(49) أبو حيدر الكبيسي
(حنفي / عراق)
ولد عام 1958م بمدينة " ذي قار " في العراق(1)، من عائلة تعتنق المذهب الحنفي ونشأ في أوساط هذا المذهب.
تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) عام 1986م، بعد دراسات مكثفة ومعمّقة ومحاورات عديدة أجراها مع العلماء.
في رحاب مأساة واقعة الطفّ:
يقول فضيلة الشيخ الكبيسي: " كنت منذ الصبى أجد قلبي ينبض بمحبّة أهل البيت(عليهم السلام)، وكنت أهوى الحضور في المجالس التي تقام أحياء الذكرى إستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ـ لا سيما التي تقام في شهر محرم الحرام ـ كما كنت أقصد حرمه الطاهر في كربلاء لأداء مراسم الزيارة أيام الأربعين مع مواكب المعزين من الشيعة، مما أدّى إلى تعلقي لمعرفة أهل البيت(عليهم السلام)وقراءة تاريخهم وتتبع سيرتهم الشريفة.
وكنت بعد معرفتي لكل إمام من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)أقف منبهراً لعظمتهم
____________
1- العراق: أنظر الترجمة رقم (10).
كنت مسروراً بإلمامي ومعرفتي بأهل البيت(عليهم السلام)، ولكن مصرع الإمام الحسين(عليه السلام) وما جرى عليه من مآسي في كربلاء أوجد حرقة في قلبي، فكنت أطفئها بدموعي من خلال مشاركتي في مآتم العزاء التي تقام حزناً عليه، ولم أكن أبالي بالانتقادات التي كان يوجهها لي أبناء طائفتي، لأنّني كنت أرى أنّ كل فرد يمتلك المشاعر الإنسانية و يتمتع بسلامة الوجدان يتأثر وينفعل بارتكاب أي ظلم أو جور بحق إنسان عادي، فكيف به إذا سمع بوقوع ظلامة فادحه على قريب له أو عزيز كان يكنّ له المحبّة من خلال قرابة أو صداقة أو عقيدة؟!.
وكان واضح لديّ أنّ البكاء لا ينافي الصبر، بل هو يمثل حالة طبيعية للنفس إزاء الأحداث المؤلمة، وأنّ بكاء الإنسان بسبب المآسي التي تحل به أو بأحد أحبائه أو أعزائه لايتنافى مع الفطرة السليمة ".
مشروعية البكاء على الميت:
قد أشاع البعض متوهماً أنّ البكاء على الميت بدعة دخلت حياة المسلمين فيما بعد، ثم عمد إلى زرع الشك في الأذهان، لكن هذا التوهم يرتفع بمجرد أن يراجع الباحث سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.
فقد ورد أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وآله(عليهم السلام) وأصحابه والتابعين بكوا لفقدهم الأعزّة والأحبّة، والمصائب حلّت بهم أو بغيرهم من المقرّبين!.
وفي الحقيقة أنّ الذين قالوا بحرمة البكاء وجعلها ذريعة للتوهين والطعن، غفلوا أو تغافلوا عن الفطرة التي أودعها الله في الإنسان، فالإنسان إن تحققت
فقد ورد عن أنس أنّه قال: " دخلنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)... وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف(رضي الله عنه): وأنت يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فقال: "يابن عوف، إنّها رحمة " ثم أتبعها بأخرى، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولانقول إلاّ ما يرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " "(1).
وورد عن أبي هريرة أنّه قال: " زار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قبر أمّه فبكى وأبكى من حوله "(2).
وورد أيضاً: " أنّه لما سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بعد غزوة أحد ـ البكاء من دور الأنصار على قتلاهم، ذرفت عينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبكى، وقال: " لكن حمزة لابواكي له!" فسمع ذلك سعد بن معاذ، فرجع إلى نساء بني عبد الأشهل فساقهن إلى باب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فبكين على حمزة، فسمع ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فدعا لهنّ
____________
1- أنظر: صحيح البخاري: 1 / 439 (1241)، صحيح مسلم: 4 / 1807 (2315)، سنن أبي داود: 3 / 136 (3126)، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، سنن ابن ماجة: 1 / 497 (1589)، كتاب الجنائز.
2- أنظر: صحيح مسلم: 2 / 671 (976)، كتاب الجنائز، مسند أحمد: 2 / 441 (9686)، سنن أبي داود: 3 / 171 (3234)، كتاب الجنائز، سنن النسائي: 4 / 90 كتاب الجنائز، سنن ابن ماجة: 1 / 492 (1572)، كتاب الجنائز، المصنف لابن أبي شيبة: 3 / 29 (11807)، مستدرك الحاكم: 1 / 531 (.139).
وورد أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حق جعفر(عليه السلام): "على مثل جعفر فلتبك البواكي "(2).
وورد عن عائشة: " أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على عثمان بن مظعون ـ وهو ميّت ـ فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبّله وبكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه "(3).
وورد أيضاً أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بكى على غيره من الصحابة(4).
وفي الحقيقة أنّ شبهة حرمة البكاء على الميت قد نشأت ممّا ورد عن عمر وإبنه عبد الله!
فقد ورد صحيح في مسلم عن عبد الله: " أنّ حفصة بكت على عمر، فقال: مهلا يا بنية! ألم تعلمي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه "(5).
وعن عمر، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " الميت يعذّب في قبره بما نيح عليه "(6).
والجدير بالذكر أنّ عائشة استدركت على عمر وإبنه لمّا بلغها من مقالتهما،
____________
1- أنظر: الطبقات لابن سعد: 3/7، المغازي للواقدي: 1/315 ـ 317، مسند أحمد: 2 / 40 (4984)، تاريخ الطبري: 2 / 532، الإستيعاب لابن عبد البر: 1 / 374، وغيرها.
2- أنظر: انساب الأشراف للبلاذري: 43، الاستيعاب لابن عبد البر: 1 / 243، الطبقات لابن سعد: 8 / 220، المصنف لعبد الرزاق: 3 / 361 (6695).
3- أنظر: سنن البيهقي: 3 / 570 (6712).
4- أنظر: مستدرك الحاكم: 1 / 514 (1334)، تذكرة الخواص لابن الجوزي: 172 عن ابن سعد، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 142 (2932)، صحيح مسلم: 2 / 636 (924).
5- صحيح مسلم: 2 / 369 كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهل، وأنظر سنن النسائى: 4 / 16 كتاب الجنائز، سنن الترمذي: 2 / 315 (1002).
6- صحيح مسلم: 2 / 927 (927) كتاب الجنائز، وأنظر سنن ابن ماجة: 1 / 498 (1595).
وقد قال النووي في شرح صحيح مسلم عن روايات النهي عن البكاء المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وإبنه عبدالله. وأنكرت عائشة، ونسبتها إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أن يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال ذلك! "(3).
كما أثبت في سيرة الرسول أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى في بعض الحالات على من رآه مشرفاً على الموت، وعلى من أستشهد، وعلى قبر الميت، بل أنّه بكى على ماسوف يجري من مصائب على الأحياء!.
بكاء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على سبطه الحسين(عليه السلام):
أكّد أصحاب السنن وأرباب السير في كتبهم أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بكى عدّة مرّات على سبطه وريحانته الإمام الحسين(عليه السلام): كالطبراني، والهيثمي والخوارزمي، وأحمد، والنيسابوري، وأبي نعيم، والمحب الطبري، وابن عساكر، وابن حجر، وعبد الرزاق، وأبي يعلى، وابن كثير، وابن الصباغ المالكي، والمتقي
____________
1- أنظر: صحيح مسلم: 2 / 641 (929) كتاب الجنائز، صحيح البخاري: 1 / 432 (1226) كتاب الجنائز، سنن النسائى: 4 / 19 كتاب الجنائز.
2- أنظر: صحيح مسلم: 2 / 642 (930) كتاب الجنائز، صحيح الترمذي: 2 / 317 (1004) كتاب الجنائز، موطأ مالك: 1 / 153، كتاب الجنائز.
3- شرح صحيح مسلم للنووي: 6 / 468 (2140)، كتاب الجنائز.
فقد روى الطبراني بسنده عن عروة عن عائشة، قالت: " دخل الحسين بن عليّ(عليه السلام) على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يوحى إليه، فنزا على رسول الله وهو منكب، ولعب على ظهره، فقال جبرئيل لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أتحبّه يا محمّد؟ قال: " يا جبرئيل ومالي لا أحبّ إبني؟! " قال: فإنّ أمتك ستقتله من بعدك! فمد جبرئيل(عليه السلام)يده فأتاه بتربة بيضاء، فقال: في هذه الأرض يقتل إبنك هذا يا محمّد واسمها الطفّ.
فلمّا ذهب جبرئيل(عليه السلام) من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والتربة في يده يبكي... "(1).
وروى أيضاً بسنده عن أم سلمة(رضي الله عنه) أنّها قالت: " كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)جالساً ذات يوم في بيتي، فقال: " لايدخل عليَّ أحد "، فانتظرت فدخل الحسين(عليه السلام)، فسمعت نشيج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي، فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت حين دخل، فقال: " إنّ جبرئيل(عليه السلام) كان معنا في البيت فقال: تحبه؟ قلت: أمّا من الدنيا فنعم، قال: إنّ أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء "... "(2).
وروى المحب الطبري بسنده عن أسماء بنت عميس أنّها قالت: " عقّ رسول الله عن الحسن يوم سابعه بكبشين أملحين... فلمّا كان بعد حول ولد الحسين فجاء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ففعل مثل الأوّل، قالت: وجعله في حجره فبكى(صلى الله عليه وآله وسلم)،
____________
1- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 107 (2814)، وأنظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 187، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 233، الصواعق المحرقة لابن حجر: 2 / 567، وغيرها.
2- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 108 (2819)، وأنظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 189.
وإنّ ما جرى على الإمام الحسين(عليه السلام) من فجائع ومآسي يوم عاشوراء لم يبك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، بل أبكى الملائكة والجن والجماد! وآل الأمر إلى بكاء أعدائه عليه(عليه السلام)!
فقد ورد عن ابن عباس: " رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يرى النائم بنصف النهار، أغبر أشعث وبيده قارورة فيها دم! فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا؟! قال: " هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل منذ اليوم التقطه "، فأحصي ذلك اليوم، فوجدوه قتل يومئذ "(2).
وقال ابن سيرين: " لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا، إلاّ على الحسين بن عليّ "(3).
وقال خليفة: " لمّا قتل الحسين أسودّت السماء، وظهرت الكواكب نهاراً، حتى رأيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر "(4).
وقال معمر: " أوّل ما عرف الزهري أنّه تكلّم في مجلس الوليد بن عبد الملك فقال الوليد: أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن عليّ؟ فقال الزهري: بلغني أنّه لم يقلب حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط "(5).
____________
1- ذخائر العقبى للطبري: 119، وأنظر: ينابيع المودة للقندوزي: 2 / 200، مسند زيد بن علي: 468، البحار للمجلسي: 43 / 239.
2- أنظر: تاريخ ابن عساكر: 14 / 237.
3- المصدر نفسه: 14 / 225.
4- المصدر نفسه: 14 / 226.
5- المصدر نفسه: 14 / 229.
أيها القاتلون ظلماً حسيناً | أبشروا بالعذاب والتنكيل |
كل أهل السماء يدعو عليكم | من نبيّ ومرسل وقتيل |
قد لُعنتم على لسان ابن داود | وموسى وصاحب الإنجيل "(1) |
أمّا بكاء أعدائه عليه، فقد ورد أنّه عندما دنا عمر بن سعد من الحسين(عليه السلام)، قالت له زينب العقيلة(عليها السلام): " يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فبكى وصرف وجهه عنها! "(2).
وذكر الذهبي أيضاً بكاء أعداء الحسين(عليه السلام) عليه، فقال: "... أخذ رجل حُلىّ فاطمة بنت الحسين، وبكى، فقالت: لم تبكي؟! فقال: أأسلب بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أبكي؟ قالت: فدعه، قال: أخاف أن يأخذه غيري! "(3).
فيا ترى إذا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي ويسمع نشيجه ـ وهو صاحب الشريعة ـ فلماذا لا نقتدي به ونتأسى بفعله الشريف؟!.
وإذا كان البكاء مصحوباً بصوت عال محرّم، فلماذا إنتحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)على عمه حمزة حتى بلغ به بكائه حد الشهيق(4)؟!.
أضف إلى كل ذلك ماورد من أنّ المسلمين ضجوا بالبكاء كضجيج الحجيج على فقد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ أجواء المدينة ارتجت من الصياح على الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) يوم وفاته(5).
____________
1- المصدر نفسه: 14 / 240.
2- أنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 131.
3- سير أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 303.
4- أنظر: المعجم الكبير للطبراني: 3 / 142 (2932)، ذخائر العقبى للطبري: 180.
5- أنظر: تاريخ ابن عساكر: 13 / 291.
والحاصل أنّ البكاء والنياحة إذا لم يكونا مشملين على ما لا يرضي الله تعالى فلا إشكال في جوازهما.
فلسفة البكاء على الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته:
إنّ البكاء على مصيبة الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته ليس أمراً يتلبس به، بل هو أمر يعيشه كل موال للعترة في أعماق قلبه وأعماق كيانه، كما أنّ البكاء عليه هو مواصلة لخط رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنهجه إزاء أهل بيته(عليهم السلام)، وقد قال تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2).
كما أنّه يمثل المودّة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وإستجابة لقول الباري: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(3).
منطلق الاستبصار:
يقول فضيلة الشيخ الكبيسي: " أدركت أنّ فاجعة الحسين(عليه السلام) لها بُعد مأساوي لايصمد أمامه أيّ إنسان سليم الوجدان مرهف الإحساس، ولذلك تفاعلت بكامل كياني مع أحداث كربلاء، وإندمجت بها قلباً وعقلا.
ولقد شدني الإمام الحسين(عليه السلام) نحو مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وأدركت أنّه صاحب الحقّ، وأنّ بكاء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عليه هو اعلان عن سلب الشرعية عمن ناوءه وقاتله، حيث اعتبره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سنخاً له حينما قال: " حسين مني وأنا
____________
1- أنظر: تاريخ الطبري: 3 / 423، الطبقات لابن سعد: 3 / 196.
2- الأحزاب: 21.
3- الشورى: 23.
فمن هنا تبيّنت لي الأهداف التي جاهد من أجلها الإمام الحسين(عليه السلام)، فتأثرت بنهضته وأعلنت استبصاري عام 1986م".
(50) أبو القاسم محمّد أنور كبير
(وهـابي / بنغلادش)
ولد عام 1970م في بنغلادش(1)، نال في مجال الدراسة الأكاديمية شهادة الليسانس في العلوم الزراعية، وشهادة الليسانس في العلوم السياسية والثقافة الإسلامية.
تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) عام 1991م بمدينة " دكا " البنغلادشية، متحولا من الوهابية.
التأمّل في التاريخ الإسلامي:
يقول الأخ أبو القاسم: " نشأت في أوساط عائلة متدينة ومحافظة، تعتقد أنّ الالتزام بالتعاليم الدينية والإرشادات الإسلامية أمر أساسي لايمكن غض الطرف عنه، فكانت المعارف الدينية الأولية في الأصول والفروع عندي مستوعبة
____________
1- بنغلادش: تقع فى وسط جنوب آسيا، مطلة على خليج البنغال فى المحيط الهندى، يبلغ عدد سكانها أكثر من (150) مليون نسمة، يشكل المسلمون نسبة 87% من السكان أمّا الباقي فمن الهندوس والبوذيين والمسيحيين، والشيعة فى هذا البلد لهم تواجد يعتد به.
ومن جراء تلك التربية تأصّلت عندي هواية قراءة التاريخ الإسلامي، لاسيما المرتبطة بحياة الصحابة والخلفاء، فكنت أتمتع عند قراءة سيرة النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء وقصص سائر الأنبياء(عليهم السلام).
لكن ثمة أمور كانت تكدّر صفو هذه الهواية، وتجعلني أعيش حالة الاستغراب والاشمئزاز من بعض القضايا التي أقرؤها! ".
بدء التعرّف على الشيعة:
يضيف الأخ: " بعد مضي سنوات عديدة من تخرجي عملت مترجماً في بعض الصحف ودور النشر البنغالية، فاتفق أن اطلعت على ترجمة لكتاب تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، فوجدت منهجه يختلف عن التفاسير التي قرأتها من قبل! فوجدته تفسيراً جديداً في الأسلوب، يجمع بين الحداثة والتقليد.
وكان هذا أوّل كتاب شيعي يقع بيدي، وعند قرأتي لبحوثه التاريخية اندفعت لتجديد النظر في معتقداتي السابقة، كما عثرت من خلاله على أجوبة الأسئلة التي كانت عالقة في ذهني في خصوص عهد عثمان بن عفان".
بنو أميّة في مسار التاريخ:
إنّ المدقق في تاريخ الأمويين ومن سار في مسارهم، يجد أنّهم حاولوا إلصاق أنفسهم برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بشتى السبل، فبيّنوا أنّهم من قريش ومن نفس سلالة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)! وطرحوا معاوية خالا للمؤمنين! ووصفوا عثمان بذي النورين ـ لتزويجه اثنين من ربائب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)(1) ـ وغير ذلك.
____________
1- راجع كتاب بنات النبيّ أم ربائبه (للسيد جعفر مرتضى العاملي).
كما في قول أبي هريرة: " دخلت على رقية بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)امرأة عثمان وبيدها مشط، فقالت: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عندي آنفاً، رجّلت رأسه، فقال لي: كيف تجدين أبا عبد الله ـ عثمان ـ؟ قلت: بخير. قال: أكرميه فإنّه من أشبه أصحابي بي خلقاً ".
وكذبه واضح! فقد علق الحاكم على هذا الحديث بقوله: " هذا حديث صحيح الاسناد واهي المتن! فإنّ رقية ماتت سنة ثلاث من الهجرة عند فتح بدر، وأبو هريرة إنّما أسلم بعد فتح خيبر سنة سبع! "(1)، كما علّق الذهبي عليه بالقول: " صحيح منكر المتن، فإنّ رقية ماتت وقت بدر، وأبو هريرة أسلم وقت خيبر! "(2).
وقس على ذلك بقية مناقب عثمان ومن يلوذ به.
حقيقة قرابة بني أميّة من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم):
إنّ بني أميّة ضربوا على وتر القربى مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ليوهموا الناس ـ خصوصاً أهل الشام ـ بأنّهم من سلالة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانوا يدّعون الإلتقاء معه في جدّه عبد مناف، وهذه الوصلة محل ريب!.
فإنّ أميّة كان عبداً رومياً تبناه عبد شمس، وكان من عادة العرب أنّهم ينسبون اللحيق إلى المستلحق، بحيث يترتب على ذلك الاستلحاق آثار البنوّة،
____________
1- أنظر: المستدرك للحاكم: 4 / 52 (6845).
2- أنظر: تلخيص المستدرك للذهبي في هامش المستدرك: ذكر رقية بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
قديماً أبوهم كان عبداً لجدنا | بني أمة شهلاء جاش بها البحر(1) |
وأبو طالب هو من أعرف الناس بأنساب قومه، كما أنّهم لم يعترضوا عليه ولم يردّوا مقالته هذه، إذ ليس لهم سبيل إلى إنكارها.
ويدعم هذا الأمر أيضاً ما أشار إليه أميرالمؤمنين(عليه السلام) في الكتاب الذي وجهه إلى معاوية، إذ ذكر فيه: " وليس الصريح كاللصيق " إجابة على كتاب معاوية الذي يقول فيه: " أنا وأنتم من بني عبد مناف "(2).
فمسألة الاستلحاق كانت معروفة عند العرب، ومن هذا القبيل نسب ذكوان ـ على قول ـ إلى أمية عندما تبناه وكان عبداً له(3).
ولكن بني أميّة اتخذوا مسألة كونهم من قريش دثاراً لأفعالهم الشنيعة التي ظهرت ملامحها بوضوح أيام عثمان، لأنّهم أصبحوا زمرة محيطة به باعتبارهم عصبته وعشريته، فسيطروا عليه ووجهوه حيثما شاؤوا!.
نقمة المسلمين على عثمان:
عندما أمعن المسلمون النظر في تصرفات عثمان، عرفوا بوضوح أنّه غيّر أحكام الله، وعطّل حدود كتابه، وبدّل سنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهان القرآن ـ بحرقة للمصاحف الشريفة ـ فثارت ثائرتهم ضدّه.
وكان من جملة الأمور التي سببت نقمة المسلمون على عثمان:
1 ـ إيوائه للمرتدين وطرداء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):
____________
1- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 15 / 234، الغدير للأميني: 7 / 361.
2- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 3 / 17، 15 / 119، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 2 / 362، الغدير للأميني: 3 / 254.
3- أنظر: الاستيعاب لابن عبد البر، ترجمة الوليد بن عقبة: 4 / 1552 (2721)..
فهذا الوزغ الذي كان من أشدّ الناس إيذاءً واستهزاءً بالنبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) قد لعنه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في عدّة مواقف، منها قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " ليدخلن الساعة عليكم رجل لعين، فدخل الحكم بن العاص "(3)، وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استأذن الحكم بن العاص يوماً في الدخول عليه: " إئذنوا له، لعنة الله عليه وعلى ما يخرج من صلبه إلاّ المؤمنين وقليل ماهم "(4)، وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه: " لايساكنني في بلد أبداً "(5)، ولكن عثمان لم يعبأ بقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فآوى أعداءه!.
2 ـ إتخاذه أحد المرتدين وزيراً له:
____________
1- أنظر: المعارف لابن قتيبة: 194، العقد الفريد لابن عبد ربّه: 5 / 35، محاضرات الأدباء للراغب: 2 / 476.
2- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد، نقلاً عن الواقدي: 3 / 30، الشافي في الإمامة للشريف المرتضى: 4 / 268، عن الواقدي أيضاً، الملل والنحل للشهرستاني: 1 / 26.
3- أنظر: مسند البزار: 6 / 344 (2352)، مسند أحمد: 2 / 163 (6520).
4- أنظر: المستدرك للحاكم: 4 / 528 (8484)، البداية والنهاية لابن كثير: 6 / 178، مجمع الزوائد للهيثمي: 5 / 242، السيرة الحلبية للحلبي: 1 / 509.
5- أنظر: السيرة الحلبية للحلبي: 1 / 509.
في حين أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أباح دمه وأمر بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، فخالف عثمان ذلك كما خالف قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(2).
3 ـ تولية أحد الفساق على الكوفة:
فقد ولّى عثمان أخاه لأمه الفاسق الوليد بن عقبة الكوفة(3)، وأطعمه هذه الولاية لتلجلج بيتين في صدره!
وكان نتيجة ذلك أن صلى الوليد بالناس صلاة الصبح وهو سكران أربع ركعات، وقرأ فيها رافعاً صوته:
علق القلب الربابا | بعدما شابت وشابا |
فنبهه الناس بأنّه صلى الصبح أربع ركعات، فأجاب: هل تريدون أن أزيدكم؟! ثم تقيأ في المحراب على أثر سكره(4).
____________
1- عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقيل سعيد بن أبي سرح، أحد طلقاء المنافقين، أخو عثمان ابن عفان من الرضاعة، أسلم ثم شك فكفر وارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين بمكّة، أهدر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دمه بعد الفتح، فجاء به عثمان بن عفان إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المسجد، فقال عثمان: يا رسول الله! أعف عنه، فسكت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أعادها ثانياً فثالثه ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ساكت، ثم قال(صلى الله عليه وآله وسلم): هو لك، فلما ذهبا قال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: ألم أقل: من رآه فليقتله؟ فأصبح في عداد الطلقاء.
2- المجادلة: 22.
3- أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13 / 585، الثقات لابن جبان: 3 / 429 (1409).
4- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 17 / 230، الأغاني لأبي الفرج: 5 / 139، مسند أحمد: 1 / 144 (1229)، العقد الفريد لابن عبد ربه: 5 / 57.
ولم يبالي عثمان بكل هذا، بل كان يدافع عنه!، وذلك عندما خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان شاكين إليه أفعال ابن أمه، أراد أن ينكل بهم، وسمعت عائشة بذلك فأنكرت عليه، وكانت من أشدّ الناس عليه!، حتى أنّها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فنصبته في منزلها، وجعلت تقول للوافدين عليها: " هذا ثوب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته "(3)، وسخطت عليه حتى بعد مقتله! إذ قالت عندما بلغها مقتله وهي بمكة: " أبعده الله، ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد "(4)، وفي لفظ آخر: " أبعده الله، قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله "(5).
4 ـ إتخاذه أحد الملعونين وزيراً له في الحكم:
فقد إتخذ عثمان ابن عمه اللعين مروان بن الحكم وزيراً وصهراً، مسلّماً له زمام الأمور حتى أصبح مروان يسوقه حيث يشاء، وقد شهد القريب والبعيد بذلك.
فقال عبد الرحمن بن الأسود: " قبح الله مروان! خرج عثمان إلى الناس
____________
1- أنظر: التاريخ الكبير للبخاري: 2 / 222 (2268)، سير أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 176، الإستيعاب لابن عبد البر: 1 / 259.
2- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد، عن الأغاني: 17 / 236، الأغاني لإبي الفرج: 5 / 146.
3- أنظر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 6 / 215.
4- المصدر نفسه: 6 / 216.
5- المصدر نفسه: 6 / 216.
وعاتب الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) عثمان على إنقياده لمروان قائلاً: " أما رضيت من مروان ولارضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم الله، إنّي لأراه سيوردك ثم لايصدرك "(2).
وورد أيضاً عن الإمام عليّ(عليه السلام) أنّه قال لعبد الرحمن بن الأسود حول عثمان: " يلعب به مروان! فصار سيّقة له يسوقه حيث شاء، بعد كبر السن وصحبة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) "(3).
وقالت له زوجته نائلة: " أطعت مروان يقودك حيث شاء "(4).
ولكن عثمان لم يقف على هذا فقط، بل قرّب مروان ـ صهره ـ وحباه ما لم يخطر بباله، وكتب له خمس مصر، وسلمه خمس غنائم أفريقية، كما أقطعه فدكاً(5) التي غصبت من فاطمة الزهراء(عليها السلام) التي نحلها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لها!.
فكانت مقاليد الأمور بيد مروان، يدير أمور المسلمين على ضوء ما يبتغيه، حتى وصل به الحدّ إلى التمادي على المسلمين أيام الفتنة، حيث قال: " ما شأنكم قد اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب! شاهت الوجوه! كل إنسان آخذ بأذن صاحبه إلاّ من أريدَ! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! أخرجوا عنّا، أما والله لئن
____________
1- أنظر: تاريخ الطبري: 4 / 363.
2- المصدر نفسه: 4 / 362.
3- المصدر نفسه: 4 / 364.
4- المصدر نفسه: 4 / 362.
5- أنظر: العقد الفريد لابن عبد ربة: 5 / 36، الطبقات لابن سعد: 3 / 47، الملل والنحل للشهرستاني: 1 / 26.