عاشراً: ابن حجر العسقلاني
قال في فتح الباري كلاماً كثيراً نثره وكرّر أكثره في أجزاء كتابه، تبعاً لصحيح البخاري لورود الحديث في مختلف أبوابه، لكنه أطال الكلام في موضعين: في كتاب العلم باب كتابة العلم(1)، وفي كتاب المغازي باب مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (2)، ولم يأتنا بشيء جديد، ولم نتجن عليه في ذلك فقد اعترف بذلك في الموضع الثاني فقال: وقد تكلم عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخصه القرطبي تلخيصاً حسناً ثمّ لخصته من كلامه وحاصله: فذكر ما لخصه، ولما كنا نحن قد ذكرنا كلام عياض بطوله، وناقشناه فيه، لذلك أعرضنا عن ذكر كلام القرطبي إلاّ عرضاً، وكذلك نعرض عن ابن حجر إلاّ ما جاء به من عند نفسه. فقد قال وهو ينقل الأحتمالات الّتي ذكرها القرطبي في تعريف قائل الكلمة: ويظهر منه ترجيح ثالث الإحتمالات الّتي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أنّ من أشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك. ولهذا وقع في الرواية الثانية فقال بعضهم: أنّه قد غلبه الوجع. ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمّد ابن خلاد عن سفيان في هذا الحديث فقالوا: ما شأنه يهجر؟! أستفهموه، وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير: إنّ نبيّ الله ليهجر، ويؤيده أنّه بعد أن قال ذلك استفهموه بصيغة الأمر بالاستفهام، أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الّذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى، أوّلاً.
____________
(1) فتح الباري 1/219.
(2) نفس المصدر 9/197.
مع ابن حجر العسقلاني:
من الغريب أمر هذا الرجل فهو يختار مرجحاً انّ القائل لكلمة الهجر سواء كانت إخباراً أو إنشاءاً هو من بعض قرب دخوله في الإسلام؟ مع أنّه سبق منه في تفسير معنى الهجر والهذيان فقال: «والمراد به - يعني الهجر - في الرواية ما يقع من كلام المريض الّذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع ذلك من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مستحيل، لأنّه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى}(1)، ولقوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (إنّي لا أقول في الغضب والرضا إلاّ حقاً)، وإذا عرف ذلك، فإنّما قاله من قاله منكر على من توقف في أمتثال أمره باحضار الكتف والدواة.
فكأنّه قال كيف تتوقف؟ أتظن أنّه كغيره يقول الهذيان في مرضه وأحضره ما طلب فإنّه لا يقول إلاّ الحقّ... ا هـ».
أقول: فأين صار ترجيحه بأنّ القائل هو من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أنّ من اشتد عليه الوجع الخ؟ ثمّ ما باله يشرّق تارة ويغرّب أخرى بين الرأيين، بينما يعترف هو بنفسه تبعاً لما ورد في صحيح البخاري في الموارد الآتية بأنّ القائل هو عمر. فأي أقواله هو الصحيح؟ ليس ذلك منه إلاّ استماتة في الستر على مقولة عمر. وهل هذا منه إلاّ كذباً من القول وتمويهاً على القارئ وتشويهاً للحقيقة.
وما أدري كيف استساغ أن يقول ذلك، وفي صحيح البخاري الّذي هو يشرحه قد ورد التصريح بأنّ القائل هو عمر، ورد ذلك في ثلاثة مواضع، وهي كما يلي:
____________
(1) النجم /3.
2- في كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني: فقال عمر: «انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر...»(2).
3- في كتاب الاعتصام باب كراهية الاختلاف قال عمر: «انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر...»(3).
هذه هي الموارد الّتي صرّح فيها بأسم عمر، وقد شرحها ابن حجر في كتابه وصرّح بها بذكر عمر تبعاً للبخاري، أمّا الموارد الأربعة الأخرى الّتي غمغم فيها البخاري أو الرواة قبله فلم يذكروا اسم عمر. نجد ابن حجر في شرحه لها يورد اسم عمر مدافعاً عنه.
ثمّ إذا كان في نظره أنّ القائل (هو بعض من قرب دخوله في الإسلام)، فهل يعني بذلك أنّ عمر كان كذلك؟ وهذا ما لا يكاد تصديقه ولا يمكن أن يكون مراده، لأنّ عمر أسلم قبل ذلك اليوم بأكثر من خمس عشرة سنة، وليس هو بقريب عهد بالإسلام وإذا لم يكن يعني عمر فمن هو ذلك الرجل المزعوم
____________
(1) صحيح البخاري 1 /30.
(2) نفس المصدر 7/120.
(3) نفس المصدر 9/111.
الحادي عشر: القسطلاني
وهذا الرجل لدة قومه يدلي بدلوهم ويمتح من غربهم، ولا يجاوز طريقتهم في تضارب الأقوال، فهو وبعبارة أوضح يجترّ أقوال السابقين، من دون التفات لما فيها من هنات وهنات. لذلك كثر عنده التناقض، وأظن أنّ القارئ يكتفي ببعض الشواهد على ذلك:
1- فمثلاً قال في كتابه إرشاد الساري في شرح (أكتب لكم كتاباً): «فيه النص على الأئمّة بعدي أو أبين فيه مهمات الأحكام»(1).
ولكنه جاء بجديده فيما يحسب في شرح (ولا ينبغي عند نبيّ تنازع) فقال: «والظاهر إنّ هذا الكتاب الّذي أراده إنّما هو في النص على خلافة أبي بكر...»(2)، وأبطل قول من قال أنّه بزيادة أحكام...، لكنه عاد في شرح (لكم كتاباً) فقال: «فيه استخلاف أبي بكر بعدي أو فيه مهمات الأحكام»(3).
____________
(1) إرشاد الساري 1/207.
(2) نفس المصدر 5/169.
(3) نفس المصدر 8/355.
2- وشاهداً آخر على تناقضه قال: (فاختلفوا) أي الصحابة عند ذلك(1).
وقال: (فاختلف أهل البيت) الّذين كانوا فيه من الصحابة لا أهل بيته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم(2).
لكنه قال مرة أخرى: (فاختلف أهل البيت) النبوي؟(3)
فأنظر إلى تناقضه!!
فهو أوّلاً قال: «هم الصحابة»، وأكد ذلك ثانياً ونفى أن يكون أهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أولئك الّذين جاؤا بالإختلاف، ولكنه فجأة وبجرة من القلم بوعي أو غير وعي قال: «فاختلف أهل البيت» النبوي!!
ولا نطيل المقام عنده فمن شاء أن يستزيد من عجائب تناقضاته فليرجع إلى كتابه(4) ليرى كيف حب الشيء يعمي ويصمّ. ولا عجب من علماء التبرير خصوصاً شرّاح الصحيحين فكم لهم من تأويلات وتمحلات لو أتينا على جميع ما قالوه لاحتجنا إلى تأليف مخصوص في ذلك، والآن ولا نبخل على القارئ ببعض الأسماء منهم وشيء ممّا عندهم، فعسى أن يقيض الله لنصرة دينه من
____________
(1) نفس المصدر 1/207.
(2) نفس المصدر 6/463.
(3) نفس المصدر 8/355.
(4) نفس المصدر 6/462 - 463.
الثاني عشر: الوشتاني الآبي المالكي
ومن علماء التبرير أيضاً أبو عبد الله محمّد بن خلفة الوشتاني الآبي المالكي المتوفى سنة 828 هـ قال في كتابه إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم في شرح قوله: «قال ابن عباس (رضي الله عنه) يوم الخميس وما يوم الخميس» قلت هو- والقائل هو- استعظام وتفجع باعتبار ما أتفق فيه من موته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وانقطاع الوحي وخبر السماء...؟(1)
مع الوشتاني وفتحه الجديد:
أنظر بربّك إلى قوله مفسراً سرّ بكاء ابن عباس هو لموت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيف يزعم ذلك وهو يقول: «يوم الخميس» وهذا اليوم قبل يوم موته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأربعة أيام، إذ أنّ وفاته كانت يوم الاثنين راجع كتب السيرة والتاريخ؟ أليس هذا تهرباً من كشف الحقيقة؟
ثمّ اقرأ واضحك - وشرّ البلية ما يضحك - قال: «قوله: بكى حتى بلّ دمعه الحصى، قلت - والقائل هو أيضاً -: يحتمل بكاؤه لموته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، أو لما ذكر من شدة وجعه وهو يدل على أنّ شدة المقاساة والنزع عند الإحتضار لا تدل على المرجوحية كما يعتقد بعض العوام...»(2).
والآن إن شئت أيها القارئ أن تبك فأبك على إبل حداها غير حاديها، فهذا الرجل جاء بما يضحك الثكلى، لكنه يبكي من له قلب أو ألقى السمع وهو
____________
(1) إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم 4/352.
(2) نفس المصدر 4/353.
أقول: وهذا هو بيت القصيد كما يقولون. فكل ما حدث من خلاف في الخلافة وأريقت بسببه دماء المسلمين، ليس فيه مؤاخذة، فجميع أهل الجمل وصفين والنهروان وما بعدها من حروب طاحنة، كلّهم معذورون فالقاتل والمقتول في الجنة، يا سلام؟!
وعلى هذا الوتر كان ضرب الباقين من علماء التبرير، فلا عجب إذا ما تبعه السنوسي الحسيني المتوفى سنة 895 هـ في كتابه مكمل إكمال الإكمال قال: « (لن تضلوا بعدي) قيل: أراد أن ينص على خلافة إنسان معين حتى لا يقع فيها نزاع ولا فتن.
وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة، ليرتفع نزاع العلماء فيها بعد، فالضلال إذن على الوجهين ليس ضلالاً عن هدى، إذ المخطيء في الاجتهاد على القول بالخطأ ليس بضال»(2).
أقول- ومن دون تعليق -:{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(3) فهل تجدون للضلال معنى غير الضلال عن الهدى. فدونكم كتب اللغة والتفسير ستجدون الضلال ضدّ الرشاد وهو بمعنى الباطل والهلاك.
____________
(1) نفس المصدر 4/357 في أدنى الصفحات.
(2) مكمل إكمال الإكمال 4/353.
(3) النحل /43.
الثالث عشر: البدر العيني
وهذا من شراح صحيح البخاري ومعاصر لابن حجر، وقيل في كتابه (عمدة القاري) سطو على فتح الباري، ولا يعنينا هذا بقدر ما يعنينا ما جاء فيه من قوله: «قوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (لا ينبغي عندي التنازع)، فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى أمتثال الأمر وإن كان ما أختاره عمر صواباً»(1)؟
أقول: أتريد تهالكاً في التبرير أكثر من هذا، الأولى المبادرة إلى امتثال أمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإن كان ما اختاره عمر صواباً؟ لماذا؟ فإن كان مراده لفظ(لا ينبغي) إنّما يدل على الكراهة، كما أنّ لفظ ينبغي يدل على الاستحباب، فمن أجل ذلك يكون فيه اشعار بأولوية المبادرة، فيكون ما اختاره عمر صواباً وان كان خلافاً لما هو أولى، فهذا إنّما يتم له لو كان خالياً عن القرينة، فكيف والقرينة حالية ومقالية. فالحالية زمان ومكان الصدور والمقالية:
أوّلاً: قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إئتوني) هو أمر والأمر ظاهر في الوجوب إلاّ أن تكون قرينة صارفة وليست في المقام.
ثانياً: قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لن تضلوا بعده أبداً) وهذا نص في أنّ الحقّ هو إمتثال أمره وعند عدمه لابدّ أن يبقوا عرضة للضلال، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال. وهل ترك المندوب يوجب الضلال؟
ثالثاً: قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (قوموا عني) فلو لم يكن أمره للوجوب لما كان لتنازعهم معنى، كما لا موجب لطردهم من بيته.
رابعاً: بكاء ابن عباس (رضي الله عنه) حتى يبلّ دمعه الحصى. فهل كان لفوات إمتثالهم أمراً ندبياً؟ أم أنّ بكاءه يدل على تفويتهم أمراً وجوبياً يعصمهم وجميع الأمة من
____________
(1) عمدة القاري 2/172.
وقال أيضاً في عمدة القاري: «واختلف العلماء في الكتاب الّذي همّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بكتابته، قال الخطّابي يحتمل وجهين:
أحدهما: أنّه أراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين. وقيل أراد أن يبيّن كتاباً فيه مهمات الأحكام ليحصل الاتفاق على المنصوص عليه، ثمّ ظهر للنبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّ المصلحة تركه، أو اُوحي إليه به. وقال سفيان بن عيينة أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع منهم الاختلاف، ويؤيده أنّه عليه الصلاة والسلام قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة رضي الله عنها: (ادعو لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإنّي أخاف أن يتمنّى متمّنٍ ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر). أخرجه مسلم، وللبخاري معناه، ومع ذلك فلم يكتب.
قوله: قال عمر (رضي الله عنه): إنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، قال النووي: كلام عمر (رضي الله عنه) هذا مع علمه وفضله لأنّه خشي أن يكتب اُموراً فيعجزوا عنها فيستحقوا العقوبة عليها، لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، وقال البيهقي: قصد عمر (رضي الله عنه) التخفيف عن النبيّ عليه الصلاة والسلام حين غلبه الوجع ولو كان مراده عليه الصلاة والسلام أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم..
وقال البيهقي: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قيل إن النبيّ عليه الصلاة والسلام أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر (رضي الله عنه) ثمّ ترك ذلك اعتماداً على
فإن قيل كيف جاز لعمر (رضي الله عنه) أن يعترض على ما أمر به النبيّ عليه الصلاة والسلام.
قيل له: قال الخطابي: لا يجوز أن يحمل قوله إنّه توهم الغلط عليه أو ظن به غير ذلك ممّا لا يليق به بحاله، لكنه لما رأى ما غلب عليه من الوجع وقرب الوفاة خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين، وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم يراجعون النبيّ عليه الصلاة والسلام في بعض الاُمور قبل أن يجزم فيها كما راجعوه يوم الحديبية، وفي الخلاف وفي الصلح بينه وبين قريش، فإذا أمرنا بالشيء أمر عزيمة فلا يرجعه أحد. قال: وأكثر العلماء على أنّه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه الوحي، وأجمعوا كلّهم على أنّه لا يقرّا عليه.
قال: ومعلوم أنّه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وإن كان قد رفع درجته فوق الخلق كلّهم فلم يتنزه من العوارض البشرية، فقد سها في الصلاة فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الاُمور في مرضه فيتوقف في مثل هذه الحال حتى يتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها توقف عمر (رضي الله عنه) وأجاب المازري...». ثمّ ذكر ما تقدم من أقوال المازري ـ
الأوّل: فيه بطلان ما يدعيه الشيعة من وصاية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالإمامة. لأنّه لو كان عند عليّ (رضي الله عنه) عهد من رسول الله عليه الصلاة والسلام لأحال عليها (كذا).
الثاني: فيه ما يدل على فضيلة عمر (رضي الله عنه) وفقهه.
الثالث: في قوله: (إئتوني بكتاب أكتب لكم) دلالة على أنّ للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظراً للاُمة.
الرابع: في ترك الكتابة إباحة الاجتهاد لأنّه وكلّهم إلى أنفسهم وإجتهادهم.
الخامس: فيه جواز الكتابة والباب معقود عليه»(1).
أقول: هذا بعض ما جادت به قريحته من تعقيب وتصويب، مضغ طعام الأولين فلم يحسن مضغه، وقد سبق منا ذكر ما قاله الخطابي والبيهقي والمازري، وبيّنا ما في أقوالهم من ملاحظات، فلا حاجة بنا فعلاً إلى إعادة ما قد سبق.
ولكن الّذي ينبغي التنبيه عليه في كلام العيني من تفاوت في نقله عن سفيان بن عيينة، حيث حكي عن الخطابي أوّلاً انّه قال سفيان بن عيينة: أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع منهم الاختلاف. ثمّ حكى عن البيهقي قوله: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم، قيل انّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر... ومن البيّن الواضح الفاضح ما بين القولين من تفاوت! ففي الأوّل النص على أسماء الخلفاء بعده. وفي الثاني أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر... فأي القولين هو الصحيح، أو لا صحيح في المقام، وإنّما ذلك من أضغاث الأحلام؟!
____________
(1) عمدة القاري 2/171 دار إحياء التراث بيروت.
ولا نرد عليه إلاّ بما قاله عمر ولا نزيد عليه وحسبنا به شاهداً عليه وحاكماً: قال: «ولقد أراد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أن يصرح باسمه -يعني عليّاً - فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام»(1).
وستأتي أقوال لعمر في هذا الشأن نذكرها إن شاء الله فيما يأتي.
الرابع عشر: الدهلوي
وهو الشاه ولي الله الدهلوي من علماء المسلمين في الهند في القرن الثاني عشر الهجري وله مؤلفات عديدة أشهرها كتابه حجة الله البالغة ومن مؤلفاته شرح تراجم أبواب صحيح البخاري وهو مطبوع مكرراً، وما ننقله عنه هنا فمن طبعة حيدر آباد الدكن الطبعة الثانية.
قال: «إعلم إنّ هذا المقام، من مزالق الأقدام، كم زلّت فيه الأعلام، وصغت فيه الأفهام، وإنّي قد تحققت بعد تتبع طـُرُق هذا الحديث - يعني أمره صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بالكتاب أنّ قول ابن عباس: الرزية كلّ الرزية، إنّما كان بطريق الشبهة مثل سائر شبهاته، لأنّه ثبت في الروايات الصحيحة أنّ كبار الصحابة مثل أبي بكر وعليّ وغيرهما كانوا حاضرين، ففهموا من أمره صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّ مقصوده بالكتابة ليس إلاّ ما جاء في القرآن والتوثيق به،
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/97 ط الاُولى بمصر.
فبعد ذلك لم يبق مجال في أن يتمسك بشبهة ابن عباس (رضي الله عنه)، ويقال ما يقال في خيار الصحابة، لأنّه كان حديث السن مناهز البلوغ، والاعتبار بما فهمه كبّار الصحابة(1). إلى هنا انتهى ما قاله الدهلوي.
مع الدهلوي:
هذا قول الدهلوي، وهو محق في أوّله ومبطل في آخره!
وبيان ذلك: انّ المقام من مزالق الأقدام ويكفي ما قدّمناه من نماذج لعلماء التبرير أمثال الخطابي وابن حزم والبيهقي والمازري وعياض وابن الأثير والنووي وابن تيمية وابن حجر والقسطلاني والوشتابي والعيني وغيرهم ممّن ورد ذكرهم تبعاً كابن بطال والنويري والقرطبي والطهطاوي وأضرابهم. فجميع هؤلاء الأعلام ممّن زلّت قدمه في سبيل تبرير عمر من سوء كلمته. ولم يكن الدهلوي آخرهم، بل هو أسوأ فهماً منهم، فقد خبط خبط عشواء، وأستدل مكابراً بالهباء، وذلك منه منتهى الغباء، ولو لم يكن غبيّاً لما قال: إنّ الاعتبار بما فهمه كبّار الصحابة وضرب مثلاً بعليّ وأبي بكر. وهم فهموا مراده بالكتابة ليس إلاّ تأكيد ما جاء في
____________
(1) شرح تراجم أبواب صحيح البخاري للدهلوي /14، ط حيدر اباد.
ومن الغريب والغباء أن يستدل على مرامه بقوله: «ولو كان شيئاً آخر لأمرهم به ثانياً وثالثا؟!». إنّما لم يأمرهم به ثانياً وثالثاً لعدم الجدوى في ذلك حتى ولو كرر ذلك مائة مرة ومرة، فقد سبق السيف العَذَل- كما يقول المثل- فعمر حين قال إنّه يهجر أصاب مرماه وضيّع الهدف المنشود للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولو أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كرّر ذلك، لصدّقت مقولة عمر زمرة المنافقين وكان مجالاً للطعن في شخصه الكريم. لذلك طردهم وقال: (قوموا عني).
وإنّ ما ذكره من وصاياه الّتي خص بها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، تثبت أنّ عليّاً وصيّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكيف يزعم قومه عن عائشة بأنّ النبيّ مات ولم يوص، ثمّ هي القائلة: «متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري»(3). والآن فقد أستبان أنّ عليّاً أوصى إليه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)!!.
وبعد هذا أوليس ابن عباس كان على حق في قوله: «الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده»؛ أفهل كان على شبهة أم كان على يقين؟
____________
(1) النساء /59.
(2) الأنفال /24.
(3) أنظر صحيح البخاري (كتاب الوصايا باب الوصايا) 4/3.
الخامس عشر: اللاهوري
هذا هو الملا يعقوب اللاهوري أحد شراح صحيح البخاري وأسم كتابه (الخير الجاري في شرح صحيح البخاري)، فقد قال فيه في كتاب العلم باب كتابة العلم: لا شك في أنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم رأى المصلحة في كتابة الكتاب، بدليل قوله (عليه السلام): (لن تضلوا بعدي).
ولا شك أيضاً: أنّ عمر نهى الأصحاب عن إحضار الدواة والكتف.
ولا شك أيضاً: أنّ أهل البيت ألحّوا على إحضارها، وطال النزاع بين الفريقين حتى أخرجهم النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم جميعاً.
وهذا القدر ممّا يتبادر إلى الذهن من نص الحديث، ولا يرتاب فيه أحد(1).
مع اللاهوري:
وليس من تعليق على ما لا شك فيه، غير أنا نقف عند قوله: «أخرجهم جميعاً» كيف يصح ذلك، وكتب الحديث والتاريخ والسيرة تقول: انّ الّذين طردهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هم الّذين تخلّفوا عن امتثال أمره وتنازعوا مع أهل البيت في ذلك، أمّا أهل البيت فلم يخرج منهم أحد، وبقوا عنده، ومنهم الّذي قال له بعد خروج أولئك الّذين لم يستجيبوا لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ألا نأتيك بما طلبت؟» فقال: (لا، أو بَعدَ الّذي قال قائلهم)؟!
وفي بعض المصادر أنّ القائل كان هو عمه العباس: «ألا نأتيك بالذي طلبت وإن رغمت فيه معاطس».
وإلى هنا نطوي كشحاً عن استعراض ما قاله علماء التبرير فهم
____________
(1) نقلا عن تشييد المطاعن /411 ط الهند.