الصفحة 380

عمريون أكثر من عمر:

لقد أوردنا نماذج من أقوال علماء التبرير، فوجدناهم في أندفاعهم يركبون الصعب والذلول، ويقولون المقبول وغير المقبول، بل وحتى غير المعقول، في سبيل تبرئة عمر من معرّة كلمته الجافية النابية، والّتي لم يتبرأ هو منها، ولكن القوم على مقولة: «ملكيون أكثر من الملك».

فعمر قال كلمته دون استعمال تورية أو كناية. بملء فيه، متحدياً شعور النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومشاعر الشرعية النبوية الّتي تؤيدها رسالة السماء.

ولنقرأ ثانيةً بعض ما قاله في روايته لحديث الرزية، وقد مرّ في الصورة الرابعة: قال: «لمّا مرض النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال: (إئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فكرهنا ذلك أشد الكراهية...».

لماذا يا أبا حفص كرهتم ذلك أشد الكراهية؟! ولا عليك من الإجابة، فان علماء التبرير مستعدون للدفاع عنك، ولو كان ذلك على حساب قدسية الرسالة، وقد مرّت بنا نماذج من أقوالهم فليرجع القارئ إليها.

وعمر يقول لابن عباس بعد لأيٍ من الزمن: «ولقد أرادَ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أن يصرّح بأسمه - يعني عليّاً - فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام»(1).

وعلماء التبرير يقولون في تبريرهم: ربّما أراد أن يكتب شيئاً من الأحكام، أو أن يكتب خلافة أبي بكر من بعده لا كما يقول الرافضة؟ فليرجع القارئ ثانية إلى أقوالهم.

____________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 3/97 ط الأولى.


الصفحة 381
وعمر يقول أيضاً لابن عباس في كلام بينهما في شأن عليّ: «إن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله؟! أو كلّ ما أراد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان»(1).

وعلماء التبرير يقولون: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط على رسول الله... كما قال ذلك الخطابي وأضرابه.

وعمر يقول ثالثة لابن عباس: «لقد كان من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذرواً من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً»(2).

وعلماء التبرير يقولون: كان ذلك من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، كما مرّ عن النووي.

ورابعة عمر يقول لابن عباس في كلام في شأن عليّ أيضاً: «أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر»(3).

وعلماء التبرير يقولون: ومهما كانت كلمته فلا يظن به ذلك. كما مرّ عن ابن الأثير.

وعمر يقول خامسة لابن عباس في كلام في شأن عليّ أيضاً: «أوّل من راثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة»(4).

وعلماء التبرير يقولون: فإن عمر أشتبه عليه هل كان قول النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من شدة المرض فشك في ذلك فقال: (ما له أهجر؟)، كما مرّ عن ابن تيمية.

____________

(1) نفس المصدر 3/114 ط الأولى.

(2) نفس المصدر 3/97 ط الأولى.

(3) أنظر محاضرات الراغب 2/213 ط مصر الأولى.

(4) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 4/497.


الصفحة 382
وبالتالي يقولون: وإنمّا قصده التخفيف عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). كما مرّ عن البيهقي.

ويقولون: كان ما أختاره عمر صواباً، كما مرّ عن العيني.

وهكذا ظهرت كوامن نفوسهم على ألسنتهم فخطوها بأقلامهم، وبانت عمرّيتهم أكثر من عمر. إنّ ذلك لعجيب. وأعجب من ذلك كلّه ما سال به قلم العقاد في عبقرياته من مكابراته ولابدّ من المرور به ولنقرأ ما يقول، فإنّه جاوز القوم في عمريته وأتى بالعجاب في عبقريته.



مع العقّاد ونظراته


قال في عبقرية محمّّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

«يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبيّ (عليه السلام)، لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، ونُكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الّذي يجمل بامرأة أحبّها محمّد ذلك الحب وأعزها ذلك الإعزاز.

فقد قيل في الخلافة بعد النبيّ كثير: قيل: فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلاّ أن يجمَحَ به التعنّت والاعتساف أغرب جماح. قيل: أنّ وصول الخلافة إلى أبي بكر إنّما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها؟

وقيل: انّه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لهما من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين: أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الّذين أسرعوا - من

الصفحة 383
المهاجرين - إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.

وقيل: انّ هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحداً بعد واحد: أبو بكر فعمر فأبو عبيدة. ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حياً لعهدت إليه لأنّه أمين هذه الأمة. كما قال فيه رسول الله؟ وهذا زعم روّجه بعض المستشرقين ولقي بين القراء الأوربيين كثيراً من القبـول، لأنّه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والإئتمار»(1).

وقال في عبقرية عمر:

«ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس الّتي تدعم علم الأخلاق من الأساس، وهي ذلك الصرح الشامخ الّذي ننظر إلى أساسه فكأننا تسلقنا النظر إلى ذروته العليا، لأنّه قرّب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب، إذ هو التقريب الملموس»(2).

وقال بعد ذكره ما صدر من عمر في صلح الحديبية: «هذه المراجعة كانت من خلائق عمر الّتي لا يحيد عنها ولا يأباها النبيّ (عليه السلام) (؟) وكثيراً ما جاراه وأستحب ما أشار به وعارض فيه (؟).

فلا جرم يراجع النبيّ في كلّ عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار. اللّهم إلاّ أن تستعصي المراجعة ويعظم الخطر، فهناك تأتي الخليقة العمرية بآية الآيات من الاستقلال

____________

(1) موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية (العبقريات الإسلامية) /180.

(2) نفس المصدر /438.


الصفحة 384
والحب والحزم الّذي يضطلع بجلائل المهمات. فلمّا دخل النبيّ (عليه السلام) في غمرة الموت ودعا بطرس يملي على المسلمين كتاباً يسترشدون به بعده، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير (؟) وقال: انّ النبيّ غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، ومال النبيّ إلى رأيه (؟) فلم يَعد إلى طلب الطرس وإملاء الكتاب، ولو قد علم النبيّ أنّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذٍ أوّل المجيبين»(1).

وقال في عبقرية الإمام عليّ (عليه السلام):

«وربما كانت أصح العلاقات المعقولة لأنها وحدها العلاقة الممكنة المأمونة، وكلّ ما عداها فهو بعيد من الأمكان بُعده من الأمان.

فهو يحبّه ويمهّد له وينظر إلى غده، ويسرّه أن يحبّه الناس كما أحبّه، وأن يحين الحين الّذي يكلون فيه أمورهم إليه..

وكلّ ما عدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول..

ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة.

وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة..

وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك ثمّ لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع.

وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره إنّهم لا يريدون ذلك مخلصين، وإنّهم إن أرادوه لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين، وإنّهم إن استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين..

____________

(1) نفس المصدر /444.


الصفحة 385
فكلّ أولئك ليس بالممكن وليس بالمعقول..

وإنّما الممكن والمعقول هو الّذي كان، وهو الحب والإيثار، والتمهيد لأوانه، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان»(1).

هذا ما تفتقت عنه عبقرية العقاد، ولا نطيل عند أقواله. ولكن لنا أن نسأل منه. ونحن أيضاً نكبر فيه ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب. حين حاول جاهداً دفع معرّة النشاط المحموم الّذي كان من عائشة في تهيئة الأجواء لأبيها وصاحبيه، فدفع ذلك بالصدر دون حجة، بينما هي الّتي تقول كما رواه مسلم في الصحيح واحتج به ابن تيمية - كما مرّ - وقد سئلت عمن كان يستخلف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو استخلف فسمت أباها ثمّ عمر ثمّ أبا عبيدة بن الجراح ثمّ انتهت إلى هذا. فلماذا جعل هذا زعماً روّجه بعض المستشرقين؟

وأين هم من عائشة ومعنى ما رواه مسلم عنها، ومن أين لها علم ذلك إن لم يكن ثمة تدبير وتمهيد، وتواطؤ وائتمار:

ثمّ الّذي قاله في عبقرية عمر من أنّ نفس عمر هي تلك النفس الّتي تدعم الأخلاق من الأساس وهي ذلك الصرح الشامخ... كيف يتم له صدق ذلك وهو الّذي يقول بعد هذا - في مراجعة عمر للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في صلح الحديبية -: «انّها كانت من خلائق عمر الّتي لا محيد عنها ولا يأباها النبيّ؟ وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه (؟) ».

أليس هذا من زخرف القول؟ فهذه كتب السيرة والتاريخ تذكر انّ عمر كان فظاً غليظاً ولا يهمنا ذلك بمقدار ما يهمنا تنبيه القارئ إلى انّ هذه نفس عمر الّتي كانت تدعم علم الأخلاق من الأساس كما يقول العقاد.

____________

(1) نفس المصدر /795.


الصفحة 386
ثمّ ليت العقاد تروّى قليلاً ولم يرسل القول على عواهنه، وراجع الكلمة قبل أن يكتبها.

فقوله: «وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه»؟ لماذا لم يوثق دعواه بشاهد صدق واحد من ذلك الكثير الّذي زعمه. وأين كان ذلك المستحب من مشورته الّذي جاراه فيه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وما أدري هل أنّ ما كان من إعراض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أبي بكر وعن عمر حين شاور الناس في يوم بدر فتكلما فأعرض عنهما، كان ذلك من شواهد الكثير الّذي زعمه(1)؟

وما أدري لماذا تغيّر وجه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين قال أبو بكر وحين قال في أناس من قريش: «إنهم جيرانك وحلفاؤك... الخ»(2) فهل هذا من شواهد ذلك الكثير الّذي زعمه!

وما أدري لماذا قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد الّذي مرّ: (يا معشر قريش والله ليبعثنّ الله عليكم رجلاً منكم أمتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين أو يضرب بعضكم)، فقال أبو بكر: «أنا هو يا رسول الله؟» قال: (لا)، قال عمر: «أنا هو يا رسول الله؟» قال: (لا، ولكن ذلك الّذي يخصف النعل)ـ وكان أعطى عليّاً (عليه السلام) نعلاً يخصفها(3). وهل هذا من شواهد ذلك الكثير الّذي زعمه، ثمّ إنّ قوله أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير وقال إنّ النبيّ غلبه الوجع... الخ.

____________

(1) أنظر مسند أحمد 3/ 219 و 257.

(2) نفس المصدر 1/155.

(3) أنظر الخصائص للنسائي /11.


الصفحة 387
كيف يكون قد أشفق من المراجعة، وهو الّذي صدّه عن الكتابة وشاق الكلمة وشطر الحاضرين إلى فريقين فريق معه وفريق عليه، حتى وقع النزاع والخصومة فطردهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: (قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع)؟ فهل هذا كان من الإشفاق؟ أو هو من تعلان الشقاق؟

ثمّ يقول العقاد من دون استحياء: «ولو قد علم النبيّ انّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذٍ أوّل المجيبين»؟

يا لله أهكذا تقلب الحقائق ويتلاعب بالعقول؟

أمّا ما قاله في عبقرية الإمام فقد أتى فيه بالمغالطة الفاضحة حيث أنكر النص وتنكّر لجميع ما قاله النبيّ في حقّ الإمام عليّ (عليه السلام)، مصحراً وجهراً بالقولُ، بدءاً من يوم حديث الإنذار:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}(1) ومروراً بيومي المؤاخاة ويوم المناجاة بالطائف وأيام براءة وحجة الوداع والغدير كلّ ذلك لم ير العقاد فيها نصاً بل هو إلماح وتأهيل للمستقبل وأقصى ما تدل على الحب والإيثار والتمهيد لأوانه(!) وخل عنك كلّ ذلك ولكن هلمّ فاسأل العقاد عن حديث الكتف والدواة فيم كان التنازع بين الصحابة فمنهم من قال القول ما قال النبيّ، ومنهم من قال القول ما قال عمر؟

سؤال وجواب:

ولابدّ لنا الآن من العودة إلى حديث الرزية وطرح الأسئلة التالية، لنتعرف من أجوبتها على مدى صدق العقاد في مقاله بأن ذلك تأهيل وتلميح وليس هو نص صريح:

____________

(1) الشعراء /214.


الصفحة 388
1- ماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب في ذلك الكتاب؟

2- ومن أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب باسمه ذلك الكتاب؟

3- ولماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب له ذلك الكتاب؟

4- ولماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً دون غيره أن يكتب له ذلك الكتاب؟

أربعة أسئلة قد تبدو متشابهة، وليست كذلك بل هي متشابكة، يأخذ تاليها برقبة أولها والجواب عن أولها يقضي بالجواب عن ثانيها وهكذا. للتداخل فيما بينها، وأخيراً سنعرف من الجواب عليها الجواب على ما قاله العقاد الّذي حاول تعقيد الواقع الّذي حدث بإنكاره جملة وتفصيلا فجاوز بعبقريته ما قاله علماء التبرير، وزاد عليهم.

والآن إلى الأجوبة عن تلك الأسئلة:

أوّلاً ـ ماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب في ذلك الكتاب؟

لا يخفى على كلّ انسان يمتلك قدرة البحث والوعي ويتحلى بالنزاهة أن يدرك قصد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أمره باحضار الدواة والكتف، فهو حين يرجع إلى جوّ الحديث - حديث الكتف والدواة - زماناً ومكاناً وملاحظة سائر الحيثيات الّتي أحاطت ذلك الجوّ المكفهرّ بوجوه الصحابة، تزول عنه أغشية التضليل الّتي نسجها علماء التبرير. ويزداد إيماناً واطمئناناً بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يرد أن يكتب للصحابة حكماً لم يبلّغه كما أحتمله أو طرحه بصورة الأحتمال بعض علماء التبرير.


الصفحة 389
لأنّ احتمال ذلك موهون ومردود بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(1) والآية تقطع جهيزة كلّ متنطع.

ولو تنزلنا جدلاً وقلنا بذلك، فهو أيضاً غير مقبول ولا معقول:

أوّلاً: لأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده. وكتابة الحكم الواحد أو المهم كما زعمه بعض علماء التبرير، لا تفي بالغرض ولا تأتي بالنتيجة المرجوة، وكتابة جميع الأحكام تحتاج إلى عدة أكتاف إذ لا يحويها الكتف الواحد، ولا أقل على مثل كتاب الله تعالى في تعدد الأكتاف لأن الأحكام وما جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تساوي الكتاب ان لم تزد حجماً عليه.

ثانياً: لم يعهد منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه كان يكتب لهم الأحكام الشرعية أو يأمر بكتبها، وإنّما كان يبلغهم ذلك شفاهاً، نحو قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم ونحو ذلك ممّا عرّفهم من الأحكام من طرق قوله وعمله وتقريره. ولم يعهد أن كتب لهم حكماً واحداً. نعم قد يوجد في بعض كتبه وعهوده ومراسلاته إلى الملوك ورؤساء القبائل ممّا ينبغي التعرض له فهو حين يدعوهم إلى الإسلام فلهم كذا وكذا، وإن أبوا فالجزية عن يدوهم صاغرون، وكلّ ما كان كذلك فهو لمن بُعد عنه، ولم يكن لمن معه في المدينة، ولم يذكر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتب لأهل المدينة مثلاً والذين هم معه حكماً واحداً.

ثالثاً: لو تجاوزنا ما تقدم فالّذي سيكتبه من الأحكام ليس بعاصم لجميع الأمة إنّما يعصم من ابتلي بالحكم فقط ولا يعصم غيره ما دام باب الاجتهاد والتأويل قد فتحه علماء التبرير على مصراعيه، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد ضمان السلامة لجميع أمته من الضلالة.

____________

(1) المائدة /3.


الصفحة 390
إذن فاحتمال كتابة حكم أو مهمات الأحكام مستبعد من ساحة الجدل.

ويبقى السؤال الّذي فرض نفسه، ماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب في ذلك الكتاب؟

ولابدّ في الجواب الصحيح هو الاحتمال الآخر وقد طرحه علماء التبرير، وقال غيرهم بتعيّنه وهو كتابته بتعيين ولي الأمر من بعده. ليتولى تسيير الأمة وفق مصالحها المشروعة، وإذا تعيّن ذلك لهم فهو الّذي يحل مشاكلها من بعده، وبالتالي هو الّذي يعصمها من الوقوع في هوة الضلالة.

إذن مراده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان كتابة اسم من يخلفه في قيادة الأمة ويكون على رأس النظام الحاكم، فيتولى قيادة الأمة إلى شاطيء النجاة بما يصلح أمورها في الدين والدنيا.

قال الشيخ محمّد الغزالي في كتابه فقه السيرة: «وكان النبيّ نفسه قد همّ بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم، ثمّ بدا له فاختار أن يدع المسلمين وشأنهم ينتخبون لقيادتهم من يحبون... ا هـ»(1).

ولقد كان في أوّل كلامه مصيباً ولكنه أخطأ في آخره ويعرف جوابه ممّا سأتي.

ثانياً ـ من ذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب أسمه في ذلك الكتاب؟

والجواب على هذا يختلف عليه المسلمون. ومن الطبيعي أن يكون كذلك، تبعاً لأختلاف الواقع عن الشرعية، فأهل السنّة لهم جواب لتبرير الواقع، والشيعة لهم جواب آخر بحسب الشرعية وإرادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

____________

(1) فقه السيرة /353.


الصفحة 391
1- أمّا أهل السنّة فقد قالوا إلاّ من شذ منهم: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد أن يكتب كتاباً لأبي بكر ثمّ أعرض عنه بمحض أختياره، وقال: يأبى الله ذلك والمؤمنون إلاّ أبا بكر، مستندين إلى روايات تنتهي كلّها إلى عائشة، وأخرجها البخاري ومسلم. وقد مرّت الإشارة إليها والردّ عليها في جملة مناقشة أقوال علماء التبرير. فلا حاجة إلى اعادتها.

2- وأمّا الشيعة فقد قالوا أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد أن يكتب الكتاب باسم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ويعطيه حجة تحريرية بخلافته من بعده، لكنه صُدّ عن ذلك باعتراض عمر ومن تابعه، فترك ذلك بعد انتفاء الغرض المطلوب من الكتاب لطعن عمر في الكاتب فضلاً عن الكتاب. ولهم حججهم على ذلك.

والباحث المتجرد عن الهوى والتعصب يدرك أنّ الحقّ معهم، ويؤيدهم في ذلك اعترافات خطيرة صدرت عن عمر بعد ذلك اليوم بقرابة عقدين من الزمن.

وقد مرّ في مناقشات علماء التبرير الالماح إليها. وستأتي بأوفى من ذلك عند البحث عن (ماذا قال عمر؟ وماذا أراد عمر؟).

والآن لنقرأ شيئاً ممّا ساقه علماء الشيعة في حجتهم على أنّ المراد للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو كتابة الكتاب بأسم عليّ. وهو لا يتنافى مع قولهم بالنص عليه قبل ذلك بل هو منه. لأنهم قالوا إنّما أراد التأكيد لما رأى من بوادر الشر المحدق بالأمة، فلنقرأ ذلك.


الصفحة 392

ثالثا ًـ لماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب له الكتاب؟

قالوا: إنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا نزل عليه الوحي في حجة الوداع بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(1) وكان قد وصل المسلمون معه إلى غدير خم بين مكة والمدينة فأمر بحط أوزار المسير عند الغدير، وقام في المسلمين في رمضاء الهجر على منبر من حدوج الإبل ليستشرف الناس، وخطب خطبة طويلة، أبان لهم فيها انّ الله تعالى أمره بأن ينصب عليّاً إماماً وعلماً لأمته من بعده، ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها حتى بان بياض أبطيهما وقال: (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه...) إلى آخر الخطبة ثمّ نصب لعليّ خيمة خاصة وأمر المسلمين بالسلام على عليّ بأمرة المؤمنين، فبايعوه.

وكان ممّن دخل عليه وبايعه الشيخان أبو بكر وعمر وقالا له: بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة»(2).

وهذا هو النص الّذي كان بعد حجة الوداع وجهر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكن الاستاذ العقّاد يأباه ويقول: «فليس من الممكن أن يرى ذلك فلا يجهر به في مرض الوفاة وبعد حجة الوداع». وما أدري أيّ جهرٍ بالقول أوضح وأفصح من ذلك؟ وما أدري لماذا لم يقرأ العقاد حديث أم سلمة قالت: «قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه الّذي قبض فيه - وقد امتلأت الحجرة من أصحابه -: (أيها الناس

____________

(1) المائدة /67.

(2) راجع كتاب الغدير للمرحوم الشيخ الأميني الجزء الأوّل ستجد تفصيل ذلك موثقاً بالمصادر المقبولة عند المسلمين من السنّة لأنها من كتبهم.


الصفحة 393
يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت اليكم القول معذرة إليكم، إلاّ إنّي مخلف فيكم كتاب ربّي (عزّ وجل) وعترتي أهل بيتي. ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها فقال: هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألوهما ما خلفت فيهما) »(1).

ولماذا لم يقرأ الأستاذ وأضرابه أسباب النزول في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسلام دِينًا}(2) وإن حاول هو أو بعضٌ التشكيك في زمان نزولها في ذلك، فليقل لنا هو وغيره ما سبب نزول قوله تعالى {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}(3) أليس كان من أسباب نزولها مجيء بعض الحاقدين الحاسدين لعليّ فقال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: (من كنت مولاه فهذا مولاه)، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟

قال: (الله الّذي لا اله إلاّ هو إنّ هذا من الله)؟

فولّى وهو يقول: اللّهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله فأنزل الله تعالى:{سَأَلَ سَائِلٌ}»(4).

____________

(1) الصواعق المحرقة /75 ط اليمنية، وفي جمع الفوائد للروداني 2/332 عن أم سلمة رفعته (عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليَّّ الحوض)، وأرجح المطالب للآمر تسري /340 و 598 ط لاهور.

(2) المائدة /3.

(3) المعارج /1.

(4) راجع كتاب الغدير للمرحوم الشيخ الأميني الجزء الأوّل ستجد تفصيل ذلك موثقاً بالمصادر المقبولة عند المسلمين من السنّة لأنّها من كتبهم.