنين عليا ليقتل ذلك الشيطان فلم يجده، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام إنك يوما لابد قاتله.

روى في مجمع الزوائد وغيره عن أنس بن مالك قال: كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل يعجبنا تعبده واجتهاده، فذكرناه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، فلم يعرفه ووصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره، إذ طلع الرجل قلنا: ها هو ذا.

فقال النبي: إنكم لتخبروني عن رجل، إن على وجهه سفعة من الشيطان. فأقبل الرجل، حتى وقف عليهم ولم يسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نشدتك بالله، هل قلت حين وقفت على المجلس، ما في القوم أحد أفضل مني؟. قال: اللهم نعم.

ثم دخل يصلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يقتل الرجل؟.

فقال أبو بكر: أنا. فدخل عليه فوجده، قائماً يصلي فقال: سبحان الله أقتل رجلاً يصلي، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المصلين! فخرج، فقال رسول الله: ما فعلت؟. قال: كرهت أن أقتله وهو يصلي، وقد نهيت عن قتل المصلين.

قال عمر: أنا. فدخل فوجده واضعاً وجهه فقال عمر: أبو بكر أفضل مني! فخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مه؟. قال: وجدته واضعاً وجهه فكرهت أن أقتله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يقتل الرجل؟. فقال علي عليه السلام: أنا. فقال: أنت إن أدركته. قال: فدخل عليه فوجده قد خرج فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: مه. قال: ما وجدته. قال: لو قتل ما اختلف في أمتي رجلان كان أولهم وآخرهم.

قال موسى: سمعت محمد بن كعب يقول: هو الذي قتله علي، ذو الثدية. في النهروان وهو شيطان الردهة.


الصفحة 131
وبعد كل تلك المحاولات لفصل الكتاب عن العترة الطاهرة، وإبعاد أهل البيت عن دورهم في الحياة والمجتمع قاموا بقتل أمير المؤمنين سلام الله تعالى عليه، فكانت المحاولة الأكثر خطرا، حيث قام المسلمون بقتل خليفتهم وإمامهم الذي بايعوه وعاهدوه على الوفاء.

ومع أن الذي نفذ عملية القتل هو بن ملجم لعنة الله عليه أشقى الآخرين. حيث قام بن ملجم لعنه الله الذي رباه عمر بن الخطب في مصر تحت ولاية عمرو بن العاص بقتل أمير المؤمنين سلام الله عليه في الكوفة في التاسع عشر من شهر رمضان في مسجد الكوفة وهو في محرابه والعجيب إن الصحابة في حياة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كانوا يعلمون بأمر قتل الإمام علي ابن أبي طالب سلام الله عليه، وكذلك اسم قاتله وأوصافه، فكيف بعد كل ذلك يقربونه ويمكنونه من الناس مدعين إنه عالم بالفقه والقرآن.

قال ابن حجر في لسان الميزان: قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر: عبد الرحمن بن ملجم المرادي احد بني مدرك، أي حي من مراد , شهد فتح مصر واختط بها وبني بها دارا، ويقال أن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وكان فارس قومه المعدود فيهم بمصر , وكان قرأ على معاذ بن جبل وكان من العباد، ويقال أنه كان أرسل صبيغ بن عسل إلى عمر يسال عن مشكل القرآن، وقيل إن عمر كتب إلى عمرو أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه , فوسع له فكان داره إلى جنب دار ابن عديس وهو الذي قتل علي بن أبي طالب عليه السلام.

وقال السمعاني في الأنساب يقال أن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه وقيل إن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه، فوسع له مكان داره التي في الراية.


الصفحة 132
إلا أنني أستطيع أن أدعي أن المسلمين الذين خططوا وأسسوا لفصل الكتاب عن العترة الطاهرة وقالوا حسبنا كتاب الله، والذين رفضوا وصية رسول الله، والذين عملوا على الحط من شأن أهل البيت، والذين فعلوا ما فعلوا لإبعاد أهل البيت وعزلهم وظلمهم واغتصاب حقوقهم وطمس أحقيتهم، هؤلاء هم في الحقيقة الذي أوجدوا كل المبررات لقتال وقتل أمير المؤمنين عليه السلام، فإذا كان الذي نفذ سماه الله ورسوله أشقى الآخرين، فماذا يُدعى أؤلئك الذين أسسوا أساس الظلم ضد رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة وأزكى التسليم.

روى في فتح الباري شرح صحيح البخاري وغيره عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: من أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة، قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: قاتلك يا علي.

وهكذا وكما لاحظت أخي المؤمن أن أمير المؤمنين عليه السلام تولى خلافة المسلمين خمس سنوات إلا قليلا، كانت كلها حروب ضده، شغله بها المسلمون حتى لا يتمكن من القيام بدوره الرئيسي في الحياة، وكما ذكرت فإن رسول الله قد تحدث عن كل تلك الحروب وعن قادتها وعن الناس الذين معها، وأخبر بأن أمير المؤمنين سوف يقاتلهم وأنه مع الحق، و قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشدد الوصية على المسلمين بأن يكونوا في صف الفئة الحق، وأن يحذروا فئة الباطل من الناكثين والقاسطين والمارقين، لكنهم بقوا على متابعة وموالاة أشياخ قريش الذين رفضوا أمر الله ووصية رسوله وألبوا المسلمين على إمام زمانهم فكان لهم ما أرادوا.

مبايعة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام:

ثم بعد استشهاد أمير المؤمنين جاءت المحاولة المباشرة والفعلية والتي كان من أهم متطلبات فئة كبيرة جدا من المسلمين فيها، هو رفض دور أهل البيت عليهم السلام وبشكل صريح وعلني، وكانت أكبر عملية استثمار من قبل معاوية

الصفحة 133
وبني أمية للوضع الذي حقق ما أراد الأشياخ من قريش، الذين أورثوا معاوية أن يرفع لواء تراث البغض والحقد على أمير المؤمنين علي وأهل بيته عليهم السلام.

فلقد جند معاوية بن أبي سفيان الذي عينه أبوبكر واليا للشام بدلا من أخيه يزيد، واستبقاه عمر بن الخطاب واليا عليها بالرغم من مخالفاته الظاهرة لأحكام الدين ومفارقته الحياة الإسلامية وتجرئه على مخالفاتها، فإن عمر الخليفة العادل كما يقولون، تركه واليا على المسلمين في الشام، ولقد شكا المؤمنون تصرفات معاوية المخالفة للإسلام وأحكامه إلى عمر بن الخطاب حتى يعزله ويريح المسلمين منه إلا أن جواب عمر كان (دعوه فإنه كسرى العرب) وبالتالي فإن معاوية قد حصل على صكوك الغفران وعلى الإذن في الإستمرار بمخالفاته دون رقيب أوحسيب.

روى بن حجر في الإصابة قال، قال البغوي حدثنا عمي عن الزبير حدثني محمد بن علي قال كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال هذا كسرى العرب.

ومع أن الله تعالى حذر المسلمين من أمثال معاوية وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، إلا أن الخليفة الأول والثاني والثالث كانوا الداعمين الأساسيين لمعاوية وأمثاله.

قال تعالى في سورة إبراهيم الآية: 28 {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}.

روى البخاري في تاريخه، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب في قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو المغيرة، فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية، فمتعوا إلى حين.

وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، وابن مردويه والحاكم وصححه من طرق، عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: {ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قال: هما الأفجران من قريش،

الصفحة 134
بنو أمية وبنو المغيرة. فأما بنو المغيرة، فقطع الله دابرهم يوم بدر. وأما بنو أمية، فمتعوا إلى حين.

وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن {الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قال: بنو أمية وبنو مخزوم.

وقال تعالى في سورة البقرة الآية 211 {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}. وذلك لأنهم بدلوا وجحدوا إرادة الله تعالى وما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله، فنعمة الله تعالى علينا هي محمد وآل بيته عليهم السلام، وهؤلاء جحدوها وبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، فبذلك ضلوا وزلوا واستحقوا العقاب الشديد.

وقال تعالى في سورة المائدة الآية 7 {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور}.

فمعاوية بن أبي سفيان وبنوا أمية هم الذين بدلوا نعمة ولاية أهل البيت عليهم السلام، وغيروا وبدلوا في عقائد الدين وأحكامه، وهذا ما سنوضحه خلال البحث إن شاء الله تعالى.

ثم إنه بعد استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام، بايع المسلمون الإمام الحسن بن علي عليه السلام إماما وخليفة لهم، لكن معاوية بن أبي سفيان رفض الإعتراف بأحد أفراد أهل البيت، ورفض الإنضواء تحت السمع والطاعة لإمام زمانه الذي جعله الله الإمام الثاني للمسلمين من الأئمة الإثنى عشر عليهم السلام.

فمعاوية الذي فعل كل ما فعل مع أمير المؤمنين علي حتى يتخلص من عودة دور أهل البيت عليهم السلام إلى معترك الحياة، وهو الآن يقف في مواجهة مع الإمام الحسن عليه السلام، فبدأ يخطط ومعه ثلة من الصحابة الذين هم على شاكلته، من أجل محو حقيقة أهل البيت مرة أخرى، وإبعادهم عن طريق تحقيق غاياته ومراميه، فجمع الجموع وجيش الجيوش وبذل الأموال للصد عن سبيل الله وصراطه المستقيم ولقتال إمام زمانه الإمام الحسن بن علي عليهما السلام،

الصفحة 135
مع أنه يعلم أنه في حالة تمرده على إمام زمانه وخليفته فإن حكم الإسلام في حقه هو القتل.

فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما).

وروى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمعه يقول: (ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر). وفي رواية (فاضربوه بالسيف كائنا من كان).

هذا هو حكم الإسلام في معاوية ومن وافقه على فعله، إلا أنه استمر في مهاجمة الإمام الحسن ووجه الجيوش للعراق، فما كان من الإمام الحسن عليه السلام وحرصا على دماء المسلمين، الذين لو تواجهوا مع معاوية فأنه سوف تراق دماء الآلاف من كلا الطرفين وهذا ما لا يمكن لإمام من أهل بيت النبوة والرحمة كالإمام الحسن المجتبى أن يقبل به.

فقرر الصلح مع معاوية على أن تكون الخلافة بعد معاوية للحسن إذا كان موجودا أو للإمام الحسين، ووافق معاوية على ذلك الأمر، ثم استقل بالملك، حين سلم إليه الحسن بن علي عليهما السلام الإمرة سنة أربعين للهجرة، واجتمعت البيعة لمعاوية، وسمي ذلك عام الجماعة، وذلك وعلى حسب ما يدعون.

فهل كان المسلمون متفرقين عندما اجتمعت الكلمة لأهل بيت النبي؟. وهل كان أعداؤهم يعتبرون أهل البيت من عوامل التفرقة بين المسلمين؟ وهل صار أهل البيت عليهم السلام الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم، وقال أن من ركب سفينتهم فقد نجى من الهلاك والضلال، فهل صار أهل البيت هم عامل تفرقة؟. حتى إذا قفز معاوية على الحكم واغتصب الملك، عم المسلمين السرور وصاروا يطلقون على ذلك العام عام الجماعة لأن المسلمين اجتمعت كلمتهم.

في الحقيقة لقد اجتمع المسلمون الموالون لمعاوية وعمرو بن العاص ومن معهم على معصية الله ورسوله، واجتمعوا على أن يفصموا العروة الوثقى التي

الصفحة 136
لا انفصام لها، واجتمعوا على رفض ونبذ الصراط المستقيم، واجتمعوا على اتباع الضلال وموالاته وترك الهدى. هذا هو في الحقيقة ما اجتمعوا عليه.

مع أنهم يعرفون أن حكم الله في معاوية هو القتل، لأنه خرج على إمام زمانه وتمرد عليه ورفض طاعته.

روى السيوطي قال أخرج ابن جرير، عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أمية وبني الحكم ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات، وأنزل الله {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}.

وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، وأنزل الله في ذلك {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة} يعني الحكم وولده.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن يعلى بن مرة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أريت بني أمية على منابر الأرض، وسيتملكونكم، فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك: فأنزل الله {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}.

ثم بعد أن تم لمعاوية ما أراد، سار الإمام الحسن عليه السلام إلى المدينة المنورة، واستشهد فيها سنة 50 مسموما، دس له معاوية بن أبي سفيان السم حتى يتخلص منه.

بعض ما فعل معاوية ضد أهل البيت عليهم السلام:

بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام، تربع معاوية بن أبي سفيان على سدة الحكم، وبدأ منذ يومه الأول في استكمال مخططات فصل الكتاب عن العترة الطاهرة، بل اتخذت الإنحرافات في عهده منحى جديدا أكثر خطورة على الإسلام

الصفحة 137
عموما وعلى أهل البيت خصوصا، فلقد أعلن الحرب صراحة وبشكل لم يسبق له مثيل ضد أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام.

فبعد أن قام بدعم الحركات والحروب ضد أمير المؤمنين عليه السلام، وبعد أن دس السم للإمام الحسن عليه السلام، بدأ بتبني سياسات أوسع وأعمق ضد العترة الطاهرة، وهي كما قلنا استكمالا لما أَسَسَ له أشياخ قريش، الذين مهدوا الطريق وجعلوها سهلة ميسورة من أجل أن ينفذ معاوية الأدوار النهائية للقضاء التام على أهل البيت وأشياعهم، وعزلهم عن دورهم.

ولقد نجح معاوية بن أبي سفيان في الدور الذي تبناه نجاحا منقطع النظير، لأسباب عديدة، منها سياسة التجهيل التي فرضها الأوائل على المسلمين، ومنها نسيان وتناسي موقعية أهل البيت عليهم السلام كما فرضها الله تعالى، ومنها نسيان المسلمين السنة النبوية الشريفة، بسبب المنع الصارم من تدوينها بل والمعاقبة على ذلك، ومنها الحط من شأن أهل البيت عليهم السلام، وفصلهم عن الحياة واستبدالهم بشخصيات لم يجعل الله لها شأنا، تلك الشخصيات التي استغل معاوية وجود العديد منها معه حيث اتخذهم من بطانته، وجعل عليهم هالة كبيرة من القدسية، حتى إذا ما قالوا شيئا أو وضعوا حديثا نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله كانت الآذان لهم صاغية والطاعة لما يقولون واجبه، والتشكيك بما يقولون جريمة كبرى.

ومن سياسات معاوية أيضا تكميم الأفواه، وبذل الأموال والعطايا والهدايا من أجل شراء الذمم، وغير ذلك من الغايات التي تحقق له ولجماعته ما يريد، ومن أجل رفع شأنه وشأن من والاه، ومن أجل أن يلتف ذوي الأهواء والشهوات من محبي الدنيا حوله ومن أجل تأييد ودعم كل غاياته ومخططاته.

ولا أريد في هذا المقام سرد مرحلة معاوية بن أبي سفيان بتفاصيلها، فهناك ما جمعه علماؤنا الأجلاء موجود في مؤلفات عديدة تبحث المرحلة بدقة، ولكنني سوف أذكر بعض ما قام به معاوية ضد أهل البيت عليهم السلام من أجل تغيير الإرادة الإلهية التي جعلت لأهل البيت عليهم السلام ذلك الدور الأساسي المقترن بالكتاب والذي لن ينفصل أبدا ولن يفترق ولن يتفرق أبدا.