الصفحة 350
3- كيف يكون عمر أفقه من ابن عباس لأنّه قال: «حسبنا كتاب الله». ومن المعلوم يقيناً أنّ الكتاب المجيد لم يتكفل ببيان جميع أحكام الشريعة بتفاصيلها، فخذ مثلاً حكم فريضة الصلاة الّتي هي عمود الدين فلم يرد في الكتاب المجيد ما يبين جميع فروضها وأركانها وسائر أحكامها وسيأتي مزيد بيان حول عدم الإستغناء في الأحكام بالكتاب وحده، ولابدّ من أخذ السنّة معه.

ولنعد إلى تفضيل النووي لعمر على ابن عباس في فقاهته. ولنسأله أين كانت فقاهة عمر غائبة عنه يوم يقول لابن عباس: «قد طرأت علينا عُضَل أقضية أنت لها ولأمثالها»(1).

وأين كانت فقاهته حين يقول له: «غص غواص»(2).

فكيف يكون عمر أفقه من ابن عباس؟ وعمر هو القائل: «من كان سائلاً عن شيء من القرآن فليسأل عبد الله بن عباس»(3)، وأين غابت عنه فقاهته يوم سئل عن مسألة فقال فيها، فقام إليه ابن عباس فساره فقال: يا أميرالمؤمنين ليس الأمر هكذا، فأقبل عمر على العباس - وكان عنده - فقال له: يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله إنّي قد أمرّته على نفسي فإذا أخطأت فليأخذ عليَّ(4)... إلى غير ذلك ممّا قاله عمر وغير عمر في علم ابن عباس وسيأتي بعض تلك الأقوال في تاريخه العلمي.

____________

(1) روى ابن سعد قول عمر عن سعد بن أبي وقاص بلفظ آخر: ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثمّ يقول عندك قد جاءتك معضلة ثمّ لا يجاوز قوله وان حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار (طبقات ابن سعد 2 ق2 / 122)، وراجع فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1913.

(2) طبقات ابن سعد (الطبقة الخامسة) 1/141 تحـ السُلمي، وسير أعلام النبلاء 3/246 ط مؤسسة الرسالة، وفضائل الصحابة 2/681 ط مؤسسة الرسالة.

(3) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1893 ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1403.

(4) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/982 برقم 1942 ط مؤسسة الرسالة.


الصفحة 351
ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أنّ النووي لم يكن بدعاً في قومه فله أمثال ابن بطال والقسطلاني من شرّاح البخاري الّذين يذهبون مذهبه فقد قالوا: وعمر أفقه من ابن عباس حيث أكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به! ولا حاجة بنا إلى إبطال أقوال ابن بطال وغيره فهم في التزوير أبطال، ولكن لابدّ من وقفة قصيرة للموازنة بين فقه عمر وبين فقه ابن عباس، بعد معرفة معنى الفقه.

فأقول: لقد جاء في (المفردات في غريب القرآن الكريم) للراغب الأصبهاني، مادة: فقه: (الفقه): هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم... ويعني بذلك أنّ فقه الشيء يحتاج إلى جهد ذهني من الإنسان ليصل إلى فهم أمره، إمّا باستنباط من أمر، أو ظاهر نص يجده.

أمّا العلم فهو قد يحصل دون جهد وتفكير، وقد يحصل ببذل جهد أيضاً، فالفقه أخص من العلم، فكم من عالم ليس بفقيه، ولذلك قال علماء اللغة: الفقه هو الفهم، أي فهم حقيقة الشيء وإدراك معناه، ولهذا نفى الله تعالى الفقه عن الكفّار فقال:{ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}(1). وإذا عرفنا معنى الفقه وأنّه الفهم لحقيقة الأمر، فلنرجع إلى مقالة ابن بطال والنووي لنرى مَن هو الأفقه من الرجلين ابن عباس أو عمر؟

أيهما أفقه عمر أم ابن عباس؟

لا أريد أستباق الشواهد الدالة على أفقهية ابن عباس وللحديث عنها مجال آخر. ولكن لابدّ لي من ذكر شاهد واحد يصلح للموازنة بين الرجلين وذلك ما أخرجه جملة من أئمّة الحديث ممّن لا يتهمون في نقله كابن الجوزي والحاكم والبيهقي وابن كثير وابن حجر والسيوطي وغيرهم.

____________

(1) الأعراف /179.


الصفحة 352
عن عكرمة قال: قال ابن عباس: «دعا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسألهم عن ليلة القدر؟ فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. فقلت لعمر: إنّي لأعلم وإنّي لأظن أيّ ليلة هي، قال: وأيّ ليلة هي؟ قلت سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر.

قال: ومن أين تعلم؟

قال قلت: خلق الله سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام وإنّ الدهر يدور في سبع، وخلق الإنسان فيأكل(؟) ويسجد على سبعة أعضاء، والطواف سبع، والجبال سبع.

فقال عمر (رضي الله عنه) لقد فطنت لأمر ما فطنـّا له.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال: أرأيتم قول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر وترا أي ليلة ترونها؟ فقال بعضهم: ليلة أحدى وقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال بعضهم: ليلة خمس، وقال بعضهم: ليلة سبع، وأنا ساكت فقال: مالك لا تتكلم؟ قلت: إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا. فقال: ما أرسلت إليك إلاّ لتتكلم فقلت: إني سمعت الله يذكر السبع، فذكر سبع سموات ومن الأرض مثلهن، وخلق الأنسان من سبع، ونبت الأرض سبع.

فقال عمر (رضي الله عنه): هذا أخبرتني ما أعلم، أرأيت ما لم أعلم قولك: (نبت الأرض سبع) قال: قال الله (عزّ وجل):{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا ً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}(1).

____________

(1) عبس /26 - 31.


الصفحة 353
قال: فالأبّ ما أنبتت الأرض ممّا تأكله الدواب والأنعام ولا يأكله الناس.

قال فقال عمر (رضي الله عنه) لأصحابه: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الّذي لم تجتمع شئون رأسه، والله إنّي لأرى القول كما قلت»(1).

هذا شاهد واحد ممّا يرويه أصحاب الحديث ممّن لا يتهمون على عمر. ثمّ دع عنك ابن عباس فإنّه حبر الأمة وترجمان القرآن، وهلم إلى سائر الناس الّذين كانوا أعلم وأفقه من عمر باعترافه، وإليك جملة من اعترافاته:

1- قال: «كلّ الناس أفقه منك يا عمر»(2).

2- قال: «كلّ الناس أفقه من عمر» قالها في واقعتين(3).

3- قال: «كلّ أحد أفقه مني قالها ثلاثاً»(4).

4- قال: «كلّ واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر»(5).

5- قال: «كلّ واحد أفقه منك يا عمر»(6).

6- قال: «كلّ الناس أعلم منك يا عمر»(7).

7- قال: «كلّ الناس أعلم من عمر»(8).

إلى غير ذلك من أقواله.

____________

(1) أنظر مسند عمر /87، مستدرك الحاكم 1/438 وصححه، سنن البيهقي 4/313، تفسير ابن كثير 4/533، تفسير السيوطي 6/374، فتح الباري 4/211.

(2) العقد الفريد 3/416.

(3) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 1/61، ونور الأبصار للشبلنجي /79.

(4) الرياض النضرة 2/196.

(5) نور الأبصار /65.

(6) الرياض النضرة 2/57.

(7) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/277.

(8) تفسير الكشاف 2/445.


الصفحة 354
فكيف يمكن تصديق الزعم بأنّه في تصرفه الشاذ يوم الخميس وكلمته النابية في حقّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخيراً قوله حسبنا كتاب الله يكون أفقه من أبن عباس؟!

ولست في مقام المفاضلة ولكن أود تنبيه القارئ إلى أنّ ابن عباس كان قد حفظ المحكم على عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وعمر لم يحفظ سورة البقرة إلاّ في أثنتي عشرة سنة(1).

ثمّ أليس عمر هو الجاهل والسائل من أبي واقد الليثي: «بأي شيء كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ في مثل هذا اليوم»(2) - وكان ذلك يوم العيد - ـ فمن كان يجهل ما كان يقرأه النبيّ في صلاة العيد كيف يمكن أن يُزعم له بأنّه أفقه من ابن عباس؟

اللّهم إنّ ذلك من أكبر الشطط والغلط.

وأخيراً لا آخراً فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في المائة المختارة والخوارزمي في الجامع عن إبراهيم التيمي قال: «خلا عمر ذات يوم فأرسل إلى ابن عباس فقال له: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟

____________

(1) في شرح الموطأ للزرقاني 2/194 ما لفظه: وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر في أثنتي عشرة سنة فلمّا ختمها نحر جزوراً.

جاء في ربيع الأبرار 2/77 ط الأوقاف ببغداد: حفظ عمر سورة البقرة فنحر وأطعم.

(2) هذا ما أخرجه عنه أصحاب الصحاح والسنن كمسلم في صحيحه 1/242، وأبي داود في سننه 2/280، ومالك في الموطأ 1/147، وابن ماجة في سننه 1/188، والترمذي في صحيحه 1/106، والنسائي في سننه 3/184، والبيهقي في سننه 3/294.


الصفحة 355
قال ابن عباس: إنّا اُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل، وأنّه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل، فيكون لكلّ قوم فيه رأي، وإذا كان كذلك اختلفوا...»(1).

وأخرج أحمد في مسنده(2)، والبيهقي في السنن الكبرى(3) بعدة طرق: عن كريب عن ابن عباس أنّه قال له عمر: «يا غلام هل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟

قال: فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف قال فيم أنتما؟

فقال عمر: سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: (إذا شك أحدكم...) الحديث».

فعمر الخليفة وهو لا يعرف حكم الشك في الصلاة - وهي فريضة يأتي بها المسلم كلّ يوم خمس مرات - حتى يسأل عن حكم الشك فيها من ابن عباس وهو بعد غلام. ولم يكن عند ابن عباس في ذلك سماع في الحكم. كيف يكون هو أفقه؟

____________

(1) كنز العمال 2/215 ط حيدر آباد (ثمانية)، ومفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنّة للسيوطي 1/46 ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ط الثالثة، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 2/194 ط مكتبة المعارف بالرياض.

(2) مسند أحمد 1/190و 195.

(3) السنن الكبرى 2/332.


الصفحة 356

ثامناً: ابن تيمية

قال في كتابه منهاج السنّة بعد حكايته قول العلاّمة ابن المطهر الحلي في حديث الكتف والدواة فقال رداً عليه: والجواب أن يقال: أمّا عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّه كان يقول: قد كان في الأمم قبلكم محدّثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر (!؟).

قال ابن وهب: تفسير: (محدّثون ملهمون)... إلى آخر ما ذكره من سياق وشواهد على إلهام عمر بما لا ينفعه بل عليه أضرّ.

ثمّ قال: وأمّا قصة الكتاب الّذي كان رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يريد أن يكتبه فقد جاء مبيناً في الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) قالت قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر.

ثمّ ساق حديثاً آخر عن البخاري نحو ما سبق، وأتبعه بثالث عن مسلم عن عائشة وسئلت من كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها ثمّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها ثمّ مَن بعد عمر قالت: أبو عبيدة عامر بن الجرآح ثمّ انتهت إلى هذا. ثمّ قال: وأمّا عمر فأشتبه عليه هل كان قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال: ما له أهجر، فشك في ذلك ولم يجزم بأنّه هجر، والشك جائز على عمر، فإنه لا معصوم إلاّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، لاسيما وقد شك بشبهة، فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان من كلامه المعروف الّذي يجب قبوله.


الصفحة 357
ولذلك ظن أنّه لم يمت حتى تبين أنّه قد مات، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد عزم على أن يكتب الكتاب الّذي ذكره لعائشة، فلمّا رأى أنّ الشك قد وقع، علم أنّ الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة.

وعلم أنّ الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر).

وقول ابن عباس: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين أن يكتب الكتاب، يقتضي أنّ هذا الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو أشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك.

فأمّا من علم أنّ خلافته حقّ فلا رزية في حقه ولله الحمد.

ومن توهم أنّ هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنّة والشيعة (؟). أمّا أهل السنّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه.

وأمّا الشيعة القائلون بأنّ عليّاً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنّه قد نُص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب.

وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى.

وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب ممّا يجب بيانه وكتابته

الصفحة 358
لكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبيّنه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنّه أطوع الخلق له، فعلم أنّه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ، إذ لو وجب لفعله.

ولو أنّ عمر اشتبه عليه أمر ثمّ تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممّن يفتي ويقضي بأمور، ويكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك، ولا يكون قد علم حكم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّ الشك في الحقّ أخف من الجزم بنقيضه، وكلّ هذا باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الّذي رفع المؤاخذة به(1)... إلى آخر ما ذكره من تهويش وتشويش لا يسمن ولا يغني.

مع ابن تيمية:

وفي كلامه مواقع كثيرة للنظر نشير إلى بعضها:

أوّلاً: زعمه فضل عمر على الأمة بعد أبي بكر وانه كان محدّثاً ملهما؟ وهذا منطق علماء التبرير في كلّ زمان، ولكن لنا أن نسأل أين يغيب عنه ذلك الفضل والإلهام حين تعتاص عليه الأمور، فلا يجد مخرجاً إلاّ عند الآخرين، فيلجأ إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وما أكثر المواطن الّتي قال فيها: «لولا عليّ لهلك عمر»، و«لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»؟

وأين يكون ذلك الفضل المزعوم والإلهام الموهوم حين تطرأ عليه العضل وهو لا يعرف لها مخرجاً، فيدعو ابن عباس فيقول له: «قد طرأت علينا عضل أقصية أنت لها ولأمثالها»؟

____________

(1) منهاج السنّة 3/134 ـ 135 ط أفست بولاق سنة 1322هـ.


الصفحة 359
وخلّ عنك عليّاً وابن عباس فالأوّل باب مدينة علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والثاني حبر الأمة، ولا غضاضة عليه لو رجع إليهما. ولكن كيف يفضل على جميع الأمة عدا أبي بكر، وهو دون مستوى الكثير الكثير من الصحابة وقد مرّت بنا أقواله الّتي قالها: «كلّ الناس أفقه منك يا عمر» (1). وقوله الآخر: «كلّ أحد أفقه من عمر»(2). لكن علماء التبرير يأبون ذلك لا عن حجة ولكن دفعاً بالصدر.

ثانياً: زعمه أنّ الّذي أراد أن يكتبه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو خلافة أبي بكر، وهذا قد مرّ مثله عند ابن حزم وغيره، فلا حاجة إلى الوقفة عنده طويلاً سوى إنّا نود أن نسأل ابن تيمية الّذي استدل بثلاثة أحاديث كلّها عن عائشة فالأوّل عن الصحيحين ثمّ الثاني عن البخاري وحده وهذا ما استدل به غيره أيضاً ومرّ ما عندنا فيهما، ولكن ما رأي علماء التبرير وابن تيمية منهم في الحديث الثالث الّذي رواه عن مسلم. وفيه ترشيح أبي عبيدة للخلافة من بعد عمر؟ فأين كان الرواة عنه يوم السقيفة لحسم النزاع بين المهاجرين والأنصار وأحسبه لم يختلق بعد، بل أحسبه من الموضوعات أيام النفرة بينها وبين عثمان حين كانت تقول: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»(3)، ولو كان له أدنى نصيب من الصحة لذكر فيه عثمان بعد عمر لأنّه الّذي تولى الخلافة، وعلماء السلطان يروون في ترتيبهم ما ينسبونه إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مثل ذلك.

ثالثاً: زعمه أنّ عمر أشتبه عليه الأمر، لماذا ذلك وهو صاحب الإلهام المزعوم وأنّه لو كان من المحدّثين أحد في هذه الأمة لكان هو؟

____________

(1) كشف الخفاء للعجلوني 1/466 و 2/153و 155 ط مؤسسة الرسالة بيروت.

(2) سنن سعيد بن منصور 1/195 ط دار العصيمي بالرياض، وكتاب الزهد لابن أبي عاصم 1/114 ط دار الريان للتراث بالقاهرة.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/97 و 114 ط الأولى بمصر.


الصفحة 360
ثمّ كيف يشتبه عليه قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل كان من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة؟ فهل أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال مبهِماً ومتمتمِاً؟ أو لم يقلها كلمة صريحة فصيحة (إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً)؟ أين الكلام الّذي يوجب الاشتباه؟

ثمّ لماذا لم يشتبه ذلك على غير عمر ممّن حضر عنده؟ ولماذا أحصر عمر عندما اشتبه عليه الحال إلاّ أن يقول: «إنّ النبيّ ليهجر»؟

نعم كلّ ما يهدف إليه ابن تيمية هو تبرئة عمر من وزر الكلمة وإن تم ذلك على حساب قدسية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكرامته. ولكن الإعتذار باشتباه عمر لا يرفع عنه الوزر ما دام هو يقرّ لابن عباس بأنه عرف مراد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الكتاب وأنّه أراد أن يكتب لابن عمه فمنع منه وفيما تقدم في الصورتين الثالثة والرابعة من صور الحديث ما يؤكد منعه عن معرفة بالمراد، وكان المنع منه عن سبق إصرار وعناد فراجع.

رابعاً: زعمه أنّ قول ابن عباس: «الرزية كلّ الرزية» إنّما هو في حقّ من شك في خلافة أبي بكر أو أشتبه عليه الأمر، فأمّا من علم أنّ خلافته حقّ فلا رزية في حقّه؟

ولنا أن نسأل ابن تيمية عن ابن عباس صاحب الكلمة هل كان شاكاً أو مشتبهاً عليه الأمر؟ أو كان عالماً بحقيقة خلافة أبي بكر؟ والثاني منفي لأنّه هو صاحب الكلمة وهو يتحدث عن نفسه ويعبر عن شعوره، إذن هو من الشاكين أو المشتبه عليهم الأمر في تحديد ابن تيمية. وإذا كان كذلك، فابن عباس غير مؤمن بحكم ما يرويه البخاري عن عائشة من حديث ارادة أستخلاف أبي بكر

الصفحة 361
وفيه: يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر. فهل يقول بذلك أبن تيمية؟ وإذا قال بذلك فليعطف عليه كلّ من أبى خلافة أبي بكر من سائر الصحابة. ثمّ بعد ذلك ليبحث ابن تيمية وأضرابه عن حجة لإثبات عدالة جميع الصحابة خصوصاً من أبى خلافة أبي بكر ولم يبايعه حتى مات مثل الزهراء وسعد بن عبادة، أو تخلّف عن البيعة إلى ستة أشهر كعليّ وجميع بني هاشم وآخرين من شيعتة من الصحابة كما ستأتي أسماؤهم، أو يتخلّوا عن مقولة الصحابة كلّهم عدول.

خامساً: زعمه أنّ من توهم أنّ هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس الخ. إذا كان هذا حكم ابن تيمية فيمن توهم ذلك، فما هو حكمه فيمن تيقن وقطع به؟

فهل يبقى ضالاً أم يزيد في عقوبته؟

ومهما يكن حكمه فإنا نقول له لقد حكمت على إمامك عمر بالضلالة من دون أن تشعر. لأنّ عمر كان يقول بذلك جازماً غير شاك ولا مرتاب، وقد اعترف به لابن عباس كما أشرنا إلى ذلك مراراً، وذلك من عمر أعتراف خطير يدمغ رؤوس علماء التبرير.

سادساً: زعمه اتفاق عامة الناس، وتلفيقه الاتفاق من أهل السنّة الذين يقولون بتفضيل أبي بكر وهذا لا كلام لنا فيه، ولكن هلمّ الخطب فيما زعمه اتفاق الشيعة معهم على أنّ الكتاب لم يكن بخلافة عليّ بتقريب أنّ الشيعة يقولون بالنصّ الجلي على عليّ قبل ذلك اليوم، فهو لا يحتاج إلى الكتاب يومئذ.


الصفحة 362
وهذا من مناوراته الخبيثة، وكأنّ تأكيد النص كتابة بعد أن كان شفاها ممنوع عقلاً أو شرعاً.

فليكن الشيعة وهم يذكرون النص السابق الجلي الظاهر - وهو بيعة يوم الغدير - وما سبقها منذ بدء الدعوة وما لحق بها، لكن لا مانع من تأكيد ذلك بالكتاب ليكون أقوى حجة في دفع الخصوم الّذين سوّلت لهم أنفسهم فنابذوه وأضبّوا على عداوته مع وجود النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين ظهرانيهم.

ولماذا لا يكون الكتاب - لو تمّ - أقوى حجة وأظهر دليلاً وهو المتكفل بعصمة الأمة من الضلالة.

لكن عناصر الشغب الّذين أظهروا كوامن أحقادهم عرفوا أنّه لو تمّ الكتاب فلا يبقى لهم حساب، لذلك أصروا على التمرد والعناد، وعدم تمتثال أوامر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكانت الصلعاء والشوهاء منهم تخلفهم عن جيش اُسامة والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينادي: (أنفذوا جيش اُسامة، لعن الله من تخلف عن جيش اُسامة)(1)، وما كان ذلك منهم إلاّ بعد أن تيقنوا انّ المراد بالكتاب هو خلافة عليّ، فألقحها ابن الخطاب فتنة عمياء حين قال كلمته الرعناء: «انّ النبيّ ليهجر» فنسف كلّ ما أراده النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لذلك (غمّ) أغمي عليه من شدة الصدمة، ووقع الاختلاف والنزاع، فأفاق (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وطردهم وقال: (قوموا عني).

ولمّا قال له بعض أهل بيته ألا نأتيك بالّذي طلبت وان رغمت معاطس؟ فقال: (أبعد الّذي قال قائلكم) هذا بعض ما في كلام ابن تيمية من شطط في القول وخطل في الرأي.

____________

(1) أنظر الملل والنحل للشهرستاني 1/23 ط الثانية سنة 1395 هـ.


الصفحة 363

تاسعاً: الشاطبي

قال في كتاب الاعتصام: ولقد كان (عليه السلام) حريصاً على إلفتنا وهدايتنا، حتى ثبت من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أنّه قال: لمّا حُضر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنهم) - فقال: (هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) فقال عمر: انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول كما قال عمر، فلمّا كثر اللغط والاختلاف عند النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال: (قوموا عني) فكان ابن عباس يقول: الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

فكان ذلك - والله أعلم - وحياً أوحى الله إليه أنّه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بدخولها تحت قوله:{إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}(1). فأبى الله إلاّ ما سبق به علمه من أختلافهم كما أختلف غيرهم.

رضينا بقضاء الله وقدره، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنّة ويميتنا على ذلك بفضله(2).

مع الشاطبي:

لعل القارئ أدرك كيف حاول الشاطبي أستغفال القرّاء في تبريره، ومراوغته، فهو حين يبدو حريصاً على إظهار نفسه بواقعية مقبولة يكسب فيها

____________

(1) الحديد /7.

(2) الاعتصام 3/12.


الصفحة 364
قارئ كلامه، لكنه سرعان ما تطغى عليه جبريته في سبيل تبرئة عمر، فيلقى اللوم على السماء، وبتعبير أصح يلتمس العذر له من السماء. فانظر إلى قوله: «إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان حريصاً على إلفتنا وهدايتنا»، وأستدل بحديث ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو حديث الرزية. وهذا صحيح في واقعه ولا غبار عليه.

وأنظر إلى قوله في تعقيبه على ذلك:

«فكان ذلك - والله أعلم - وحياً أوحى الله إليه إنّه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بدخولها تحت قوله:{إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (1)».

وهذا أيضاً من مقبول القول وبه كسب القارئ إلى قبول ما يقوله. فسرعان ما أستغفله بقوله: «فأبى الله إلاّ ما سبق به من علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم».

فأنظر إلى هذا التبرير الفجّ!

الله سبحانه وتعالى هو الّذي أوحى إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن يأمر بالكتاب الّذي لا يضلون بعده، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدوره يأمر بذلك. وعمر يمنع من ذلك، ويُحدث الفرقة في الحاضرين، ثمّ يقع الخصام وينتهي بطرد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمنازعين. ومع ذلك كلّه يقول: «فأبى الله إلاّ ما سبق في علمه من اختلافهم».

ومن الغريب العجيب ينأى عن إدانة السبب في المنع، ويحمّل السماء تلك الإدانة، وإنّ الله أبى إلاّ ما سبق في علمه؟

وهل هذا إلاّ إستغفال للقراء واستخفاف بالعقول!! وليس لنا إلاّ أن نقول كما قال: رضينا بقضاء الله وقدره.

____________

(1) الحديد /7.