يابن عباس والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً إن النار لأشدّ غضباً على مبغض عليّ منها على من زعم أنّ لله ولداً.
يابن عباس لو أنّ الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغضه ولن يفعلوا ـ لعذبهم الله بالنار.
قال ابن عباس: «قلت يا رسول الله وهل يبغضه أحد؟»
قال: يابن عباس نعم يبغضه قوم يذكرون انّهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً.
يابن عباس إن من علامة بغضهم له تفضيل مَن هو دونه عليه، والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً ما خلق الله نبيّاً أكرم عليه مني، ولا وصياً أكرم عليه من وصيّي عليّ.
قال ابن عباس: «ثمّ مضى من الزمان ما مضى، وحضرت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوفاة، وحضرته فقلت له فداك أبي وأمي يا رسول الله قد دنا أجلك فما تأمرني؟»
قال: يابن عباس خالف من خالف عليّاً، ولا تكونن لهم ظهيراً ولا ولياً.
قلت: «يا رسول الله فلم لا تأمر الناس بترك مخالفته». قال: فبكى (عليه السلام) حتى أغمي عليه، ثمّ قال:
يابن عباس سبق الكتاب فيهم وعلم ربي، والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا يخرج أحد ممّن خالفه من الدنيا وأنكر حقه حتى يغيّر الله ما به من نعمة.
يابن عباس احذر أن يدخلك شك فيه، فان الشك في عليّ كفر بالله).
هذه الوصية من أهم وصايا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحبر الأمة بعلي (عليه السلام)، وأمره بسلوك سبيله إذا تشعبت بالـناس السُـبل، وإنّـما ذكـرناها بطـولها لـما فيـها من فضـائل للإمـام (عليه السلام) لم ترد في حق غيره.
وقد أخرجها الشيخ الطوسي في أماليه(1)، وابن شاذان في فضائله(2)، والإربلي في كشف الغمة(3)، ومحمّد بن هاشم في مصباح الأنوار(4)، والعلامة الحلي في كشف اليقين(5)، وغيرهم.
ولا غرابة في رواية ابن عباس (رضي الله عنه) ذلك على صغر سنه، فقد قلنا إنّه كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوليه عناية خاصة ويرعاه ويحدب عليه لما يتوسم فيه من الخير وكان قريباً من نفسه، وكم من مرة حظي فيها بتكريم من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خصه به.
فقد روى ابن سعد في طبقاته، وإمام الحنابلة في مسنده، وأبو نعيم الأصبهاني في حليته، وغيرهم، عن ابن عباس: «أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل على ميمونة بنت الحرث(6)- احدى زوجاته - ومعه ابنا اختيها عبد الله بن عباس وخالد بن
____________
(1) الامالي 1/102.
(2) فضائل ابن شاذان /4 و 160 - 161.
(3) كشف الغمة 1/508.
(4) مصباح الأنوار /1الباب الثالث والرابع منه، مخطوط.
(5) كشف اليقين /453 ط محققه.
(6) احدى امهات المؤمنين التسع اللاتي مات عنهن(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، واحدى الأخوات المؤمنات الثمان ـ وقد مرّ ذكرهنّ في ذكر لبابة أم ابن عباس ـ وهي آخر من تزوج بها(صلّى الله عليه وآله وسلّم) زوجه بها العباس عمّه وأصدقها عنه اربعمائة درهم، كما أنها آخر من توفي من أزواجه، عاشت نحواً من
=>
ولا غرابة في رواية ابن عباس ذلك عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بعد أن مرّ بناـ ويأتي. ما يدل على عناية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به عناية خاصة فهو يوليه من رعايته ويحدب عليه ويقرّبه من نفسه لما يتوسم فيه من الخير لمخائل فطنته وذكائه. وإليك شاهداً على ما حظي به من تكريمه له.
فقد روى ابن سعد في طبقاته بسنده عنه قال: «دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة بنت الحارث(2) فقالت:
____________
<=
ثمانين سنة، وقيل أكثر. وكانت في ولائها لأهل البيت عليهم السلام كأم سلمة، ولا أدل على ذلك من جوابها الجري بن سمرة ـ من أهل الكوفة ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: يروي عن عليّ روى عنه ابن اسحاق السبيعي - قال: لما كان من أهل البصرة الّذي كان بينهم وبين عليّ بن أبي طالب، انطلقت حتى أتيت المدينة، فأتيت ميمونة بنت الحارث ـ وهي من بني هلال ـ فسلّمت عليها، فقالت: ممّن الرجل؟ قلت من أهل العراق قالت: من أي أهل العراق؟ قلت من أهل الكوفة، قالت: من أي أهل الكوفة؟ قلت: من بني عمّار قالت: مرحباً، قـُرب على قـُرب، ورَحباً على رَحب، فمجيء ما جاء بك؟ قلت: كان بين عليّ وطلحة الّذي كان فأقبلت فبايعتُ عليّاً. قالت: فالحق به، فوالله ما ضَلّ، ولا ضُلّ به، حتى قالتها ثلاثاً. أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 24/9 ط الثانية وأخرجه عنه الهيثمي في مجمع الزوائد 9/135وقال: رجاله رجال الصحيح غير جرير بن سمرة وهو ثقة.
(1) طبقات ابن سعد 1ق 2/111، مسند أحمد 1/220 و 225، حلية الاولياء 1/314.
(2) رواه أحمد في مسنده 1/220 و 225، وأبو نعيم في الحلية 1/314، وغيرهما بتفاوت يسير في اللفظ.
ولو تدبرنا هذا الخبر، ونظرنا إلى ما تضمنه بعين البصيرة لا البصر، لرأينا مدى فضل ابن عباس على خالد بن الوليد، مع فارق السنّ بينهما، فابن عباس يومئذ ولا زال في سنّ الصبا، وخالد كان في سنّ الرجولة حتى قال ابن حجر في ترجمته: «وشهد خالد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية»(2).
أقول: لو نظرنا إلى الحبر المشار إليه مع ملاحظة فارق السنّ، لعرفنا كيف فاقت شجاعة ابن عباس الأدبية. وهو صبي. شجاعة خالد. وهو رجل شهد الحروب. فإنّ جوابه الدال على أعتزازه بشرفه مع قوة عارضته في حسن بيانه لشرف الغاية، وهي الحظوة بفضل السؤر النبوي الشريف، ما تضاءلت معها شجاعة خالد، وتصاغرت نفسه فسكتَ ولم يقل شيئاً يرد به عليه.
ومن اللافت للنظر أني قرأت عن ابن عباس (رضي الله عنه) مكرراً زياراته للرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيت أم المؤمنين ميمونة، ولم أقف على خبر آخر فيه دخول
____________
(1) طبقات ابن سعد 1ق 2/111.
(2) الاصابة 1/413.
بل كان ابن عباس ربّما بات عندها ليلاً، ممّا يدل على أنّه كان أكثر إلماماً، وأشد لصوقاً، والشواهد على ذلك كثيرة.
فمنها ما أخرجه الحفّاظ والمؤرخون بأسانيدهم عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: «كنت في بيت ميمونة بنت الحارث فوضعتُ للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضوءه، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَن وضع هذا؟ فقالت ميمونة: وضعه عبد الله، فقال: اللّهم علّمه التأويل وفقـّهه في الدين»(1).
ومنها ما أخرجوه أيضاً بأسانيدهم عنه (رضي الله عنه) قال: «بتّ في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلي في الليل فجئت فقمت عن يساره، فأقامني عن يمينه فصلّى»(2).
رؤيته الروح الأميـن:
ومنها ما ورد من رؤيته جبرئيل مرتين في بيت خالته ميمونة، فقد أخرج الحفاظ والمؤرخون عنه (رضي الله عنه) قال: «كنت مع أبي عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجل يناجيه، وكان كالمعرض عن أبي فخرجنا من عنده، فقال: ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ قلت له: يا أبه كان عنده رجل يناجيه قال: وكان عنده أحد؟ قلت: نعم.
____________
(1) أنظر المعرفة والتأريخ للفسوي 1/494، وطبقات ابن سعد 2ق2/119، ومستدرك الحاكم 3/534، والمعجم الكبير للطبراني في مواضع متعددة في أحاديث ابن عباس، وأنساب الأشراف للبلاذري (ترجمة ابن عباس).
(2) راجع المعرفة والتاريخ للفسوي 1/520، وطبقات ابن سعد 2ق2/120، والمعجم الكبير للطبراني في مواضع متعددة في أحاديث ابن عباس.
تلكم هي المرة الأولى، والمرة الثانية، بعثه أبوه العباس إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدخل عليه وعنده رجل فقام وراءه، فالتفت إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: «متى جئت يا حبيبي؟ قال: منذ ساعة، قال: هل رأيت عندي أحداً؛ قال: نعم رأيت رجلاً. قال: ذاك جبرئيل عليه الصلاة والسلام ولم يره خلق إلاّ عمي إلاّ أن يكون نبيّاً، ولكن أسأل الله أن يجعل ذلك في آخر عمرك، ثمّ قال: اللّهم علّمه التأويل وفقـّهه في الدين، وأجعله من أهل الأيمان»(2).
ونحن أزاء هذين الحديثين مهما تكن درجة تصديقنا بهما تفصيلاً، فلا شك بأنهما من جملة الشواهد على كثرة زياراته لبيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ولكن لنا تحفـّظ عليهما لما سيأتي.
رؤيته لجبرئيل:
مسألة رؤيته لجبرئيل (عليه السلام) لا يكاد يخلو مصدر من مصادر ترجمته من ذكرها فراجع مسند أحمد(3)، والمعجم الكبير للطبراني(4)، وتهذيب الآثار
____________
(1) راجع المعرفة والتاريخ للفسوي 2/521، وطبقات ابن سعد 2ق2/123، والمعجم الكبير للطبراني في مواضع متعددة في أحاديث ابن عباس منها 12/143 ط الثانية بالموصل، وانساب الأشراف للبلاذري في ترجمة ابن عباس.
(2) مستدرك الحاكم 3/536، وتلخيصه للذهبي بهامشه، وأنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس).
(3) مسند أحمد 1/2679.
(4) المعجم الكبير للطبراني /10584 و 10586و 12836.
ولمّا كان جبرئيل (عليه السلام) ينزل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحياناً بصورة دحية الكلبي فربّما كان الّذي رآه ابن عباس هو ذلك ولم يكن قد عرف يومئذ دحية أو رآه بغير صورته. ومهما تكن الصورة الّتي رآها فهي لا تخلو من دلالة مناقبية، ولكنه لا مانع من صحتها بعد أن قرأناها وفي مصادر كثيرة وقرأنا مثلها لغيره كما سيأتي لكن التصديق بأنّ هذه الرؤية كما قالوا كانت سبب عماه في آخر عمره فيما روى بعضهم(5)، وعزاه للطبراني في الأوسط بأسانيد ورجاله ثقات، فهذا سبب لا نكاد نؤمن بصحته لأنّه سبب ما أنزل الله به وحياً ولا جاء به من سلطان فأيّ علاقة طبيعية أو غير طبيعية - بين رؤيته المَلـَك وبين فقدانه البصر؟! فهل ثمة علاقة بين الرؤية وفقدان البصر؟ فلنقرأ ولو أستطراداً شيئاً عن ذلك.
هل رؤية الـمَــلـَـك تسبب العمى؟
لابدّ لنا قبل الإجابة على ذلك من الجواب على سؤال يفرض نفسه قبل ذلك وهو هل يمكن للناس - عدا الأنبياء رؤية الملائكة؟ ومن ثَمَّ إذا أمكن ذلك يأتي الجواب على السؤال المذكور هل الرؤية تسببُ العمى؟
أمّا الجواب على السؤال الأوّل فلا شك بأنّ الرؤية غير ممتنعة بل ممكنة بل وحاصلة الوقوع، وقد ورد في:
____________
(1) تهذيب الاثار 1/171 (مسند ابن عباس).
(2) مجمع الزوائد 9/15518و 15519.
(3) الاصابة 4/141 (ترجمة ابن عباس) تحقيق البجاوي.
(4) سير أعلام النبلاء 4/444 - 445 ط دار الفكر.
(5) اُنظر مجمع الزوائد للهيثمي 9/15520.
وكذلك في حديث ضيف إبراهيم المكرمين وقولهم لزوجته:{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}(2).
وأوضح من ذلك ما جاء في سورة هود حيث قال تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ِ * فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إليه نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إليه نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ِ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقوبَ ِ * قَالَتْ يَاوَيْلَتى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ِ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}(3).
فإمرأة إبراهيم - سارة - رأت الملائكة وضحكت وقالت لهم وقالوا لها، فرؤية الملائكة والحديث معهم أمر ممكن وواقع، كما أنّه ليس مختصاً بالأنبياء وأهل الأنبياء كما قد يتوهم. فإن الملائكة الّذين رأتهم سارة زوجة إبراهيم
____________
(1) مريم /17 - 19.
(2) الذاريات /30.
(3) هود /69 - 73.
2- وجاء في السنّة النبوية ما يدل على الإمكان ففي حديث حنظلة بن الربيع الكاتب الأسيدي انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال له: (يا حنظلة لو كنتم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق) وفي لفظ (لصافحتكم الملائكة بأكفها ولزارتكم في بيوتكم) وفي ثالث (لأظلتكم بأجنحتها)(2).
3- كما ورد في السيرة النبوية في قصة بدر. ونصرة الملائكة: وجاءت ريح لم يروا مثلها شدة، ثمّ ذهبت فجاءت ريح أخرى، فكانت الأولى جبريل (عليه السلام) في ألف من الملائكة مع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم والثانية ميكائيل (عليه السلام) في ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم والثالثة اسرافيل (عليه السلام) في ألف من الملائكة عن ميسرة النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم. وكان سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور والصوف في نواصي خيولهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لأصحابه انّ الملائكة قد سَوّمت فسومّوا فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم، وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق(3).
____________
(1) هود /78.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب التوبة باب 3، والترمذي في سننه برقم 2516 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة برقم 4239 والاحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9/ 240 ـ 241، والطيالسي في مسنده /191 و 337، والبغوي في شرح السنّة 1/167، وأحمد في مسنده 2/305 و 3/175 و 4/178 و 346، وصحّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/606 وغيرهم.
(3) أنظر طبقات ابن سعد 2 ق 1/9 السيرة النبوية.
1- حارثة بن النعمان رأى جبريل مرتين.
2- تميم بن سلمة.
3- محمّد بن مسلمة.
4- حمزة بن عبد المطلب فان كان هو الّذي طلب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يريه جبريل في صورته فأراه، فالذين ذكرناهم آنفاً رأوه من دون طلب(3).
وخلّ ما ورد في مزايدات المناقب كحديث رؤية عائشة قالت: «لقد رأيت جبريل واقفاً في حجرتي هذه على فرس ورسول الله يناجيه، فلمّا دخل قلت: يا رسول الله من هذا الّذي رأيتك تناجيه، قال: وهل رأيته؟ قلت: نعم، قال: فبمن شبّهته؟ قلت: بدحية الكلبي، قال: لقد رأيت خيراً كثيراً ذاك جبريل»(4)، ورواه أحمد في مسنده، وفيه قال: «وهو يقرئك السلام قالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، جزاه الله من زائر ودخيل، فنعم الصاحب ونعم الدخيل»(5).
____________
(1) سير أعلام النبلاء 4/147 ط دار الفكر.
(2) سير أعلام النبلاء 3/401 ط دار الفكر، ومختصر تاريخ دمشق 11/329.
(3) أنظر تنوير الحلك في امكان رؤية النبيّ والملك للسيوطي ضمن كتابه الحاوي 2/455 و 456 و 458.
(4) أنظر الطبقات لابن سعد 8/67 ـ 68.
(5) مسند أحمد بن حنبل 6 /74 ـ 75 /146.
1- أسيد بن حضير.
2- عبد الرحمن بن عوف.
3- أبو أسيد الساعدي.
4- أبو بردة نيّار.
فهؤلاء ممّن رأوا الملائكة في يوم بدر(1).
وأخيراً فقد روى السيوطي في كتابه: «أنّ أبا بكر كان يسمع مناجاة جبريل للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(2)، وزاد في مكان آخر: «أنّ جبريل سعطه سعطة فبريء من مرضه!!»(3).
وهناك أسماء آخرين ذكروا لهم الرؤية والسماع والتسليم والمصافحة وغير ذلك. فمن شاء المزيد فليرجع إلى كتاب السيوطي المذكور.
وإلى هنا نكتفي في الجواب على السؤال الأوّل وهو: هل يمكن للناس رؤية الملائكة؟ فكان الجواب: نعم يمكن ذلك وقد جاوز مرحلة الإمكان إلى الوقوع لكثرة الشواهد على ذلك.
بقي علينا أن نبحث الجواب عن السؤال الثاني: هل رؤية الملك - أو خصوص رؤية جبرئيل (عليه السلام) - تسبب العمى؟
ومن خلال ما مرّ بنا وقرأنا أسماء بعض من رأى الملائكة ومن رأى جبرئيل (عليه السلام) خاصة، فوجدناهم لم يصابوا بالعمى، إذن فنفس الرؤية لا تسبّب
____________
(1) أُنظر تنوير الحلك للسيوطي في كتابه الحاوي في الفتاوي 2/457 ـ 458.
(2) نفس المصدر 2/456.
(3) نفس المصدر 2/460.
وأمّا الحديث عن عماه فسيأتي في مكانه عند البحث عن تاريخه في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
عودة إلى الشواهد
ومن جملة نمط ما مرّ من الشواهد الدالة على عناية الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بابن عمه ما رواه السيد ابن طاووس عن عبد الله بن عباس أنّه قال: «يا رسول الله طوبى لمن رأى ليلة القدر فقال له: يابن عباس ألا أعلمك صلاة إذا صليتها رأيت بها ليلة القدر كلّ ليلة عشرين مرة وأفضل؟ فقال: علّمني صلّى الله عليك. فقال له: تصلي أربع ركعات في تسليمة واحدة ويكون من بعد العشاء الأوّل وتكون قبل الوتر، في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون ثلاث مرات وقل هو الله أحد ثلاث مرات، وفي الثانية فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون ثلاث مرات وقل هو الله أحد ثلاث مرات، وفي الثالثة والرابعة مثل ذلك فاذا سلّمت تقول ثلاث عشرة مرة أستغفر الله، فوحق من بعثني بالحقّ نبيّاً أنّه من صلّى هذه الصلاة وسبّح في آخرها ثلاث عشرة مرة وأستغفر الله فإنّه يرى ليلة القدر كلّما يصلي هذه الصلاة، ويوم القيامة يشفع في سبعمائة ألف من أمتي وغفر الله له ولوالديه إن شاء الله تعالى»(1).
وأحسب أنّه صلّى ما علّمه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرأى انها ليلة ثلاث وعشرين فقد روى البلاذري في ترجمته من الأنساب بسنده عنه قال: «أتيت في منامي فقيل لي هذه ليلة القدر فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب فسطاط رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنظرت فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين»(2).
____________
(1) الإقبال /65 ط الثانية نشر دار الكتب الإسلامية سنة 1390هـ.
(2) أنساب الأشراف برقم /75 نسخة مخطوطة بقلمي.
وفي حديث عند الطبراني بسنده عن ابن عباس قال: «بعثني العباس إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأتيته ممسياً وهو في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلي من الليل، فلمّا صلّى الركعتين قبل الفجر قال: (اللّهم إنّي أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلمّ بها شعثي، وتردّ بها إلفتي، وتصلح بها ديني، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكّي بها عملي، وتبيّض
____________
(1) المسوح: جمع مسح الثوب من شعر.
(2) البقرة /164، آل عمران /190.
(3) مستدرك الحاكم 3/535 وتلخيصه للذهبي بهامشه، والمعجم الكبير للطبراني 10/275.
اللّهم إنّي أسألك الفوز عند القضاء، ونُزُل الشهداء، وعيش السعداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.
اللّهم أنزلت بك حاجتي، وإن قصر رأيي، وضعف عملي، وافتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور، كما تجير بين البحور، أن تجيرني من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور، ومن فتنة القبور، اللّهم ما قصرَ عنه رأيي، وضعف عنه عملي، ولم تبلغه أمنيتي، من خير وعدته أحداً من عبادك، أو خير أنت معطيه أحداً من خلقك، فإنّي أرغب اليك فيه، وأسألك يا ربّ العالمين، اللّهم أجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلّين، حرباً لأعدائك، وسلماً لأوليائك، نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك.
اللّهم هذا الدعاء وعليك الاستجابة، اللّهم وهذا الجهد وعليك التكلان، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. اللّهم ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقرّبين الشهود، والركّع السجود، والموفين بالعهود، إّنك رحيم ودود، وإنّك تفعل ما تريد.
سبحان الّذي تعطّف العزّ وقال به، سبحان الّذي لا ينبغي الحمد إلاّ له، سبحان ذي العرش والبهاء، سبحان ذي المقدرة والكرم، سبحان الّذي أحصى كلّ شيء بعلمه.
اللّهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبري، ونوراً في سمعي، ونوراً في بصري، ونوراً في شعري، ونوراً في بشري، ونوراً في لحمي، ونوراً في دمي،
إلى غير ذلك من الشواهد الّتي تميّز فيها الحبر ابن عباس على جميع اخوانه وجميع أبناء خالاته وهم أبناء أخوات أم المؤمنين ميمونة بما فيهم خالد بن الوليد. فقد حظي بالعطف النبوي، وحصل على ما لم يحصل عليه أولئك على كثرتهم، فظهرت آثار ذلك في تكوين شخصيته الّتي فضلت جميع اخوانه وأبناء خالاته، مضافاً إلى استعداده في نبوغه وألمعيته منذ نعومة أظفاره، فهو يحفظ المحكم وهو ابن عشر سنين، بينما كان ابن خالته خالد بن الوليد لم يتعلم من القرآن كثيراً باعترافه(2)، بل نقل عنه ابن أبي شيبة في مصنفه: «أنّه أم مرة الناس بالحرّة فقرأ من سور شتى ثمّ ألتفت إليهم حين أنصرف فقال: شغلني الجهاد عن تعلّم القرآن»(3). وأحسب أنّ ما رواه أبن أبي شيبة هو الّذي رواه ابن حجر في الأصابة إلاّ أنّ ابن حجر اختصر، حفاظاً على مكانة خالد.
شواهد الألمعية:
لقد مرّت بنا شواهد ومشاهد وفيها ما يدلّ على ألمعيته - ما دام معنى الألمعية هو الذكاء المتوقد كما يقول أهل اللغة - فكان يحدث بما رآه وما سمعه مع حفظ خصوصيات ذلك زماناً ومكاناً، كما دلت على مدى أختصاص حبر الأمة بالرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى خصّه بوصايا أخلاقية ذكرنا بعضها، ولكنا
____________
(1) المعجم الكبير 10/283 ط الموصل، ورواه الترمذي برقم /3479، والبيهقي في الدعوات الكبير /69، وقارن تهذيب ابن عساكر 5/207.
(2) الاصابة 1/414 ترجمة خالد بن الوليد.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 2/532 و10/552.