والأعجب من ذلك!! قوله: "... ونختلف مع الرافضة(1) في الأصل الثاني من أصول الإسلام ـ السنة ـ ".
ثم يقول: " لايؤمن الشيعة بالأحاديث التي وردت في صحيحي البخاري ومسلم... ولايؤمنون بمسند الإمام أحمد وموطأ مالك وسنن الترمذي وابن ماجة والنسائي وأبي داود وغيرها من كتب الحديث "(2).
البخاري وصحيحه:
من المستغرب أن يعتبر الغريب عدم قبول الشيعة لما ورد في صحيح البخاري وغيره من الصحاح عندهم، اختلافاً في الأصول!
فيبدو أنّه لم يراجع الأسباب التي اعتمد عليها الشيعة في عدم أخذهم الأحاديث من صحيح البخاري، وكأنّه لا يعلم أنّ أدنى تأمّل في تاريخ وشخصية محمد بن إسماعيل البخاري يكشف لنا حقيقة أمره وماهية (صحيحه)!.
فقد قال محمّد بن يحيى الذهلي (ت 258 هـ) ـ والذي إنتهت إليه مشيخة العلم بخراسان ـ عن شخصية محمّد بن إسماعيل البخاري: " من ذهب بعد هذا إلى محمّد بن إسماعيل البخاري فاتهموه "(3).
____________
1- أراد بالرافضة هنا الشيعة.
2- وجاء دور المجوس: 120.
3- أنظر: تاريخ بغداد للخطيب: 2 / 31 ـ 32، سير أعلام النبلاء للذهبي: 12 / 455، تاريخ الإسلام للذهبي: وفيات (251 ـ 260): 268.
فقال أبو حاتم الرازي: " محمّد بن يحيى الذهلي إمام أهل زمانه "(1).
وقال الذهبي: " كانت له جلالة عجيبة بنيسابور، من نوع جلالة الإمام أحمد ببغداد ومالك بالمدينة "(2).
وقال النسائي: " محمّد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري، مأمون "(3).
ولهذا نجد أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين تركا البخاري! علماً أنّهما كانا يُعدّان من أئمة العامة في الجرح والتعديل، وكانت على أقوالهم تدور صحة أوسقم المرويات عن السنة النبوية، كما أنّ سبب ذكر الذهبي للبخاري في الضعفاء والمتروكين هو جرح الذهلي له.
كما اعتبر جماعة من أبناء العامة أنّ البخاري مدلّساً(4)، والتدليس يوجب الجرح في الراوي، ومن ثبت عليه التدليس ولو مرّة صار مجروحاً، والجرح في الراوي يوجب ضعف الحديث ويجعله غير مقبول (5).
وقد ذكر الذهبي طرفاً من تدليساته، حينما قال: " وقال أبو نصر الكلاباذي: روى البخاري عنه ـ الذهلي ـ فقال مرّة: ثنا محمّد، وقال مرّة: ثنا محمّد بن عبدالله نسبة إلى جده، وقال مرّة: ثنا محمّد بن خالد، ولم يصرّح به قط،
____________
1- أنظر: تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 418، تاريخ الإسلام للذهبي: وفيات (251 ـ 260) 340.
2- أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12 / 274.
3- أنظر: تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 418.
4- التدليس: هو اخفاء عيب في الاسناد، وهو خداع وخيانة، لأنّ المدلّس يوهم السامع بسماع هذا الحديث من المشايخ مع أنّه لم يسمعه.
5- أنظر: أسباب رد الحديث: 87.
وقال الذهبي أيضاً: " ثم أنّ البخاري قد روى عن محمّد غير منسوب عنه فكان محمداً الذهلي "(2).
وقال ابن حجر في أجوبته عن السؤال عن محمّد الذي يروي عن البخاري من هو؟ قال: " والذي ترجّح لي أنّه الذهلي، والبخاري من عاداته أن لا يفصح به ـ أنّه محمد بن يحيى الذهلي ـ "(3).
فإذا أراد بذلك أن يذكر شيخه الذي سمع منه بما لا يُعرف عند أهل الحديث! فذكره بما ليس مشهوراً، وهذا هو التدليس الذي قرنه بعضهم في الحكم بقذف المحصنات، وبعض آخر بأنّه أشدّ من الزنا(4).
وقال ابن حجر: " محمّد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري: الإمام، وصفه بذلك أبو عبد الله بن مندة في كلام له، فقال فيه: أخرج البخاري قال: فلان، وقال: أخبرنا فلان، وهو تدليس "(5).
وقال سبط ابن العجمي: " محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة شيخ الإسلام البخاري، ذكر ابن مندة أبو عبد الله في جزء له في شروط الأئمة في القراءة، والسماع، والمناولة، والإجازة أخرج البخاري في كتبه الصحيحة وغيرها قال لنا فلان، وهي إجازة، وقال فلان، وهو تدليس "(6).
____________
1- أنظر: تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات (251 ـ 260): 342، رجال الصحيح للكلاباذي: 2 / 687.
2- أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 10 / 379.
3- أنظر: إكمال مبهمات البخاري لابن حجر: 76.
4- أنظر: يالكفاية في علم الدارية، باب الكلام في التدليس للخطيب: 355، 371، جامع التحصيل للعلائي: 1 / 116.
5- أنظر: طبقات المدلّسين لابن حجر: 24 رقم 23.
6- أنظر: التبيين لأسماء المدلّسين لابن العجمي: 177 رقم (64).
ولمعرفة قيمة ماورد في صحيح البخاري من أخبار، نكتفي بذكر رواية والي بخارى أحيد بن أبي جعفر، التي يقول فيها: " قال محمّد بن إسماعيل يوماً: ربّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، وربّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر! فقلت له: يا أبا عبد الله بكماله؟ قال: فسكت "(1).
وإنّ أوّل من فتح باب الانتقاد على صحيح البخاري وغيره من الصحاح ومؤلفيها هم علماء العامة أنفسهم!.
فقد قال مسلمة حول البخاري وكتابه الصحيح: " ألّف عليّ بن المديني ـ شيخ البخاري ـ كتاب (العلل)، وكان ضنيناً ـ به ومهتماً به كلّ الاهتمام، لكي لا تناله الأيدي ـ فغاب يوماً في بعض ضياعه ـ خارج المدينة ـ فجاء البخاري إلى بعض بنيه وراغبه بالمال على أن يرى الكتاب يوماً واحداً، فأعطاه له، فدفعه البخاري إلى النسّاخ فكتبوه له، وردّه إليه، فلمّا حضر عليّ بن المديني وجلس بمجلسه ـ تكلم بشيء، فأجابه البخاري بنصّ كلامه مراراً، ففهم القضية، واغتم لذلك! فلم يزل مغموماً حتى مات بعد يسير.
واستغنى البخاري بذلك الكتاب ـ عن البحث والتنقيب في الأحاديث ـ وخرج إلى خراسان ووضع كتابه الصحيح، فعظم شأنه وعلا ذكره "(2).
وأمّا بقية الصحاح فنترك القول فيها لأحد أبناء العامة، حيث يقول:
____________
1- أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12 / 411.
2- أنظر: تهذيب التهذيب للعسقلاني: 9 / 47 ـ 54.
وإنّي أترك المؤمن الذي لا يتقيّد بالتقليد الأعمى، ولا يتّبع الأسماء الرنّانة، التي دسّ الدسّاسون، وأبطل المبطلون تحت ستارها، وهي من كل هذا براء، إنّي أتركه ليفكر في نفسه: هل مثل هذا صحيح؟ وهل نشر مثله على سواد الأمّة جائز؟ "(2).
لماذا هذا التمزق في الساحة الإسلامية؟
يقول الأخ عبد الله دوسو: " لقد كانت قراءتي لكتاب (وجاء دور المجوس) قراءة مركزة، وتخللها في الأثناء مراجعة لمصادر الشيعة، فوجدت أنّ المؤلف لم يكن منصفاً في البحث، كما أنني كنت أقارن بين ما سطّره في كتابه وبين سلوك ومنهج الأساتذة الشيعة ـ اللبنانيين ـ الذين تتلمذت على أيديهم، فخرجت بنتيجة ملخّصها: إنّ ساحتنا الإسلامية ـ وللأسف ـ تفتقد الحوار الموضوعي في المجالات التي تختلف فيها وجهات النظر بين علماء المسلمين، كما أنّها أضحت ساحة يهيمن عليها الانفعال والعصبية، لأنّ معظم المؤسسات والمراكز الدينية أصبحت جسراً لوصول البعض إلى مبتغياتهم ومصالحهم الشخصية.
ومن هذا المنطلق غدا الدفاع عن المذهب أو التكتل الفكري للبعض يشكّل حالة دفاع عن موقعية اجتماعية تضمن لهم الاستمرار لنيل مآربهم، وبهذا يكون من الواضح أن لا ينطلق الحوار والبحث من نوايا صادقة ودوافع سليمة ".
____________
1- حديث عائشة في ارضاع الكبير.
2- أنظر: الفرقان لابن الخطيب: 161 ـ 162.
وضع النقاط على الحروف:
ويضيف الأخ عبد الله: " فبدأت بغربلة المعتقد الذي كنت أنتمي إليه، فتتبعت كل ما كُتب عنه، إلى أن وقع في يدي كتاب (الوهابية في الميزان) فقرأته بإمعان وتأمّل، وإذا يتبيّن لي أنّ الوهابية إنطلقت لتحقيق أهداف سياسية معيّنة، فاتحدت مع إتجاه سياسى ليعبّد لها الطريق ويفسح لها المجال للهيمنة على دفّة الحكم، وامتلاك زمام السلطة وقتل المعارضين بذريعة الشرك والكفر، شريطة أن تكون المنفعة مشتركة بين الطرفين.
وتوجهت بعدها نحو كتب الشيعة لأنّني وجدّتها لا تمثل خطاً فكرياً صنعتة أيدي السياسة لتحقيق مآربها ومبتغياتها، فقرأت تفاسيرهم وعقائدهم وتاريخهم وفقههم، حتى اقتنعت تماماً بما فيها، فهداني الله تعالى لاعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وبقيت مدّة سنتين أعمل وفق المذهب الجعفري في الخفاء، حتى حان لي الوقت المناسب فأعلنت استبصاري هو عام 1994م.
(32) عبد الله مـوكر
(شافعي / اوغندا)
ولد عام 1973م بمدينة " كامولي" في دولة أوغندا(1)، نشأ في بيئة تعتنق المذهب الشافعي، واصل دراسته إلى حدّ المرحلة الثانوية، ثم دخل الجامعة في قسم الفلسفة.
تحرّر من معتقداته الموروثة عام 1990م بمدينة "جينجا " في بلاده على اثر توفيق رباني أحاطه فهداه الصراط المستقيم، وتصدى بعد اعتناقه لمذهب أهل البيت(عليهم السلام)للتدريس في مدرسة الإمام الحسن(عليه السلام) في بلدته، كما واصل تتبعه ودراسته في معهد أهل البيت(عليهم السلام).
بداية الرحلة:
تبدأ قصّة استبصار الأخ من حين اشتغاله بالدراسة الأكاديمية في الجامعة،
____________
1- أوغندا: تقع في وسط افريقيا يحيطها كل من كينيا وزائير والسودان وتنزانيا، يبلغ عدد سكانها أكثر من (22) مليون نسمة، ونسبة أتباع الأديان في هذا البلد متساوية بين المسلمين والمسيحيين والوثنيين، أمّا المسلمون فأغلبهم من أتباع المذهب الشافعي، ويبلغ تعداد الشيعة مئات الآلاف، والتشيّع له تاريخ قديم في هذا البلد.
دور الإمام الصادق(عليه السلام) في حفظ الشريعة:
يقول الأخ عبد الله: " ذكر أستاذ مادة التربية الأسلامية في إحدى محاضراته أنّه كان للإمام الصادق(عليه السلام) دور بارز في نشر العلوم والمعارف الإسلامية التي ورثها من آبائه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان له مذهباً خاصاً وأتباعاً منتشرين في أقطار الأرض ـ وهم موجودون حتى الآن ـ وقد تلقى أئمة المذاهب الأربعة الكثير من المعارف منه بصورة مباشرة وغير مباشرة.
فاعترتني الدهشة والاستغراب من مقولة الأستاذ! وقلت في نفسي: من هو الإمام الصادق؟ وما هو مذهبه؟ وما هي الأسباب التي جعلتنا نتمسك بأحد المذاهب الأربعة ونترك مذهبه إذا كان الإمام الصادق(عليه السلام) يمثّل مصدراً للعلم وينبوعاً يفيض بالمعارف، وتتلمذ على يديه أئمة المذاهب؟.
وفي تلك المحاضرة لم أتعرض للأستاذ بسؤال أو استفسار، لأنني وجدت نفسي قصير الباع من حيث المعلومات في هذا المجال، فقرّرت أن أُفرّغ نفسي لهذا الموضوع لأبحث فيه بغية أن أكتشف الحقيقة، ولأتمكن بعدها من محاورة الأستاذ عن علم ودراية، فعكفت على الكتب المدونة في هذا الخصوص، وغصت في أغوار التاريخ ".
الفترة الذهبيّة التي عاشها الإمام الصادق(عليه السلام):
إنّ الفترة التي عاشها الإمام الصادق(عليه السلام) تعتبر من الفترات النادرة لنشر العلوم في صفحات التاريخ الإسلامي، وذلك نتيجة انشغال السلطات الحاكمة بنفسها، وأنّ الدولة الأمويّة قد دبّ في جسمها الضعف وأحاطت بها عوامل الإنهيار، ثم برزت الدولة العباسية التي كانت في بدء نشوئها مشغولة بترسيخ دعائم حكمها.
ومن هنا توفّرت في الساحة الإسلامية أجواءً مفتوحة لبث الأفكار وظهور المدارس الفكرية على اختلاف مذاهبها وأنواعها، فطرح أهل الأهواء أفكارهم المسمومة في الساحة الإسلامية حتى إمتلأت الساحة بالأفكار الضالة والمنحرفة.
وفي مثل هذه الأجواء ـ حيث وجد الإمام الصادق(عليه السلام) الفرصة مناسبة للعمل التوجيهي والتبليغي ـ فتح أبواب مدرسته ليقوم ببث الأحكام والتعاليم الصحيحة، وتصدّى لمواجهة الانحراف المنتشر في أوساط المسلمين.
ويقول المستشار المصري عبد الحليم الجندي في خصوص الإمام الصادق(عليه السلام): " هو الإمام الوحيد في التاريخ الإسلامي، والعالم الوحيد في التاريخ العالمي، الذي قامت على أسس مبادئه الدينية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية دول عظمى "(1).
وكان الإمام الصادق(عليه السلام) يمتلك شخصية متكاملة لا يجود الزمان بمثلها، حتى أقرّ أعداؤه ومناوؤه قبل أحبائه بذلك.
فقد قال ألد أعدائه المنصور الدوانيقي: " إنّ جعفراً كان ممن قال الله فيه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)(2)، وكان ممن اصطفاه الله، وكان
____________
1- أنظر: الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) للجندي: 4.
2- فاطر: 32.
وقال مالك بن أنس ـ إمام المالكية ـ: " ما رأت عين ولاسمعت أُذنٌ ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق [(عليه السلام)] علماً وعبادةً وورعاً "(2).
وقال أبو حنيفة ـ صاحب المذهب المعروف ـ: " ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد "(3).
وقال أبو نعيم: " جعفر بن محمّد الإمام الناطق ذوالزمام السابق "(4).
وقال الحسن بن عليّ الوشاء: " أدركت في هذا المسجد ـ يعني الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمّد "(5).
وقال الجاحظ: " جعفر بن محمّد، الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه "(6).
وقال ابن حجر: " جعفر الصادق [(عليه السلام)] نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني "(7).
فهذه ملامح شخصية الإمام الصادق(عليه السلام) العظيمة في منظار هؤلاء، وكان
____________
1- أنظر: تاريخ اليعقوبي: 2 / 383.
2- أنظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر، عن التهذيب لابن حجر العسقلاني، البحار للمجلسي: 47 / 28.
3- أنظر: تذكرة الحفاظ للقيسراني: 1 / 166.
4- أنظر: حلية الأولياء لأبي نعيم: 3 / 225.
5- أنظر: رجال النجاشي: 40.
6- أنظر: المجالس السنية للأمين: 5 / 209، نقلاً عن رسائل الجاحظ للسندوبي.
7- أنظر: الصواعق المحرقة لابن حجر: 2 / 586.
فالحضارة الإسلامية عموماً والتراث العربي خصوصاً مدينان لعميد هذه المدرسة العظيمة الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام).
مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام):
إنّ الإمام الصادق(عليه السلام) رغم الضغوط الشديدة: والظروف العسيرة التي كان يعاني منها، قد طبّع مدرسته هذه بطابع الاستقلال وعدم الخضوع للأنظمة الحاكمة آنذاك، فصمدت بثبات في سبيل تحقق ذلك رغم جور الأمويين وتعسف العباسيين.
وقد عاصر الإمام الصادق(عليه السلام) ساحة سياسية مضطربة وفوضوية، وأدرك بثاقب بصيرته أنّ العواقب غير محمودة إن زجّ بنفسه وبأشياعه في هذا المعترك، ولذا ركّز نشاطه في مجال النصح والإرشاد من أجل توعية المجتمع ورفع مستواه العلمي، كما أنّه حذّر بني عمّه من بني الحسن(عليه السلام) من أي تحرّك انفعالي غير مدروس، وبيّن لهم المردود السلبي في ذلك(2).
ولقد إتّخذ الإمام(عليه السلام) منهجاً سار فيه ليؤدي الرسالة الملقاة على عاتقه،
____________
1- أنظر: الكافي للكليني: 1 / 475.
2- أنظر: مقاتل الطالبين لأبي الفرج: 172، تاريخ الطبري: 9 / 233.
ما قد ورد من أنّه سمع أنّ الجعد بن درهم ـ الزنّديق ـ قد جعل في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً، وادّعى أنه خلق هذه الكائنات، فلمّا بلغ ذلك الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، قال: " ليقل كم هو؟ وكم الذكران والإناث إن كان خلقه؟، وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره ـ قال ابن حجر ـ: فبلغه ذلك فرجع "(1).
كما أنّه(عليه السلام) لمّا رآى انحطاط الوضع الاجتماعي وانحداره في الهاوية وظهور إمارات الانهيار فيه، بذل قصارى جهده لتوعية الناس فكان يدعوا المجتمع إلى التحلّي بالقيم الرفيعة، ليصونهم من الضلال والانحراف.
ومن مواقفه في هذا المجال إيضاً، ما رواه سعيد بن بيان ـ سابق الحاج ـ: " مرّ بنا المفضل بن عمر، وأنا وختن لي نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثم قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه، فأصلح بيننا بإربعمائة درهم، فدفعها إلينا من عنده، حتى إذا إستوثق كل واحد منّا من صاحبه، قال: أمّا أنّها ليست من مالي، ولكن أبو عبدالله الصادق أمرني إذا تنازعاً رجلان من أصحابنا في شئ أن أصلح بينهما وأفتديهما من ماله، فهذا مال أبي عبدالله "(2).
____________
1- أنظر: لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: 2 / 105.
2- أنظر: الكافي للكليني: 2 / 209.
مواقف الإمام الصادق(عليه السلام) ازاء حكّام الجور:
كانت مواقف الإمام الصادق(عليه السلام) بخصوص الوضع السياسي الذي فرضه ولاة الجور كلّها تشير إلى عدم مشروعيّتهم، إذ لم يعرف عنه أبداً أيّ دعم أو تقرّب منه للحكام الظلمة وأعوانهم، فأعطى بذلك نهجاً مشرقاً لتسير عليه الأجيال.
ففي احدى المرات أجاب(عليه السلام) المنصور الدوانيقي بشكل قاطع وبأسلوب مفحم! عندما سأله المنصور ـ وكان الذباب يتطايح على وجهه وقد ضجر منه ـ بقوله: " يا أبا عبدالله لم خلق الله الذباب؟ فقال الصادق(عليه السلام): ليذل به الجبابرة "(1).
وكتب إليه المنصور مرّة: " لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه الصادق(عليه السلام): ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك، ولا نراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك؟! فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه(عليه السلام): من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك "(2).
فالإمام الصادق(عليه السلام) لم يتزلّف يوماً للسلاطين ولم يهادنهم رغم قسوتهم وشدّة وطئتهم، ولذلك قوبل الإمام(عليه السلام) بالهجمات العنيفة والحملات الظالمة، وأضطهد أتباعه، وأصبحت شيعته عرضة للخطر، فعانوا من بطش الجبابرة والظلمة ما لا يحيط به البيان.
____________
1- أنظر: نور الأبصار للشبلنجي: 226، تهذيب الكمال للمزّي: 5 / 93، سير أعلام النبلاء للذهبي: 6 / 264.
2- أنظر: كشف الغمة للأربلي: 2 / 359، عن تذكرة ابن خلدون.
الإمام الصادق(عليه السلام) وعهد العبّاسيين:
بعد أنّ قَوَت أركان الدولة العباسية، رأى الحكّام العباسيين أنّ المجتمع الإسلامي متعطش للعلم، فحاولوا أن يتدّخلوا في هذا المجال ليهيمنوا على العلماء وليمسكوا زمامهم بأيديهم، فأمعنوا النظر في المذاهب المنتشرة ليختاروا منها ما يتلائم مع أغراضهم ومصالحهم، وليجبروا الناس بعوامل الترغيب والترهيب على التمسك بها، ويبعدوهم عن كافة المذاهب التي لاتنسجم مع أغراضهم وأطماعهم.
فقرّرت السلطة الحاكمة سدّ أبواب الاجتهاد لتحجر أفكار الناس ولتجحد التشريع الإسلامي من خلال حصرهم المذاهب في عدد معيّن.
الوصول إلى شاطىء النجاة:
يقول الأخ عبدالله موكر: " لقد أكتشفت الكثير من الحقائق عبر التتبع والاستقصاء والقراءة الموضوعية لأحداث التاريخ، وكلّما خضت في أمثال هذه الأبحاث تجلّت لي الأمور بوضوح.
ومن هنا نشأت في نفسي بذرة محبّة الإمام الصادق(عليه السلام) ومذهبه، ولكن لم تكن صورة هذا المذهب متكاملة في ذهني، ولم يسعني المجال للتعمق نتيجة كثافة الدروس الأكاديمية وقرب الامتحان الدراسي في تلك الفترة.
وكان الخوف من مجئ سؤال حول التشيع في إمتحان مادّة التربية الإسلامية دفعني للمطالعة المكثفة عن هذا المذهب، وبذلك أكتملت صورة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في ذهني، ووجدت نفسي أمام حقائق لم أجد بُداً من الخضوع أمامها والانتماء إليها، وكان ذلك سبباً في استبصاري واعتناقي لمذهب أهل البيت(عليهم السلام).
وتمكنت ـ بحول الله ـ أن آخذ بيد الكثير وأخرجهم من الغفلة إلى الوعي واليقظة والاستبصار".
(33) عبدالجليل عيسى نـاوي
(مالكـي / غانا)
ولد بمدينة " أكرا " عاصمة غانا(1) عام 1972م، من أسرة تعتنق المذهب المالكي، واصل دراسته الأكادميّة حتى حصل على شهادة الديبلوم في اللغة الانجليزية.
كان اعتناقه لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) في العاصمة " أكرا ".
اجتياز الحواجز النفسية:
يقول الأخ عبد الجليل: " كانت سمتي حين انتمائي للمالكية الانفتاح على الآخرين، إذ لم أكن من المتعصبين الذين يرون الأمور من زاوية ضيقة، ولم أكن منطوياً على ما أنا عليه من معتقد، بل كنت ميالا للاختلاط بأبناء الطوائف الأخرى لأتعرف على معتقداتهم بصورة مباشرة، لأنني كنت أعلم أنّ السماع وحده لا يكفي لمعرفة معتقدات وأفكار المذاهب الأخرى.
طرق سمعي يوماً من الأيّام أسم المذهب الشيعي، فاستفسرت عنه وصرت
____________
1- غانا: أنظر: الترجمة رقم (26).
الالتحاق بمدرسة شيعيّة:
وشاءت الأقدار الإلهيّة أنّ تُفتتح في العاصمة مدرسة شيعيّة باسم " مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) "، فدعاني أحد أصدقائي ـ وهو من أهل العامة ـ لندرس فيها من أجل تقوية مستوانا في اللغة العربيّة، والتعرف على الشيعة بصورة مباشرة من خلال معاشرتهم وقراءة كتبهم.
فراجعنا مدير هذه المدرسة، وعرضنا عليه طلبا بالانتماء إليها، فرحّب بذلك، فأصبحنا بعد ذلك نحضر في هذه المدرسة ونستمع إلى المحاضرات التي تتناول المسائل الخلافية بين أبناء العامّة والشيعة، كمسائل التوحيد وأبحاث أسماء وصفات الله تعالى وعدالة الصحابة والإمامة، وغير ذلك.
وتبيّن لي بمرور الزمان أنّ بعض معتقدات أبناء العامة في خصوص الباري عزّوجلّ تنافي العقل وتخالف التنزيه الإلهي، مثل الإدعاء بنزوله جلّ وعلا في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا!، كما كنت أجد بعض الأوصاف التي ينسبها علماؤنا لله عزّوجلّ من قبيل جلوسه تعالى على العرش بحيث " يئط " العرش من تحته! لا تتناسب مع شأن الله تعالى وجلالته ".
مشكلة التجسيم ورؤية الله تعالى عند العامة:
إنّ معظم أبناء العامّة يجوّزون رؤية الله عزّوجلّ في الآخرة، وأمّا رؤيته في دار الدنيا فقد اختلفوا فيها، فذهب بعضهم منهم إلى جواز ذلك، والأعجب من هذا
إذ يقول مالك بن أنس: " الناس ينظرون إلى الله عزّوجلّ يوم القيامة بأعينهم... "(1).
وقال الشافعي: " والله لو لم يوقن محمّد بن إدريس ـ الشافعي ـ أنّه يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا... "(2).
وقال عبد الله بن أحمد ـ بن حنبل ـ: " رأيت أبي يصحح الأحاديث ـ التي تروى عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الرؤية ـ ويذهب إليها، وجمعها في كتاب وحدّثنا بها"(3).
ويقول الدارقطني في هذا الخصوص: اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم من نظرائهم وشيوخهم وتلاميذهم على إثبات الرؤية لله تعالى يوم القيامة... وأثبت أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأتباعه الرؤية لله تعالى يوم القيامة، وهذا واضح في أكثر من كتاب من كتبهم.
كما أكّد ذلك الأشعري ومن تبعه، فهم يجمعون على إطباق أهل العامة حول رؤية الله تعالى بالأبصار!(4).
ولقد تعاقب علماء العامة في تثبيت هذا المعتقد، لا سيما ابن تيميّة الذي لعبت أفكاره دوراً كبيراً في ترسيخ هذه الترهات بالأذهان.
فهو يثبت الجهة والمكانية لله تعالى، فيقول: " قد قلت لهم: قائل هذا القول
____________
1- أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 8 / 99، حلية الأولياء لأبي نعيم: 6 / 356 (8911).
2- أنظر: طبقات الشافعية للسبكي: 1 / 312، تفسير القرطبي سورة المطففين: 19 / 171.
3- أنظر: السنة لعبد الله بن أحمد: 300 (584)، التصديق بالنظر للآجري: 32، رؤية الله للدارقطني: 162.
4- أنظر: اللمع لأبي حسن الأشعري: 61 ـ 68، الباقلاني وأراؤه الكلامية: 563.
ويثبت أنّ الله تعالى يتكلم بصوت وحرف، فيقول: " إنّ الله يتكلم بحرف وصوت، تكلّم بالقرآن العربي بألفاظه، بصوت يسمعه وينادي عباده يوم القيامة بصوت كذلك "(2)!
ويثبت أنّ لله عزّوجلّ جوارح، فيقول: " والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد، فإنّها للعمل والفعل، وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل "(3)!
بل يؤكد التزامه بالظواهر وعدم إعترافه بالمجاز فيما يتعلّق بصفات الله في القرآن، وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف، فيقول: " وهذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح يميّز به بين هذا وهذا، فعلم أنّ هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول، بل يتكلم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع مخالفون للعقل "(4).
ومستندهم في كل ماقالوا الروايات ـ صحيحها وسقيمها ـ أكثر من اعتمادهم على نصوص القرآن الكريم، فشيّدوا معتقدهم هذا من تلك الروايات، وتمسّكوا بالفاظها وحملوها ظاهرها على نحو الحقيقة، كما حملوا نصوص القرآن عليها في دعم تفسيراتهم لتلك النصوص، حتى اعتبروا أنّ الإيمان بها
____________
1- أنظر: الفتاوي الكبرى لابن تيمية: 5 / 18، منهاج السنة: 2 / 194.
2- أنظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 5 / 123.
3- أنظر: الرسالة التدمرية لابن تيمية: 57.
4- أنظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية: 6 / 65.
روايات العامة في وصف الله تعالى:
نسب أهل العامة الكثير من روايات في هذا الباب إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودونوها في كتبهم المعتبرة، ومنها:
1 ـ " ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا... "(1).
2 ـ " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة... "(2).
3 ـ " لا تزال جهنم تقول هل من مزيد؟ حتى يضع ربّ العزة فيها قدمه "، وفي رواية: " حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه، فتقول قط قط وعزتك "(3).
4 ـ " ما منكم من أحد إلاّ سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان "(4).
5 ـ " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة... "(5).
6 ـ " أنا عند ظن عبدي بي... وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "(6).
7 ـ " وسع كرسيه السماوات والأرض، إنّه ليقعد عليه فيما يفضل منه إلا
____________
1- أنظر: صحيح البخاري: 1 / 384 (1094)، صحيح مسلم: 1 / 521 (758)، صحيح ابن حبّان: 3 / 199 (920).
2- أنظر: صحيح مسلم: 3 / 1504 (1890)، صحيح البخاري: 3 / 1040 (2671)، صحيح ابن حبّان: 1 / 448 (215).
3- أنظر: صحيح البخاري: 6 / 2453 (6284)، صحيح مسلم: 4 / 2187 (2848).
4- أنظر: صحيح البخاري: 6 / 2709 (7005)، صحيح مسلم: 2 / 703 (1016).
5- أنظر: صحيح البخاري: 4 / 1871 (4635).
6- أنظر: صحيح البخاري: 6 / 2694 (6970)، صحيح مسلم: 4 / 2067 (2675).