الصفحة 333
عليّاً على المدينة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته (عليه السلام) فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الأستخلاف على الصلاة وحدها... إلى آخر ماذكره من مناقشة(1).

رابعاً: المازري

قال: إنّما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أنّ الأمر ليس على التحتم بل على الإختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الإمتناع لمّا قام عنده من القرائن بأنه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال ذلك عن غير قصد جازم، فظهر ذلك لعمر دون غيره.

هكذا حكاه النووي في شرح صحيح مسلم، وابن حجر في فتح الباري، والقسطلاني في المواهب اللدنية، والبدر العيني في عمدة القارئ(2)، وغيرهم.

مع المازري:

يتلخص إعتذار المازري في النقاط التالية:

1- اختلاف الصحابة في امتثال أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما كان لأنّ الأمر ليس على التحتم بل على الإختيار.

2- تصميم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال ذلك عن غير قصد جازم.

____________

(1) أُنظر كتابه الإحكام 7/119 ـ 120.

(2) شرح صحيح مسلم 11/91، فتح الباري 9/198، المواهب اللدنية 2/367، عمدة القارئ 2/171.


الصفحة 334
3- ظهور ذلك لعمر دون غيره؟

وبين النقطة الأولى والنقطة الثالثة نحو تضاد، إذ أنّ عمر هو الّذي ظهر له أنّ الأمر عن غير قصد جازم، وهذا مختص به دون غيره كما يزعم المازري، ويعني ذلك أنّه خفي على الآخرين، وإذا كانوا كذلك فما بالهم يختلفون في امتثال الأمر ما دام لم يظهر لهم ما ظهر لعمر دون غيره، ثمّ إنّ قول المازري: «عن غير قصد جازم» يعني ترك الباب مفتوحاً أمام الصحابة فمن شاء أن يمتثل امتثل ومن شاء تخلف، لأنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار وهذا ما أكده بقوله: «عن غير قصد جازم» والآن لنا أن نسائله.

1- ما معنى بيانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمصلحة الحكم الشرعي من أمره بقوله: (لا تضلون بعدي أبداً). فلو كان على سبيل الإختيار فمن شاء فعل ومن شاء ترك، لما ترتب أمر العصمة من الضلالة لهم جميعاً، بل كان يختص ذلك بمن امتثل ويحرم منه من خالف، ولما كان الخطاب للجميع فلابدّ أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) توخى هداية الجميع وبذلك تتم فائدة العصمة من الضلالة وإلاّ فلا.

2- ما معنى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في آخر الحديث: (قوموا عني)، وذلك يعني طردهم عنه ولو كان أمره الأوّل عن غير قصد جازم وليس على التحتم، بل على الإختيار لما كان لطردهم عنه معنى، وان تنطّع متنطع فقال: «انّ طردهم عنه إنّما كان بعد تنازعهم ولغطهم فتأذى بذلك فقال: (قوموا عني) ». وهذا لا يدل على الوجوب في الامتثال. هنا نقول له انّ ذلك النزاع هو وحده كاف في الدلالة على لزوم الأمر، وإلاّ لو كان الأمر اختيارياً لما حدث النزاع ولما أستلزم الطرد.


الصفحة 335
3- ما معنى قول عمر: «حسبنا كتاب الله»؟ أليس يدل على فهمه أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه كان للوجوب فأراد دفع من يقوم بالامتثال عنه، وإسقاط حجة قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالكلية. ولو لم يكن فهم لزوم الأمتثال لما أحتاج إلى قوله: «حسبنا كتاب الله».

4- ما معنى بكاء حبر الأمة عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) وقوله: «الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين كتابة الكتاب»؟ أليس يدل ذلك على فوات أمر عظيم وخطير، وله أثر كبير في حياة الأمة فاستدعى فواته ذلك البكاء حتى يبلّ دمعه الحصى. ولو كان الفائت أمراً أختيارياً لما لزم ذلك البكاء؟ ولما لزم التعبير عنه بـ (الرزية كلّ الرزية) ولعيب عليه ذلك التوجع والتفجع، فكم هناك من أمور مندوبة وأحكام مستحبة تركها الناس في أيامه، بل وحتى تغيير بعض الفرائض فلم ينعها ولم يذكر عنه أنّه بكى لها، ولم ينقل التاريخ عنه أنّه عبّر عن فوت واجب آخر بأنه رزية فضلاً عن المندوب.

5- وأخيراً من أين للمازري اثبات فهم عمر دون غيره بأن أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان عن غير قصد جازم، وهذا لا يعلم إلاّ من قبل عمر نفسه، ولم يرد عنه في ذلك شيء.

ثمّ إنّ ما ذهب إليه المازري لم يتابعه عليه أحد يعتد به - فيما أعلم - إلاّ رجل واحد من المتأخرين هو السيد عبد الرحيم الطهطاوي(1).

أمّا باقي أعلام قومه كالقاضي عياض والقرطبي وابن حجر وغيرهم فقد ذهبوا إلى عكس ما قاله المازري وقالوا بان عمر فهم الوجوب، وإنّما

____________

(1) اُنظر كتابه هداية الباري 1/8.


الصفحة 336
قال الّذي قاله إنكاراً على من تخلف عن الإمتثال، وستأتي مقالاتهم التافهة وما أسسوه من مقدمات لنتائجهم المردودة وقياساتهم الباطلة..

خامساً: القاضي عياض

قال: في كتاب الشفاء: فصل: فإن قلت قد تقررت عصمته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أقواله في جميع أحواله وأنّه لا يصح منه فيها خُلفٌ ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جدّ ولا مزح ولا رضىً ولا غضب، ولكن ما معنى الحديث في وصيته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم...

ثمّ ذكر حديث الكتف والدواة بسنده إلى قوله: فقال بعضهم: انّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد غلبه الوجع... الحديث.

ثمّ قال: وفي رواية: (إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فتنازعوا فقالوا: ماله أهجر استفهموه فقال: (دعوني فإنّ الّذي أنا فيه خير).

وفي بعض طرقه: إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: يَهجَر.

وفي رواية هجر، ويُروى: أهُجراً. وفيه فقال عمر: إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد اشتد به الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، وكثر اللغط فقال: (قوموا عني).

وفي رواية: واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً، ومنهم من يقول ما قال عمر.

قال أئمّتنا: في هذا الحديث النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غير معصوم من الأمراض وما يكون من عوارضها من شدة الوجع وغشي ونحوه ممّا يطرأ

الصفحة 337
على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته، ويؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان واختلال كلام.

وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث هَجَرَ إذ معناه هذي يقال هَجَرَ هجراً إذا هذى وأهجر هجراً إذا أفحش وأهجر تعدية هَجَرَ، وانما الأصح والأولى أهَجَرَ على طريق الأنكار على من قال لا يكتب، وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرّوات في حديث الزهري المتقدم، وفي حديث محمّد بن سلام عن ابن عيينة، وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه وغيره من هذا الطريق، وكذا روينا عن مسلم في حديث سفيان وعن غيره، وقد تحمل عليه رواية من رواه هَجَرَ على حذف ألف الأستفهام، والتقدير أهجر، أو أن يحمل قول القائل هجراً أو أهَجَرَ دهشةً من قائل ذلك وحيرة لعظيم ما شاهدا من حال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشدة وجعه وهو المقام الّذي أختلف فيه عليه، والأمر الّذي همّ بالكتاب فيه حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهُجر مجرى شدة الوجع، لا أنّه أعتقد أنّه يجوز عليه الهجر، كما حملهم الاشفاق على حراسته والله يقول:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(1) ونحو هذا، وأمّا على رواية أهجُراً وهي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير عن ابن عباس من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ومخاطبةً لهم من بعضهم أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين يديه هجراً ومنكراً من القول، والهُجر بضم الهاء الفَحش في المنطق.

____________

(1) المائدة /67.


الصفحة 338
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف أختلفوا بعد أمره لهم صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن يأتوه بالكتاب فقال بعضهم: أوامر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يفهم أيجابها من ندبها من اباحتها بقرائن فلعل قد ظهر من قرائن قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبعضهم ما فهموا أنّه لم تكن منه عزمة، بل أمر ردّه إلى اختيارهم، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: أستفهموه، فلمّا أختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة ولمّا رأوه من صواب رأي عمر.

ثمّ هؤلاء قالوا ويكون أمتناع عمر إمّا أشفاقاً على النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أشتد به الوجع.

وقيل: خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ورأى أنّ الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد وحكم النظر وطلب الصواب، فيكون المصيب والمخطيء مأجوراً.

وقد علم عمر تقرّر الشرع وتأسيس الملة وان الله تعالى قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(1) وقوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (أوصيكم بكتاب الله وعترتي). وقول عمر: حسبنا كتاب الله، ردٌ على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم.

وقد قيل: إنّ عمر خشي تطرّق المنافقين ومَن في قلبه مرض ما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل، كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.

____________

(1) المائدة /3.


الصفحة 339
وقيل: إنّه كان من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لهم على طريق المشورة والإختبار هل يتفقون على ذلك أم يختلفون فلمّا أختلفوا تركه.

وقالت طائفة أخرى: إن معنى الحديث انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طـُلب منه، لا أنّه ابتداء بالأمر، بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل الّتي ذكرناها.

واستدل في هذه القصة بقول العباس لعليّ: انطلق بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة عليّ هذا، وقوله: والله لا أفعل... الحديث.

واستدل بقوله: (دعوني فإنّ الّذي أنا فيه). أي الّذي أنا فيه خير من ارسال الأمر وترككم وكتاب الله وأن تدعوني ممّا طلبتم، وذكر أنّ الّذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك(1).

أقول: هذا كلّ ما ذكره في هذا الفصل من كتابه الشفاء وليس فيه من النافع إلاّ شفى - القليل - إذ هو إمّا تكرار للسابقين أو تلفيق المتخرصين. ولابدّ لنا من محاسبته على بعض ما ذكره ممّا لم يُسبق إليه من وجوه الأحتمالات والتمحلات وإنّما نقلناه بطوله لأن جماعة ممّن على شاكلته تبعه على رأيه فإنهم بين من نقل جميع كلامه كما صنع النويري في نهاية الإرب(2)، ومنهم من لخصه كالقرطبي ولخص من تلخيصه ابن حجر في فتح الباري(3) كما سيأتي تلخيصه.

____________

(1) أنظر الشفاء 2/185 ـ 186 ط اسلامبول سنة 1304هـ.

(2) نهاية الإرب 18/373 ـ 378.

(3) أنظر فتح الباري الجزء التاسع.


الصفحة 340

مع القاضي عياض:

لقد كانت غاية محاولة القاضي هي تبرير ما صدر من عمر بن الخطاب في ذلك اليوم التعيس، يوم الخميس، ولكنها محاولة بائسة ويائسة. فهو استعرض:

أوّلاً: تحقيق الصيغة اللفظية الّتي كانت سبب الإختلاف، ثمّ التشكيك في تعيين قائلها وذلك من خلال ما ذكره من سياق الروايات المختلفة. حتى أنهاها إلى ثماني روايات كما يلي:

1- فقال بعضهم: انّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد غلبه الوجع.

2- وفي رواية: فتنازعوا فقالوا ما له أهجر أستفهموه.

3- وفي بعض طرقه: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَهجَرُ - (بفتحتين هكذا في النسخة المُعربة المطبوعة باسلامبول سنة 1304 هـ) -.

4- وفي رواية: هَجَر.

5- ويروى: أهَجرٌ.

6- ويروى: أهُجراً.

7- وفيه فقال عمر: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أشتد به الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا وكثر اللغط.

8- وفي رواية: واختلف أهل البيت وأختصموا فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً، ومنهم من يقول ما قال عمر.

أقول: وهذه الروايات الّتي أشار إليها تترك القارئ في حيرة من أمر القاضي، وكأنه يحاول التعتيم على الحقيقة، فيعرض لها دون بيان الصحيح منها، فهو يترك القارئ في دروب من المتاهات.


الصفحة 341
لكن الباحث الواعي لا يعدم الرواية الصحيحة بينها، وانّها هي الثالثة الّتي ورد فيها: «انّ النبيّ يَهجَر» وما تحريكه لها بفتحتين إلاّ نحو من التعتيم المتعمد، لأن الصحيح «يَهجُر» فانها من باب (نصر ينصر) وتحريكها بفتحتين يخرجها عن المعنى الأصلي للكلمة، وانحراف بمسارها الصحيح، وذلك انّ القراءة بفتحتين تكون بمعنى هجرك الشيء، أي تركه كما نصت على ذلك بعض قواميس اللغة. ولكن ذلك لم يعجب الملا علي القاري شارح كتاب القاضي المذكور فقال في المقام: «يَهجِر» بكسر الجيم مع فتح أوّله بتقدير استفهام انكار(؟).

وهذا من غرائب الأغراب في مسائل الإعراب، وإنّما حدث بعد زمان الحديث والحدث، تبريراً لمواقف المعارضة عند الحساب.

أمّا الّذي قلناه أنّه الصحيح وهي الرواية الثالثة فقد ذكرها القاري وقال هو الموجود في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن خلاد عن سفيان. كما ذكرها غيره(1) وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في محله إن شاء الله.

ثانياً: استعرض ما قاله أئمّته في الحديث. ولا يعنينا معرفة أئمّته بأعيانهم سواء كانوا هم المالكية، أو الأشعرية، أو أهل السنّة والجماعة كما ذكرهم شارح كتابه الملا عليّ القارئ الحنفي.

والّذي يعنينا أن نعرف ماذا قالوا؟ لم يأتوا بشيء جديد، ولم يخرجوا عن أطار التبرير وإن باؤا بإثم التزوير. فكلّ ما مخض سقاؤهم أنّ الروايات المختلفة الآنفة الذكر يجب تخريجها على نحو الإستفهام الإنكاري، ولم

____________

(1) جاء في سر العالمين للغزالي /9 ط بومبي الهند عليّ الحجر سنة 1314: «إن الرجل ليهجر».


الصفحة 342
يخرج عن تلك الروايات، إلاّ الرواية الثالثة الّتي لم يذكر لهم فيها رأياً ولم يعلّق عليها هو بشيء، لكنّ شارح كتابه لم تفته المشاركة في الحلبة، فحشرها مع سابقها ولاحقها فعلّق عليها بقوله: بتقدير إستفهام انكار..

ثالثاً: ذكر اختلاف العلماء في معنى الحديث، فذكر أربعة آراء كلّها تدور في فلك التبرير:

أوّلها: إنّ الأوامر إذا اقترنت بقرينة تخرجها من الوجوب إلى الندب والإباحة، فلعلّه ظهر من قرائن قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبعضهم ما فهموا منه أنّه لم يكن عزمة، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلمّا أختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة، ولما رأوه من صواب رأي عمر.

وهؤلاء قالوا عن امتناع عمر إمّا اشفاقاً عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإمّا خشي أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحسون بالحرج في المخالفة، فرأى الأرفق بالأمة سعة الاجتهاد الخ.

ثانيها: أنّ عمر خشي تطرق المنافقين إلى أن يقولوا فيما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة(؟) وأن يتقولوا الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.

ثالثها: انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما قال لهم ذلك عن طريق المشورة والإختبار ليراهم هل يتفقون أم يختلفون، فلمّا أختلفوا تركه.

رابعها: انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مجيباً لما طـُلب منه ولم يكن ذلك منه ابتداء، فأجاب رغبة الطالب، وكره غيره ذلك للعلل الّتي ذكرها في الرأيين الأوّل والثاني.

وفي كلّ هذه الآراء مواقع للنظر نذكر بعضها:


الصفحة 343
أمّا الأوّل وهو احتمال وجود قرينة في المقام عرفها بعضهم ولم يعرفها آخرون، فهو من واهي الأحتمالات وقد مرّ مثله والجواب عنه فراجع ما مرّ عن المازري وقبل ذلك ما قلناه مع الخطابي.

وأمّا الثاني وهو إمّا إحتمالاً أن يكون عمر أشفق على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمنع من أمتثال أمرِهِ، فهذا من قبيل المثل (اكوس عريض اللحية) فكيف يكون مشفقاً عليه وهو يعلن ردّ أمره ويشغب عليه؟ وأين منه الشفقة وقد سمّاه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكلّبا. كما في حديث ابن عمر الّذي أخرجه الدارقطني في سننه قال: «خرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بعض أسفاره فسار ليلا فمرّوا على رجل جالس عند مقراة له(1) فقال عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يا صاحب المقراة لا تخبره هذا مكلـِّب، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور)... ا هـ»(2).

أقول: والمكلـِّب - بكسر اللام - معلم الكلاب للصيد، وبفتحها المقيّد ولما كان معروفاً بالغلظة والشدة، وإذا لاحاه بعض أهله أصطلم أذنه شبّهه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمكلّب معلّم الكلاب، إذ لا يكون معلّمها إلاّ من هو أكلب منها لتخافه، فمن كان كذلك أين منه الشفقة المزعومة؟

وأمّا أحتمال خشية تطرق المنافقين فيجدوا سبيلاً إلى الطعن فيما لو كتب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهذا مرّ عن الخطابي ومرّ الجواب عنه. وأمّا تمثيله لتطرق المنافقين بادعاء الرافضة الوصية، فليس ادّعاؤهم من دون دعوى البكرية أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد أن يكتب لأبي بكر بالخلافة، بل أدعاؤهم كان هو الحقّ الّذي لا مرية فيه، لأنّه قد

____________

(1) المقراة: كل ما أجتمع الماء فيه ـ القاموس.

(2) سنن الدارقطني 1/26.


الصفحة 344
اعترف بصحة دعواهم عمر بن الخطاب حين قال لابن عباس أراده رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للأمر فمنعته من ذلك.

وأمّا الثالث وهو الجديد - فيما أعلم - إذ لم يأت في زبر الأولين، وهو انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لهم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون فيكتب لهم، أو يختلفون فيتركه، فلمّا أختلفوا تركه.

وصاحب هذا الرأي الفطير من الغباء بمكان، إذ تخيل أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في أخريات أيامه بعد لم يعرف أصحابه معرفة تامة، وهو الّذي عايشهم طيلة ثلاثاً وعشرين سنة فلم يعرفهم وما كان عليه بعضهم من المخالفة له، وكأن تلك التجارب الّتي مرّت عليه في اختلافهم عند المشورة لم تترك في نفسه أثراً يذكر حتى احتاج إلى إختبارهم مرة أخرى؟

ألم يستشرهم في حرب بدر فكان منهم السامع المجيب، ومنهم المخذّل المريب الّذي يقول له: انها قريش ما ذلّت منذ عزّت.

ألم يستشرهم في أسارى بدر؟ فكان منهم من يرى قتل الأسارى، ومنهم من يرى أخذ الفداء حتى نزلت الآية فحسمت الموقف المترجرج وذلك في قوله تعالى:{حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}(1).

ألم يختلفوا عليه في وقعة أحد؟!

ألم يختلفوا عليه في وقعة الأحزاب؟!

ألم يختلفوا عليه في قضية بني النضير؟!

ألم يختلفوا عليه في صلح الحديبية؟!

____________

(1) محمّد /4.


الصفحة 345
ألم وألم؟ وكلّ ألمٍ فيها ألم!!

وأمّا الرأي الرابع - وهو كشف جديد كسابقه - ما أنزل الله به من سلطان، إذ يقول صاحبه أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن مبتدءاً بأمره، بل قال إئتوني أكتب لكم كتاباً لمن طلب منه ذلك، وأستدل على ذلك بقول العباس لعليّ: أنطلق بنا إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة عليّ هذا وقوله: لا أفعل... الحديث.

وهذا من الغرابة بمكان فإن قول العباس لعليّ - لو صح - إنّما كان صبح يوم الوفاة كان بعد حديث الرزية يوم الخميس بأربعة أيام، فكيف يكون هو السبب لتقديم الطلب ويكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مجيباً لا مبتدءاً، كما في تاريخ ابن الأثير وغيره فراجع.

سادساً: ابن الأثير الجزري

قال في كتابه النهاية: (هجر) ومنه حديث مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قالوا ما شأنه أهجر، أي أختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الإستفهام، أي هل تغيير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض، وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل اخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يظن به ذلك(1).

التبرير الفطير عند ابن الأثير:

ليس من القسوة عليه ما وصفناه به، فهو إذ لم يأتنا بجديد من عنده، وكلّ ما بذله من جهده، أنّه أجترّ أقوال السابقين من علماء التبرير، واستحسن ذلك،

____________

(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 4/255 ط الاُولى مطبعة الخيرية بمصر سنة 1322 هـ (مادة هجر).


الصفحة 346
وحيث مرّت بنا نماذج من أقوالهم وردّها، فلا نطيل الوقوف ثانياً عندها. إلاّ أنّ من حقنا أن نسأله لما ذكر الحديث أوّلاً مبهِماً أسماء القائلين وهم جماعة. ثمّ صرّح أخيراً باسم عمر وهو مفرد؟ فهل كان عمر هو الجماعة؟ (كلّ عضوٍ في الروع منه جموع)؟

ولماذا قال أخيراً ولا يظن به ذلك؟ أليس ذلك من ابن الأثير هو التبرير الفطير، فلماذا لا يظن بعمر ذلك وهو رأس الحربة الّتي طعنت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في فؤاده، إذ عارضه فلم يمكنّه من بلوغ مراده.

فهل أنّ مقامه فوق مقام الرسول الكريم، فيجب أن يحترم ولو على حساب كرامة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، اللّهم إن هذا الرد بهتان عظيم.

سابعاً: النووي

قال: في شرحه صحيح مسلم: بعد مقدمة في عصمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ممّا يخل بالتبليغ: وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها، ممّا لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سحر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى صار يخيّل إليه أنّه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام الّتي قرّرها.

ثمّ قال: فإذا علمت ما ذكرناه فقد أختلف العلماء في الكتاب الّذي همّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به.

فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في انسان معين لئلا يقع نزاع وفتن.

وقيل: أراد كتاباً يبيّن فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الإتفاق على المنصوص عليه وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) همّ بالكتاب حين ظهر له

الصفحة 347
أنّه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثمّ ظهر أنّ المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأوّل.

وأمّا كلام عمر (رضي الله عنه) فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنّه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره، لأنّه خشي أن يكتب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أموراً ربّما عجزوا عنها وأستحقوا العقوبة عليها لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(1) وقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(2)، فعلم أنّ الله تعالى أكمل دينه فأمن من الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكان عمر أفقه من ابن عباس(3).

مع النووي:

لابدّ لنا من وقفة مع النووي!

أوّلاً: في المقدمة الّتي ذكرها في عصمة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التبليغ وعدمها من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام فقال في ذلك: وقد سحر صلّى الله عليه (وآله) وسلّم حتى صار يخيّل إليه أنّه فعل الشيء ولم يكن فعله، وقد أعتبر ذلك غير مضرّ برسالته.

فنقول له: إن ما ورد من أخبار القصّاص الجهال بأنه سحر حتى صار كيت وكيت لا يمكن التصديق بها، وإن رواها البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة وغيرها، فهي أشبه بحديث خرافة، ويكفي في ردّها جملةً وتفصيلاً قول الله

____________

(1) الأنعام /38.

(2) المائدة /3.

(3) شرح صحيح مسلم للنووي 11/90 ط مصر.


الصفحة 348
تعالى حيث أنكر على الكفّار الظالمين قولهم:{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُورًا}(1) والمسحور هو الّذي خبل عقله، فأنكر الله تعالى ذلك. وذلك لا يمنع من جواز أن يكون بعض اليهود قد اجتهد في ذلك فلم يقدر عليه، فأطلع الله نبيّه على ما فعله، حتى استخرج ما فعلوه من التمويه، فكان ذلك دلالة على صدقه ومعجزة له.

قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد وقد ذكر الحديث عن عائشة فقال: «وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الأنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفاً مفرداً حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه ان قال غلط وأشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء، قال: لأن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يجوز أن يسحر فإنّه يكون تصديقاً لقول الكفّار:{إِنْ تَتبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُورًا}(2)، قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى:{إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا }(3)، وقال قوم صالح له:{ إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ}(4)، وقال قوم شعيب له:{إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ}، قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإنّ ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين»(5).

ثانياً: ما ذكره من اختلاف العلماء فذكر قولين:

أولهما: وهو الحقّ الّذي أباه عمر لأنّه أعترف بعد ذلك أمام ابن عباس بأن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد عليّاً للأمر فمنعته من ذلك فتبيّن المراد عندما تبين العناد.

____________

(1) الإسراء /47.

(2) الإسراء /101.

(3) الشعراء /153.

(4) الشعراء /185.

(5) بدائع الفوائد 2/223.


الصفحة 349
وأمّا ثانيهما: فهو من نسج الخيال ولا نطيل فيه المقال لكننا نسأل النووي عن مزاعمه التالية:

1- قوله اتفق العلماء؟ فأين وقع؟ ومتى وقع؟ ثمّ كيف يزعم ذلك وهو الّذي سبق منه أن قال: «اختلف العلماء» في المراد من الكتاب، فهم حين اختلفوا في المراد كيف اتفقوا على أنّ الحديث من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنّه خشي أن يكتب أموراً... الخ وفهم عمر على زعمه لا يتفق مع أصحاب القول الأوّل ولم يرده عمر. وإنّما يتفق مع أصحاب القول الثاني فقط. فكيف يكون اتفاق مع هذا الاختلاف؟

2- قوله: «إنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره». فكيف يزعم له ذلك ولازمه أن يكون عمر أبصر بمصلحة الأمة من نبيها؟ ولعل النووي يرى ذلك! ولكن لم يجرأ على البوح به فقال الّذي قال، ومهما كان عمر فليس يُصدّق زعم من يرى فيه أنّه خشي أن يكتب أموراً ربّما عجزوا عنها، لأنّ مبنى عذر النووي هو الخشية والاحتمال لا التحقق، ومع ذلك ربّما تكون النتيجة العجز ولربما لا تكون، ولو سلمنا جدلاً أنهم عجزوا عنها فهم معذورون و{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا}(1).

ثمّ إنّ عمر لم يكن مسدّداً بالوحي ورسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان ينزل عليه الوحي، فهلا احتمل بدقيق نظره؟ - كما يحلو للنووي وصفه بذلك - أنّ ما أمر به رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان من أمر الوحي فهو مأمور بالتبليغ عند الإطاعة، فإذا هم عصوا تركهم وتركاضهم في الضلال فلماذا منع عمر من امتثال أمر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟

____________

(1) البقرة /286.