الصفحة 120
صحيحه(1)، ومسلم(2)، وأبو داود في سننه(3)، والنسائي(4)، والطبراني في معجمه(5). وقد أقطعه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هجرته هو ونوفل بن الحارث في موضع واحد وآخى بينهما فكانا متجاورين كما كانا في الجاهلية شريكين في المال متحابين متصافيين.

وخرج العباس مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشهد فتح مكة (6) وله قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أبي سفيان ابن حرب حين جاء مستسلماً: «أحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله، قال العباس: فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرّت عليه القبائل فيقول: مَن هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سُليم، فيقول: مالي ولسُليم، فتمرّ به قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسَلم، فيقول: مالي ولأسَلم، وتمر جهينة فيقول: مالي ولجهينة، حتى مرّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلاّّ الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك إنها النبوّة، فقال: نعم إذا»(7).

وليس ببعيد أنّ العباس أحسّ من أبي سفيان في موقفه ذلك اليوم أنه لا يزال امرءاً تساوره نفسه بالملك، ولم يقتنع بالنبوّة، لذلك قال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا رسول

____________

(1) صحيح البخاري برقم /1948و 4279.

(2) صحيح مسلم برقم /1113.

(3) سنن ابي داود برقم /2378.

(4) سنن النسائي 4/184.

(5) المعجم الكبير للطبراني 11/26.

(6) قال ابن خلدون: فبعث العباس ـ رحله إلى المدينة وانصرف معه غازياً، تاريخ ابن خلدون 2 ق2/42.

(7) أعيان الشيعة 2/337.


الصفحة 121
الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن)(1).

ولمّا خطب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في يوم الفتح فقال: (إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينّفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد)(2).

فقال العباس: «يا رسول الله إلاّّ الأذخر فإنّه للقين والبيوت»، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إلا الأذخر فإنه حلال)(3).

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبته: (ألا وإن كل مأثرة أو دمٍ أو مالٍ يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين إلاّّ سدانة البيت وسقاية الحاج)(4)، وتطلّع العباس إليهما معاً، إلاّّ أنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ردّ عليه السقاية، ولم يعطه السدانة، بل ردّ مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة(5).

مشاهده في الإسلام:

وشهد مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقعة حنين، وكان ممّن ثبت معه إذ انهزم الجمع وولـّوا الدبر، وذلك اليوم أول يوم شهد فيه الحرب مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وفيه أنزل الله السكينة على نبيه وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه، وذلك قوله تعالى:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ

____________

(1) الاستذكار لابن عبد البر 5/152 ط دار الكتب العلمية، والثقات لابن حبان 2/47 ط دار الفكر، وتاريخ مدينة دمشق 22/450.

(2) صحيح البخاري كتاب المغازي 5/153 ط بولاق.

(3) الكافي (الفروع) 1/228 ط الحجرية سنة 1312، ومصابيح السنة للبغوي 1/154.

(4) أعيان الشيعة 2/343.

(5) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/212.


الصفحة 122
فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(1).

قال الشيخ المفيد: «يعني بالمؤمنين عليّاً ومن ثبت معه من بني هاشم»(2).

وقال الشيخ المفيد أيضاً: «ولمّا رأى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هزيمة القوم عنه- يوم حنين- قال للعباس- وكان رجلاً جهورياً صيّتاً - ناد بالقوم وذكّرهم العهد، فنادى العباس باعلى صوته: يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلى أين تفرّون؟! اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والقوم على وجوههم قد ولّوا مدبرين.

قال العباس: فناديت فأقبلوا كأنهم الأبل إذا حنّت إلى أولادها»(3).

قال جابر بن عبد الله الأنصاري: «بايعنا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الشجرة على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت، فأنسيناها يوم حنين حتى نودي يا أصحاب الشجرة فرجعوا»(4).

وإلى هذا الموقف المهزوز المهزوم، يشير القرآن الكريم بقوله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى

____________

(1) التوبة /25 ـ 26.

(2) الارشاد /74.

(3) نفس المصدر /75.

(4) شرح صحيح مسلم 5/167، وسنن النسائي 7/140.


الصفحة 123
الْمُؤْمِنِينَ}(1) ويعني بالمؤمنين: عليّاً ومن ثبت معه من بني هاشم، وهم يومئذ ثمانية نفر سواه فهو يضرب بين يديه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف حتى قتل أربعين رجلاً بيده(2) والعباس بن عبد المطلب عن يمينه آخذ بلجام البغلة والفضل بن العباس عن يساره، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند ثفر بغلته، ونوفل بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وعتبة ومعتب ابن أبي لهب حوله، ومعهم نفر واحد من غيرهم هو أيمن بن أم أيمن، وقد قـُتل (رحمه الله) (3) وفي ذلك يقول العباس بن عبد المطلب(4):

____________

(1) التوبة /25- 26.

(2) الجامع لأحكام القرآن 8/99 ط دار احياء التراث العربي لبنان.

(3) الارشاد للشيخ المفيد /74، قال أبو عمر في الاستيعاب 2/485 ط حيدر آباد بعد ذكره شعر العباس وفيه: (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وثامننا) وقال ابن اسحاق: السبعة عليّ والعباس والفضل بن العباس وابو سفيان بن الحارث وابنه جعفر وربيعة بن الحارث واسامة بن زيد والثامن أيمن بن عبيد، وجعل غير ابن اسحاق في موضع أبي سفيان عمر ابن الخطاب، والصحيح ان أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه لم يختلف فيه، واختلف في عمر... أهـ. وورد نحو ذلك في معارف ابن قتيبة /164 من دون ذكر عمر.

(4) ذكرت أبيات العباس في عدة مصادر مختلفة كمّاً وكيفاً، فذكر المفيد في الارشاد ص 74 ثلاثة أبيات منها، وفيها (نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وبعده وعاشرنا...)، وذكر ابن قتيبة في المعارف /164 ط دار الكتب بيتين هما (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وبعده وثامننا)، ومثل ذلك ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب 2/285 ط حيدر آباد (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وبعده وثامننا...)، وذكر الزرقاني في شرح المواهب 3/19 بيتين هما (نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وبعده وعاشرنا)، أمّا ابن رشيق القيرواني فقد ذكر في العمدة 1/23 أربعة أبيات منها قوله: (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة دون ما بعده) وقد علّق محقق الكتاب محمّد محيي الدين عبد الحميد على قول العباس (سبعة) فقال: أثبت التاريخ أن المسلمين في غزوة حنين لما أنهزموا أمام هوازن وثقيف ومن لفّ لفـّهم من الأعراب، بقي مع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلّم ثمانية رجال، وهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس والفضل بن العباس وابو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة ابن الحارث ومعتب بن أبي لهب، وكان رسول الله راكباً بغلة، والعباس آخذاً بلجامها

=>


الصفحة 124

____________

<=

وأبو سفيان آخذاً بالركاب أقول: من الغريب قوله هذا، فإنّه تعوزه الدقة، لأن التاريخ لا يثبت باتفاق: اسم أبي بكر وعمر مع الذين ثبتوا مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل الذي أثبته باتفاق أسماء الهاشميين وليس معهم من غيرهم إلاّ أيمن بن أم أيمن حاضنة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو معدود منهم.

أمّا أبو بكر وعمر فقد مر عن ابن عبد البر في الاستيعاب قوله: وجعل غير ابن اسحاق في موضع أبي سفيان عمر بن الخطاب، والصحيح ان أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معهم لم يختلف فيه، واختلف في عمر اهـ ويزيد ذلك بياناً قول ابن كثير في سيرته 3/618 بعد ذكره لبني هاشم (ومن الناس من يزيد فيهم قثم بن العباس ورهط من المهاجرين منهم أبو بكر وعمر) ولما كان معلوماً في التاريخ ان قثم كان يوم وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صغيراً، علمنا ان ذلك المتزيّد من الناس كان حاطب ليل في أسماء من زادهم. وعلى هذا فقول المعلّق المحقـّق (أثبت التاريخ...) يعوزه الإثبات، كما يعوزه هو نفسه التثبّت مع انه لم يذكر من ذكرهما أين كان مقامهما، بينما ذكر المؤرخون كما سبق عن الباقين مكانهم. ولم يكن فرارهما في حنين بدعاً فقد فرا يوم أحد ورجعا يوم خيبر منهزمين وذلك يكفينا حجة في دحض زعمه، ثم أعتراف أبي بكر نفسه في انه كان من الفارين يوم أحد وبكاؤه لذلك كما حدثت عنه ابنته عائشة فيما أخرجه عنها بأسانيدهم كل من الطيالسي وابن سعد وابن السنّي والشاشي والبزار والطبراني في الاوسط وابن حيّان والدار قطني في الإفراد وابو نعيم في المعرفة والضياء المقدسي، وذكر ذلك عن هؤلاء جميعاً المتقي في كنز العمال 5/274 قال: «عن عائشة قالت كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى - إلى أن قالت -: ثم أنشأ تعني يحدّث قال: كنت أول من فاء يوم أحد الحديث...».

أقول: الفيء الرجوع ومن المعلوم انه لا رجوع إلاّ بعد الفرار. والفرار من الزحف من الذنوب التي لا كفارة لها على حد الشرك بالله وقتل النفس بغير حق كما في حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد في مسنده، وابو الشيخ في التوبيخ، ورواه السيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض القدير 3/458، والديلمي في الفردوس، وغيرهم ولعل ذلك كان سر بكاء أبي بكر.

واما عن فرار عمر فسل عنه أم الحارث الانصارية (رض) التي كانت استأذنت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قتل الفارين فهي التي اعترضت عمر بن الخطاب وهو فارّ فقالت له: «يا عمر ما هذا؟ فقال: أمر الله» المغازي للواقدي /904 ط أوربا - أي قضاء الله وقدره -. ولم يخف ذلك حتى نظمه الشعراء فقال بعضهم:


وما أنسى لا أنسى اللذين تقدّماوفرّهُما والفَرّ قد علما حُوبُ

(العلويات السبع لابن أبي الحديد المعتزلي ط حجرية).


الصفحة 125

ألا هل أتى عرسي مكرّي ومقدمـيبوادي حنينٍ والأسـنّة تـُشـرع
وقولي إذا ما النفس جاشت لها قديوهـامٌ تدهـدهُ والسواعـد تقطع
وكيف رددت الخيـل وهي مـغيرةبـزوراء تعـطي باليدين وتمنع
كـأن السهـام المرسـلات كواكبإذا أدبرت عن عجسها وهي تلمع
وما أمسـك المـوت الفـظيع بنفسهولكـنه ماضٍ على الهـول أروع
نصرنا رسول الله في الحـرب تسعةوقـد فرّ من قد فرّ عنه وأقشعوا
وعاشـرنا لاقـي الحـمام بسـيفـهبما مـسّه فـي الله لا يـتـوجّع
ومنها: حنوت إليه حين لا يحنأ امرؤعلى بكره والموت في القوم منقع
ومنها: وقولي إذا ماالفضل شد بسيفهعلى القوم أخرى يا بُني ليرجعوا

وشهد مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غزوة الطائف وغزوة تبوك وحمل فيها يومئذٍ من المسلمين رجلين أمدّهما بالزاد والراحلة كما تبرع بتسعين ألفاً من ماله إعانة لجيش المسلمين(1) فلا بدع في قيامه بنصرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن كان نصره من يوم حصار الشعب ولم يكن يومئذ مسلماً، فكيف لا ينصره بعد إسلامه، مضافاً إلى أنّه كان قد أوصاه بذلك أخوه أبو طالب رضوان الله تعالى عليه كما أوصى أخاه الحمزة وابنيه عليّاً وجعفر حيث قال:


أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده(عـليّاً ابـني وعـم الخير عبّاسا)
وحمزة الأسد المـخشيّ جـانبهوجعفراً ان تـذودا دونه الناسـا
كونـوا فدىً لكم أمي وما ولدتفي نصر أحمد دون الناس أتراسا

في أبيات غيرها(2).

____________

(1) امتاع الاسماع للمقريزي /446 ـ 449.

(2) يراجع عنها: مناقب ال أبي طالب للحافظ السروي 1/56، الدرجات الرفيعة /61، أعيان الشيعة 2/120- 121، وغيرها.


الصفحة 126
وذكر المؤرخون واصحاب السير: انّ العباس هو الذي كان تولّى تزويج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ميمونة بنت الحارث، وهي اخت زوجته أم الفضل، وأصدقها من ماله 400 درهم وذلك في ذي القعدة عام سبع من الهجرة.

كما ذكروا أنه هو الذي قام بضيافة عبد الله بن جدعان بدلاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وسيأتي في الحديث عن حبر الأمة في عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ أباه العباس كان يبعثه إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليبيت عنده ولا ينامنّ حتى يحفظ له صلاته ودعاءه ممّا يشعرنا بأن العباس أراد الأستنان بسنته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أعماله العبادية ليلاً وهو في بيته.

مكانة العباس عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

لقد ذكر الحافظ ابن البطريق (ت 523) - وهو من عيون علماء الإمامية في القرن السادس - في مقدمة كتابه (عمدة عيون الأخبار) ما يدل على فضل العباس مستدلاً في ذلك بآي من القرآن الكريم كآية المودة في القربى(1)، وآية الخمس(2)، وآية الفيء(3)، واستدل أيضاً بما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بوجوه مستبشرة، وإذا لقونا، لقونا بغير ذلك؟ قال: فغضب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله»(4).

قال الحافظ ابن البطريق: فأدخل العباس في جملة من لا يدخل قلب رجل الإيمان إلاّّ بحبهم، وهذا أبلغ ممّا ذكره الثعلبي في المعنى، لأنه أدخله بكاف

____________

(1) الشورى /23.

(2) الأنفال /41.

(3) الحشر /7.

(4) عمدة عيون الأخبار 1/47.


الصفحة 127
الجمع الشاملة، ثم ذكر خبراً عن الشيخ الطوسي في كتابه (انس الوحيد) وفيه أنّ جبرئيل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمّد جئتك بكرامة أكرمك الله بها، سهم تجعله في قرابتك وابدأ بعمك العباس، وثلّث بخبر ذكره الحلواني في كتابه(1) في لمع كلام الإمام الزكي أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليهم السلام لمّا سأله المتوكل فقال له: «ما يقول بنو أبيك في العباس؟ قال: ما يقولون في رجل فرض الله طاعته على الخلق وفرض طاعة العباس عليه» وقال: يريد بذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وان العباس رضي الله عنه والد وطاعته له كطاعة الوالد...

ثم استشهد بشعر الكميت بن زيد الأسدي جاء فيه: (من قصيدة في الهاشميات لمن قلب متيم مستهام):


وأبو الفضل إن ذكرهم الحلووالشفا للنفوس من الأسقام

وقوله أيضاً في غيرها:


ولن أعزل العباس صنو نبيناوصنوانه فيمن اُعد واُندب
ولا ابنيه عبد الله والفضل إننيجنيب بحب الهاشميين مصحب

أقول: ولا شك فيما ذكره الحافظ ابن البطريق رحمه الله، وإن كان الرجل قد عاصر الخليفة الناصر لدين الله العباسي، واحتمال انّه إنّما قدم ذلك في أول كتابه تقية منه، ولكن تشيّع الناصر المعلوم يدفع هذا الاحتمال الموهوم.

ولا نمنع ما قاله الذهبي: «وقد اعتنى الحفاظ بجمع فضائل العباس رعاية للخلفاء»(2).

____________

(1) نزهة الناظر /70.

(2) سير أعلام النبلاء 3/413 ط دار الفكر بيروت.


الصفحة 128
أقول: وهذا ممّا لا شك فيه، ولكن لا يعني انّ كل ما جمعوه كان من الموضوعات، كما لا نشك بأنه كانت له مكانة مرموقة وسجايا طيبة كما لا نشك بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يحب عمه العباس وله عنده منزلة نوّه عنها بقوله: (لا تؤذونني في عمي العباس، عم الرجل صنو أبيه، هذا عمي وصنو أبي).

ففي أمالي الشيخ الطوسي عن عليّ (عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّما عم الرجل صنو أبيه)(1).

وأخرج البغوي عن عليّ (عليه السلام): (انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعمر في عمه العبّاس: إنّ عم الرجل صنو أبيه)(2).

ولعل ما رواه البغوي مختصراً هو ما أخرجه ابن سعد في الطبقات، والفسوي في كتاب المعرفة والتاريخ: «انّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم استعمل عمر بن الخطاب على السعاية، فأتى العبّاس يطلب صدقته، فأغلظ له العباس، فأتى عمر عليّاً وذكر ذلك له ليذكره للنبيّ صلى الله عليه (وآله) وسلم فأتاه عليّ (عليه السلام) فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لعمر: (تربت يداك، أما علمت أنّ عم الرجل صنو أبيه، إن العباس أسلفنا زكاة العام عام الأول) »(3). وقد رواه الفسوي بعد ذلك مرة أخرى بتفاوت في السند والمتن، فراجع(4).

____________

(1) أمالي الطوسي 1/280.

(2) مصابيح السنة 2/207.

(3) طبقات ابن سعد 4 ق 1/17، كتاب المعرفة والتاريخ 1/500.

(4) جاء في كنز العمال 6/552 ط مؤسسة الرسالة بحلب: عن عليّ أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعجل من العباس صدقة عامين - عن مصنف عبد الرزاق -. وجاء فيه أيضاً عنه: أن العباس سأل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ فرخّص له في ذلك، نقلاً عن أحمد والدارمي وابي داود وابن ماجة والترمذي وابن جرير وصححه وابن خزيمة والحاكم في المستدرك وغيرهم.


الصفحة 129
ولعل ذلك القول من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ترك أثراً بالغاً في نفس عمر بل وحتى في نفوس الصحابة فكانوا يحترمون العباس ويجلّونه، حتى روى ابن أبي الزناد عن أبيه: انّ العباس بن عبد المطلب لم يمرّ قط بعمر ولا عثمان وهما راكبان إلاّّ ترجّلا حتى يجوزهما إجلالاً له أن يمرّ وهما راكبان وهو يمشي(1).

وقد ورد في مستدرك الحاكم عن ابن عباس: كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجلّ العباس إجلال الوالد(2).

وأخرج الترمذي عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب: انّ العباس دخل يوماً على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مغضباً وانا عنده فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما أغضبك؟ فقال: يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مسفرة، فاذا لقونا لقونا بغير ذلك، فغضب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى أحمرّ وجهه ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجلٍ الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله، ثم قال أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه)(3)، وفي رواية ابن حجر (ما بال أقوام يتحدثون فاذا رأوا الرجال من أهل بيتي قطعوا حديثهم والله لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني)(4).

ويجد الباحث في صور بعض عهود النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واقطاعاته شهادات للعباس، نحو: قسمة قمح خيبر وفيها شهد عباس بن عبد المطلب. وآخر(5) والاقطاع

____________

(1) عيون الأخبار لأبن قتيبة 1/269 ط دار الكتب.

(2) مستدرك الحاكم 3/324 وصححه، وأقره الذهبي في التلخيص، كما رواه في سير أعلام النبلاء 3/414 ط دار الفكر.

(3) صحيح الترمذي 5/652 تحـ إبراهيم عطوة عوض، ومستدرك الحاكم 3/333، والمعرفة والتاريخ 1/499.

(4) الصواعق المحرقة /228 تحـ عبد الوهاب عبد اللطيف.

(5) مجموعة الوثائق السياسية /22 رقم 18 ط مصر.


الصفحة 130
للداريين وهم من لخم وفيه شهد عباس بن عبد المطلب. وجماعة(1) والاقطاع لبني جعيل من قبيلة بلّي وفيه شهد عباس بن عبد المطلب. وجماعة (2) والعهد الذي بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين النصارى وفيه شهد عباس بن عبد المطلب. وجماعة(3).

وقد أقطعه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مواضع من الأرض لم تفتح بعد، وأوصى أن تدفع له بعد الفتح، وكتب له بذلك (4) كما أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلاّّ باب عليّ (عليه السلام) فضّل عمه العباس بجعل ميزاب له على المسجد، وقصة الميزاب مشهورة(5).

ولـه موقف بعد موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في نصرة ابن أخيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسألة الخلافة، سنأتي على تفصيله فيما يأتي.

أستسقاء عمر بالعباس:

وقد أستسقى به عمر عام الرمادة سنة 17 من الهجرة حين قحط الناس وقد ذكرها كثير من المؤرخين، وبأسانيد مختلفة:

منهم الحافظ ابن عساكر فقد ذكر روايات عديدة في ذلك، نقتصر على روايته عن محمّد بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري من طريق موسى بن جعفر

____________

(1) نفس المصدر /44 رقم 43.

(2) نفس المصدر /48.

(3) نفس المصدر /95.

(4) رياض الشهادة /275- 278، الأنوار النعمانية /496، بحار الأنوار 8/246 ط الكمپاني، وفي طبقات ابن سعد 4 ق1/14حديث العباس مع عمر في إقطاعه البحرين وشهادة المغيرة له بذلك فلم يقبل عمر شهادته فأغلظ العباس لعمر، وذكر ذلك عمر بن شبة في اخبار البصرة أيضاً كما في وفيات الأعيان 6/367.

(5) ولقد حوّرها الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/70 فراجع. والقصة مذكورة في بحار الأنوار 8/244، والأنوار النعمانية /496، كما أخرجها الحاكم في المستدرك 3/331، وأحمد في المسند 1/210، والفسوي في المعرفة والتاريخ 1/511.


الصفحة 131
عن أبيه عن أجداده عن جابر أنّ السِنة لمّا أصابت أهل المدينة سنة الرمادة استسقوا ثلاث مرات فلم يسقوا فقال عمر بن الخطاب: لأستسقين غداً بمن يسقينا الله به، فأخذ الناس يقولون بعليّ بحسن بحسين، فلمّا أصبح غداً عند العباس وقال له: اخرج بنا حتى نستسقي الله بك، فقال العباس: يا عمر اقعد في بيتي، فأرسل- العباس- إلى بني هاشم أن تطهروا وألبسوا من صالح ثيابكم، فأتوه، فأخرج طيباً فطيّبهم، ثم خرج العباس وعلي أمامه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، وقال: يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتوا المصلّى فوقفوا، ثم انّ العباس: حمد الله وأثنى عليه فقال: اللّهم إنك خلقتنا وعلمت ما نحن عاملون به قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك بحالنا عن رزقنا، اللّهم كما تفضّلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره.

قال جابر- راوي الحديث- فما تمّ دعاؤه حتى سحّت السماء، فما وصلنا إلى منازلنا إلاّ بللنا من المطر، فقال العباس: أنا المسقي ابن المسقي ابن المسقي كررها خمس مرات، فقيل لموسى بن جعفر وكيف ذاك، فقال: استسقى فسقى عام الرمادة واستسقى عبد المطلب بسقي زمزم... إلى أن قال: والخامسة: أسقى الله إسماعيل زمزم(1).

وروى الشيخ الصدوق في كتابه من لا يحضره الفقيه مجيء عمر إلى العباس طلباً للاستسقاء قال: «فقام العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللّهم ان عندك سحاباً وإن عندك مطراً، فانشر السحاب وأنزل فيه الماء ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل واطلع به الفرع، وأحي به الضرع، اللّهم إنا شفعاء إليك عمّن لا

____________

(1) ينابيع المودة /306 ط اسلامبول سنة 1302 هـ و 367 - 368 ط الحيدرية، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7 ص250 وفي: اختصار ابن بدران مهذب التاريخ خلل ظاهر، ربّما كان عن غير عمد والله العالم.