الصفحة 266
وإلى القارئ استعراض رواياتهم:

أمّا رواية يحيى بن آدم - أوّل القائمة - فهي تتفق مع رواية أحمد بن حماد الدولابي - الخامس عشر من القائمة - كما أخرجها الطبري، وإليك لفظه: «حدّثنا أبو كريب قال حدّثنا يحيى بن آدم... قال - ابن عباس -: يوم الخميس» قال الطبري - ثمّ ذكر نحو حديث أحمد بن حماد الدولابي، والحديث المشار إليه كان قد ذكره قبل هذا ولفظه -: «قال- ابن عباس - يوم الخميس وما يوم الخميس؟! قال: أشتد برسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه فقال: (إيتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً)، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ أن يتنازع، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر أستفهموه؟ فذهبوا يعيدون عليه، فقال: (دعوني فما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه)، وأوصى بثلاث قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمداً)، أو قال فنسيتها. قال الطبري: في رواية يحيى بن آدم غير أنّه قال: ولا ينبغي عند نبيّ أن يُنازع... اهـ»(1).

فهذه رواية الطبري كفتنا مؤنة البحث عن مقارنة حديثين لراويين عن سفيان وهما يحيى بن آدم وأحمد بن حماد، وهما أوّل القائمة وآخرها.

وأمّا رواية عبد الرزاق - الثاني من القائمة - فقد أخرجها في كتابه المصنف عن ابن عيينة بلا واسطة بينهما وهو لا يختلف في حديثه كثيراً عما أخرجه البخاري عن شيخه قبيصة، إلاّ فيما جاء في آخره قال: «فأمّا أن يكون

____________

(1) تاريخ الطبري 3/193 ط الحسينية بمصر.


الصفحة 267
سعيد سكت عن الثالثة عمداً، وأمّا أن يكون قالها فنسيها»(1). وهذا مرّ علينا نحوه في حديث البخاري عن شيخه محمّد بن سلام.

وأمّا رواية قبيصة - وهو الثالث من القائمة - فقد رواها عنه البخاري في كتاب الجهاد والسير، في باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم(2).

قال: حدّثنا قبيصة حدّثنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنّه قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثمّ بكى حتى خضب دمعهُ الحصباء فقال: أشتد برسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه يوم الخميس فقال: (أئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع، فقالوا: هجر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: (دعوني فالّذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة»(3).

ثمّ حكى البخاري تحديد جزيرة العرب، وليس ذلك جزءاً من الحديث!

واعلم بأنّ البخاري لم تقتصر روايته لحديث سفيان على شيخه قبيصة عن سفيان، بل رواه أيضاً عن شيخه الآخر محمّد بن سلام - وهو السادس في القائمة- في كتاب الجزية في باب اخراج اليهود من جزيرة العرب، ولدى المقارنة بين الروايتين نجد تفاوتاً في اللفظ وزيادة في رواية محمّد بن سلام لم ترد في رواية قبيصة.

____________

(1) المصنف 6/57 و 10/361 ط المكتب الإسلامي.

(2) عنوان الباب لا يدل عليه حديث الباب الّذي لم يذكر البخاري فيه غيره، وقد أربك شرآح صحيحه في توجيه ذلك وأكثرهم جهداً ابن حجر في فتح الباري 6/510 ط البابي الحلبي، فراجع.

(3) صحيح البخاري 4/69 ط بولاق.


الصفحة 268
وإليك اللفظ برواية محمّد بن سلام قال - بعد ذكر السند إلى سعيد بن جبير-: «سمع ابن عباس (رضي الله عنهما) يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثمّ بكى حتى بلّ دمعه الحصى، قلت: يا ابن عباس ما يوم الخميس؟ قال: أشتد برسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه فقال: (ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع، فقالوا: ما له أهَجَر، أستفهموه، فقال: (ذروني فالّذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)، فأمرهم بثلاث: قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة خير، إمّا أن سكت عنها، وأمّا أن قالها فنسيتها»(1).

قال سفيان: هذا من قول سليمان.

وثمة رواية ثالثة للبخاري لحديث سفيان عن شيخه قتيبة - وهو الحادي عشر في القائمة - ذكرها في كتاب المغازي في باب مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووفاته، وهي تتفاوت مع ما مرّ من روايتي قبيصة ومحمّد بن سلام تفاوتاً جزئياً، وفيها: «فقالوا: ما شأنه أهجر أستفهموه فذهبوا يردون عليه»(2).

أقول: ومع ذلك فيبقى العجب من البخاري، إذ هو يروي الحديث عن سفيان برواية ثلاثة من شيوخه وهم سمعوه من شيخهم سفيان، ومع ذلك لم تتفق رواياتهم على نحو الدقة، بل أنّ في بعضها زيادة على الأخرى كما مرّ في رواية محمّد بن سلام فراجع.

وفوق ذلك أنّ البخاري لم يعقـّب على الإختلاف بشيء ممّا يوهم أنّ ذلك من الرواة، مع انّ المتتبع لأحاديث صحيح البخاري يجد كثيراً من نحو هذا،

____________

(1) نفس المصدر 4/99.

(2) نفس المصدر 6/9.


الصفحة 269
فمثلاً يحسن بالباحث مراجعة فتح الباري في شرح أوّل حديث للبخاري ليقف على بلبلة العلماء في أوّل حديث في صحيح البخاري وهو (إنّما الأعمال بالنيات) وما فيه من خرم حتى قال ابن العربي: «لا عذر للبخاري في إسقاطه، لأنّ الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام... وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك»(1).

وقال ابن حجر: «ولا يوجد فيه - في الصحيح - حديث واحد مذكور بتمامه سنداً ومتناً في موضعين أو أكثر إلاّ نادراً»، فقد عنى بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعاً. وقال: «فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعداً»(2).

فبعد شهادة هؤلاء لا يسعنا إدانة وسائط النقل بين البخاري وبين ابن عيينة، بل التبعة يتحملها البخاري إذ لم يؤد ما حُمّل من الحديث كما هو.

ثمّ أعلم أنّ الحديث برواية قتيبة رواه عنه أيضاً مسلم في صحيحه في كتاب الوصية في باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه فقال: «عن سعيد بن منصور وقتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ثمّ قال: واللفظ لسعيد. وفي قوله هذا إيماء إلى أنّ في رواياتهم اختلاف فاختار رواية سعيد، وما ذكره يتفق مع ما مرّ عند البخاري عن محمّد بن سلام، ثمّ رواه عن أبي إسحاق إبراهيم عن الحسن بن بشر عن ابن عيينة»(3).

____________

(1) فتح الباري 1/17- 18.

(2) نفس المصدر 1/91.

(3) صحيح مسلم 5/75 ط صبيح بمصر.


الصفحة 270
وأمّا رواية عبد الله بن الزبير الحَميدي - الرابع من القائمة - فقد أخرجها في مسنده(1) عن ابن عيينة بلا واسطة، ولفظه مقارب لما مرّ عن عبد الرزاق.

وأمّا رواية الحسن بن بشر - الخامس في القائمة - فقد أخرجها مسلم في صحيحه(2)، وهي نحو ما مرّ من رواية قتيبة. وكذلك رواية محمّد بن سلام وهو السادس في القائمة.

وأمّا رواية سعيد بن منصور - السابع من القائمة - فقد أخرجها في سننه، وقد مرّ عن مسلم روايته عنه في صحيحه، كما أخرجها عنه عبد السلام بن محمّد الخوارزمي في سير الصحابة عن أبي إسحاق عنه(3)، وأخرجها عنه أيضاً أبو داود في سننه مع شرحه عون المعبود في كتاب الخراج والفيء والإمارة في باب اخراج اليهود من جزيرة العرب. إلاّ أنّه طوى أوّل الحديث جملة وتفصيلاً فقال: «حدّثنا سعيد بن منصور نا سفيان بن عينية عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى بثلاثة فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها».

(وقال الحميدي عن سفيان قال سليمان: لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها) »(4).

____________

(1) مسند الحميدي 1/241 ط بيروت.

(2) صحيح مسلم 5/75 ط محمّد عليّ صبيح وط شرح النووي أيضاً (وهي ممّا سقط من ط بولاق).

(3) أُنظر غاية المرام /598 ط حجرية.

(4) سنن أبي داود 3/128 ط الهند.


الصفحة 271
أقول: ما علّمت عليه بين قوسين وضع عليه رمز نسخة، يعني لم يرد في جميع نسخ سنن أبي داود.

ونعود إلى ما رواه أبو داود عن سعيد بن منصور، لماذا قطع من الحديث رأسه فلم يذكر أوّله، بل لم يذكر منه إلاّ الوصية مع انّ حديث سعيد بن منصور أخرجه مسلم في صحيحه والخوارزمي في سير الصحابة ولفظهما متقارب، وقد مرّ برواية مسلم في هذه الصورة عند ذكر قتيبة شيخ البخاري، فراجع وقارن لتعرف مدى أمانة أبي داود ولعله هو الآخر يفتري على سعيد بن منصور بأنّه لم يذكر أوّل الحديث، أو ذكره فنسيه هو الآخر، كما في الوصية الثالثة - وسيأتي مزيد بيان عنها - فقال عنها سليمان: لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها. لكن أبا داود أفترى على ابن عباس فنسب إليه أنّه قال: «وسكت عن الثالثة، أو قال: فأنسيتها».

وأمّا رواية محمّد بن سعد - الثامن في القائمة - فقد أخرجها في كتابه، ولفظه كما مرّ إلاّ في قوله: (أئتوني بدواة وصحيفة)، وفي آخر الحديث: «أو سكت عنها عمداً»(1).

وأمّا رواية عليّ المديني - العاشر في القائمة - فقد أخرجها البيهقي(2) عن عليّ بن أحمد بن عبدان عن أحمد بن عبيد الصفار عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه عن سفيان، وفي روايته زيادة لم يشاركه فيها أحد ممّن روى عن سفيان سنأتي على ذكرها عند نقل ما قاله البيهقي ضمن علماء التبرير.

____________

(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/36 ط ليدن عن سفيان بلا واسطة.

(2) دلائل النبوة 7/181.


الصفحة 272
وأمّا رواية أحمد بن حنبل - الثاني عشر في القائمة - فقد أخرجها في مسنده(1) عن ابن عيينة بلا واسطة ويبدو أنّه سمع الحديث من سفيان بن عيينة أكثر من مرة لقوله: «قال مرة كذا». فحدث تفاوت لفظي لتكرر سماعه، وهذا يسوّغ لنا تحميل سفيان عبء الاختلاف إلاّ فيما لا يسع تحميله، نحو صنيع أبي داود الّذي أشرنا إليه.

وأمّا رواية أبي بكر بن أبي شيبة - وهو الثالث عشر في القائمة - فقد أخرجها عنها مسلم(2) نحو روايته عن سعيد بن منصور.

وأمّا رواية الحسن بن محمّد بن الصباح الزعفراني - الرابع عشر من القائمة- فقد أخرجها البيهقي في سننه وهذا لفظه: «حدّثنا أبو محمّد عبد الله بن يوسف الأصبهاني املاء، انبأ أبو سعيد أحمد بن محمّد بن زياد البصري بمكة ثنا الحسن بن محمّد الزعفراني ثنا سفيان بن عيينة... سمعت ابن عباس (رضي الله عنهما) يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثمّ بكى، ثمّ قال: أشتد وجع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: (أئتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع، فقال: (ذروني فالّذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)، وأمرهم بثلاث: فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة نسيتها»(3) ثمّ قال البيهقي عقب ذلك: رواه البخاري في الصحيح عن قتيبة وغيره عن سفيان، ورواه مسلم عن سعيد بن منصور وقتيبة وغيرهما عن سفيان.

____________

(1) مسند أحمد 1/222.

(2) صحيح مسلم 5/75.

(3) السنن الكبرى 9/207.


الصفحة 273
وأمّا رواية أحمد بن حماد الدولابي - الخامس عشر في القائمة - فقد أخرجها الطبري في تاريخه(1) وقد مرّت الإشارة إليها في رواية يحيى بن آدم - أوّل القائمة -.

أقول: وعلى القارئ أن يقارن بين ما رواه وبين روايات من أشار إليهم البيهقي وقد مرّت ليرى مدى التفاوت من حذف وتغيير، وأربأ بنفسي معه عن سوء التعبير والتقدير.

والآن ونحن قد طالت مسيرتنا مع الصورة التاسعة الّتي رواها خمسة عشر من أعلام الحفاظ وأئمّة الحديث كلّهم عن سفيان بن عيينة، فقد رأينا الاختلاف بين رواياتهم، ممّا يجعلنا نشك في دقة سلامتها اللفظية وإذا تجوزّنا لهم الحمل على الصحة فنقول: إنّهم تجوزوا النقل بالمعنى، ولكن ليس هذا بجائز دائماً، خصوصاً ما دام يغيّر من بُنية الحديث المعنوية.

ومهما كان الاعتذار عنهم، فكيف الأعتذار عن حديث راو شارك سفيان ابن عيينة في سماعه الحديث من سليمان الأحول، وهو شبل بن عباد، فقد روى هذا الشبل عن الأحول الحديث، وأخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن عبدان عن هارون عن أبيه زيد بن أبي الزرقاء عن شبل عن سليمان الأحول عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، يوم أشتد فيه وجع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكر الحديث»، هكذا ذكره الطبراني(2).

أقول: وإذ لم يسبق من الطبراني أن ذكر قبله حديثاً مشابهاً، فكيف جاز له أن يقول: وذكر الحديث، أي حديث يشير إليه كما تقتضيه الدلالة العهدية. فمن ذا يا ترى هو الّذي بتر الحديث وأبلس من ذكره.

____________

(1) تاريخ الطبري 3/193.

(2) المعجم الكبير 12/56 ط الثانية.


الصفحة 274
هل هو شبل؟ أم هم بقية الرواة؟ أم هو الطبراني؟ وهو الأقرب لما سيأتي عنه من شاهد آخر يدل على ذلك.

ثمّ أخيراً ما بال محقق معجم الطبراني مرّ على الحديث عابراً، فلم يعلّق عليه بشيء، لا تحقيقاً ولا تخريجاً كما هي عادته في سائر أحاديث الكتاب؟

الصورة العاشرة:

ما رواه مالك بن مغول عن طلحة بن مصرّف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد أخرج حديثه ابن سعد في الطبقات بسنده عن حجاج بن نصير عن مالك بن مغول إلى آخر السند عن ابن عباس قال: «كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ قال - سعيد - وكأنّي أنظر إلى دموع ابن عباس على خده كأنّها نظام اللؤلؤ، قال قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) قال: فقالوا: إنّما يهجر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(1).

وأخرج هذه الصورة أيضاً أحمد في مسنده(2) عن وكيع عن مالك بن مغول بتفاوت يسير.

وأخرجها الطبري في تاريخه(3) عن أبي كريب وصالح بن سمال عن وكيع عن مالك بن مغول بتفاوت يسير.

وأخرجها مسلم في صحيحه(4) عن اسحاق بن إبراهيم عن وكيع عن مالك ابن مغول بتفاوت يسير.

____________

(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/37 ط ليدن.

(2) مسند أحمد 1/355.

(3) تاريخ الطبري 3/193 ط الحسينية.

(4) صحيح مسلم 5/75.


الصفحة 275
وأخرجها أبو بكر الخلاّل في كتاب السنّة(1).

وأخرجها أبو نعيم في حلية الأولياء عن الطبراني عن أحمد بن عليّ البربهاري(2) عن محمّد بن سابق عن مالك بن مغول إلى آخر السند عن ابن عباس ولفظه: قال: «قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه الّذي توفي فيه: (إيتوني بكتف ودواة لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً). صحيح ثابت من حديث ابن عباس... ا هـ»(3).

فانظر إلى ما رواه أبو نعيم بسنده عن مالك بن مغول وقارن ما مرّ من حديثه في المصادر السابقة لنرى كم هو الحذف الّذي طرأ على الحديث، أليس هو جملة: «فقالوا: إنّما يهجر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) » كما في طبقات ابن سعد، أو «رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يهجر» كما في مسند أحمد، أو «إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يهجر» كما في صحيح مسلم وتاريخ الطبري.

وكان هذا هو المقصود من قولنا بتفاوت في مرويات أولئك الثلاثة: أحمد ومسلم والطبري فهل لنا الآن أن نسأل أبا نعيم عن قوله في تعقيبه: صحيح ثابت من حديث ابن عباس.

فإذا كان صحيحاً ثابتاً فلماذا لم يذكره بتمامه؟ وإذا لم يكن صحيحاً وثابتاً لديه فلماذا ذكره في كتابه؟

ولعل الرجل إنّما جاءته الآفة من شيخه سليمان بن أحمد - وهو الطبراني- الّذي سبق أن عرفنا فيه تلك الآفة كما مرّت الاشارة في نهاية الصورة التاسعة،

____________

(1) كتاب السنّة 1/271 ط دار الراية الرياض سنة 1410 هـ.

(2) كذا في المطبوع من الحلية 5/25، ولكن ورد في المعجم الصغير للطبراني 1/33: (البربهار) ولعله الصواب.

(3) حلية الأولياْء 3/193.


الصفحة 276
فرواه أبو نعيم عن شيخه الطبراني كما سمعه مبتوراً. ولعل في تعقيبه أشارة تنبيه إلى ما في رواية شيخه من خلل.

ثمّ إنّ هذا الحديث أخرجه النويري في نهاية الأرب(1) بلفظ ابن سعد فراجع. كما رواه البلاذري في جمل أنساب الأشراف، قال: «حدّثني أحمد بن إبراهيم ثنا أبو عاصم النبيل ثنا مالك بن مغول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال يوم الخميس وما يوم الخميس؟ أشتد فيه وجع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبكى ابن عباس طويلاً ثمّ قال: فلمّا أشتد وجعه قال: (أئتوني بالدواة والكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلون معه بعدي أبداً)، فقالوا: أتراه يهجر وتكلموا ولغطوا، فغمّ ذلك رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأضجره وقال: (اليكم عني ولم يكتب شيئاً) »(2).

الصورة الحادية عشرة:

ما رواه الأعمش عن عبيد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد أخرجها ابن سعد في طبقاته بسنده عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن الأعمش إلى آخر السند عن ابن عباس قال: «اشتكى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الخميس، فجعل - ابن عباس - يبكي ويقول يوم الخميس وما يوم الخميس أشتد بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه فقال: (أئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، قال فقال بعض من كان عنده: أنّ نبيّ الله ليهجر، قال: فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: (أو بعد ماذا)، قال: فلم يدع به»(3).

____________

(1) نهاية الأرب 18/374.

(2) أنساب الأشراف 2/236.

(3) طبقات ابن سعد 2 ق 2/36.


الصفحة 277
إلى هنا تنتهي صور الحديث الّتي تنتهي أسانيدها إلى سعيد بن جبير، وهي خمس صور، وقد رأينا بينها من التفاوت ما رأينا. فهل يعقل أن يكون سعيد بن جبير هو مصدر ذلك كلّه؟ بعد ما قد مرّ بنا من تعمّد التعتيم من أمثال الطبراني والبخاري وغيرهما.

الصورة الثانية عشرة:

ما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس.

وقد روى الحديث عن الزهري ثلاثة وهم: يونس، وأسامة ومعمر.

1- أمّا رواية يونس فقد رواها عنه جرير وعنه أبنه وهب، وعنه أحمد بن حنبل وحديثه في المسند وهذا لفظه بعد ذكر سنده عن ابن عباس قال: «لمّا حضرت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوفاة قال: (هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده)، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله قال: فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول يكتب لكم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو قال: قرّبوا يكتب لكم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغط والأختلاف وغـُمّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (قوموا عني)، فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من أختلافهم ولغطهم...ا هـ»(1).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن يونس إلى آخر السند ولفظه قال: «لمّا أشتد بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعه قال: (أئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده)، قال عمر: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غلبه الوجع

____________

(1) مسند أحمد 1/324 ط مصر الاُولى.


الصفحة 278
وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط قال: (قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع)، فخرج ابن عباس يقول: أنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين كتابه... ا هـ»(1).

فقارن بين ما أخرجه أحمد في مسنده من رواية يونس، وبين ما أخرجه البخاري في صحيحه من رواية يونس أيضاً لتدرك التفاوت بين الروايتين في الكتابين.

2- وأمّا رواية أسامة - بن زيد الليثي - عن الزهري فقد رواها الواقدي عنه، وأخرجها عنه ابن سعد في الطبقات قال: «لمّا حضرت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده)، فقال عمر: أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلمّا كثر اللغط والاختلاف، وغموا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: (قوموا عني) »(2).

فقال عبيد الله بن عبد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

3- وأمّا رواية معمر عن الزهري فقد رواها عنه عبد الرزاق في كتابه المصنف(3)، بنحو ما مرّ من حديث يونس برواية أحمد، وحديث أسامة برواية ابن سعد، إلاّ أنّ المطبوع من كتاب المصنف وردت جملة: (هل أكتب لكم

____________

(1) صحيح البخاري 1/34.

(2) طبقات ابن سعد 2 ق 2/37.

(3) المصنف 5/438.


الصفحة 279
كتاباً)، بينما مرّت في روايتي يونس وأسامة: (هلمّ أكتب لكم كتاباً)، فهذا التفاوت سواء كان من غلط النسخة أو من الرواة، فهو غير مغتفر، لأنّه مغيّر للمعنى كثيراً، فبعد أن كانت جملة (هلمّ) من أدوات النداء والدعوة وتحمل على الأمر، تغيّرت إلى (هل) وهي أداة استفهام، وعليها لا ضير ولا وزر على من امتنع وأبى من الصحابة لأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استفهم منهم، فأبى بعضهم حسب رأيه فلا مؤاخذة عليه إذن.

والّذي يلفت النظر أنّ رواية عبد الرزاق هذه رواها عنه أحمد في مسنده(1) من دون حرف الاستفهام (هل) فصارت تقرأ (أكتب لكم كتاباً) وهي تقرأ إمّا على نحو الجملة الخبرية وليس لها معنى في المقام، فلابدّ إذن تقرأ على نحو الاستفهام وهذا هو المطلوب لستر العيوب.

وثمة آخرون غير أحمد رووا ذلك عن عبد الرزاق كالبخاري ومسلم وابن حبّان في صحيحه(2) وابن أبي الحديد وابن كثير، وربّما غيرهم.

وأخيراً فقد حذف في المصنّف قول ابن عباس: «وغـُمّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) » كما مرّ في حديث يونس فراجع.

وهذه الرواية عن طريق عبد الرزاق عن معمر رواها كلّ من البخاري وابن حبّان ومسلم في صحاحهم وأحمد في مسنده وابن أبي الحديد في شرح النهج وابن كثير وربّما غيرهم، ولدى المقارنة بين المصادر المشار إليها نجد التفاوت كبيراً في اللفظ والمعنى، وأكثرها تعتيماً على الحقائق ما كان من البخاري الّذي روى ذلك(3) بسنده عن عليّ بن عبد الله عن عبد الرزاق فحذف اسم عمر من

____________

(1) مسند أحمد 1/336.

(2) صحيح ابن حبّان 14/562.

(3) اُنظر صحيح البخاري 6/9.


الصفحة 280
المواضع الثلاثة الّتي ورد ذكره فيها، ففي الموضع الأوّل قال: «وفي البيت رجال» من دون (فيهم عمر بن الخطاب)، وفي الموضع الثاني: «فقال بعضهم قد غلبه الوجع» بدل «فقال عمر إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد غلبه الوجع»، وفي الموضع الثالث: «ومنهم من يقول غير ذلك» بدل «ومنهم يقول ما قال عمر».

ثمّ إنّه روى الحديث ثانياً بطريقين: أحدهما عن إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر(1)، وثانيهما عن عبد الله بن محمّد عن عبد الرزاق عن معمر، وفي هذا المقام لم يحذف اسم عمر، لكنه لم يسلم من الاختلاف في النقل بل فيه تفاوت في اللفظ كثير.

وقد روى ابن كثير في تاريخه(2) هذا الحديث فاختار رواية البخاري الّتي حذف منها اسم عمر في المواضع الثلاثة فذكرها، وأشار عابراً إلى بقية روايات البخاري، ولعله إنّما اختار ذلك تعتيماً على اسم عمر، بينما ورد في الباقيات، ولنا في الباقيات الصالحات خير عملاً وأبقى.

أمّا رواية مسلم في صحيحه(3): فقد رواها عن عبد بن حميد ومحمّد بن رافع عن عبد الرزاق، فهي أقرب إلى ما مرّ عن عبد الرزاق.

وأمّا رواية ابن كثير وابن أبي الحديد فقد أعتمدا رواية الشيخين البخاري ومسلم، وقد مرّت الإشارة إلى اختيار ابن كثير قريباً، ورواية ابن أبي الحديد(4) فراجع.

____________

(1) نفس المصدر 7/120، وكذا في 9/111.

(2) البداية والنهاية 5/227.

(3) صحيح مسلم 5/76 ط صبيح.

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 6/51 ط محققة.


الصفحة 281
هذه بعض نقاط التفاوت بين الروايات في المصادر الأصلية والفرعية، فمن أين جاء الاختلاف؟ نعم إنّه الستر على رموز الخلاف. ومن راجع شروح الصحيحين يجد الغرائب والعجائب في التحوير والتطوير وفي بعضها التزوير، ممّا لا يترك مجالاً للتشكيك في أنّ كلّ شرح من شروح الصحيح - أيّ صحيح كان - فيه ثعلبة يصيح: لكلّ منّا وجهة هو مولّيها، وعلى أساس الشيوخ يعلّيها. فلنتركهم الآن وتركاضهم، ولا تسلني إجهاضهم.

الصورة الثالثة عشرة:

وهي ما رواه الحسن بن أبي الحسن البصري عن ابن عباس وقد مرّ ذكرها - راجع الصورة الثانية - حيث رواها الحسن البصري عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «سمعت عليّ بن أبي طالب ثمّ سمعته بعينه من عبد الله بن عباس بالبصرة، وهو عامل عليها، فكأنّما ينطقان بفم واحد، وكأنما يقرآنه من نسخة واحدة. والّذي عقلته قول ابن عباس، والمعنى واحد غير أنّ حديث ابن عباس أحفظه»، قال: ثمّ ذكر الحديث كما مرّ.

الصورة الرابعة عشرة:

وهي ما رواه طاووس عن ابن عباس، ورواها عنه ليث، وعن ليث ثلاثة وهم: شيبان وأبو حمزة وهلال بن مقلاص، ولكلّ منه رواية هي صورة بحد ذاتها. وإليك ما رواه شيبان:

أخرج حديثه أحمد في مسنده عن حسن عن شيبان عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال: «لمّا حُضِـر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (أئتوني بكتف أكتب لكم فيه