فيقول الأخ مختار: " كان من جملة الكتب التي وقعت بيدي كتاب (نهج البلاغة) لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، فوجدته كنزاً نفيساً من كنوز التراث العربي، حيث اجتمع بين دفتيه البيان الإسلامي الرائع ببلاغة بديعة وبيان رفيع، مما جعلني أصدّق هذه المقولة بأنّه: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق ".
المتتبع لبيان الإمام عليّ بن أبى طالب(عليه السلام) يجد أنّ أُسلوبه يدعو القارئ ليتأمّل ويمعن النظر فيه، إذ لا توجد فيه عبارة إلاّ وتفتح بصيرته على آفاق رحبة من العلوم والمعارف.
كما أنّ بيانه(عليه السلام) لم يقتصر على واحد من الموضوعات، فحديثه حديث حكيم خبير يستلهم الحقائق الكونية بعقله وشعوره وذوقه، ثم يبدع في حديثه عن خلقة الكون وروائع الوجود.
كما أنّ كلامه(عليه السلام) كان كلام متفاعل مع الكون والحياة تفاعلاً مباشراً، بحيث يرتبط بقلبه بالكائنات في وحدة وجودية مطلقة، ثم ينطلق لسانه بما يجيش به قلبه، فيبّين الحقائق والقوانين بإنشاء تام الإنسجام بين ألفاظ والمعاني، ويعبّر عن ذلك بعبارات ملؤها الصفاء والبهاء والنزاهة والجودة، ثم يكسو المعانى التي يقصدها بحلّة فنية رائعة الجمال.
ولا عجب في ذلك لأنّ الباري سبحانه وتعالى قد اعتنى به(عليه السلام) وأفاض عليه من لطفه منذ صغره، فجمعه مع رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليستوعب منه الرسالة بكل ما فيها من حرارة وقوّة.
تسديد الباري للإمام عليّ(عليه السلام):
قال الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): " ولقد قرن الله تعالى به ـ أي برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طرق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالإقتداء به "(1).
وقال(عليه السلام): " والله ما أنزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين أنزلت وعلى من نزلت، وإنّ ربّي وهب لي لساناً طلقاً وقلباً عقولاً "(2).
وقال(عليه السلام): " إنّ رسول الله علمني ألف باب وكل باب يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب "(3).
وقال(عليه السلام): " بل اندمجت على مكنون علم، لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة "(4)، أي لاضطربتم اضطراب الحبل في البئر العميق.
علم الإمام عليّ(عليه السلام):
قد بلغ الأمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) درجة رفيعة من العلم حتى شهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بعلو شأنها في أحاديث متعددة، منها:
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب "(5).
____________
1- أنظر: نهج البلاغة: الخطبه 187.
2- أنظر: المناقب للخوارزمي: 90 (82)، ينابيع المودة للقندوزي: 1 / 214، الطبقات لابن سعد: 2 / 257.
3- أنظر: ينابيع المودة للقندوزي: 1 / 231.
4- أنظر: نهج البلاغة: خطبة 5.
5- أنظر: المناقب للخوارزمي: 83 (69)، الجامع الصغير للسيوطي: 1 / 415 (2705)، كنز العمال: 11 / 600 (32890)، المستدرك للحاكم: 3 / 137 (4637)، وغيرها.
وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لها: " زوجتك خير أهلي، أعلمهم علماً وأفضلهم حلماً وأوّلهم سلماً "(2).
وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لها: " أقدم أمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً "(3).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أعلم أمّتي من بعدي عليّ بن أبي طالب "(4).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " عليّ باب علمي، ومبيّن لأمّتي ما أرسلت به من بعدي "(5).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " عليّ خازن علمي "(6).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " عليّ عيبه علمي "(7).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أقضى أُمّتي عليّ "(8).
____________
1- أنظر: المعجم الكبير للطبراني: 22 / 416 (1030)، كنز العمال: 11 / 605 (32925).
2- أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق: 1 / 62 في (أحمد بن أسد بن شمر العبدي)، وعنه السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه: 4 / 390 (12736)، كنز العمال: 11 / 605 (32926).
3- أنظر: مسند أحمد: 5 / 26، الرياض النضرة للطبري: 2 / 138 (1442)، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 101، 114، وغيرهم.
4- أخرجه الديلمي عن سلمان في الفردوس: 1 / 370 (1491)، والخوارزمي في المناقب: 82 (67)، والمتّقي الهندي في كنز العمّال: 11 / 614 (32977).
5- أنظر: الفردوس للديلمي: 3 / 65 (4181)، كنز العمّال: 11 / 614 (22981)، ينابيع المودّة للقندوزي: 2 / 240.
6- أنظر: شرح النهج لإبن أبي الحديد: 9 / 165.
7- أنظر: شرح النهج لإبن أبي الحديد: 9 / 165، الجامع الصغير للسيوطى: 2 / 177 (5593)، تاريخ ابن عساكر: 42 / 385 / مناقب الخوارزمي: 87.
8- أنظر: فتح الباري للعسقلاني: 8 / 212 (4481)، تاريخ ابن عساكر: 42 / 241، الرياض النضرة للطبري: 2 / 143 (1471).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي عليّ تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً "(2).
علّة اهتمام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعليّ(عليه السلام):
لم تكن تلك العناية من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) إلاّ لأنّه كان يفّكر بمستقبل الدعوة، فكان يعدّ عليّاً(عليه السلام) خليفة له، ولذلك كان يودع عنده علوم الرسالة ويهيئه لتحمل المسؤولية الخطيرة من بعده، فإنّه بعلمه الوافر هذا كان أحقّ أن يُتّبع بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى: ( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى )(3).
شهادة عمر وغيره بأعلمية الإمام عليّ(عليه السلام):
لقد شهد ببلوغه(عليه السلام) لهذا المقام السامي المخالف والمؤالف، وقد كان منهم عمر بن الخطاب! إذ ورد عنه بخصوص ذلك قوله في أكثر من مناسبة:
" لولا عليّ لهلك عمر "(4)، و " اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب "(5)، و " لا أبقاني الله بأرض لست فيها أبا الحسن "(6)، و " لا أبقاني الله
____________
1- أنظر: مصابيح السنة للبغوي: 2 / 453 (2700)، شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 18.
2- أنظر: حلية الأولياء لأبي نعيم: 1 / 104 (198)، الفردوس للديلمي: 3 / 227 (4666)، تاريخ ابن عساكر: 42 / 384، فيض القدير للمناوي: 3 / 46.
3- يونس: 35.
4- أنظر: الإستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1103، الرياض النضرة للطبري: 2 / 138 0 (1447)، تفسير النيسابوري سورة الأحقاف، مناقب الخوارزمي: 81 (65)، تذكرة الخواص لابن الجوزي: 137.
5- أنظر: تذكرة الخواص لابن الجوزي: 137، مناقب الخوارزمي: 97 (98)، نظم الدرر للزرندي: 132، أنساب الأشراف للبلاذري: 99 (29).
6- أنظر: إرشاد الساري للقسطلاني: 4 / 139 (15976) عن الحاكم، شرح النهج لابن أبي الحديد: 12 / 101، مستدرك الحاكم: 1 / 628 (1682)، فيض القدير للمناوي: / 470 (5594)، نصب الراية للزيلعي: 3 / 117.
كما ورد عن عائشة أنّها قالت: " عليّ أعلم الناس بالسنة "(3).
وورد عن إبن عباس ـ حبر الإمة ـ أنّه قال: " والله لقد أعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر "(4).
فمن هنا يعلم أنّ جميع الصحابة كانوا يعرفون مكانة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ومنزلته، ولكن البعض حيث تصطدم مصالحه مع الحقيقة يحاول أن يغضّ طرفه عنها ولا يلتفت إليها لئلا تكدّر صفو إنغماسه في الهوى!.
لماذا هذا التعتيم لفضائل الإمام عليّ(عليه السلام):
يقول الأخ مختار: " حينما كنت أدرس في معهد جامعة الملك سعود في الرياض، لفت انتباهي أنّ الأستاذ يتحاشا ذكر الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)ويقتصر في استشهاده على أحاديث الخلفاء الثلاثة وجملة من الصحابة، فاستغربت من ذلك!.
وفي يوم من الأيام خلوت بالأستاذ بعد أن أتم الدرس فسألته عما كان يختلج في صدري، وقلت له: إنّ الخليفة عليّ بن أبي طالب كما هو واضح يتميّز بعلم وافر، ومعارف جليّة بين أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبلاغة رائعة تنفعنا في
____________
1- أنظر: الرياض النضرة للطبري: 2 / 142 (1465)، مناقب الخوارزمي: 102 (104)، التذكرة لسبط ابن الجوزي: 137 فيض القدير للمناوي: 4 / 357.
2- أنظر: الرياض النضرة للطبري: 2 / 139 (1449).
3- أنظر: الاستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1104، الرياض النضرة للطبري: 2 / 137 (1441)، مناقب الخوارزمي: 91 (84)، التاريخ الكبير للبخاري: 2 / 228، تاريخ ابن عساكر: 42 / 408، نظم درر السمطين للزرندي: 133.
4- أنظر: الاستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1104، الرياض النضرة للطبري: 2 / 138 (1441).
فرأيت بوادر الغضب والانفعال في وجهه وكأنّه أشمئز من تساؤلي!، فقال بنبرة حادّة: إنّ مهمتنا أن نقتبس النصوص الأدبية المختارة، وننقل ما ذكره السلف ولايعنينا غير ذلك، ثم أدار وجهه عني وانصرف.
فاعترتني الدهشة من تصرّفه! وأحسست أنّ أمراً ما يرتبط بعليّ بن أبي طالب قد خفى عليَّ! ".
إمامة الإمام عليّ(عليه السلام) بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):
يضيف الأخ مختار قائلا: " بدأت من ذلك الحين أبحث في الكتب والمؤلفات، فقرأت جملة من الكتب التي ترتبط بحياة وسيرة الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، حتى تبيّنت لي مكانته السامية في كافة المجالات.
ثم انقدح في ذهني هذا السؤال: لماذا لم يخلّفه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة من بعده؟! وكيف وسع لغيره أن يتقدّم عليه؟! إذ أنّه كان أحقّاً بالخلافة لوافر علمه الذي لايخفى على أحد.
فتتبعت الأمر، وإذا بي أجد نصوصاً كثيرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤهل علياً(عليه السلام) للخلافة من بعده، فقلت في نفسي: إذاً ما عدى مما بدى أن يترك الصحابة وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويرتؤا لأنفسهم خلاف ما ورد فيه النصّ؟.
وبمطالعتي للتاريخ تبيّن لي أنّ الأمر الذي أثار في نفوس الصحابة الحميمة وجعل المجتمع يستعذب الألم والفداء في نصرة الإسلام، هو جلالة النبوّة وعظمة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو المحفز للأمّة لأن ترتقي وتتسامى، وهو الذي أخذ بيدها فرفعها إلى المراتب الرفيعة، ولكن ما أن توفى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ
فالواقع الإسلامي بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خير شاهد على هذا الأمر، واختلاف الصحابة فيما بينهم وتناحرهم وشقاقهم وتغييرهم لسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد آخر لذلك.
والمتتبع لسيرة الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يرى أنّه كم اجتهد في زمن خلافته ليعيد الأمور إلى مجراها وبذل أقصى جهده لذلك، ولكن الظروف الاجتماعية البائسة التي أنشأها من قبله لم توفر له الإصلاح والتغيير، ولم يمض جيل واحد بعد عهد الرسالة إلاّ واستبدلت الخلافة الدينية بالملكية الدنيوية، ومحقت السنة وأضمحلت معالم الدين، ولم يبق في خضم هذه الأحداث من ينادي بالإصلاح في أُمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ العترة من آل الرسول(عليهم السلام) وأنصارهم، في حين أذعن الجميع للسلطة وغضّ بصره عما كان يقع من الخلفاء من ظلم وتضليل وانحراف!.
الحصيلة الثمينة:
يقول الأخ مختار كونتا: " من ذلك الحين غصت في بحار معارف أهل البيت(عليهم السلام)، وفي لحظات فذّة من تألق العقل وغوره في معارف العترة بدت لي الحقيقة بلون ساطع، فلم أجد بداً من الاستبصار والسير على نهجهم(عليهم السلام) الذين هم الذرية الطاهرة التي اصطفاها الله لتكون الامتداد الطبيعي للرسالة المحمديّة، وكان ذلك عام 1999م في إيران ".
(45) منصف الحامدي
(مالكي / تونس)
ولد عام 1966م بمدينة " سيدي خليف " في دولة تونس(1)، من أسرة تعتنق المذهب المالكي، واصل دراسته الأكاديمية حتى نال شهادة الديبلوم في الهندسة الميكانيكية، ثم شغل منصب رئيس قسم الدراسات لهذا الفرع.
تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) عام 1984م في مدينة " سيدي بو زيد " التونسية.
البحث الجاد والمعمّق:
كان دأب الأخ منصف التساؤل والبحث والاستفهام لاسيما في الأمور العقائدية والفكرية، ومن هذا أندفع للبحث الجاد والمعمق حتى آل به الأمر في نهاية المطاف إلى الاستبصار.
فيقول الأخ منصف: " قد لا تحمل قصة استبصاري شيئاً مثيراً ولا تضم في طياتها ما يلفت النظر، ولا سيما أنّها تحمل أموراً شخصية لا أحبذ الخوض فيها، ولكن أكتفي بالاشارة إلى الحركة الفكرية التي دفعتني إلى تغيير ركائزي العقائدية وصياغة مبادئها من جديد وفق الأسس التي توصلت إليها عبر البحث والتحقيق.
____________
1- تونس: أنظر الترجمة رقم (39).
البحث عن الفرقة الناجية:
ويقول الأخ منصف: " في الحقيقة كان لاستقامتي في البحث أثر في استبصاري، فكنت كثير التساؤل والاستفسار، وكان من جملة التساؤلات التي كان البحث عنها ذا تأثير كبير في صياغة مرتكزاتي العقائدية الجديدة هو الحديث المشهور المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ أمته تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّهم في النار إلاّ فرقة واحدة(1).
ومن هذا الحديث أنطلقت نحو البحث والتتبع، لعليّ أصل إلى معرفة هذه الفرقة الناجية، وقد كنت مهتمّاً لإيماني أنّ عدم معرفة هذه الفرقة يعني الهلاك في النار، لذلك انطلقت في البحث بعزيمة قويّة وأصرار لكي أصل إلى النتيجة بعون الله سبحانه وتعالى.
____________
1- هذا الحديث كثر نقله في المجاميع الحديثية، وكثر تصحيحه فيها، بل ادعى غير واحد من الأعلام تواتره وقد أخرج بعبارات مختلفة كما في: سنن الترمذي: 4 / 381 (2641) كتاب الايمان، سنن أبي داود: 4 / 202 (4597) كتاب السنة، سنن ابن ماجه: 2 / 932 (3992) كتاب الفتن، مسند أحمد بن حنبل: 2 / 332، 3 / 120، 145، مستدرك الحاكم: 1 / 47 (10)، الجامع الصغير للسيوطي: 1 / 184 (1223، 083 1) و 1 / 516 (2641)، مجمع الزوائد للهيثمي: 1 / 189، وقد صحح هذا الحديث الترمذي في سننه، والبغوي في شرح السنة، والسخاوي في المقاصد الحسنة، والشاطبي في الاعتصام، وادعى السيوطي تواتره على ما ذكره المناوى في فيض القدير، وكذا الكتاني في نظم المتناثر.
أثر رزية الخميس في نشوء الفرق الإسلامية:
يتجلى لكل متصفح في أحداث الصدر الأوّل للإسلام أنّ أهم الأسباب والدوافع التي كان لها الأثر الكبير في إحداث الفرق ونشوء المذاهب هي رزيّة يوم الخميس، وهي الحادثة التي وقعت في أواخر حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التي كان لها بالغ الأثر في نشوء الاختلاف والفرقة بين المسلمين.
وقد ذكر هذه الحادثة كل من كتب التاريخ ودون الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد وغيرهم بأحاديث صحيحة:
فأخرج البخاري عن ابن عباس، قال: " لما اشتدّ بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه، قال: " ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده "، قال عمر: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغظ، قال: " قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع "، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابه "(1).
وعنه أيضاً بسنده عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: " يوم الخميس، وما يوم الخميس!! اشتد برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه، فقال: " ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً " ـ فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ـ فقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه. فذهبوا يردون عليه، فقال: " دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه "، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة
____________
1- صحيح البخاري: 1 / 54 (114) كتاب العلم، باب كتابة العلم.
وعنه أيضاً عن ابن عباس قال: " لما حُضِرَ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال ـ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ: " هلّم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ". فقال عمر: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): قوموا... " الحديث(2).
وأخرجه البخاري أيضاً في كتاب الاعتصام(3)، وكتاب الجزية(4) وكتاب الجهاد(5) بألفاظ متقاربة.
وأخرج مسلم في الصحيح عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنّه قال: " يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خدّيه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): " ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ". فقالوا: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يهجر "(6).
____________
1- المصدر نفسه: 4 / 1612 (4168) كتاب المغازي باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته.
2- المصدر نفسه: 5 / 2146 (5345)، كتاب الطب، باب قول المريض قوموا عني.
3- المصدر نفسه: 6 / 2680 (6932)، كتاب الاعتصام، باب كراهية الخلاف.
4- المصدر نفسه: 3 / 1155 (2997)، كتاب الجزية، باب اخراج اليهود من جزيرة العرب.
5- المصدر نفسه: 3 / 1111 (2888)، كتاب الجهاد، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم.
6- صحيح مسلم: 3 / 1259 (1637)، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شي يوصي فيه.
دلالات رزيّة الخميس:
مما يلاحظ في هذا الحديث من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) " أئتوني بكتاب " لم يكن الأمر للإرشاد وإنّما هو دال على الوجوب، وذلك:
أوّلاً: إنّ قول " لا تضلوا " يشير إلى أنّ الكتاب الذي كان يريد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كتابته إنّما هو يوجب العصمة من الضلال، وهو أمر يجب الحصول عليه امتثالاً لأمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ولأهمّية مضمونه.
ثانياً: إنّ استياء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من فعلهم، وأمره لهم بالقيام، مع سعة ذرعه وشدّة تحمله وعظيم خلقه، دليل على أنّهم ارتكبوا أمراً عظيماً ما كان لهم أن يقترفوه.
ثالثاً: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حالة الاحتضار، فهو مشغول بنفسه ويصعب عليه كتابة الكتاب، وهذا يوحي أنّ المقام لم يكن مقام الأوامر الإرشادية، بل أنّه يستوجب الأوامر الالزامية المهمّة.
رابعاً: موقف ابن عباس وتوصيفه للحادثة بالرزية وبكاؤه بعد أنقضاء الحادثة دليل عن أنّ مخالفة أمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان فعلاً محرّماً قد فقدت الأمّة خلاله أمراً كان يستهدف عصمتها من الضلال.
ومن هنا فإنّ استصغار البعض للحادثة، إنّما هو محاولة لتبرير موقف عمر ومعارضته لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)!، وهذا التبرير لا يصلح أن يكون قرينة لما يبتغوه، لأنّ عمر كان كثيراً ما يعترض على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف كثيرة ومشهورة.
____________
1- مسند أحمد بن حنبل: 1 / 222، 293، 324، 336، 355.
مخالفات عمر للسنة:
ذكر البخاري فيما أخرجه عن المسور بن مخرمة ومروان في حديث طويل ساق فيه خبر صلح الحديبية، قال: " فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبيّ الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: ألست نبيّ الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية(1) في ديننا إذاً؟ قال: إنّي رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنّا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنّك آتيه ومطوّف به، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر... " الحديث(2).
وفي رواية أخرى أخرجها البخاري أيضاً " أنه قال: فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر... "(3).
وفي رواية مسلم: " فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر... "(4).
وهذا الموقف لعمر دلالة واضحة على مجادلته ومناقشته للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وأنّه رجع متغيظاً من قول الرسول وغير راض بما سمعه منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما لا يحق لعمر الاجتهاد في أمر قد قضى الله ورسوله فيه بالصلح، فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
____________
1- الدنية: أي الخصلة المذمومة.
2- صحيح البخاري: 2 / 968 (2581)، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.
3- صحيح البخاري: 4 / 1832 (4563)، كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة الفتح.
4- صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير: 3 / 1411 (1785)، وأنظر: مسند أحمد بن حنبل: 3 / 486، 4 / 330.
ومن معارضات عمر أيضاً جرأته على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته عندما أراد الصلاة على عبد الله بن أبي رأس المنافقين فجاء عمر فجذبه من خلفه، وقال: ألم ينهك الله أن تصلي على المنافقين! فقال: إني خيّرت، فاخترت فقيل لي: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ )(2)، ولو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت. ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام في قبره، فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله(3)!.
وبهذا يتضح لنا أنّ موقف عمر ازاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في رزيّة الخميس لم يكن مما يبعثنا على الاستغراب أو استبعاد ما صدر منه.
وهذا الأمر لم يتعلق بشخص عمر وحده، إذ لو كان كذلك لأسكته رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل استفحل الأمر واستشرى ووجد له أنصاراً قد اتفقت كلمتهم على منع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتابة ذلك الكتاب، وكأنهم نسوا أو تناسوا قول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(4).
____________
1- سورة الاحزاب: 36.
2- التوبة: 80.
3- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 3 / 107 ـ 108، صحيح البخاري بحاشية السندي: 1 / 163 ـ 3 / 137 ـ 4 / 25، صحيح مسلم: 4 / 2114، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، تاريخ المدينة المنوّرة لابن شيبة: 3 / 856، كنز العمال للمتقي الهندي: 2 / 418 ـ 419، أسباب النزول للواحدي: ص 141، مسند الإمام أحمد 1 / 16، سنن ابن ماجة للقزويني: 1 / 487 ـ 488، مسند أحمد بن شعيب النسائي: 4 / 67 ـ 68، حلية الأولياء لأبي نعيم: 1 / 43 ـ 44، السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 402، السيرة النبوية لابن هشام: 4 / 197 الرياض النضرة للمحب الطبري: 1 / 294.
4- سورة الحجرات: 2.
لماذا لم يكتب الرسول الكتاب:
إنّ سبب عدم كتابة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب، لأنه وجدهم قد طعنوا به وهو لايزال على قيد الحياة، فإذا كان كذلك فكيف يكون الأمر بعد وفاته!.
والحقيقة أنّ الذين منعوا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة ذلك الكتاب لم يفعلوا ذلك إلاّ لأنّهم علموا أنّ الرسول يريد أن يؤكد استخلاف عليّ بن أبي طالب من بعده. ولأنّه سبق لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن قال: " إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا "، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه: " هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده "، ففهم الحاضرون أنّ الرسول يريد أن يؤكد ماذكره فيما سبق وهو التمسك بالكتاب وعترته، وسيد العترة هو عليّ(عليه السلام)، وأغلبية قريش لا يرضون بعليّ(عليه السلام)، فتقدمهم عمر ليصرح برفضه للعترة قائلاً: " حسبنا كتاب الله ".
أثر رزية الخميس بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):
تعتبر رزية الخميس أوّل بروز رفض خلافة عليّ(عليه السلام)! حتى ظهر بصورة عملية بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) واتفقت آراء رؤساء القوم على عدم الائتمار بقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال.
ومن هنا بدأت الفرقة في أوساط الأمة الإسلامية بدأت واتسعت يوماً بعد يوم حتى ظهرت البدع نتيجة الأهواء لفقدان الساحة للخلافة الرشيدة الموجهة للمسلمين، حيث مهّدت الأرضية لوقوع الخلافة بيد بني أميّة أئمة الضلال، ووقع
وكان سبب وقوع كل هذا الكم الهائل من التشتت والتمزق في الساحة الإسلامية هو عدم تلبية أولئك الصحابة في قبول من يعصم الأمة من الوقوع في الضلال.
البحث لمعرفة الإمام:
يقول الأخ منصف: " وهكذا بدأت تتجلى لي بوضوح أسباب نشأة الفرق في الإسلام، كما عرفت أنّ الخلافة التي أرادها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن كما ذهب إليه أبناء العامة، بأنّها مسؤولية إجتماعية ترتبط بحفظ شؤون النظام، بل هي شكلا من الولاية الإلهية وعهد إلهي كالنبوّة لمن يصطفيه الله من عباده، مع التأكيد على فارق هام هو أنّ النبوّة تأسيس للرسالة والإمامة حراسة لها ".
ويضيف الأخ منصف: " خلال مطالعتي للأحاديث النبوية الشريفة قرأت قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية "، فدفعني ذلك لمعرفة إمام زماني، فطالعت جملة من كتب الفريقين حتى تجلّت لي حقيقة وجود الإمام المهدي(عليه السلام) بوضوح، وكنت أنذاك في المرحلة الأولى في معهد الهندسة الميكانيكيّة.
وبمرور الزمان اكتملت صورة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في ذهني، فعرفت أنّ الإمام الذي جعله الله بلطفه حجّة على العباد، كما عرفت أنّ السبب الذي حجبنا عن رؤيته والاتصال به هو الظروف المتردية الحاكمة على المجتمع، وأنّه تعالى قد تمت حجّته على العباد، وأنّه عزّوجلّ حذّر الناس من الوقوع في الفتن التي
اجتياز بعض العقبات المانعة من الاستبصار:
يقول الأخ منصف: " إنّ من أهم الأسباب الموجبة للاهتداء ومعرفة الحقّ التقوى، وذلك لقوله تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(2)، والفرقان هو النور الذي يقذفه الله في قلب الأتقياء فيتمكنوا به أن يميّزوا بين الحقّ والباطل، وبه يكشف الله الحجب عن فطرتهم لتميل قلوبهم وتندفع إلى الحقّ.
والعامل الوحيد الذي يدفع الإنسان للبحث عن الحقيقة بإخلاص ومن دون نيل أغراض أخرى الشعور بالحاجة إلى الهداية، وهو شعور ينطلق من الفطرة السليمة ومن النفس التي هذبها صاحبها لتكون مستعدة لتلقي الحقائق.
ولهذا بذلت غاية جهدي لأعيش حالة الاتصال الدائم بالله، وأظن أن هذا الرصيد المعنوي هو الذي مكنني للاهتداء والاستبصار، والذي جعلني متمكناً من التغلب على جميع الموانع التي اعترتني في هذا الطريق ".
وحيث كان الأخ منصف مجيداً للغة الإنجليزية والفرنسية أتاح له ذلك أن يوسع دائرة عمله التوجيهي في التبليغ والحوار مع الجاليات المختلفة، وهذا الأمر دفعه لمواصلة تتبعه في البحث والتوسع في معارف أهل البيت(عليهم السلام)ومنحه الرؤية الشمولية التي تمكّن بها من مواصلة طريق السمو والكمال في عبودية الله تعالى.
____________
1- الأنفال: 25.
2- الأنفال: 29.
(46) د. مونتسدات روفيرا
(مسيحية / أسبانيا)
ولدت الدكتورة مونتسدات بمدينة " برشلونة " في أسبانيا(1)، وترعرعت في أحضان عائلة مسيحية.
تشرّفت باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) خلال عقد الثمانينيات في بلادها، وتسمت بإسم " زينب " لإعجابها بالسيدة زينب بنت الإمام عليّ(عليه السلام).
مرحلة الضياع الفكري والفراغ الديني:
تقول الدكتورة مونتسدات: " قبل أن أهتدي للإسلام كنت أشعر دائماً بأنّ شيئاً ما ينقصني، وكنت أحس بوجود حجب وموانع تمنعني من التقدم والتكامل، وتعيقني من التقرب إلى الله الذي كنت أعتقد به على ضوء الديانة المسيحية.
وكانت أمنيتي أن أتخلص من هذه الحجب، لأنّ النظرة المسيحية لله تعالى لم تكن مقنعة بالنسبة لي، ولم أكن أتقبل مسألة التثليث، وربوبية عيسى(عليه السلام)!
فكنت دوماً أعيش في حيرة من أمر معتقداتي وأفكاري، وكانت هذه
____________
1- أسبانيا: تقع في الجنوب الغربي من قارة أوربا، يبلغ عدد سكانها قرابة (40) مليون نسمة، يدين أغلبهم بالمسيحية الكاثوليكية الرومانية.
غموض عقيدة التثليث عند النصارى:
في الحقيقة أنّ الباحث يجد أنّ الاضطراب سمة واضحة في تفسير المسيحيين لعقيدتهم في التثليث! ولايخرج المتأمل في أقوالهم بنتيجة تذكر، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1 ـ يقول " إكلمينص " مدير مدرسة اللاهوت بالاسكندرية ـ القرن الثاني الميلادي ـ: " ليس كل أقنوم عين الآخر، ومع ذلك فإنّ الأقانيم ليسوا ثلاث ذوات، بل هم ذات واحدة، لأنّ جوهرهم واحد وهو اللاهوت "(1).
2 ـ يقول " آموري بين " ـ القرن الثالث عشر الميلادي ـ: " الأقانيم الثلاثة ليست هي الله، بل هي كائنات سامية خلقها الله أوّلا، لتقوم بتنفيذ أغراضه "(2).
3 ـ يقول " ديونسيوس " بطريرك الاسكندرية ـ القرن الرابع الميلادي ـ: " الأب والإبن والروح القدس هم الله، لأنّ الله لاينقسم أو يتجزأ على الإطلاق... لذلك لاينفصل أقنوم عن الآخر بأيّ حال من الأحوال "(3).
فهذه آراء وتفاسير بعض أعلام النصارى حول عقيدة التثليث وطبيعة الأقانيم، وتوجد آراء أخرى لاتتفق معها بحال من الأحوال، قد خبطوا فيها خبط عشواء.
وتقول الدكتورة مونتسدات: " كانت لي صديقة أسبانية مثقفة وواعية التجأت إليها لحلّ الأسئلة والاستفسارات التي كنت أعاني منها في معرفة
____________
1- أنظر: المسيح في القرآن: 334.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه: 333.
آراء بعض النصارى حول تسامح المسلمين:
قد شهد عدد من رجالات المسيحيين بسماحة المسلمين وحسن تعاملهم مع غيرهم من أهل الأديان الأخرى، وكان منهم:
1 ـ " الكونت هنري دي كاسترو " حيث ذكر في كتابه (الإسلام سوانح وخواطر): " لقد درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام، فخرجت منه بحقيقة مشرقة، وهي أنّ معاملة المسلمين للنصارى تدلّ على لطف في المعاشرة، وترفّع عن الغلظة، وعلى حسن مسايرة، ورقة ومجاملة، وهذا إحساس لم يؤثر عند غير المسلمين، فإنّ الشفقة والحنان كانا يعتبران لدى الأُوربيين عنواناً على الضعف، وهذه ملاحظة لا أرى وجهاً للطعن فيها "(1).
2 ـ المستشرق " أرنولد " الذي قال: " من الحق أن نقول: إنّ غير المسلمين نعموا في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح لا نجد معادلا لها في أُوربا قبل الأزمنة الحديثة "(2).
3 ـ وقال " غوبينو " في كتابه (أديان آسيا الوسطى وفلسفتها): " أقول إلى حدّ الجزم: بأن لادين يضاهي الإسلام في التسامح "(3).
____________
1- أنظر: التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام: 210.
2- أنظر: تعدد الاديان وأنظمة الحكم لجورج قرم: 537.
3- المصدر نفسه: 238.