الصفحة 99
العمامة عن جبهته "(1)، وورد: " أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد أعتمّ على جبهته، فحسر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبهته "(2)، وورد أيضاً: " رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً يسجد على كور عمامته، فأومأ بيده: ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته "(3).

وهذا النهي عن السجود على كور العمامة مبني على كون العمامة قماشاً أو ثوباً.

خامساً: حديث لزوم الجبهة ولصوقها وتمكينها بالأرض، فقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا صلى أحدكم فليلزم جبهته وأنفه الأرض حتى يخرج منه الرغم "(4)، مع تعدّد ألفاظه.

ومعنى أرغم فلان أنفه: أي ألصقه بالرغم وهو التراب، فدلالة الحديث على إيجاب إلصاق الجبهة واضحة من باب الأولوية.

ويؤيد هذا حديث ابن عباس، حيث قال: " من لم يلزق أنفه مع جبهته الأرض إذا سجد لم تجز صلاته "(5).

روايات العترة(عليهم السلام) في اختصاص السجود على الأرض:

1 ـ عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبدالله(عليه السلام): أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لايجوز؟ قال: " السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو ما

____________

1- أنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / 352، كنز العمّال: 7 / 49 (17896).

2- أنظر: السنن الكبرى للبيهقي: 2 / 151 (2659)، الإصابة للعسقلاني: 3 / 465 (4138)، أسد الغابة لابن الأثير: 3 / 9.

3- المصدر نفسه.

4- أنظر: النهاية لابن الأثير: مادة (رغم).

5- أنظر: كنز العمال: 7 / 464 (19802)، المعجم الأوسط للطبراني: 3 / 139 (4111).


الصفحة 100
أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس... "(1).

2 ـ عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: " لا تسجد إلاّ على الأرض، أو ما أنبتت الأرض إلاّ القطن والكتّان "(2).

3 ـ عن أبي عبد الله(عليه السلام)، عن أبيه(عليه السلام)، قال: " لابأس بالقيام على المصلى من الشعر والصوف إذا كان يسجد على الأرض، فإن كان من نبات فلا بأس بالقيام عليه والسجود عليه "(3).

4 ـ عن أبي عبد الله(عليه السلام)، عن الرجل يسجد وعليه العمامة لا يصيب وجهه الأرض، قال: " لا يجزئه ذلك حتى تصل جبهته الأرض "(4).

وغير ذلك من الأحاديث الدالة بوضوح على عدم جواز السجود على غير الأرض.

مناقشة آراء الفقهاء في السجود:

قال جمهور الفقهاء من غير الشيعة بأفضلية السجود على الأرض، وجوازه على الثياب والبسط والفرش والعمامة والمنديل وجلود الأنعام وظهر الإنسان وكفه، بل ظهر الحيوان حتى ظهر الكلب بعد وضع الثوب الطاهر عليه!!، مع اختلاف وتفصيل بينهم(5)، واستدلوا على ذلك بروايات وردت بالترخيص

____________

1- أنظر وسائل الشيعة للحر العاملي: 5 / 342 (6740)، علل الشرائع للصدوق: 2 / 341.

2- أنظر: الكافي للكليني: 3 / 330، وسائل الشيعة للحر العاملي: 5 / 344 (6742).

3- أنظر: الكافي للكليني: 1 / 330، وسائل الشيعة للحر العاملي: 5 / 344 (6744).

4- أنظر: الكافي للكليني: 3 / 334.

5- أنظر: الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري كتاب الصلاة: 1 / 233، والمجموع للنووي باب صفة الصلاة: 3 / 383، ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 22 / 102 ـ 117، ومجموع فتاوى ابن باز: 4 / 234، وفتاوى الشيخ عزالدين: 273 في الهامش.


الصفحة 101
بذلك، منها:

1 ـ حديث أنس: " كنا إذا صلينا مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض من شدّة الحرّ، طرح ثوبه ثم سجد عليه "، وما له من ألفاظ(1).

2 ـ عن ابن عباس: " إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) صلى في ثوب متوشحاً به يتقي بفضوله حرّ الأرض وبردها "(2).

3 ـ عن ابن عباس: " رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي ويسجد على ثوبه "(3).

4 ـ عن أبي هريـرة وجابر: " كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسجد على كور عمامتـه "(4).

5 ـ عن المغيرة بن شعبة: " كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الحصير والفرو المدبوغه "(5).

والذي يمعن النظر في هذه الأحاديث يرى:

إنّ حديث أنس يدلّ على أنّ الأصل في السجود لدى القدرة والإمكان على الأرض، وأمّا في حال العذر وعدم التمكن فيجوز السجود على الثوب المتصل دون المنفصل، وهو ما ذكره الشوكاني في (نيل الأوطار)، حيث قال:

____________

1- أنظر: السنن للبيهقي: 2 / 152 (2663)، صحيح البخاري: 1 / 151 (378)، سنن أبي داود: 1 / 255 (660).

2- أنظر: مسند أحمد: 1 / 256 (2320)، مسند أبي يعلى: 4 / 450 (2576)، مجمع الزوائد للهيثمي: 2 / 48.

3- أنظر: مسند أبي يعلى: 4 / 335 (2448)، مجمع الزوائد للهيثمي: 2 / 57، المعجم الكبير للطبراني: 11 / 102.

4- أنظر: كنز العمال: 8 / 130 (22238)، المصنف لعبد الرزاق: 1 / 303 (1566)، تحفة الأحوذي: 3 / 157 (581).

5- أنظر: سنن أبي داود: 1 / 255 (659)، سنن البيهقي: 2 / 589 (4192).


الصفحة 102
" الحديث يدل على جواز السجود على الثياب لإتقاء حرّ الأرض، وفيه إشارة إلى أن مباشرة الأرض عند السجود هي الأصل، لتعليق بسط الثوب بعدم الاستطاعة... "(1).

وأمّا حديث أبي هريرة: فهو معارض بنهي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكرنا سابقاً، والراوي عن أبي هريرة هو عبدالله بن محرز، وهو متروك ومنكر الحديث عند ابن حجر والدار قطني والبخاري(2)، أضف إلى أنّ هذا الحديث أنكره البيهقي، حيث قال: " فلا يثبت شيء من ذلك "(3).

والأحاديث الأخرى التي وردت عن جابر وابن عباس محمولة على الاضطرار كما هو واضح لما ذكرنا سابقاً.

أمّا الأحاديث التي ذكرت صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الفرو وما شاكل ذلك، فعلى فرض تمامية سندها، فإنّها غير مصرّحه بالسجود على الفرو والنطع والفراش والطنفسة، إذ الصلاة على هذه أعمّ من السجود عليها.

وهذا الذي ذكرناه من الروايات هو عمّدة ما استند عليه القوم!.

وبذلك يظهر أنّ الأصل في السجود أن يضع الإنسان وجهه على الأرض ـ أي ترابها ورملها وحصاها ومدرها ـ وقد رخّص على نبات الأرض من غير المأكول والملبوس(4)، إلاّ أن تعرض عناوين حكم الشارع فيها بجواز السجود

____________

1- نيل الأوطار: 2 / 270 (754).

2- أنظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية للعسقلاني: 1 / 145 (170)، نصب الراية للزيلعي: 1 / 384.

3- أنظر: سنن البيهقي: 2 / 153 (2666).

4- قد وردت أدلة قطعية متواترة في ترخيص النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك مثل حديث الخمرة المذكور في الصحاح والمسانيد فراجع.


الصفحة 103
على الثياب ونحوها في بعض الحالات كضرورة الحرّ والبرد، وأمّا السجود على الفراش والسجّاد والبسط المنسوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها فلا دليل عليه، ولم يرد في السنة أي مستند على جوازه!

وهذا القول مؤيد بفعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ورد عن عائشة أنّها قالت: " ما رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) متقيّاً وجهه بشيء ـ تعني في السجود ـ "(1).

وكذلك بعمل الأصحاب والتابعين:

فعن ابن عبيدة: " أنّ ابن مسعود لا يسجد إلاّ على الأرض "(2).

وعن عبادة بن الصامت: " إنّه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته "(3).

وعن عبد الله بن عمر: " إنّه كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه، قال نافع: ولقد رأيته في يوم شديد البرد وأنّه ليخرج كفيه ما تحت برنس له حتى يضعها على الحصباء "(4).

إضافة إلى أقوال بعض علماء العامة التي تصرّح بذلك:

فقد قال ابن الأثير بعد نقل حديث خبّاب كما أخرج مسلم في حديث الشكوى: " والفقهاء يذكرونه في السجود، فإنّهم كانوا يضعون أطراف ثيابهم تحت جباههم في السجود من شدّة الحرّ، فنهوا عن ذلك، وأنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك، لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم "(5).

____________

1- أنظر: المصنف لعبد الرزاق: 1 / 302 (1555)، كنز العمّال: 8 / 130 (22241).

2- أنظر: المصنف لعبد الرزاق: 1 / 302 (1555).

3- أنظر: سنن البيهقي: 2 / 152 (2662).

4- أنظر: سنن البيهقي: 2 / 154 (2672)، موطأ مالك: 1 / 105.

5- أنظر: النهاية لابن الأثير: مادة (شكا).


الصفحة 104
وقال البيهقي بعد نقل حديث أنس في تبريد الحصا: " قال الشيخ: ولو جاز السجود على الثوب متصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصا في الكف ووضعها للسجود... "(1).

ومن هنا يتضح صحة فعل أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) من أخذ القطع الصغيرة المصنوعة من تراب الأرض والسجود عليها!، والمأخوذ من فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)والصحابة والتابعين، حيث ورد:

عن ابن عباس قال: " إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) سجد على الحجر "(2).

وعن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: " دعا أبي بالخمرة فأبطأت عليه، فأخذ كفاً من حصا فجعله على البساط ثم سجد "(3).

وعن ابن عيينة، قال: " سمعت رزين مولى آل عباس قال: كتب إليّ عليّ بن عبد الله بن عباس(رضي الله عنه) أن ابعث إليّ بلوح من المروة أسجد عليه "(4).

وكان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود إذا خرج يخرج بلبنه يسجد عليها في السفينة(5).

مرحلة التحوّل:

وفي نهاية مطاف بحث الأخ أسامة حول السجود على التربة، يقول:

____________

1- سنن البيهقي: 2 / 151 (2658).

والقول الأصح: لو كان السجود على الثياب جائزاً لكان أسهل من التبريد جداً، إذ كما أن السجود على الثوب المتصل سهل فكذا حمل منديل أو خرقة طاهرة سهل بلا ريب.

2- أنظر: سنن البيهقي: 2 / 151 (2658)، مستدرك الحاكم: 1 / 646 (1740).

3- أنظر: الكافي للكليني: 3 / 331.

4- أنظر: أخبار مكة للفاكهي: 3 / 391 (2279)، المصنف لابن أبي شيبة: 1 / 246 (2834).

5- أنظر الطبقات لابن سعد: 6 / 141، المصنف لعبد الرزاق: 2 / 384 (4571).


الصفحة 105
" وجدت الشيعة الإمامية لا يتدينون ولايقولون إلاّ بما نطق به الكتاب، وجاء به الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتزم به أهل البيت(عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، وعملوا بما ساقهم إليه الدليل، وأخذت البراهين بأعناقهم وجرت عليه السنة وعمل به الأصحاب.

ومما زاد في أحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام) عندي، علمي بأهمية مكانة العترة بحفظ الشريعة المحمدية، وتعرّفي على الأحاديث التي ذكرها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى تبيّن لي أنّهم المنبع النقي الذي تستسقى منه السنة، فاعتنقت مذهبهم وانتميت إلى التشيع".


الصفحة 106

الصفحة 107

(9) إسماعيل الحسني الشامي
(زيـدي / اليمن)




ولد عام 1975م في " صنعاء " عاصمة جمهورية اليمن(1)، من أسرة تعتنق المذهب الزيدي(2)، ودرس في المدارس الدينية الزيدية حتى أصبح أستاذاً في المدرسة العلمية الزيدية الرئيسية بصنعاء والتي تقام جلسات دروسها في الجامع الكبير، له مؤلفات مخطوطة في المذهب الزيدي، اضافة إلى نظمه الشعر وتمتعه

____________

1- اليمن: تقع في الركن الجنوبي الغربي لشبه جزيرة العرب، يبلغ عدد سكانها قرابة (18) مليون نسمة، يدين أغلبهم بالإسلام، تقدر نسبة الشيعة (8) ملايين أكثرهم من الزيدية.

2- الزيدية: " هم القائلون بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين وزيد ابن علي (عليهم السلام)، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد" اوائل المقالات (للمفيد): 4.

وقال القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال الزيدي في مقدمة كتابه (مطالع البدور ومجمع البحور): "والتحقيق: إن الزيدية منسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب وسبطيه وأمهما لاجماعهم إن الحق معهم وإن انتسبوا إلى زيد بن علي فما ذاك إلاّ أنها وقعت فترة بعد قتل الحسين بن علي (عليه السلام) كادت تنسي أشهر صفات أهل البيت وهي الجهاد في سبيل الله لاظهار الحق ومحو الظالم، فقام زيد بن علي بسنة آبائه في إنكاره لأعمال هشام بن عبد الملك وخروجه عليه فانتسب من ورائه إليه لهذه الخصيصة، فلولا هذا لكان انتساب هذه الفرقة إلى الإمام علي أنسب". أنظر: الفروق الواضحة البهية: 10.


الصفحة 108
بصوت حسن وظفه في قراءة التواشيح التي كانت تبث من التلفزيون اليمني.

تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)عام 1994م في سوريا.

التعرّف على التشيع:

يقول الأخ إسماعيل: "سافرت إلى سوريا والتقيت هناك ـ عن طريق الصدفة ـ ببعض علماء الشيعة الإمامية الحجازيين، فانعقدت بيّننا صداقة حميمة، وكان يجمعنا حبّ أهل البيت(عليهم السلام) والولاء لهم، فكان معظم كلامنا يدور حول مكانة أهل البيت(عليهم السلام) وفضائلهم، حتى بلغ الحديث بنا حول عصمتهم.

وكان لابد لنا من أن نحددّ تعريف المصطلحات التي يدور البحث حولها، ليسعنا بعد ذلك أن ننطلق في البحث من المشتركات الموجودة بيّننا".

تعريف العصمة:

قال الشيخ المفيد: " العصمة من الله تعالى لحججه هي التوفيق واللطف، والإعتصام من الحجج بها عن الذنوب والغلط في دين الله، والعصمة تفضّل من الله تعالى على من علم أنّه يتمسك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن، ولا ملجئة له إليه..."(1).

وقال السيد المرتضى: " العصمة هي اللطف الذي يفعله تعالى، فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح "(2).

وقال الشيخ الطوسي: " العصمة: المنع من الآفة، والمعصوم في الدين

____________

1- أنظر: تصحيح الاعتقاد للمفيد: 128.

2- أنظر: رسائل الشريف المرتضى (مسألة في العصمة): 3 / 325.


الصفحة 109
الممنوع باللطف من فعل القبيح، لا على وجه الحيلولة "(1).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: " وقال الأكثرون من أهل النظر: بل المعصوم مختار متمكن من المعصية والطاعة... إلى أن قال: وقال أصحابنا ـ يعني المعتزلة ـ: العصمة لطف يمتنع المكلّف ـ عند فعله ـ من القبيح اختياراً "(2).

وذهب أحد علماء الزيدية المعاصرين إلى أنّ العصمة هي: " اللطف الذي تترك لاجله المعصية بلا محالة، ولهذا لا يوصف بها إلاّ الأنبياء أو من يجري مجراهم.

وقال أيضاً: وكل رسول يوحى إليه بشريعة جديدة أو مجدّدة لما قبلها من الشرائع، لابد أن يكون معصوماً بتوفيق الله ولطفه عن ارتكاب الكبائر والفواحش من المعاصي قبل البعثة وبعدها، ومعصوماً كذلك من الصغائر التي تسيء إلى مقام النبوة وتثير الشُبَه حولها، وهذا هو رأي الزيدية ومن وافقهم "(3).

أسباب العصمة:

إنّ المدارس الكلامية عموماً تؤكد أنّ العصمة لا تنافي الاختيار، والشخص المعصوم يمتنع عن القبيح بكامل إرادته واختياره، لكن يبقى معنى العصمة ملفوفاً بنوع من الغموض لم يوضحه المتكلمون السابقون، فهم لم يذكروا أسباب ومنشأ هذا اللطف، ولم يفصحوا عن معنى اللطف الإلهي الموجب للعصمة.

وقد حاول العلامة الطباطبائي في تفسيره " الميزان " أن يسلّط الأضواء على هذه المسألة قائلا: " ونعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه

____________

1- أنظر: التبيان للطوسي: 5 / 490.

2- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 7 / 8 ـ 7.

3- أنظر: الزيدية نظرية وتطبيق لعلي الفضيل: 102.


الصفحة 110
عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ والمعصية "(1).

والظاهر أنّ قوله " وجود أمر في الإنسان... " هو تعبير آخر عن (اللطف) الذي كانت تعبّر به المدرسة الكلامية القديمة.

وقد أوضح كلامه هذا بقوله: " الأمر الذي تتحقق به العصمة، نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلّبس بالمعصية والخطأ، وبعبارة أخرى: علم مانع عن الضلال"(2).

وقال أيضاً: " إنّ قوّة العصمة لا توجب بطلان الاختيار، وسقوط التكاليف المبنية عليه، فإنّها من سنخ الملكات العلمية "(3).

وهكذ نرى العلامة الطباطبائي ضمن تأكيده على عدم منافاة العصمة للاختيار يرى أنّ العلم سبباً للعصمة، ذلك العلم الذي قال الله تعالى عنه: (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)(4)، فمثل هذا العلم يخلق من صاحبه إنساناً مثاليّاً، لا يخالف قول ربّه قيد أنملة ولا يتعدى الحدود التي رسمها له في حياته قدر شعرة، ولن تزول عنه المعصية فحسب، بل لن يجد مجرد التفكير بالمعصية إليه سبيلاً.

أدلّة لزوم عصمة الإمام:

قالت الإمامية بوجوب عصمة الإمام من الذنب والخطأ، لأنّ الإمامة منصب لا يليق إلاّ للمعصوم، واستدلوا على ذلك بأدلّة عقلية ونقلية:

____________

1- تفسير الميزان: 2 / 134.

2- المصدر نفسه: 5 / 78.

3- المصدر نفسه: 5 / 354.

4- التكاثر: 5 ـ 6.


الصفحة 111

الأدلّة العقليّة:

قال الشيخ المفيد:

" فإن قيل: هل يشترط في الإمام أن يكون معصوماً أم لا؟

فالجواب: يشترط العصمة في الإمام كما تشترط في النبيّ(عليه السلام).

فإن قيل: ما الدليل على أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً؟

فالجواب: الدليل على ذلك من وجوه:

الأوّل: أنّه لو جاز عليه الخطأ لافتقر إلى إمام آخر يسدّده، وننقل الكلام إليه ويتسلسل، أو يثبت المطلوب.

الثاني: إنّه لو فعل الخطيئة فأمّا أن يجب الإنكار عليه أو لا، فإن وجب الإنكار عليه سقط محله من القلوب ولم يتّبع، والغرض من نصبه إتّباعه، وإن لم يجب الإنكار عليه سقط وجوب النهي عن المنكر وهو باطل.

الثالث: إنّه حافظ للشرع، فلو لم يكن معصوماً لم يؤمن عليه الزيادة فيه والنقصان منه "(1).

ويوضح السيد المرتضى بعض ما أجمله الشيخ المفيد قائلاً:

" فأمّا الذي يدلّ على وجوب العصمة له من طريق العقل، فهو أنّا قد بيّنا وجوب حاجة الأمة إلى الإمام، ووجدنا هذه الحاجة تثبت عند جواز الغلط عليهم ـ أي الأئمة ـ وانتفاء العصمة عنهم، لما بيّناه من لزومها لكل من كان بهذه الصفة، وينتفي جواز الغلط بدلالة أنّهم لو كانوا بأجمعهم معصومين لايجوز الخطأ عليهم لما احتاجوا إلى إمام يكون لطفاً لهم في ارتفاع الخطأ، وكذلك لمّا كان الأنبياء معصومين لم يحتاجوا إلى الرؤساء والأئمة، فثبت أنّ جهة الحاجة هي

____________

1- أنظر: النكت الاعتقادية للمفيد: 39 ـ 40.


الصفحة 112
جواز الخطأ.

فإن كان الإمام مشاركاً لهم في جواز الخطأ عليه، فيجب أن يكون مشاركاً لهم في الحاجة إلى إمام يكون ورائه، لأنّ الاشتراك في العلّة يقتضي الاشتراك في المعلول، والقول في الإمام الثاني كالقول في الأوّل، وهذا يؤدي إلى اثبات مالايتناهى من الأئمة، أو الوقوف إلى إمام معصوم، وهو المطلوب "(1).

وفي الحقيقة أنّ مفهوم الإمامة الذي تتبناه الشيعة الإمامية، هو القيام بوظائف الرسول من بعده، وقد تعرفت على وظائفه الرسالية والفراغات الحاصلة بموته والتحاقه بالرفيق الأعلى.

ومن المعلوم أنّ سَدّ هذه الفراغات لا يتحقق إلاّ بأن يكون الإمام متمتعاً بما يتمتع به النبيّ من الكفاءات والمؤهلات، فيكون عارفاً بالكتاب والسنة على وفق الواقع، وعالماً بحكم الموضوعات المستجدة عرفاناً واقعياً، وذابّاً عن الدين شبهات المشككين، وهذه الوظيفة تستدعي كون الإمام مصوناً من الخطأ.

فمادلّ على أنّ النبيّ يجب أن يكون مصوناً في مقام إبلاغ الرسالة، قائم في المقام نفسه، فإنّ الإمام يقوم بنفس تلك الوظيفة، وإن لم يكن رسولا ولا طرفاً للوحي، ولكنه يكون عيبة لعلمه، وحاملا لشرعه وأحكامه، فإذا لم نجوّز الخطأ على النبيّ في مقام الابلاغ، فليكن الأمر كذلك في مقام القيام بتلك الوظيفة بلا منصب الرسالة والنبوّة(2).

الأدلّة النقلية:

أوّلاً: قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ

____________

1- أنظر: الذخيرة للشريف المرتضى: 430، 431.

2- راجع: كتاب الالهيات للسبحاني: 4 / 116 ـ 117.


الصفحة 113
لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ)(1).

والاستدلال بهذه الآية الشريفة على عصمة الإمام يتوقف على تحديد مفهوم الإمامة ومفهوم الظالم الذي ليس له من الإمامة نصيب.

والمقصود بالإمامة الواردة في الآية غير النبوّة وغير الرسالة، فالنبوّة هي منصب تحمّل الوحي، والرسالة منصب إبلاغ الوحي إلى الناس.

أمّا الإمامة المعطاة للخليل(عليه السلام) في أواخر عمره، فهي عبارة عن منصب القيادة الإلهية وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوّة وقدرة مع توفر الشروط والظروف.

وأمّا الظالم، فهو كل من ارتكب ظلماً أو تجاوز حدّاً في يوم من أيام عمره، أو عبد صنماً، أو لاذ إلى وثن أو ارتكب أمراً محرماً، فضلا عن الشرك والكفر، وهؤلاء بأجمعهم مصداق لنداء رب العالمين: (لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) من غير فرق أنّه تاب بعد ذلك أو بقى على ما كان عليه.

ولهذا ينبغي أن يكون الإمام طاهراً من الذنوب طيلة حياته، وهذا هو ما يسمى بالعصمة.

ثانياً: قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ)(2)، والآية الشريفة فيها دلالتان:

1 ـ إنّ طاعة أولي الأمر مطلقة وغير مخصصه بزمان أو مكان أو حالة أو غير ذلك.

2 ـ حرمة طاعة أولي الأمر إذا أمروا بالعصيان والكفر لقوله: (وَلا يَرْضى

____________

1- البقرة: 124.

2- النساء: 59.


الصفحة 114
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ )(1).

وعليه فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين أنّ يتصف ولاة الأمر بصفة ذاتية وعناية إلهية تصدّهم عن الأمر بالمعصية، وليس هذا إلاّ عبارة أخرى عن كونهم معصومين.

وهذه الآية والتي سبقتها تدلان على عصمة الإمام مطلقاً.

ثالثاً: قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2).

والمراد من الرجس هو القذارة المعنوية، وهي كل عمل قبيح عرفاً أو شرعاً تنفر منه الطباع السليمة، والتطهير هو التطهير من الرجس المعنوي الذي تعد المعاصي والذنوب من أظهر مصاديقه.

وتعلّق الإرادة التكوينية على إذهاب كل رجس وقذارة، يجعل من تعلقت به هذه الإرادة إنساناً مثالياً معصوماً، وقد تعلقت هذه الإرادة كما تشير الآية بالأئمة المعصومين(عليهم السلام)، فدل هذا على عصمتهم بالخصوص.

أمّا الأدلّة من السنّة:

أوّلا: حديث الثقلين: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(3).

ودلالته على عصمة، هو اخبار رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ عترته مع القرآن دائماً، وكل من كان مع القرآن دائماً فمعناه أنّه مصيب دائماً، وكل مصيب دائماً فهو

____________

1- الزمر: 7.

2- الأحزاب: 33.

3- قد تواتر هذا الحديث، وأخرجته معظم الصحاح وكتب الحديث، راجع: الغدير وعبقات الأنوار وصحيح الترمذي ومسند أحمد وغيرها.


الصفحة 115
معصوم، فأهل البيت(عليهم السلام) معصومون، لأنّه لو جاز عليهم الخطأ ما كان يجب التمسك به، ولمّا وجب التمسك بهم مطلقاً كالقرآن، وجب أن يكونوا معصومين.

ثانياً: قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): " إنّما الطاعة لله عزّوجلّ ولرسوله ولولاة الأمر، وإنّما أمر بطاعة أولي الأمر لأنّهم معصومون مطهرون، لا يأمرون بمعصيته "(1).

ثالثاً: قال الإمام الصادق(عليه السلام): " الأنبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم لأنّهم معصومون مطهرون "(2).

هذا اضافة إلى الكثير من الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام).

اشتراك الزيدية والإمامية في القول بعصمة الأئمة(عليهم السلام):

ذهبت الإمامية إلى أنّ الأئمة إثنا عشر، قد اصطفاهم الله من قبل، فعلم منهم الوفاء بعهده فجعلهم في الأرض ذرية بعضها من بعض ليكونوا حججه على عباده، وقد ورد النصّ في تحديد أسمائهم، وهم معصومون كعصمة الأنبياء، ولا يجوز منهم صغيرة إلاّ ما قدّمت ذكر جوازه على الأنبياء، وأنّه لا يجوز منهم سهو في شي في الدين ولا ينسون شيئاً من الأحكام.

وقبلت الزيدية العصمة للأئمة في الجملة، فقالت بعصمة الإمام عليّ وولديه الحسن والحسين(عليهم السلام).

فقد قال الحسين بن محمّد بن أحمد الهادي: " ولم تقع العصمة فيمن علمنا من ولد إبراهيم(عليه السلام) إلاّ في محمّد وعليّ والحسن والحسين(عليهم السلام)"(3).

____________

1- أنظر: الخصال للصدوق: 1 / 139، بحار الأنوار للمجلسي: 25 / 200.

2- أنظر: الخصال للصدوق: 2 / 608، بحار الأنوار للمجلسي: 25 / 199.

3- أنظر: ينابيع النصيحة لمحمد بن أحمد الهادي: 236 ـ 237.


الصفحة 116

تساؤل وجواب:

قد يقال: انّ ما ثبت بآية التطهير وحديث الثقلين من العصمة إنّما هو للخمسة الذين ضمهم الكساء، في حين أنّ مدعى الشيعة الإمامية عصمة الأئمة التسعة من أبناء الحسين(عليهم السلام) أيضاً، فكيف يتسنى لنا اثبات عصمتهم من خلال هذين النصين والنصوص المتشابهة؟

الجواب: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقفه التي أعلن فيها عن أهل بيته(عليهم السلام)، هل كان بصدد بيان حصر النصوص بهؤلاء الخمسة، أم أنّه كان يبتغي مجرد تطبيق العصمة عليهم لكونهم أنذاك المصداق الوحيد للمعصومين؟

والصحيح هو التطبيق، وذلك لأننا رأينا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد حدد أهل بيته وبيّن مقامهم من ليلة زفاف فاطمة لعليّ(عليهما السلام)، حيث صرّح الرسول في تلك الليلة بطهارة أهل البيت(عليهم السلام)(1)، وأعقب ذلك بوقوفه على بابهما طيلة أربعين يوماً(2)، ولم يكن في البيت يومئذ سوى عليّ وفاطمة(عليهما السلام)! فتبيّن أنّ المصداق الوحيد لأهل البيت أنذاك هو عليّ وفاطمة(عليهما السلام) فحسب.

وقد أعاد(صلى الله عليه وآله) اعلانه لمقامهم مرّة أخرى بعد ولادة الحسنين(عليهما السلام)، كما ورد عن أم سلمة في جمعهم تحت الكساء(3)، وبيّن علوّ شأنهم وطهارتهم من الرجس.

فمن هنا يكتشف بوضوح أنّ القضية كانت من باب التطبيق على الموجودين، وتبيين مصاديق المعصومين فحسب لاحصرها بهم، بمعنى أنّه لو

____________

1- أنظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 206 ـ 207، مقاتل الطالبين لأبي الفرج: 59.

2- أنظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 169، المناقب للخوارزمي: 60 (28)، المعجم الأوسط للطبراني: 8 / 111 (8127)، المستدرك للحاكم: 3 / 172 (4748).

3- أنظر: المستدرك للحاكم: 2 / 451 (3558)، 3 / 158 (4705)، شواهد التنزيل للحسكاني: 2 / 67 ـ (731)، صحيح مسلم: 4 / 1883 (2424) وغيره.