الصفحة 57
بعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بني هاشم، فأيّ دعوة هذه التي يجب أن ينقاد إليها بنو أمية وبنو سهم وبنو عدي وبنو زهرة وبنو تيم وبنو مخزوم وبنو أسد، وسائر البطون من قريش والقبائل من كنانة، إنّها الاستهانة بكيان الأفخاذ وأمجادها في عرفهم، وإنّها الاستكانة لداعٍ سيحوز الفخر لبني هاشم دونهم فما بالهم لا يقاومون؟(1).

فوقفت قريش في وجه الدعوة لا يصيخون لداعي السماء وهو يدعوهم: قولوا: (لا إله إلاّّ الله تفلحوا).

وكان أول من دعاهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هم رهطه الأدنون، وذلك بأمر من ربه تعالى حيث يقول:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}(2).

ولهذه الدعوة حديث طريف يجده القارئ في مظانّه(3)، وأول من أجاب من عشيرته هو ابن عمه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو أول ذكران العالمين إسلاماً

____________

(1) تاريخ مكة لأحمد السباعي 1/47.

(2) الشعراء /5.

(3) أخرج حديث بدء الدعوة كل من الطبري في تفسيره في سورة الشعراء وتاريخه 2/216، وأبو جعفر الاسكافي في كتابه نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/263، والثعلبي في تفسيره، وابن الأثير في تاريخه 5/24، وأبو الفداء في تاريخه 1/116، والسيوطي في جمع الجوامع 6/392 نقلاً عن الطبري. وفي ص 397 نقلاً عن الحفّاظ الستة ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في سننه ودلائله، وأحمد في مسنده 1/111، وابن أبي الحديد في شرح النهج 3/254، وابن تيمية في منهاج السنة 4/80، والخازن في تفسيره 5/390، والشهاب الخفاجي في شرح الشفاء 3/37 وبتر آخره، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب /89، وابن ظفر المكي في انباء نجباء الأبناء /46 ـ 48، والحلبي في سيرته 1/304، ومحمد حسين هيكل في كتابه حياة محمّد /104 الطبعة الأولى وغيرهم وغيرهم. وللأستزادة راجع الغدير 2/53 ـ 256، وشواهد التنزيل للحسكاني 1/371 و 420 مع ما في الهامش، وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)) الحديث 132وتواليه فقد رواه ابن عساكر بسبعِ طرق، و د. عليّّ إبراهيم حسن في التاريخ الإسلامي العام /167.


الصفحة 58
كما أنّ أول إناثهم هي زوج النبيّ الكريم السيدة أُم المؤمنين خديجة بنت خويلد، فهما أول من آمن به من الناس(1).

____________

(1) روى الهيثمي في مجمع الزوائد 9/220 بسنده عن أبي رافع قال: «أول من أسلم من الرجال عليّ (عليه السلام) وأول من أسلم من النساء خديجة قال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح».

وروى أيـضاً عن بريـدة قـال: «خديجة أول من اسلم مـع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) » رواه الطبراني.

وروى عن مالك بن الحويرث قال: «أول من أسلم من الرجال عليّ ومن النساء خديجة» رواه الطبراني. والأحاديث في سبق إسلام عليّ (عليه السلام) متظافرة تكاد لا تحصر، وفي مقدمتها أقوال الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كقوله في حديث عائشة: (يا عائشة دعي لي أخي فإنّه أول الناس إسلاماً، وآخر الناس بي عهداً، وأول الناس لي يوم القيامة) الاصابة 8 ق 1/183 في ترجمة ليلى الغفارية، وكذلك الاستيعاب. وقوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد أخذ بيده: (ان هذا اول من آمن بي، وهذا اول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر) أخرجه الطبراني عن سلمان وأبي ذر، والبيهقي والعدني عن حذيفة، ونحو هذا كثير جداً.

أمّا أقوال الصحابة الموقوفة عليهم فضلاً عن المرفوعة إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهي أيضاً كثيرة، نقتصر على تسمية من قال ذلك مع الاشارة إلى مصدر قوله.

1- زيد بن أرقم ـ مسند أحمد 4/368 و 371، والنسائي في خصائصه /2، وابن سعد في الطبقات 3/1/12، ومستدرك الحاكم 3/136، وتاريخ الطبري 2/55.

2- أبو موسى الأشعري ـ مستدرك الحاكم 3/465.

3- سلمان المحمدي نفس المصدر 3/136، وتاريخ بغداد 2/18، واُسد الغابة 4/17، والاستيعاب 2/457، وكنز العمال 6/400، ومجمع الزوائد 9/102 وقال أخرجه الطبراني.

4- سعد بن أبي وقاص ـ مستدرك الحاكم 3/499.

5- جابر بن عبد الله ـ الاصابة 4ق1 / 118، والاستيعاب 2/456.

6- أبو ذر الغفاري ـ الاستيعاب 2/456.

7- المقداد بن عمرو ـ نفس المصدر.

8- خباب بن الارت ـ المصدر السابق.

9- أبو سعيد الخدري ـ المصدر السابق.

10- عبد الله بن عباس ـ المصدر السابق 2/458 قال: «أول من أسلم عليّ (عليه السلام) ».

وهناك أحاديث عن عمر وابنه عبد الله وانس بن مالك وغيرهم من الصحابة انهم رووا عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قولـه لعليّ (عليه السلام): (انه أول الناس إسلاماً). وأمام هذه الجمهرة من أحاديث الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأقوال الصحابة، لا تثبت لمتخرّص ـ مهما حاول ـ قائمة، والصبح أبلج لذي عينين.


الصفحة 59
وقابلت قريش دعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بكل ما تملك من وسائل الحول والطول، وأصاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين عنت شديد. وما كان الباعث لقريش على ذلك إلاّّ الحسد والتعصب والانصياع لعصبية القبيلة، والحفاظ على تقاليدهم الموروثة. فكانت ممعنة في ايذاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والنفر المسلمين، وسلكت في سبيل ذلك مسالك كان منها مطاردة المسلمين وتعذيب بعضهم بالضرب والجلد حتى مات بعضهم تحت العذاب(1).

ولمّا لم تجد كل تلك الوسائل في صد تلك الدعوة، اتخذوا قرارهم المشئوم بتحالفهم على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب: (ألا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوا لهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم حتى ينبذوا محمّداً) فكانت تلك الصحيفة القاطعة نقطة تحوّل في موقف بني هاشم وحلفائهم وذلك بعد أن كتبتها قريش، ووضعوا فيها ثمانين خاتماً وعلقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم(2).

وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة فشلّت يده(3).

____________

(1) أنظر تاريخ اليعقوبي 2/17- 26، وابن هشام 1/278 - 400، وابن سعد 1/184 - 195، والطبري 2/322 ـ 344، والعقد الثمين 1/228.

(2) سيرة ابن هشام 1/272.

(3) تاريخ الطبري 2/343، والفاسي في العقد الثمين 1/229 - 230.


الصفحة 60
وإليك حديث الصحيفة:

صحيفة المقاطعة:

أخرج البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن ابن شهاب الزهري قال:

«ثم إنّ المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من فعله حميّة ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلمّا عرفت قريش انّ القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلاّ بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم.

وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فاضطجع على فراشه حتى يُري ذلك من أراد مكراً به واغتياله، فإذا نوّم الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمومته فاضطجع على فراش رسول الله

الصفحة 61
صلى الله عليه (وآله) وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصيّ ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساءٌ من بني هاشم ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.

وبعث الله (عزّ وجل) على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق، ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، ولم تترك إسماً لله (عزّ وجل) فيها إلاّّ لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، واطلع الله (عزّ وجل) رسوله على الذي صنع بصحيفتهم.

فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكـم فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنّما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكّون أنّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مدفوعٌ إليهم، فوضعوها بينهم وقالوا قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنّما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطراً لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.


الصفحة 62
فقال أبو طالب: إنّما أتيتكم لأعطيكم أمراً لكم فيه نَصفَ، إنّ ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني انّ الله (عزّ وجل) بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم(1)، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا، فوالله لا نسلمه أبداً حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي قال باطلاً دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم.

قالوا: قد رضينا بالذي يقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه (وآله) وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب، قالوا والله إن كان هذا قط إلاّّ سحراً من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشرّ ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وعلى المسلمين رهطه والقيام بما تعاهدوا عليه، فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إنّ أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون، فإنّا نعلم أنّ الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم، طمس الله ما كان فيها من اسم، وما كان من بغي تركه، أفنحن السحرة أم أنتم؟!.

(نقض الصحيفة)

فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصيّ ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم، منهم أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية

____________

(1) في جملة من المصادر التاريخية وكتب السيرة: ان الأرضة أكلت جميع ما في الصحيفة من قطيعة وظلم ولم تدع سوى اسم الله تعالى فقط: وكانوا يكتبون (باسمك اللّهم).


الصفحة 63
ابن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو من بني عامر بن لوي في رجال من أشرافهم ووجوههم نحن برآء ممّا في هذه الصحيفة فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في صحيفتهم، ويمتدح النفر الذين تبرأوا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد، ويمتدح النجاشي»(1).

____________

(1) دلائل النبوة للبيهقي 3/80 - 83 ط الأولى نشر المكتبة السلفية 1389هـ.

أقول: ومما قاله في الشِعب قصيدته اللامية العصماء كما عن العيني في شرح البخاري والبغدادي في شرح شواهد الرضي، وهذا هو المشهور، لكن ابن هشام ذكر في سيرته عن ابن إسحاق انه قالها لما خشي من دهماء العرب على نفسه وقـومه. فمن هم أولـكم الذين سمّاهم بالدهماء؟ اليسوا هم قريشاً؟! فلماذا التعتيم؟ وتلك القصيدة العصماء قال عنها ابن كثير: قصيدة بليغة جداً لا يستطيع أن يقولها إلاّ من نُسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى، وقد استنشدها السفاح العباسي من موسى بن عبد الله الحسني ـ كما في مقاتل الطالبين /396 ـ وهي قصيدة طويلة، أوردها أبو هفان في شرح ديوان أبي طالب في /121 بيتاً، وابن هشام في /94 بيتاً.

وشرحها كثيرون: منهم البغدادي في خزانة الأدب 1/251 ـ 231.

ومنهم السهيلي في الروض الأنف 1/174.

ومنهم المرحوم الشيخ جعفر نقدي شرحها بكتاب خاص سماه (زهرة الأدباء في شرح لامية شيخ البطحاء) وقد طبع في المطبعة الحيدرية سنة 1356 هـ.

ومنهم المرحوم عليّ فهمي (مفتي بلاد الهرسك، ومعلم الأدبيات العربية في دار الفنون) وشرحه مطبوع باسم (طلبة الطالب في شرح لامية أبي طالب) في مطبعة روشن تركية 1327هـ وهو أوفى شرحاً من غيره.

ولأبي طالب (رضي الله عنه) في ديوانه من غرر الأشعار يذكر فيها أسباب عداوة قريش لبني هاشم وأهمها الحسد، فاقرأ مثلاً قوله (رضي الله عنه):


إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخرفعبـد مناف سـرُّها وصمـيمُها
وان حُصِّلت أشراف كل قبيلةٍفـفي هاشم أشرافُهـا وقديمُهـا
وإن فخرت يوماً فإن محمـداًهو المصطفى من سرّها وكريمُها
تداعت قريش غثُّها وسمينُهاعلينا فلم تظفر وطاشت حلومُهـا
وكنا قديـماً لا نـقرّ ظلامـةًإذا ما ثنَوا صعر الخدود نقيمُهـا
ونحمي حماها كل يوم كريهةٍونضرب عن أبحارها من يرومَها
بنا انتعش العودُ الذويّ وإنـمابأكنافنا تَـندى وتنمـي أرومُهـا
يدين لهم كل البريـة طاعـةًويكرمها ما الأرض عنـدي أديـمُـها

(ديوان أبي طالب بن عبد المطلب) صنعة أبي هفان عبد الله بن أحمد المهزمي البصري المتوفى سنة 257 هـ تحقيق العلامة الشيخ محمّد حسن آل يس /121- 122وتحقيق العلامة المحمودي /72.


الصفحة 64

معاناة الحصار:

قال البلاذري: «فَلمّا رأى أب و طالب انهم - قريش - عازمون على الاستمرار في قطيعتهم، خاف على ابن أخيه، ثم انطلق بهم - ببني هاشم والمطلب - فأقامهم بين أستار الكعبة فدعوا على ظلمة قومهم، واجتمعت قريش على أمرها، فقال أبو طالب: اللّهم إن قومنا قد أبوا إلاّّ البغي فعجّل نصرنا وحل بينهم وبين قتل ابن أخي»(1) اللّهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحلّ ما يحرم عليه منا.

وقالت قريش: لا صلح بيننا وبين بني هاشم وبني المطلب ولا رحم ولا إلّ ولا حرمة إلاّّ على قتل هذا الرجل الكذاب السفيه.

وعاد أبو طالب إلى الشعب ومعه بنو هاشم وبنو المطلب مَن كان على دين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن لم يكن، ولكن للحسب والشرف إلاّّ أبو لهب فإنّه خرج إلى قريش فظاهرهم على بني عبد المطلب»(2).

ولنقرأ ما كتبه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ممن عاش في ذلك الظرف العصيب، وعانى الكثير الكثير فقال يصف تلك المحنة:

____________

(1) أنساب الاشراف 1/230 ط دار المعارف بمصر.

(2) بلوغ الأرب 1/326.


الصفحة 65
فأراد قومنا قتل نبيّنا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ومنعونا العَذبَ الماء وأحلِسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذبّ عن حوزته والرمي من وراء حومته، مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلوٌ ممّا نحن فيه، بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمنٍ(1).

ومن أصدق من علي وصفاً، وهو الذي كان مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ نعومة أظفاره، فقد كفله عنده منذ أصابت قريشاً أزمة شديدة - كما يقول مجاهد راوي الحديث - وكان أبو طالب كثير العيال، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للعباس - وكان من أيسر بني هاشم - (يا عباس انّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ واحداً من بنير وتأخذ واحداً فنكفيهما عنه)، فقال العباس: نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: انّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إنّ تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب (عليه السلام) مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى بعثه الله نبياً فاتبعه عليّ فأقرّ به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه(2).

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 3/303.

(2) نفس المصدر 3/251، وروضة الواعظين /86 ط الحيدرية.


الصفحة 66

الصفحة 67

الفصل الأول:



بداية حديثنا عن ابن عباس





الصفحة 68

الصفحة 69

وليد الشعب:

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج في بيان أسماء من كان في الشعب من بني هاشم: «كانوا صنفين مسلمين وكفاراً: فكان عليّ (عليه السلام) وحمزة بن عبد المطلب مسلمَين، واختلف في جعفر بن أبي طالب هل حصر في الشعب معهم أم لا؟ فقيل: حصر في الشعب معهم، وقيل: بل كان قد هاجر إلى الحبشة ولم يشهد حصار الشعب، وهذا هو القول الأصح.

وكان من المسلمين المحصورين مع بني هاشم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهو وإن لم يكن من بني هاشم إلاّّ أنّه يجري مجراهم، لأن بني المطلب وبني هاشم كانوا يداً واحدة لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام، وكان العباس رحمه الله في الشعب إلاّّ أنّه كان على دين قومه، وكذلك عقيل وطالب ابنا أبي طالب ونوفل بن الحراث بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب - وكان شديداً على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)... - وكان سيد المحصورين في الشعب ورئيسهم وشيخهم أبا طالب بن عبد المطلب وهو الكافل والمحامي له»(1).

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 3/310.


الصفحة 70
فكان من أولئك الذين أخذتهم الحمية للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)ّ عمه العباس بن عبد المطلب فقد دخل الشعب هو وأفراد أسرته تبعاً لرأي زعيمهم شيخ البطحاء (أبي طالب) وإرضاءً لأبن أخيه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وأصاب بني هاشم عنتٌ شديد من جراء تلك المقاطعة، حتى أنّ الرجل منهم ليخرج بالنفقة فما يباع منه شيئاً، وخرج العباس مرة من الشعب ليشتري طعاماً فأراد أبو جهل أن يسطو به، فمنعه الله منه(1).

وفي أيام الشعب كانت للعباس بادرة مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ربما توحي باختبار أو تصديق فراسة منه في ابن أخيه.

فقد روى ابن كثير الدمشقي في تاريخه: انّ العباس قال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا محمّد أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل، فأجابه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لعل الله أن يقر أعينكم بغلام)، وفي رواية: (لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام)(2).

وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه خبراً بسنده عن أم الفضل بنت الحارث الهلالية قالت: مررت بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في الحجر فقال: (يا أم الفضل إنك حامل بغلام)، قالت: يا رسول الله وكيف وقد تحالف الفريقان أن لا يأتوا النساء؟ قال: (هو ما أقول لك. فإذا وضعتيه فأتيني به)، قالت: فلمّا وضعته أتيتُ به رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأذّن في إذنه اليمنى وأقام في إذنه اليسرى وقال: (أذهبي بأبي الخلفاء).

قالت: فأتيت العباس فأعلمته فكان رجلاً جميلاً لبّاساً فأتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلمّا رآه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قام إليه فقبّل بين عينيه ثم أقعده عن يمينه، ثم قال: (هذا عمي فمن شاء فليباه بعمه).

____________

(1) أنظر أنساب الأشراف 1/235.

(2) البداية والنهاية 8/295، وانظر المعرفة والتاريخ للفسوي 1/541.


الصفحة 71
قال: يا رسول الله بعض هذا القول: قال: (يا عباس لم لا أقول هذا القول وأنت عمي وصنو أبي، وخير من أخلف بعدي من أهلي) فقلت: يا رسول الله ما شيء أخبرتني به أم الفضل عن مولودنا هذا؟

قال: (نعم يا عباس إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي)(1).

وأخرج الحديث أيضاً أبو نعيم في دلائل النبوة وفي آخره: «منهم من يصلي بعيسى بن مريم (عليه السلام) »(2). والخبر باطل كما قال الذهبي في ترجمة أحمد ابن راشد في ميزانه حيث قال: «عن سعيد بن خثيم بخبر باطل في ذكر بني العباس... ثم ساق الرواية، وقال: وهو الذي اختلقه بجهل»(3).

مباركة الوليد الجديد:

وفي آخر أيام الشعب تلد أم الفضل ولدها عبد الله بن عباس، وتصدق النبوءة ويبدو أنّ العباس استبشاراً بوليده وإيماناً بصدق فراسته في ابن أخيه حين أخبر عن ولادته، يتقدم بوليده إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليباركه، فأخذه وحنكه بريقه(4) وسماه عبد الله.

وثمة رواية أخرى تذكر أنّ الذي تقدم به إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي أمه أم الفضل ولكن لا أكاد أصدق بصحتها، نظراً لاشتمالها على سُنن لم تشرع بعد، نحو

____________

(1) تاريخ بغداد 1/63.

(2) دلائل النبوة /482 - 483.

(3) ميزان الاعتدال 1/97/375.

(4) قال مجاهد: فلا نعلم أحداً حنكه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بريقه غيره. أنظر البداية والنهاية 8/295.


الصفحة 72
الأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى، وهذا لا يصمد أمام ما روي في تاريخ ابتداء الأذان، وأن تشريعه كان في السنة الثانية من الهجرة(1).

ولم تقتصر تلك الرواية في مباركة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليد عمّه على ذكر الأذان، كما في الرواية السابقة، بل ذكر أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذه فحنكه، ولتّه بريقه، ودعا له، وسماه عبد الله.

وذكر البلاذري: «عن عباس بن هشام عن أبيه عن جده عن أبي صالح قال: ولد عبد الله ابن عباس وبنو عبد المطلب في الشعب، وذلك قبل هجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة بثلاث سنين، فجاء به أبوه إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقبّله ومسح وجهه ورأسه ودعا له فقال: اللّهم املأ جوفه فهماً وعلماً، واجعله من عبادك الصالحين. ثم قال: ياعم هذا عن قليل حبر أمتي وفقيهها، والمؤدي لتأويل التنزيل»(2).

ولا شك أنّ في الرواية سنداً ومتناً أكثر من مناقشة، بل عليها آثار الوضع بادية! ومع ذلك لا نشك أنّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا أتوه بوليد يدعو له ويباركه، فمن غير المستبعد أن أجرى ذلك لأبن عمه خصوصاً وهم في حال الحصار، وقد دخل أبوه العباس الشعب حميّة لأبن أخيه، ولم يكن بعد قد أسلم.

وقد ذكر أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار في السفر الأول (مسند عبد الله بن عباس) تحقيقاً شاملاً حول أحاديث: (اللّهم علمه الحكمة)، (اللّهم علمه

____________

(1) لعل من الغريب أن يذهب أبو القاسم السهمي في الفضائل إلى القول بهذه الرواية نقلاً عن أبي عمرو مع ما فيها من آثار الوضع الظاهرةـ أنظر تاريخ الخميس للديار بكري 1/167 ط الوهبية 1283 هـ.

(2) عيون الأثر لابن سيد الناس 1/129.


الصفحة 73
الكتاب)، (اللّهم ألهمه التأويل وعلّمه الحكمة)، (اللّهم فقـّهه في الدين وعلّمه التأويل)، (اللّهم علمه الحكمة وتأويل القرآن)، إلى آخر ما ذكره من أخبار ورد فيها دعاء الرسول الكريم بأسانيد مختلفة ومتون متفاوتة، وليست كلها قالها عند ولادته، بل صريح بعضها أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالها في المدينة(1).

ثم قال: «القول البيان عن معنى ما في هذا الخبر، والذي فيه: الإبانة عما خصّ الله تعالى ذكره به نبيّنا صلى الله عليه (وآله) وسلم من الفضيلة باجابة دعائه، وإعطاء مسألته، وذلك أنه دعا (عليه السلام) لابن عمه عبد الله بن عباس بأن يعلّمه الحكمة وتأويل القرآن، وأن يفقهه في الدين فأعطاه ذلك، وأجاب له دعاءه بما دعا به فيه، فكان عالماً بالحكمة وتأويل القرآن، فقيهاً في الدين، مقدّماً في ذلك، نقـّاباً مبرّزاً على أقرانه، لا يتقدمه منهم أحد، بل لا يدانيه ولا يقاربه منهم بشرٌ في أيامه، يشهد له بذلك الجلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم والتابعين لهم بإحسان»(2).

ثم ساق شهادات بعلمه عن كل من ابن مسعود، وعائشة، وابن عمر، ومجاهد، وميمون بن مهران، وعكرمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليم أبي هنّاد، وطاوس، والأعمش وسعيد بن جبير، وشقيق، وحكيم بن جبير(3). (وستأتي في تاريخه العلمي، الحلقة الثالثة)

أقول: وبعد هذا الذي ذكره الطبري من الشهادات الدالة على ظهور آثار الدعوة النبوية في ابن عمه حبر الأمة عبد الله بن عباس، نطمئن إلى صدور الدعوة المباركة، اجمالاً مهما كانت الشكوك في التفاصيل الأخرى.

____________

(1) تهذيب الآثار (السفر الأول) /163.

(2) نفس المصدر /171.

(3) نفس المصدر /172- 181.