الصفحة 107

صفة العباس خَلقاً وخُلقاً:

وصفه مؤرخوه بأنه كان أبيض جميلاً بضّاً طويلاً، له ظفيرتان، معتدل القامة، حسن الوجه، كاملاً جواداً مطعماً وصولاً للرحم، ذا رأي حسن ودعوة مرجوّة(1).

قال أبن الأثير: «ذو الرأي هو العباس بن عبد المطلب عم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يضرب به المثل في سداد الرأي»(2).

وقال الجاحظ: «ويقال انه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس»(3)، وذكر أيضاً نقلاً عن الكلبي انه قال: «كانت قريش تعدّ أهل الجزالة في الرأي العباس بن عبد المطلب»(4).

وكان يقال له: ثوب لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم، ومقطرة(5) لجاهلهم وفي ذلك يقول إبراهيم بن عليّ بن هرمة:


وكانت لعباس ثلاث نعدّهاإذا ما جناب الحي أصبح أشهبا
فسلسلة تنهيَ الظلوم وجفنةتباح فيكسوها السنام المزّغبـا
وحلة عصب ما تزال معدةلعارٍ ضريكٍ(6) ثوبه قد تهبّـبا(7)

____________

(1) تهذيب التهذيب 5/123، نكت الهميان /176، الاستيعاب 2/486.

(2) المرصّع /189 تحـ د إبراهيم السامرائي.

(3) البيان والتبيين 1/331.

(4) نفس المصدر 2/263.

(5) المقطرة: خشبة فيها خروق، كل خرق على قدر سعة الساق، يدخل فيها أرجل المحبوسين.

(6) الضريك: الضرير، وهو أيضاً الفقير الجائع. قال في لسان العرب: الفقير اليابس الهالك سوء حال. 12/348 ط أفست عن بولاق.

(7) ابن قتيبة عيون الأخبار 1/342، تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/231.


الصفحة 108
فكان يمنع الجار، ويحمي الذمار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب.

وكانت قريش تعدّه من صيّتي العرب، كان ينادي غلمانه من سلع- جبل وسط المدينة- وهم بالغابة- مكان على ثمانية أميال من المدينة- وذلك آخر الليل فيسمعونه(1)ولقد أتتهم غارة فصاح: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدة صوته(2).

قال الزمخشري وغيره: إنّه كان أجهر الناس صوتاً، كان يزجر السباع عن الغنم، فيفتق مرارة الأسد في جوفه، وفيه يقول النابغة الجعدي:


زجر أبي عروة السباع إذاأشفق أن يختلطن بالغنم(3)

وظائفه قبل الإسلام:

وكانت إليه عمارة المسجد الحرام- وهي أن لا يدع أحداً يستبّ في المسجد الحرام ولا يقول فيه هُجرا ويحمل الناس على عمارته بالخير، فلا

____________

(1) ابن قتيبة في عيون الاخبار 1/186، الزمخشري في ربيع الأبرار باب الأصوات والألحان (مخطوط بمكتبة الإمام الرضا (عليه السلام) بخراسان، برقم 4348)، والدرجات الرفيعة /79، ومعجم البلدان (سلع) وفيات الأعيان 3/277، والحازمي فيما اتفق لفظه وافترق مسماه في أول حرف الغين في باب عانة وغابة.

(2) ربيع الابرار 3/573 ط الأوقاف ببغداد، وتاريخ ابن خلكان 3/277 تحـ احسان عباس.

(3) الدرجات الرفيعة /79، وكامل المبرّد /165، وربيع الأبرار للزمخشري باب الأصوات والألحان مخطوطة الرضوية، وسئل بعضهم كيف لم تتفق مرائر الغنم؟ فقال: لأنها كانت ألفت صوته. وبيت النابغة الجعدي من قصيدة موجودة في شعره /148ـ 159 جمع عبد العزيز رباح ولم يذكر انه قالها في العباس، كما ان ما ذكره من مصادر تخريج ابيات القصيدة خلوٌ من ذلك، فلعل قول الزمخشري ومن تبعه: وفيه يقول النابغة... يعنى في زجر السباع وتفتق مرائرها. وقد قال ابن الاثير في المرصّع /241: أبو عروة السباع جاهلي يضرب به المثل في شدّة الصوت يزعمون انه كان يصيح في السبع فيموت، فيشق عن فؤاده فيجدونه قد زال عن مكانه، وفيه يقول النابغة الجعدي، فذكر البيت.


الصفحة 109
يستطيع أحدٌ مخالفته، لأن قريشاً تعاقدوا على نصرته في ذلك، فكانوا له أعواناً على وظيفته-(1).

كما كانت إليه سقاية الحاج بعد أن كانت لأبي طالب.

وقد كانت السقاية قبل الإسلام وتشمل الرفادة أيضاً- وهي اطعام الحاج- إلى هاشم بن عبد مناف، وفيه يقول الشاعر:


عمرو العلى هشم الثريد لقومهورجال مكة مسنتون عجاف

وبعده صارت رفادة وسقاية الحاج أيام الموسم لشيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم، وبعده صارت بيد ابنه شيخ الأباطح أبي طالب، ومنه انتقلت لأخيه العباس، لسبب رواه البلاذري وابن سلام وغيرهما: وهو انّ أبا طالب كان يستدين لسقاية الحاج متى أعوزه الحال، فقال لأخيه العباس - وكان امرؤاً تاجراً أيسر بني هاشم وأكثرهم مالاً-: قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولابد لهذه السقاية من أن تقام للحاج فأسلفني عشرة آلاف درهم، فأسلفه العباس إياها، فقام أبو طالب تلكم السنة بها وبما كان عنده.

فلمّا كانت السنة الثانية ووافى الموسم قال لأخيه العباس: يا أخي انّ الموسم قد حضر ولابد للسقاية من ان تقام فأسلفني أربعة عشر الف درهم، فقال: اني اسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم ورجوت أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها وأنت تطلب العام أكثر منها وترجو أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم، ها هنا أمر لك فيه فرج، أدفع

____________

(1) أنظر الإصابة في ترجمته، وتهذيب الأسماء للنووي، واُسد الغابة 3/ 109، ونكت الهميان /176 وغيرها.


الصفحة 110
إليك هذه الأربعة عشر ألف درهم فإن جاء الموسم من قابل ولم توفِ حقي الأول وهذا، فأمر الرفادة والسقاية إليّ دونك فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذ عجزت عنها.

فأجابه أبو طالب إلى ذلك(1).

وروى ابن سلام: انّ العباس قال: «ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة(2)... ولا أريد سائر بني هاشم»، ففعل أبو طالب، وأسلفه العباس المال بمحضرٍ منهم ورضىً.

فلمّا كان الموسم الثالث من قابل لم يكن بد من إقامة الرفادة والسقاية، إزداد أبو طالب عجزاً وضعفاً، ولم تمكنه النفقة وأعدم حتى أخذ كل رجل من بني هاشم ولداً من أولاده يحمل عنه مؤونته. فقال العباس لأخيه أبي طالب: قد أفد الحج وليس إلى دفع حقي من وجه، وانت لا تقدر أن تقيم(3).

قال البلاذري: «فصارت الرفادة والسقاية إلى العباس، وأبرأ ابا طالب ممّا له عليه، وكان يأتيه الزبيب من كَرمٍ له بالطائف فينبذ في السقاية... فقام بالرفادة والسقاية بعد العباس عبد الله بن عباس»(4).

وفي الدرجات الرفيعة: «واليه - العباس- عمارة المسجد الحرام والسقاية بعد أبي طالب (عليه السلام) »(5).

____________

(1) انساب الأشراف 1/75.

(2) يعني ولد الزبير وعبد الله فإنهما أشقاء ابي طالب لأمه وهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية.

(3) أنساب الأشراف 1/75.

(4) نفس المصدر.

(5) الدرجات الرفيعة /79.


الصفحة 111
وقال ابن سلام: «ولم تزل السقاية له ولأولاده إلى اليوم».

وفي حديث السقاية ما لا يخلو من نظر وذلك فيما رواه الأزرقي في أخبار مكة: قال: «فقام بأمر السقاية بعده - أي بعد عبد المطلب - العباس بن عبد المطلب فلم تزل في يده، وكان للعباس كرم بالطائف وكان يحمل زبيبه إليها، وكان يداين أهل الطائف ويقتضي منهم الزبيب فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي في الجاهلية وصدر الإسلام، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح فقبض السقاية من العباس بن عبد المطلب والحجابة من عثمان بن طلحة، فقام العباس بن عبد المطلب فبسط يده وقال: يا رسول الله بأبي أنت واُمي إجمع لنا الحجابة والسقاية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اُعطيكم ما فيه ولا ترزءون منه، فقام بين عضادتي باب الكعبة فقال: ألا انّ كل دم أو مال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين إلاّّ سقاية الحاج وسدانة الكعبة فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية، فقبضها العباس فكانت في يده حتى توفي فوليها بعده عبد الله بن عباس رضي الله عنه فكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب، وكان محمّد بن الحنفية قد كلم فيها ابن عباس فقال له ابن عباس: مالك ولها نحن أولى بها منك في الجاهلية والإسلام، وقد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البيّنة: طلحة بن عبيد الله وعامر بن ربيعة وأزهر بن عبد بن عوف ومحزمة بن نوفل أنّ العباس بن عبد المطلب كان يليها في الجاهلية بعد عبدالمطلب، وجدك أبو طالب في إبله في باديته بعرفة، وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها العباس يوم الفتح دون بني عبد المطلب فعرف ذلك مَن حضر.


الصفحة 112
فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه لا ينازعه فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي، فكانت بيد عليّ بن عبد الله بن عباس يفعل فيها كفعل أبيه وجده يأتيه الزبيب من ماله بالطائف، وينبذه حتى توفي، وكانت بيد ولده حتى الآن... اهـ»(1).

فهذا الخبر ظاهر فيه التزلف للعباسيين، ولم أقف له عند غير الأزرقي، وسنده لا يخلو من نظر فإن فيه عثمان بن ساج وساج اسم جده فهو عثمان بن عمرو بن ساج، قال الأزدي: يتكلمون في حديثه، وقال العقيلي: «لا يتابع في حديثه»(2). وراوية حديثه سعيد بن سالم ويكفي فيه قول البخاري: يرى الإرجاء، وقول الفسوي: كان له رأي سوء وكان داعية يرغب عن حديثه، وقال العجلي: كان يرى الإرجاء وليس بحجة. وعن ابن معين: كانوا يكرهونه إلى غير ذلك(3).

أقول: إنّ للمفسرين اختلاف في أنّ عمارة المسجد الحرام كانت وظيفة للعباس أو لا. وذلك في تفسير قوله تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(4).

فقد روى الحاكم الحسكاني عن اسماعيل عن الشعبي قال: «نزلت هذه الآية... في عليّ والعباس»(5)، وكذلك السيوطي في تفسير الآية الكريمة(6)، وابن

____________

(1) أخبار مكة 1/65 ط الماجدية بمكة المكرمة سنة 1352 هـ.

(2) تهذيب التهذيب 7/145.

(3) نفس المصدر 4/35.

(4) التوبة /19.

(5) شواهد التنزيل 1/244.

(6) الدر المنثور 3/218، ولباب النقول /115.


الصفحة 113
المغازلي المالكي(1)، وابن بطريق(2)، وابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق وابن جرير(3)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ وغيرهم رووا عن الشعبي وأنس والسدي ومحمد بن كعب القرظي قالوا: نزلت هذه الآية في العباس وعلي (عليه السلام).

وراجع أيضاً ابن كثير في تفسيره(4)، وابن الأثير في جامع الاصول(5)، والكنجي في كفاية الطالب (6)، وابن المغازلي في المناقب(7).

وثمة روايات تذكر أنّ الآية نزلت في العباس وشيبة وعليّ (عليه السلام) حيث افتخر العباس بالسقاية وشيبة بن عثمان بحجابة البيت واحتكما إلى عليّ (عليه السلام) فقال: أنا هاجرت مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجاهدت معه... فأنزل الله تعالى الآية(8).

وحيث انّ الآية صريحة في عمارة المسجد، ولم تكن لشيبة انّما كانت له حجابة البيت، فالظاهر أنّ ما سبق هو الأولى.

قال ابن رستة في كتابه: «وأول من سنّ الطواف بالبيت سبعاً هو العباس ابن عبد المطلب 10 هـ»(9). ولم أقف على هذا عند غيره وهو أمر لا يخلو من نظر.

____________

(1) مناقب المغازلي /ح 324.

(2) العمدة /98.

(3) تفسير ابن جرير 10/60.

(4) نفس المصدر 2/241.

(5) جامع الاُصول 9/477.

(6) كفاية الطالب /237.

(7) المناقب 2/321 - 322.

(8) أنظر أسباب النزول للواحدي /182، وتفسيري الطبري والرازي.

(9) الأعلاق النفيسة /198 ليدن.


الصفحة 114

إسلام العباس:

اختلف المؤرخون في وقت إسلامه، فعن ابن عساكر عن عمرو بن عثمان أنه أسلم ليلة الغار(1).

وفي حديث الواقدي: أنّه أسلم وأسلمت معه زوجته أم الفضل، وعلى هذا يكون إسلامه بمكة قبل الهجرة، لأن أم الفضل- زوجته- كانت أول امرأة أسلمت بعد السيدة خديجة أم المؤمنين، فهي ثانية المسلمات السابقات، وفي حديث أبي رافع مؤشر واضح على ذلك.

فإنّ أبا رافع كان مولى للعباس فوهبه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «كنت غلاماً للعباس ابن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، فخرج معهم إلى بدر وهو على ذلك»(2).

وفي الاستيعاب: انه أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه(3).

وفي حديث الحجاج بن علاط(4) ما يشير بوضوح إلى أنه كان مسلماً يسرّه ما يفتح الله به على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح خيبر.

وقيل: إن إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان المسلمون يتقوّون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)،

____________

(1) تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/232.

(2) طبقات ابن سعد 4 ق1/5، والمعرفة والتاريخ 1/511.

(3) الاستيعاب 2/485 ط حيدر آباد، وقارن أسد الغابة 3/110 ط أفست الاسلامية.

(4) حديث الحجاج بن علاط مذكور في كتب التاريخ والسيرة في واقعة خيبر راجع طبقات ابن سعد 4 ق1/10 - 11، والسيرة النبوية لابن هشام 2/345 - 346، وتاريخ الطبري 3/17ـ 19، والمعرفة والتاريخ للفسوي 1/507 ـ 509.


الصفحة 115
فكتب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليه: إن مقامك بمكة خير(1)، فلذلك قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم بدر فمن لقي منكم العباس فلا يقتله فإنّما اخرج كارهاً.

وذكر ابن سعد في الطبقات: إنّ قريشاً لمّا نفروا إلى بدر، فكانوا بمر الظهران، هبّ أبو جهل من نومه فصاح فقال: يا معشر قريش ألا تباً لرأيكم ماذا صنعتم، خلّفتم بني هاشم وراءكم، فإن ظفر بكم محمّد كانوا من ذلك بنجوة، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثارهم منكم من قريب من أولادكم وأهليكم، فلا

____________

(1) من الدس الرخيص ما قاله المستشرق جون باجوت غلوب في كتابه الفتوحات العربية الكبرى /143 ط مكتبة المثنى ببغداد: «وقد اختلف المؤرخون في سلوك العباس اختلافاً كبيراً، فادعى بعضهم انه كان قد أسلم منذ أمدٍ طويل وأنه كان مخلصاً في إسلامه، ولم يبق كل تلك المدة في مكة متظاهراً بالشرك إلاّ لخدمة مصالح ابن أخيه ورأى بعضهم أنه كان صورة مبكرة لراعي أبرشية بري متظاهراً بالإخلاص لقريش ومتصلاً سراً بالمسلمين أقول: لقد حنّّ قدحٌٌ ليس منها، اشنت الفصال حتى القرعى، وقد هزلت الحياة العربية حتى صار يؤرخها ويكتب في فتوحاتها من الأغيار الأجانب عنها خَلقاً وخُلقاً ورأياً ومنطقاً، أمثال هذا المراوغ المخادع، ولو سأله القارئ أي فرق بين الرأيين اللذين زعم أنهما لغيرهما، فالرأي الأول في سلوك العباس كان مخلصاً في إسلامه، متظاهراً بالشرك لخدمة مصالح ابن أخيه. والرأي الثاني: كان متظاهراً بالاخلاص لقريش، ومتصلاً سراً بالمسلمين، فهو في الحقيقة على كلا الرأيين، كان يتظاهر بالشرك وليس بمشرك، ويتصل سراً بالمسلمين،وما ذلك إلاّ لخدمة مصالح ابن أخيه» على حد تعبيره.

ولكن هذا الانسان الصليبي الحاقد أراد أن ينال من الإسلام والكيد لنبيّه، بالطعن في سلوك عمه فجعله مثلاً مبكراً لراعي أبرشية بري. وهذا كما عرّفه هو بأنه كان راعياً لكنيسة بري في عهد هنري الثامن في انكلترا، وكان انتهازياً تقلب من الكثلة إلى البروتستانية وبالعكس حسب رغبة الحكام. ألا مسائل هذا الصِلف أين وجه الشبه بينه وبين العباس في السلوك؟!.

ولو قال انه أقام بمكة يرعى مصالح ابن أخيه بداعي التعصب للقرابة كما صنع ذلك يوم دخل معه الشعب في الحصار الذي فرضته عليه قريش، وقد مرّت الاشارة إليه فراجع، لكان لقوله نحو تخريج وان لم يكن مقبولاً. ولكنها الصليبية إلى الأبد.


الصفحة 116
تذروهم في بيضتكم وفنائكم، ولكن أخرجوهم معكم، وإن لم يكن عندهم غناء، فرجعوا اليهم، فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كرهاً(1).

وذكر محمّد بن حبيب في كتابيه نقلاً عن محمّد بن عمر المدني- الواقدي-: إنّ العباس نحر في بدر عشراً من الإبل، فلم تطعمها قريش وأكفأت قدوره لعلمها بميله إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) (2).

وفي الدرجات الرفيعة قال السيد المدني: «وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا اطعام أهل بدر، قد نحر كل واحد يوم نوبته عشراً من الإبل، وكان حمل معه عشرين أوقية من الذهب ليطعم بها الناس، وكان يوم بدر في نوبته، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية فأخذت منه حين أخذ وأسر في الحرب»(3).

ومهما كان من أمر الإطعام فلا شك في أنه كان في الأسرى يوم بدر، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، وكان أبو اليسر رجلاً صغير الجثة، وكان العباس رجلاً عظيماً قوياً، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأبي اليسر: كيف أسرته؟ قال: أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، فقال: لقد أعانك عليه ملك كريم(4).

إلاّ أنّ ابن إسحاق لم يذكر اسمه مع الأسارى- كما في سيرة ابن هشام- وابن اسحاق مؤرخ دولة رسمي للعباسيين!

____________

(1) طبقات ابن سعد 4 ق1/4 ـ 5.

(2) المحبّر /162، والمنمّق /489.

(3) الدرجات الرفيعة /81 ط الحيدرية 1382 هـ.

(4) طبقات ابن سعد 4 ق1/6، والدرجات الرفيعة /80.


الصفحة 117
وذكر ابن سعد أنّ قريشاً في يوم بدر جمعت بني هاشم وحلفاءهم في قبّة وخافوهم فوكّلوا بهم من يحفظهم ويشدد عليهم، ومنهم حكيم بن حزام(1).

وذكر أيضاً: انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال يوم بدر: من لقي أحداً من بني هاشم فلا يقتله فإنهم اخرجوا كرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: والله لا ألقي رجلاً منهم إلاّ قتلته، فبلغ ذلك رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: أنت القائل كذا وكذا؟، قال: نعم يا رسول الله شقّ عليَّ إذا رأيت أبي وعمي وأخي مقتّلين فقلت الذي قلت، فقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ أباك وعمك وأخاك خرجوا جادّين في قتالنا طائعين غير مكرهين، وإن هؤلاء أخرجوا مُكرَهين غير طائعين لقتالنا(2).

وفي تاريخ الطبري قال أيضاً: فمن لقي منكم العباس فلا يقتله(3).

وأرق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنين عمه العباس وعلم ذلك بعض أصحابه فأرخى وثاقه فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما بالي لا أسمع أنين العباس؟ فقال رجل: أرخيت من وثاقه شيئاً، قال: أفعل ذلك بالأسارى كلهم.

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للعباس: أفد نفسك يا عباس وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم فإنك ذو مال، قال: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، قال: الله أعلم بإسلامك، إن يك ما تذكر حقاً فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك، وكان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فقال العباس: يا رسول

____________

(1) طبقات ابن سعد 4 ق1/6.

(2) نفس المصدر 4 ق1/6.

(3) تاريخ الطبري 2/282.


الصفحة 118
الله أحسبها لي من فدائي، قال: لا ذلك شيء أعطاناه الله منك، قال: فإنه ليس لي مال، قال: فأين المال الذي وضعتَ بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا، قال: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه(1).

ثم رجعوا جميعاً الى مكة ثم اقبلوا الى المدينة مهاجرين(2).

وذكر أنّ العباس ونوفل وعقيل رجعوا الى مكة أمروا بذلك ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة والرئاسة، وكانت السقاية والرفادة والرئاسة في الجاهلية في بني هاشم، ثم هاجروا بعد الى المدينة(3).

وفي فداء العباس نفسه ومن كان معه روي شأن نزول قوله تعالى:{قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(4).

ولمّا رجع العباس إلى مكة أقام بها عيناً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على قريش، حتى إذا عزمت قريش على المسير إلى المدينة في وقعة أحد كتب العباس بن عبد المطلب كتاباً وختمه وأستأجر رجلاً من بني غفار وشرط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخبره انّ قريشاً قد اجتمعت للمسير اليك فما كنت صانعاً إذا

____________

(1) طبقات ابن سعد 4 ق1/6 ـ 7، ومسند أحمد 1/353.

(2) نفس المصدر 4ق1/9.

(3) نفس المصدر 4ق1/10.

(4) الأنفال /70.

وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/52، وتفسير الطبري 10/49-50، ومجمع البيان 4/549، والميزان 9/138- 140.


الصفحة 119
دخلوا بك فاصنعه، وقد وجهوا وهم ثلاثة الاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وقد أوعبوا من السلاح فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمدينة وجده بقباء، فخرج حتى وجد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب...(1).

هجرة العباس:

قال البلاذري وغيره: وهاجر العباس إلى المدينة قبل فتح مكة، وبه انقطعت الهجرة، ولقي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسقيا(2)، وقيل بالجحفة(3)، وقيل بذي الحليفة(4).

أقول: ويظهر من بعض الأخبار أنّ زوجته أم الفضل كانت تزور المدينة وتقيم فيها كما سيأتي في حديثها عن رضاعها للإمام الحسين (عليه السلام) ولا يجد أنّ العباس كان معها زائراً وليس مهاجراً، والذي أراه أنه وصل المدينة قبل خروج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى فتح مكة(5). لحديث ابن عباس قال: «سافرت مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فشرب بها ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة وافتتح مكة في رمضان»(6)، وهذا الحديث أخرجه البخاري في

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/360.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/207، واعيان الشيعة 2/236، والسقيا قرية من أعمال الفرع بينها وبين الجحفة 19 ميلاً معجم البلدان (السقيا).

(3) البداية والنهاية 1/296، وتاريخ ابن خلدون 2 ق2/42، والجحفة على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة بينها وبين غدير خم ميلان.

(4) البداية والنهاية 1/296، وتاريخ ابن خلدون 2 ق2/42، وانساب الأشراف 1/355.

وذو الحليفة عـلى خمسة أمـيال ونصف من المـدينة المـنوّرة (كتاب المناسك للحربي/422).

(5) أنساب الأشراف 1/355.

(6) نفس المصدر.