القرن العاشر:
1- جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ في الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج(1).
2- شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني المتوفى سنة 923هـ في ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري(2).
إلى غير هؤلاء.
لماذا الإطالة مع الإسناد؟
لم تكن إطالة البحث عن الإسناد مجرّد صيغة أدبية، وترف ولهو يرتاح إليها الباحث في ثبوت الحدَث، بل هي كصمّام أمان يقي الباحث من إصر المسؤولية عن الأمانة الّتي يحملها، فهو حين يذكر الإسناد برواته ومصادره يلقي - معذوراً - بثقل المسؤولية على الرواة. وهو بقدر ما يبذله من تحقيق في التماس حقيقة الواقع يدفع عنه ذلك الإصر.
لذلك كلّما قرب العهد بالحَدَث كان العناء أقل، وكانت التبعة أخفّ لقصر الإسناد أوّلاً، وعدم أو قلة تدخّل الشيَع والأهواء في رجاله ثانياً. وتعدد الإسناد كما يكون مدعاة لقوّة الإعتماد حيناً ما. كذلك يكون أيضاً مدعاة لزيادة العناء أحياناً كثيرة. لكنه يبقى تعدد الإسناد في الروايات، وتنوع مصادرها مادة غنيّة للباحث يستجلي من خلاله واقع الحَدَث باطمئنان، بشرط أن يكون موضوعياً ودقيقاً في الملاحظة، خصوصاً في مذاهب الرواة وميولهم، ليميز الغثّ من
____________
(1) طبع أخيراً في دار ابن عفان، الخُبَر، السعودية سنة 1416هـ.
(2) وهو كتاب مطبوع متداول.
والآن هلمّ بنا لننظر إلى حديث الرزية كلّ الرزية، هل يستحق منا أن نقف عنده هكذا طويلاً، ونقرأه ملياً، ونستجلي فيه ما تضمّه الكلمات، دون أسراف في التفسير، أو تحميل اللفظ ما لا يعنيه في التعبير؟ أو نمرّ عليه كحَدَث عابر، حدث في الغابر، ورواه لنا الرواة، وفيه أسراف وفيه مغالاة؟
لا أظن إنساناً واعياً لديه مسكة من دين، وأثارة من علم يرضى بأن تمرّ روايات هذا الحديث كما تمر روايات العابثين، في أقاصيص الأغاني وحكايات ألف ليلة وليلة، وحتى تلكم فقد أوليت من العناية قدر ما تستحق.
وقفة عند الحديث:
لابدّ لنا من وقفة عند ذلك الحَدَث والحديث، لأنّه كان بداية تحوّل في تاريخ المسلمين، أسهم صنّاعه في زرع الفتنة والشقاق، فكان بمثابة رأس الحربة في إعلان تمرّد من بعض المسلمين على الإسلام ونبيّه. ولا زالت الأمة تعاني من آثار ذلك التمرد، وتكتوي بناره، وحتى في تمحيص أخباره.
فبدلاً من أن تكون سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي المثلى يهتدي بها المسلمون، ولهم في سنّته قولاً وعملاً وتقريراً خير معين لكن بعضهم وللأسف تغلبّت عليهم رواسب جُبلوا عليها، ولم يقووا على التخلي عنها، حتى كانوا يقولون
فبدلاً من {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(1). فإذا هم يردّون عليه بوقاحة {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}(2).
والآن وقد سبق السيفُ العذَل، فما هو حقيقة موقف أولئك السادة القادة، هل كان ما صدر منهم عفوياً؟ أم عن سابق عنادٍ وتدبير؟ أم كان حدثاً عابراً فتزيّد فيه الرواة؟ أم كان عظيماً فلفـّه الضَباب فلم يستبن منه إلاّ وجهه الباهت؟ وذلك ما أجرى دموع ابن عباس حتى بلّ الحصباء.
ولكي نتلمس الإجابة الصحيحة على تلك التساؤلات (بنعم، أو لا) لابدّ من عرض شامل لمواقف فقهاء الحديث عن حَديث الرزية، خاصة منهم علماء التبرير، بدقة في الأستقراء، وأناة في الرويّة للمدارسة، وبمنتهى التجرّد والموضوعية، وبالتالي نعرف الجواب (بنعم، أو لا) فإنّ تلك اللفظتين المختصرتين تقتضيان كثيراً من البحث والتفكير قبل الإجابة لتلمس الحقيقة الثابتة الّتي لا لبس عليها ولا غبار، وعلى ضوئها توزن القيم والأقدار.
فلنقرأ ما قاله العلماء في ذلك الحديث:
____________
(1) النور /51.
(2) النساء /46.
مع علماء التبرير وقراءة بين السطور:
أقض حديث الرزية مضاجع العلماء بدءاً منذ عهد الرواة، وانتهاءاً بأصحاب الصحاح والسنن وسائر المصنفات، وإذا كان ابن عباس قال عنه الرزية كلّ الرزية، فإنّ كلمته تركت العلماء يخوضون كلّ مخاضة في سبيل تبرير ما صدر من بعض الصحابة، الّذين جعلوا لهم من الحصانة ما يرفعهم عن الإدانة، فنسج كلٌ على نوله بقوله: وأتى بما عنده مكابرةً بحَوله وطَوله.
ولابدّ لنا من وقفة مع أولئك الّذين أشتدوا مكابرة ومصادرة ليعرف القارئ مبلغ جهاد ابن عباس، وهو أشدّ الرواة أمراً، وأكثرهم ذكراً لحديث الرزية، نصرة لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما ينبغي به أن يعرف مَن هم أولئك النمط الّذين جاهدوه في الطريق المعاكس، فناصروا من عارض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو على حسابه برد أمره في كتابه.
من هم علماء التبرير؟
أنّهم كثيرون جداً، ولا يسع المقام استيفاء جميع ما قالوه، لكنا سنختار الواحد والاثنين نماذج من كلّ قرن، بدءاً من القرن الرابع ثمّ القرون الّتي بعده حتى القرن العاشر. ونترك الباقين وتركاضهم فهم من عاقلتهم، وعلى شاكلتهم، وفي سابلتهم.
فمن القرن الرابع: أبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ وهو من ذرية زيد بن الخطاب - فيما يزعمون - وزيد هذا أخ لعمر بن الخطاب رجل المعارضة ولا تخفى حمية النسب في أقواله، له
ومن القرن الخامس: أبو محمّد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ صاحب التصانيف الكثيرة كالمحلى والإحكام والفصل في الملل والنحل، ولسانه الجارح على حدّ سيف الحجاج كما وصفوه: يقال أنّ جده يزيد كان من موالي يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي وأيضاً: أبو بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي الشافعي المتوفى سنة 458هـ صاحب السنن الثلاث ودلائل النبوة وغير ذلك.
ومن القرن السادس: محمّد بن عليّ بن عمر المالكي المازري المتوفى سنة 536هـ له عدة كتب منها المعلم بفوائد كتاب مسلم.
وأيضاًًً: القاضي عياض المالكي المتوفى سنة 544هـ مؤلف كتاب الشفاء وغيره.
ومن القرن السابع: ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ صاحب كتاب النهاية في غريب الحديث وغيره.
وأيضاً: محي الدين النووي الشافعي المتوفى سنة 677هـ صاحب المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج وكتاب الأذكار والأربعين حديثاً وغيرها.
ومن القرن الثامن: ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728هـ محبوساً بقلعة دمشق بأمر من علماء وحكام الوقت.
وأيضاً: إبراهيم بن موسى بن محمّد الغرناطي الشاطبي المتوفى سنة 790هـ له كتاب الإحكام والموافقات والإعتصام.
ومن القرن العاشر: شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني المتوفى سنة 923هـ له إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري وغيره. وأخيراً من القرون المتأخرة نذكر ما قاله الدهلوي واللاهوري ومن المعاصرين العقاد والريّس.
ماذا قال علماء التبرير؟
أوّلاً: الخطابي
قال: إنّما ذهب عمر إلى أنّه لو نصّ بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الإجتهاد، حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري(1).
وقال أيضاً: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو ظن له غير ذلك ممّا لا يليق به بحال. لكنه لمّا رأى ما غلب على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من الوجع وقرب الوفاة مع ما أعتراه من الكرب، خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه، فتجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين.
كذا حكاه النووي عنه في شرح صحيح مسلم(2)، وحكاه بلفظ آخر وتفاوت يسير في فتح الباري(3)، فراجع.
____________
(1) فتح الباري 1/219 ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378 هـ.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 11/91 ط مصطفى الحلبي.
(3) فتح الباري 9/198- 199.
مع الخطابي:
من المؤسف حقاً تضييع الوقت في رد مزاعمه في الدفاع عن عمه. وما ذكره من الاحتمالات الواهية فهي على عروشها خاوية. فما ذكره أولا من أن لو نص النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما يزيل الخلاف يبطل فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد، فليته أوضح مراده من فائدة بقاء الخلاف؟ وما قيمة فضيلة العلماء إذا هي لم ترفع الخلاف من بين الأمة؟
وليته استدل لنا على ترجيح الاجتهاد على النص النبوي؟
ما باله يعتذر برمّه وطمّه، ويجعل من منعه فضيلة تفوق أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - الّذي لا ينطق عن الهوى - والّذي يضمن لأمته عدم الضلالة أبداً. فهل بعد هذا أعظم فائدة وعائدة؟
ما أدري بماذا يجيب الخطابي وأنصاره عن المسائل الآتية:
1- أليس كتاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما يزيل الخلاف أولى بالأعتبار من عدمه وبقاء الخلاف بين الأمة يخوضون في الجهالة وحيرة الضلالة؟
ماذا يبتغي الخطابي وابن الخطاب من بقاء فضيلة العلماء؟ أليس فضيلتهم لهداية الأمة؟ فإذا كان كذلك فكتابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يغني وهو أولى بالأتباع فلماذا منع منه عمر؟
ثمّ هل كان الخطابي يرى في عمه أنّه أعلم من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما يصلح الأمة؟ ولا أظن مسلماً يقول بذلك، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أمر بالكتاب هل كان يعلم بذهاب فضيلة العلماء أوّلاً؟ والثاني باطل ومستلزم للكفر، وعلى الأوّل فلابدّ من علمه
ثمّ هل كان أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عند نفسه أو من عند ربّه، والأوّل مدفوع بقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى}(1)، والثاني مسموع لقوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}(2)، و{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}(3)، و{ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}(4).
وبعد هذا كلّه لو سلّمنا جدلاً أنّ الخطابي علم بمراد عمه عمر من منعه كتاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّه يلغي فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد، فمن أين له أنّ كتابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوف يشمل جميع الحوادث والأحكام. لأنّ نص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على شيء أو أشياء مخصوصة لا يبطل فضيلة العلماء ولا يعدم الاجتهاد، لأنّ الحوادث لا يمكن حصرها، فليعدم الاجتهاد فيما نص عليه خاصة، ويبقى لأجتهادهم سائر المجالات الأخرى. وبهذا كان تعقـّب ابن الجوزي للخطابي فيما حكاه عنه ابن حجر حيث قال: وتعقبه ابن الجوزي: بأنّه لو نص على شيء وأشياء لم يبطل الإجتهاد، لأنّ الحوادث لا يمكن حصرها.
هذا كلّه فيما ذكره أوّلاً.
وأمّا ما ذكره ثانياً:
____________
(1) النجم /3.
(2) النجم /4.
(3) الكهف /110، فصلت /41.
(4) الأعراف /203.
2- وما المراد من قوله: «لمّا رأى ما غلب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) »؟ فهل مراده أنّ الوجع غلب عليه حتى سلبه اختياره - والعياذ بالله - فان كان ذلك فهذا ما فرّ منه واعتذر عنه لكنه وقع فيه. وإن أراد غلبته على جسمه كاصفراره ونحو ذلك ممّا يورثه المرض في بدن صاحبه، فليس في ذلك شيء يخشى منه ممّا خاف منه الخطابي وعمّه. وليس ذلك بمانع من إجراء أيّ حكم من الاحكام، والّذي يبدو لي أنّ مراد الخطابي هو الأوّل وشاهد ذلك قوله: «خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه» وهل معنى (ما لا عزيمة له فيه) سوى الهجر والهذيان ويعني صدور ما لم يرد فعله ويعزم عليه. هذا هو المعنى الحرفي والعرفي للعزيمة، وهو نفس المعنى اللغوي الّذي يعني لم تكن له الإرادة المؤكدة المتقدمة لتوطين النفس على ما يرى فعله أو الجد في الأمر. وهذا الوجه يدفعه ظاهر الأمر في الإلزام، وما أمره باحضار الدواة والكتف إلاّ كسائر أوامره الوجوبية، خصوصاً بعد بيان النفع المترتب عليه، وهو عصمة الأمة من الضلالة إلى الأبد.
3- ما معنى قوله: «فيجد المنافقون بذلك سبيلاً... الخ» إذ ليس الموجب لكلام المنافقين هو قرب الوفاة منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا ما أعتراه من الكرب كما يقول الخطابي، بل إن حال المنافقين كانت معلومة لديه أيام حياته، ومعرفته بالكثير منهم وقد نزل القرآن في التحذير منهم. وقد آذوه يوم رجع من غزاة تبوك
4- ولو سلمنا أنّ المنافقين كانوا يجدون سبيلاً، فمن أين للخطابي وأضرابه إثبات علم عمر بذلك، وإذا قالوا أدركه بفطنته ففي بقية الصحابة الحاضرين يومئذ من فاقه فطنة وعلماً وحكماً وفهماً، لماذا يدرك أولئك ما أدركه عمر؟ فإن هم سكتوا لعلمهم أنّه ليس لهم حقّ الاعتراض فكان على عمر مثل ذلك.
5- ثمّ يا ترى ما هو موقف الخطابي من اعتراف عمر بمراده، وهو يدفع ما قاله هو وغيره من علماء التبرير فانتظر، وسنوافيك به، حينئذٍ ستجده يعترف بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما أراد عليّاً للأمر فمنعه هو من ذلك.
ثانياً: ابن حزم الظاهري
ذكر ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في جملة كلامه في إبطال القياس في احكام الدين قارب في بعضه وسدّد، وشذّّ في بعضه وأبعد، ومهما يكن فقد ذكر حديث الرزية وعقبه بقوله: «هذه زلة العالم الّتي حذّر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، ممّا كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الّذي لو كتبه لم يُضل بعده. ولم يزل أمر هذا الحديث مهماً لنا، وشجىً في نفوسنا، وغصة نتألم لها وكنا على يقين من أنّ الله تعالى لا يدع الكتاب الّذي أراد نبيه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن يكتبه فلن
وهو ما حدّثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمّد ثنا أحمد بن عليّ ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا يزيد بن هرون ثنا إبراهيم بن سعد ثنا صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في مرضه: ادعي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتاباً، فإني أخاف أنّ يتمنى متمنٍ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والنبيّون إلاّ أبا بكر».
قال أبو محمّد - هو ابن حزم - هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف، وفي أم أخرى (ويأبى الله والمؤمنون).
وهكذا حدّثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمّد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن محمّد بن سلام الطرطوسي ثنا يزيد بن هارون - إلى آخر السند المتقدم - بمثله وفيه: «إنّ ذلك كان في اليوم الّذي بدئ فيه (عليه السلام) بوجعه الّذي مات فيه» بأبي هو وأمي.
قال أبو محمّد - هو ابن حزم - فعلمنا انّ الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بأربعة أيام - كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا - إنّما كان في معنى الكتاب الّذي أراد (عليه السلام) أن يكتبه في أوّل مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال، لأنّه (عليه السلام) ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد الكتاب الّذي قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد أن أشتد به المرض، ومات (عليه السلام) يوم الاثنين، وكانت مدّة
فإنّ ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو أستخلف؟ فإنّما معناه: لو كتب الكتاب في ذلك»(1).
أقول: إلى هنا انتهت الحاجة من نقل كلامه الطويل العريض الّذي نفى فيه تقديم أبي بكر للخلافة قياساً على تقديمه للصلاة - كما يروي القياسيون - وقالوا به. حتى قال: فيأبى الله ذلك، وما قاله أحد قط يومئذ، وانما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس، الّذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم، مع أنّه أيضاً في القياس فاسد - لو كان القياس حقاً - لما بينا قبل، ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والّذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاصلة.
وأمّا الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلاّ قرشي صليبة عالم بالسياسة ووجوهها، وإن لم يكن محكماً للقراءة (؟) وإنّما الصلاة تبع للإمامة، وليست الإمامة تبعاً للصلاة فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة الّتي هي أصل على الصلاة الّتي هي فرع من فروع الإمامة؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس.
وسيأتي عن ابن حزم أيضاً مثل ما تقدم من الكلام، وهناك يحاول اثباته بالقسم والأيمان وهذا من الطرافة بمكان.
____________
(1) الإحكام في اُصول الأحكام 7/122 ط السعادة بمصر.
وقفة مع ابن حزم:
من المضحك - وشر البلية ما يضحك - أن يكون مثل ابن حزم المتحرر من كثير الرواسب المقيتة عند قومه، وهو ينعى عليهم التقليد، ويعترف صريحاً بما هو الصحيح في أنّ قول عمر إنّما هو زلة العالم الّتي حُذّر الناس منها قديماً، ثمّ هو يكبو كبوة يقع فيها لوجهه حين يحسب أنّه زالت عنه دياجي الظلماء أن كشف له الغطاء بوجدانه حديث عائشة المزعوم، ولقد أغرب كثيراً حين زعم أنّ ذلك نص على خلافة أبي بكر، فقد قال في كتابه الفِصَل: «فهذا نص جليّ على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده»(1). وكأنّه نسي أو تناسى بأنّ أبا بكر وقومه، ومن أتى بعده كلّهم لم يقولوا بالنص في أمر الخلافة، وإنّما قالوا بالاختيار، وما دعاهم إلى ذلك إلاّ الإضطرار، حيث لا نص ثابت عندهم.
وربما يفاجأ القارئ إذا وجد ابن حزم في كتابه جوامع السيرة يدين عملية المنع من إحضار الدواة والكتف فيقول: «فلمّا كان يوم الخميس - قبل موته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأربع ليالِ - اجتمع عنده جمع من الصحابة فقال (عليه السلام): (أئتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كلمة أراد بها الخير، فكانت سبباً لإمتناعه من ذلك الكتاب فقال: إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد غلب عليه الوجع، وعندنا كتاب الله، وحسبنا كتاب الله. وساعده قوم حتى قالوا: أهجر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال آخرون: أجيبوا بالكتف والدواة يكتب لكم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً لا تضلون بعده، فساء ذلك رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمرهم بالخروج من عنده؟ فالرزية كلّ الرزية ما حال بينه وبين ذلك الكتاب، إلاّ أنّه لا شك لو كان من
____________
(1) الفِصَل 4/108.
ويكفي في تزييفه أنّه لم يظهر يوم السقيفة حين كان أبو بكر أحوج إليه من كلّ ما احتج به، فأين كانت عائشة عن رواية ذلك؟ ولماذا لم تناصر أباها به في أحرج وقت كان محتاجاً لنصرتها بمثله؟
مضافاً إلى ما سيأتي من كشف حال رجاله فانتظر.
ثالثاً: البيهقي
في أواخر كتابه دلائل النبوة بعد ذكره لحديث الرزية بأسانيده إلى عليّ ابن المديني والحسن بن محمّد الزعفراني عن سفيان بن عيينة عن سليمان عن
____________
(1) جوامع السيرة /263.
قال عبد الله فكان ابن عباس يقول: انّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم». ثمّ ذكر رواية البخاري له في الصحيح عن عليّ بن المديني وغيره. ورواية مسلم عن محمّد بن رافع وغيره عن عبد الرزاق. ثمّ قال: وإنّما قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين رآه قد غلب عليه الوجع، ولو كان ما يريد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم ولغطهم لقوله تعالى:{بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}(2) كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وإنّما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر ثمّ ترك
____________
(1) دلائل النبوة 7/181- 182 ط بيروت بتحقيق د عبد المعطي قلعجي.
(2) المائدة /67.
وقد روى نفسه في سننه الكبرى في كتابة العلم في الصحف، حديث جابر: «انّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا بصحيفة في مرضه ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يَضلون بعده ولا يُضِلون، وكان في البيت لغط وتكلم عمر فتركه»(2). وهذا الّذي رواه بتر من آخره ما يدين عمر، ثمّ ذكر بعده في كتابة العلم في الألواح والأكتاف بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إئتوني باللوح والدواة والكتف والدواة لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) قالوا: رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يهجر»(3).
مع البيهقي في دعاواه:
وتتلخص دعاواه في الأمور التالية:
1- زعمه أنّ حديث عليّ بن المديني أتم لأنّه زاد قول سفيان إنّما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر.
2- زعمه أنّ قصد عمر هو التخفيف على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال الّذي قال.
3- زعمه أّنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه.
____________
(1) دلائل النبوة 7 /183.
(2) السنن الكبرى 3/435 ط بيروت سنة 1411هـ.
(3) نفس المصدر.
5- زعمه تنبيه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمته على خلافة أبي بكر استخلافه إياه في الصلاة.
أمّا زعمه الأوّل أنّ حديث عليّ بن المديني أتم وقال: زاد عليّ قال سفيان: إنّما زعموا... الخ فهذا كذب وهراء ومحض أفتراء، فحديث سفيان لقد رواه عنه خمسة عشر إنساناً كما مرّ في الصورة التاسعة، وكلهم من الحفاظ وأئمة الحديث، وكان عليّ بن المديني واحداً منهم. وحديثه لم يقتصر على رواية البيهقي بأسانيده فقط، بل رواه عنه البخاري أيضاً وليس فيه هذه الزيادة(1)، كما لم ترد في أحاديث الرواة الآخرين عن سفيان فمن أين ألصق البيهقي بابن المديني هذه الزيادة؟
وأمّا زعمه الثاني أنّ عمر قصد التخفيف على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم). فينفيه ما سيأتي عن عمر نفسه من بيان قصده في منعه، ولو سلمنا جدلاً، فهل أنّ عمر كان أبصر بنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منه بنفسه؟
وأمّا زعمه الثالث أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد أن يكتب لأمته ما هم مستغنون، مدفوع للحكمة الّتي بيّنها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كتابة ذلك الكتاب وهي قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لن تضلوا بعده أبداً) فإنّ ذلك يدل على أحتياجهم إلى عاصم يعصمهم من الضلالة إلى الأبد، وليس من تأمين على السلامة والصيانة لهم غير كتابة ذلك.
ولو سلّمنا جدلاً - ولا نسلّم - صواب قول البيهقي أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه، فيلزم منه أن ينسب القائل بذلك إلى مقام الرسالة ما لا
____________
(1) أنظر صحيح البخاري /6 و 9.
وأمّا ما استدل به على مقالته فهو مردود بعد أن انتفت الفائدة المتوخاة والّتي كان يعلمها (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث فتح عمر باباً واسعاً للطعن فيما يكتبه، ويدل على ذلك ما جاء في بعض صور الحديث ممّا رواه ابن سعد وغيره وفيه: فقال بعض من كان عنده انّ نبيّ الله ليهجر قال فقيل له ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: أو بعد ماذا؟ قال: فلم يدع به(1).
وأمّا زعمه الرابع أنّ سفيان حكى عن أهل العلم قبله. فهذا كذب على سفيان، وما روي عن سفيان على اختلاف صور نسخه الخمس عشرة حسب عدد الرواة عنه فلم يأت في واحدة منها انّ سفيان حكى ذلك عن أهل العلم قبله. وإنّما الوحيد الّذي روى ذلك عنه فيما أعلم - هو البيهقي- ومهما يكن فان الّذي حاول اثباته من الكتابة باستخلاف أبي بكر فقد مرّ الجواب عنه في رد ابن حزم فراجع.
وأمّا زعمه الخامس أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبّه أمته على خلافة أبي بكر باستخلافه إياه في الصلاة فيكفي في دحض ما زعمه ما قاله ابن حزم في كتابه الإحكام آنفاً - وقد مرّ نقل ذلك عنه قبل هذا فراجع - مضافاً إلى قوله: واحتجوا باجماع الأمة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة، وان ذلك قياس على تقديم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له إلى الصلاة... وهذا من الباطل الّذي لا يحل، ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلاّ انّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قدمّه إلى الصلاة لما كان أبو بكر أولى بالخلافة من عليّ. لأنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد استخلف
____________
(1) أنظر الصورة الحادية عشرة من صور الحديث.