ماذا الـذي ردكـم عـنه فنعرفه | ها إن بيـعتـكم مـن أول الفتـن(1) |
ونسبت إليه في البحار(2) الأبيات التالية في زمان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولست متأكداً من صحة النسبة والأبيات هي:
ياآل فهر وغالبِ | ابشروا بالمواهبِ |
وافخروا يا قومنا | بالثنا والرغائبِ |
شاع في الناس فضلهم | وعلا في المراتبِ |
قد فخرتم بأحمدٍ | زين كل الأطائبِ |
فهو كالبدر بينكم | نوره مشرق غيرغائبِ |
قد ظفرت خديجةُ | بجليل المواهبِ |
بفتى هاشم الناس | ماله من مناسبِ |
جمع الله شملكم | فهو ربًَُ المطالبِ |
أحمدًُ سيد الورى | خير ماشٍ وراكبِ |
____________
(1) نسبت هذه الأبيات إلى جماعة منهم: عتبة بن أبي لهب بتفاوت في الالفاظ يسيرة كما في تاريخ اليعقوبي 2/103 ط الحيدرية /1358، ومنهم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كما في الفصول المختارة للشريف المرتضى 2/68 ط الأولى بالحيدرية، ومنهم حسان ابن ثابت كما عن القاضي البيضاوي والنيسابوري في تفسيريهما في تفسير قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} البقرة /34، ومنهم: بعض ولد أبي لهب كما عن الزبير ابن بكار، ومنهم الفضل بن العباس بن عتبة قال ابن حجر في الاصابة 3/632 ط مصرفي ترجمة العباس بن عتبة: وله ولد اسمه الفضل شاعر مشهور، وهو صاحب الابيات المشهورة في مدح عليّ (عليه السلام) وذكر البيت الأول منها، وللقاضي المرعشي مناقشة مع ابن حجر في نسبة الابيات لا تخلو من وجاهة فراجع كتابه احقاق الحق، ومنهم خزيمة بن ثابت كما في روضة الواعظين /87.
(2) بحار الأنوار /6 الط الحجرية.
فعليه الصلاة ما | سار عيس براكبِ(1) |
وله كلمات حكمية منها ما عن ابن عباس قال: «كان العباس بن عبد المطلب كثيراً ما يقول: ما رأيت أحداً أحسنت إليه إلاّ أضاء ما بيني وبينه، وما رأيت أحداً أسأت إليه إلاّ أظلم ما بيني وبينه، فعليك بالإحسان واصطناع المعروف، فان ذلك يقي مصارع السوء»(2).
وعن ابن عباس قال: «قال لي: يا بني انّ الكذب ليس بأحد من هذه الأمة أقبح منه بي وبك وبأهل بيتك، يا بني لا يكوننّ شيء ممّا خلق الله أحب اليك من طاعته، ولا اكره اليك من معصيته، فان الله ينفعك بذلك في الدنيا والآخرة»(3).
وصية العباس لعثمان:
أخرج ابن سعد في الطبقات الكبير، والطبري في تاريخه واللفظ له: «بسنده عن حمران بن أبان قال: أرسلني عثمان إلى العباس بعد ما بويع، فدعوته له، فقال: مالك تعبّدتني؟ قال: لم أكن قط أحوج اليك مني اليوم. قال: الزم خمساً، لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها، قال: وما هي؟ قال: الصبر عن القتل، والتحبّب والصفح، والمداراة، وكتمان السرّ»(4).
ودخل عثمان على العباس في مرضه الذي مات فيه فقال: «أوصني بما ينفعني (الله، ظ) به وزودّني فقال: إلزم ثلاث خصال تُصِب بها ثلاث عوام،
____________
(1) بحار الأنوار /6 الط الحجرية.
(2) كنز العمال 6/578 ط مؤسسة الرسالة بحلب.
(3) تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/253 ط افست دار السيرة.
(4) تاريخ الطبري 4/400 ط دار السيرة.
وقد نظم هذه الوصية جملة من العلماء ذكر منهم السخاوي في كتابه التبر المسبوك في ذيل السلوك، قول شيخه ابن حسان وقد كتبه عنه:
أصفح تحبّب ودار اصبر تجد شرفاً | واكـتم لسرٍ فهذي الخمس قـد أوصـى |
بهنّ عثـمانَ عـباسٌ فـدع جدلاً | وانظر إلى قدر من أوصى وما الموصى الموصّى |
قال السخاوي: وقد أنشدنا شيخنا أبو النعيم العقبي في هذا المعنى قوله:
واظب على الخمس التي أوصى بها | العباس عم المصطفى عثمانا |
اصفـح ودار اكـتم تحبّـب واصبرنّ | تزدد بها يـا مؤمـناً إيـمانا |
قال: وكذا أنشد البقاعي ممّا لم يعمل بمضمونه قوله:
إن رمـت عـيشـاً صافـياً أزمـانا | لا تتبعاً في الرأي من قدمانا |
واصفح تحبّب دارِ واصبر واكتم الـ | ـعباس قد أوصى بها عثمانا |
قال: وانشدني المحيوي عبد القادر القرشي بعد دهر في ذلك:
احفـظ وصاياً قالها العباس إذ | أوصى بها عثمان ذا النورين |
اصفح تحبب دار اكتم واصطبر | تُكسى البَها والعز في الدارين(2) |
____________
(1) أخبار الدولة العباسية /21 ط دار الطليعة بيروت.
(2) التبر السبوك في ذيل السلوك /372.
وصية العباس للإمام:
لقد تقدم ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى أعادتها.
قال ابن أبي الحديد: «قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تفريط الجاحظ، قال: نقلت من خط الصولي: قال الجاحظ: إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في علته التي مات فيها فقال: أي بُنيّ إني مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به، ولكن العِرق نبوض، والرحم عروض، واذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد، إن هذا الرجل - يعني عثمان - قد جاءني مراراً بحديثك، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له، ولست تؤتى من قلة علم ولكن من قلة قبول، ومع هذا كله فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك، وهمزك وغمزك، فإنه لا يبدؤك ما لم تبدؤه، ولا يجيبك عما لم يبلغه، وأنت المتجني وهو المتأني، وأنت العائب وهو الصامت فإن قلت كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا أحق، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك، ونكص عنه عقباك، لأنك بالأمس الأدنى هرولتَ اليهم، تظن أنهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك، ويطؤون عقبك، ويرون الرشد بك، ويقولون لا بد لنا منك، ولا معدل لنا عنك، وكان هذا من هفواتك الكُبر، وهناتك التي ليس لك منها عذر، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك، ونبذت رأي عمك في البيداء، يتدهده في السافياء، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك، فإنه إن كاشفك أصاب أنصاراً، وإن كاشفته لم تر
تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية:
قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة: «قلت الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ (عليه السلام) في أن لا يدخل في أصحاب الشورى، وأمّا أنا فاني أستحسنه إن قصد به معنى، ولا استحسنه إن قصد به معنى آخر، وذلك لأنه إن
____________
(1) هي قوله تعالى: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نُزُلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حِولا * قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل ان تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا * قل إنما أنا بشر مثلكم يًُوحى إليَّ أنّما إلهكم إلهٌ واحد فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا) الكهف /107 - 110.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/282 ط مصر الاُولى.
ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه، فإنّه وترها وسفك دماءها، وكشف القناع في منابذتها، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس، كما نشاهد اليوم عياناً، والناس كالناس الأول، والطبائع واحدة، فاحسب انك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه، كلا انّ ذلك لغير ذاهب، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كاسلام كثير من العرب، فبعضهم تقليداً، وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفاً من السيف،
واعلم أنّ كل دم أراقه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسيف عليّ (عليه السلام) وبسيف غيره، فان العرب بعد وفاته (عليه السلام) عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وحده، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم:
من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صباره | وحوادث الأيام لا يبقى لها إلاّ الحجاره |
ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره | تسفي الرياح خلاك كشيحه وقد سلبوا أزاره |
فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه»(1).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/283 ط الأولى بمصر.
رأي على رأي!
قال ابن أبي الحديد: «سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله فقلت له: إني لأعجب من عليّ (عليه السلام) كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وكيف ما قتل وفتك به في جوف منزله مع تلظي الأكباد عليه؟
فقال: لولا انّه أرغم أنفه بالتراب ووضع خده في حضيض الأرض لقتل، ولكنه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن، وخرج عن ذلك الزي الأول وذلك الشعار ونسي السيف، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحاً في الأرض أو راهباً في الجبال، ولما أطاع القوم الذين ولوا الأمر...تركوه وسكتوا عنه، ولم تكن العرب لتقدم عليه إلاّ بمواطاة من متولي وباطن في السر منه، فلمّا لم يكن لولاة الأمر باعث وداع إلى قتله وقع الإمساك عنه، ولولا ذلك لقتله، ثم أجلٌ بعدُ معقل حصين.
فقلت له: أحق ما يقال في حق خالد؟
فقال: إنّ قوماً من العلوية يذكرون ذلك، ثم قال: وقد روي أنّ رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث، فقال: إنه جائز، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال.
فقال الرجل: وما الذي قاله أبو بكر؟ قال: لا عليك، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة، فقال: أخرجوه أخرجوه قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب.
قلت له: فما الذي تقوله أنت؟
قال: أنا أستبعد ذلك وإن روته الإمامية، ثم قال: أمّا خالد فلا استبعد منه الإقدام عليه بشجاعته في نفسه ولبغضه اياه، ولكني استبعده من أبي بكر فإنّه كان
فقلت له: أكان خالد يقدر على قتله؟
قال: نعم ولم لا يقدر على ذلك والسيف في عنقه وعلي أعزل غافل عما يراد به، قد قتله ابن ملجم غيلة وخالد أشجع من ابن ملجم.
فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك كيف الفاظه؟ فضحك وقال: كم عالم بالشيء وهو يسائل، ثم قال: دعنا من هذا. ما الذي تحفظ في هذا المعنى؟ قلت قول أبي الطيب:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد | أطويل طريقنا أم يطول |
وكثير من السؤال اشتياق | وكثير من ردّه تعلـيل |
فاستحسن ذلك وقال: لمن عجز البيت الذي استشهدت به؟ قلت لمحمد ابن هانيء المغربي وأوله:
في كل يوم استزيد تجاربا | كم عالم بالشيء وهو يسائل |
فبارك عليّ مراراً...(1) وللعباس (رضي الله عنه) كلام يجري مجرى الخطبة، منه ما قاله في ليلة بيعة العقبة الثانية حيث كان مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ».
ذكر ابن سعد في الطبقات بسنده عن معاذ بن رفاعة قال: «كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج. وكانت الأوس والخزرج
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/283.
فأجابوه ووصفوا له ما أراد فقال: أنتم اصحاب حرب فهل فيكم دروع؟ قالوا نعم شاملة. وعند البيعة كان العباس آخذاً بيد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يؤكد له البيعة تلك الليلة على الانصار»(1).
وقال البلاذري في أنساب الأشراف فتكلم العباس فقال: «يا معشر الأوس والخزرج قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه إليه، ونحن عشيرته ولسنا بمسلميه، فإن كنتم قوماً تنهضون بنصرته، وتقوون عليها، وإلا فلا تغروه وأصدقوه، فان خير القول أصدقـُه»(2).
وقال ابن هشام في سيرته: «كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنّما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعنا من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وانه قد أبى إلاّ الانحياز
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 ق1/3.
(2) انساب الأشراف 1/254.
ومن كلام للعباس (رضي الله عنه) قاله لأبي بكر ومن معه حين أتوه يطمعوه في أن يجعلوا له ولعقبه من بعده نصيباً ليقتطعوه من جانب عليّ وذلك بعد موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسيأتي تفصيل ما قالوه له في ما يأتي من فصول الكتاب.
قال: فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كما زعمت - نبيّاً وللمؤمنين وليّاً فمنّ الله بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له ما عنده، فخلّى على الناس أمرهم وليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق، لا مائلين عنه بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم، متقدمون فيهم، وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين، فأما ما بذلت لنا فإن يكن حقاً لك فلا حاجة لنا فيه، وإن يكن حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم، وإن كان حقنا لم نرض عنك فيه ببعض دون بعض، وأما قولك إن رسول الله منا ومنكم، فإنه قد كان من شجرة نحن أغصانها وانتم جيرانها(2).
قال ابن أبي الحديد: «لمّا قبض رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) واشتغل عليّ (عليه السلام) بغسله ودفنه، وبويع أبو بكر خلا الزبير وابو سفيان وجماعة المهاجرين بعباس وعلي (عليه السلام) لإجالة الرأي وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج.
____________
(1) بهامش الروض الأنف 1/275.
(2) الامامة والسياسة 1/16 ط مصر سنة 1328 هـ.
وخلاصة القول في أبي الفضل العباس رحمه الله انه كان كما وصفه ابنه عبد الله وقد سأله معاوية عن ذلك فقال: رحم الله أبا الفضل، كان والله عم نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقرة عين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيد الاعمام والأخدان، جد الأجداد، وآباؤه الأجواد، واجداده الأنجاد، له علم بالأمور، قد زانه حلم وقد علاه فهم، كان يكسب حباله كل مهند، ويكسب لرأيه كل مخالف رعديد، تلاشت الأخدان عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأنساب عند ذكر عشيرته، صاحب البيت والسقاية، والنسب والقرابة، ولم لا يكون كذلك؟ وكيف لا يكون كذلك؟! ومدبّر سياسته اكرم من دبّر، وأفهم من نشأ من قريش وركب(2).
ومن كلام له يجري مجرى الوصية لابنه عبد الله وذلك في أيام عمر. قال له: «أنت أعلم مني ولكني أشد تجربة للأمور منك، وان هذا الرجل - يعني عمر- قد قربّك وقدّمك يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإني أوصيك بخلال أربع: فلا تفشين له سراً، ولا يجرينّ
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/73 ط الاولى بمصر.
(2) مستدرك الحاكم 3/329.
قال الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف، قال: اي والله ومن عشرة آلاف.
وقال له: «يا بني لا تعلّم العلم لثلاث خصال: لا ترائي به، ولا تماري به، ولا تباهي به، ولا تدعه لثلاث خصال: رغبة في الجهل، وزيادة في العلم، واستحياء من التعلم»(2).
وفاة العباس:
ولقد أعتق من العبيد عند موته سبعين عبداً في سبيل الله تعالى(3).
وله عند موته وصيّة أوصى بها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال له: «أي بُني إني مشرف على الظعن إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به، ولكن العِرق نبوض، والرحم عروض، واذا قضيت حق العمومة فلا تأل بي بعد، إن هذا الرجل- يعني
____________
(1) أنساب الأشراف للبلاذري ترجمة ابن عباس نسخة مخطوطة عندي 3/51، وفتح الباري 10/366 ط مصطفى محمّد البابي الحلبي سنة 1378 هـ نقلاً عن مكارم الأخلاق للخرائطي. وتاريخ ابن عساكر 12/305، وسير أعلام النبلاء للذهبي 4/448 ويوجد تفاوت في اللفظ وفي بعض المصادر: ولا يجربنّ عليك كذباً، وعيون الاخبار لابن قتيبة 1/19 ط دار الكتب المصرية، والعقد الفريد 1/7، وأنباء نجباء الأبناء ص 81، والكامل للمبرد 2/312، والمستظرف /89، وسراج الملوك للطرطوشي /222، والأداب لجعفر بن شمس الخلافة /28 ط الخانجي سنة 1349 هـ، والفتوحات الاسلامية لزين دحلان 2/338 وغيرها.
(2) جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/170.
(3) سير أعلام النبلاء للذهبي 2/70، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 26/276 ط دار الفكر سنة 1995م.